ومضات من حياته.. وشيء من عوامل نجاحه
فيصل بن علي البعداني
أُعلن في الساعة السابعة من صبيحة يوم الإثنين 3/7/1426هـ في مدينة (ديربان) في جنوب أفريقيا عن وفاة شيخ المناظرين، العلاَّمة المجاهد، والداعية الكبير: (أحمد بن حسين ديدات) ، عن عمر يناهز 87 عاماً. ولأن الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ كان إماماً يُقتدى به في مجاله؛ فإن من الأهمية بمكان التعريف به، وتلمُّس أبرز عوامل نجاحه، غفر الله ـ تعالى ـ له، ورفع مقامه في الفردوس الأعلى.
- ومضات من حياة الشيخ (?) :
ولد الشيخ سنة 1918م في بلدة (تادكيشنار) بولاية (سوارات) الهندية. ونظراً لقلة ذات يد عائلته، وعدم توفر فرصة دراسية مناسبة أمامه في الهند هاجر عام 1927م، وعمره تسع سنوات إلى جنوب أفريقيا ليلتحق بوالده الذي يعمل خياطاً هناك، وقد كانت تلك السفرة آخر عهده بوالدته؛ لأنها ما لبثت أن توفيت بعد هجرته بشهور قليلة.
التحق بالمدرسة فور وصوله واستمر متفوقاً بها حتى نهاية الصف الثاني الإعدادي؛ ونتيجة للظروف المادية الصعبة التي شكلت حجر عثرة أمام مواصلته تعليمه، توقف عن مواصلة دراسته النظامية، وله من العمر إذ ذاك ست عشرة سنة.
ومن أجل توفير لقمة عيش شريفة تنقَّل في أعمال ووظائف مختلفة، فكان في عام 1936م بائعاً في حانوت لبيع المواد الغذائية، ثم عمل سائقاً في مصنع أثاث، ثم شغل وظيفة (كاتب) في المصنع نفسه، وتدرج في المناصب حتى أصبح مديراً للمصنع بعد ذلك.
وفي أواخر الأربعينيات من القرن الميلادي الفائت التحق الشيخ ـ رحمه الله ـ بدورات تدريبية للمبتدئين في صيانة الراديو وأُسس الهندسة الكهربائية ومواضيع فنية أخرى، ولما تمكن من توفير قدر مناسب من المال رحل إلى باكستان عام 1949م، ومكث هناك منكبّاً على إنشاء معمل للنسيج، لكن الشيخ لم يستطع المواصلة في باكستان؛ إذ اضطر إلى العودة مرة أخرى إلى جنوب أفريقيا بعد ثلاث سنوات للحيلولة دون فقدانه جنسيتها؛ إذ إنه ليس من مواليد جنوب أفريقيا، فعرض عليه فور وصوله استلام منصب مدير مصنع الأثاث الذي كان يعمل فيه سابقاً.
تزوج الشيخ أثناء سفره إلى باكستان ورزقه الله ـ تعالى ـ من الأولاد ابنين: إبراهيم ويوسف اللذين ما زالا على قيد الحياة، وبنتاً اسمها رقية توفيت منذ عدة سنوات.
- رحلته مع العلم والعمل:
يروي الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ سبب توجهه إلى الاهتمام بدراسة الكتاب المقدس للنصارى بعهديه القديم والجديد والرد على ترهاتهم فيهما وأباطيلهم حول الإسلام، فيذكر أنه كانت توجد كلية تنصيرية تابعة لإرسالية تدعى: (آدمز مشين) أمام الحانوت الذي كان يعمل فيه لبيع المواد الغذائية، وكانت تقوم بتدريس طلبتها وتدريبهم على الطعن في الإسلام وتشكيك المسلمين في عقائدهم، وكان الطلاب المتدربون يمرون على العاملين في الحانوت، ويلقون عليهم أسئلة يهاجمون بها الإسلام. يقول الشيخ: «كانوا يأتون إلينا ليقولوا: هل تعلمون شيئاً عن عدد زوجات محمد؟ ألا تدرون أنه نسخ القرآن وأخذه من كتب اليهود والنصارى؟ هل تعلمون أنه ليس نبياً؟ هل تعلمون أنه نشر الإسلام بحد السيف وأكره الناس على ذلك؟» ، ويستمر الشيخ قائلاً: «لم أكن أعلم شيئاً عما يقولونه، كل ما كنت أعلمه أنني مسلم.. اسمي أحمد.. أصلي كما رأيت أبي يصلي.. وأصوم كما كان يفعل، ولا آكل لحم الخنزير أو أشرب الخمور، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله» .
حرك هذا الهجوم على ثوابت الإسلام الغيرةَ في نفس الشيخ على دينه، وزرع فيه باعثاً داخلياً قوياً للدفاع عنه، وأثناء بحثه عن سبيل للخروج مما هو وزملاؤه فيه يسَّر الله ـ تعالى ـ له نسخة من كتاب: إظهار الحق لـ: (رحمة الله الهندي) باللغة الإنجليزية، فقرأه ووجد في المعلومات والمناظرات التي يحتويها بغيته؛ مما كان له أكبر الأثر في حياته، حتى قال: «شعرت بعد قراءتي هذا الكتاب أنني أستطيع الآن أن أدافع عن نفسي وعن الإسلام، وبدأت أتصدى للمسيحيين بالمعلومات التي تعلمتها من الكتاب، وأزورهم في بيوتهم كل يوم أحد وأناقشهم، وكنت أقابلهم بعد خروجهم من الكلية لأحاورهم، ومن خلال تلك المناقشة تعلمت كيف أجادل وأناقش» .
وقد عكف في غضون ذلك كله على حفظ القرآن الكريم، ودراسة الإسلام ومبادئ الشريعة، وأوْلى عناية خاصة بدراسة سيرة الرسول العظيم -صلى الله عليه وسلم -.
واستمر الشيخ في تحسين أدائه في الإلقاء والحوار، وأخذ يتعلم ذلك ممن هو أفضل منه في هذا الباب، ثم حضر دروساً في كيفية استثمار تناقضات الكتاب المقدس في الدعوة إلى الإسلام، وعقب ذلك انتقل من التعلُّم إلى التعليم، واستمر على هذه الحال لمدة ثلاث سنين، قرأ خلالها العديد من نسخ الأناجيل المتنوعة، وانهمك في المقارنة بينها واكتشاف التحريفات والأباطيل التي تحتويها تلك النسخ، كما قرأ جملة من الكتب التي عُنيت بالرد على شبهات المستشرقين حول القرآن الكريم ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم -، إلى أن اعتقد عقبها بأن من واجبه نقل معارفه وتجربته في دعوة النصارى إلى الآخرين، فأصدر في بداية الخمسينيات كتيبه الأول: «ماذا يقول الكتاب المقدس عن محمد -صلى الله عليه وسلم -؟» ، ثم نشر بعد ذلك أحد أبرز كتيباته: «هل الكتاب المقدس كلام الله؟» .
وفي عام 1956م اتفق مع رفيق دربه: (غلام حسن فنكا) ـ الذي كان شريكه في رحلة البحث والدراسة والقراءة المتعمقة في مقارنات الأديان ـ على تأسيس «مكتب الدعوة» في شقة متواضعة بمدينة ديربان، ومن ذلك المكتب جاب هو ورفيقه البلاد طولاً وعرضاً؛ حيث قام الشيخ بالعديد من المناظرات المبهرة والمفحمة، والتي هزت مفاهيم ومعتقدات راسخة لدى كثير من النصارى، وأحدثت اضطرابًا في الوسط الكنسي، ومن ثم في مجتمع جنوب أفريقيا كله.
وعقب ذلك تعرف الشيخ على (صالح محمد) أحد كبار رجال الأعمال المسلمين في مدينة كيب تاون ـ ذات الموقع السياسي والاقتصادي الهام، والتي تتميز بكثافة سكانية إسلامية عالية وغير منظمة، في مقابل أغلبية نصرانية قوية ومنظمة جداً ـ فدعاه لزيارة المدينة، ورتب له أكثر من مناظرة مع القساوسة في المدينة، ولكثرة عددهم ورغبتهم في مناظرة الشيخ فقد أصبحت إقامته في كيب تاون شبه دائمة، وتمكن ديدات من خلال تلك المناظرات أن يحظى بمكانة مرموقة بين سكان المدينة.
وفي عام 1977م كان موعد الشيخ الأول مع العالمية؛ إذ خرج إلى لندن للمناظرة في قاعة «ألبرت هول» الكبرى، وزار عقب ذلك العديد من دول العالم للغرض نفسه، واستمرت مكانته تسمو ونجاحاته تذيع، وبخاصة بعد مناظراته التي عقدها مع كبار رجال الدين النصراني أمثال: كلارك ـ جيمي سواجارت ـ أنيس شروش ـ ستانلي سجوبرج والتي أحرجت المنصرين أيما إحراج، وأظهرت عمق تمكن الشيخ في هذا الفن وسعة علمه في هذا الباب، حتى إنه من شدة حرج المنصِّرين اتهم بعضهم المنصر العربي الأصل (أنيس شروش) بأنه متواطئ مع الشيخ لهزيمة النصرانية.
أسس الشيخ معهد السلام لتخريج الدعاة، والمركز العالمي للدعوة الإسلامية بمدينة (ديربان) بجنوب إفريقيا، كما ألف ما يزيد عن عشرين كتاباً، من أبرزها: الاختيار بين الإسلام والمسيحية، وهو مجلد متعدد الأجزاء، القرآن معجزة المعجزات، المسيح في الإسلام، العرب وإسرائيل صراع أم وفاق، مسألة صلب المسيح بين الحقيقة والافتراء، وقد طبع منها ملايين النسخ لتوزع بالمجان حول العالم بخلاف المناظرات التي طبع بعضها، إضافة إلى نسخ آلاف المحاضرات التي ألقاها؛ ولهذه المجهودات الضخمة مُنح الشيخ أحمد ديدات جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام 1986م.
اتُّهم الشيخ من قِبَل بعض المنصرين بالقاديانية، وهو ما يتعارض مع الجهود العلمية والدعوية التي قام بها، وهو أيضاً الأمر الذي نفاه الشيخ مراراً مؤكداً التزامه بمنهج أهل السنة والجماعة.
واستمر الشيخ صادعاً بالحق داعياً إلى الخير دون كلل أو ملل حتى أصيب في عام 1996م، بشلل تام في كافة جسده عدا رأسه بعد رجوعه من رحلة دعوية شهيرة إلى أستراليا، عولج عقبها لفترة طويلة في مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض، ثم انتقل إلى بلاده جنوب أفريقيا بعد أن استقرت حالته نوعاً ما، ومنذ ذلك الوقت بقي صابراً محتسباً طريح الفراش، يرد على الرسائل البريدية والإلكترونية وأسئلة الهاتف التي ترد إليه عبر ولده يوسف من خلال لغة إشارة خاصة به.
ومع مرض الشيخ إلا أن تطلعاته الدعوية كانت تكبر، فانظر إلى قوله: «لئن سمحت لي الموارد فسأملأ العالم بالكتيبات الإسلامية، وخاصة كتب معاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية» ، وإلى توصيته لأعضاء مجلس أمناء المركز العالمي للدعوة الإسلامية في زيارتهم الأخيرة له بضرورة العمل على طباعة ترجمة معاني القرآن الكريم ونشرها في العالم، والتي قال فيها: «ابذلوا قصارى جهودكم في نشر كلمة الله إلى البشرية.. إنها المهمة التي لازمتها في حياتي» .
واستمر الشيح بتلك الروح على تلك الحالة المرضية حتى وافاه أجله. وقد حاول أكثر من منصِّر تنصير الشيخ وهو على فراش المرض، ولعل من أشهر من حاول ذلك القس كلارك عام 1997م. وفي أثناء زيارة بعض القساوسة له أثناء مرضه كان بعضهم يشير إلى أن سبب ما أصابه مهاجمته لكتابهم المقدس، وعقب وفاته اتصل أحد المنصِّرين قائلاً: «إن غضب ربه عيسى هو السبب في موته، وهو من قتله انتقاماً منه» .
رحم الله ـ تعالى ـ الشيخ وأسكنه فسيح جناته، وبارك في عقبه وتلامذته، وأخلف الأمة من يقوم بدوره.
- عوامل نجاح الشيخ:
من تابع حياة الشيخ، وتأمل في مسيرته، يرى أنه ـ رحمه الله تعالى ـ وُفِّق في امتلاك صفات وعوامل عدة مكنته من تحقيق هذا النجاح المثير، ولعل من أبرز ذلك:
1 - الغيرة على الدين، وتعظيم ثوابته: ومن نظر في سيرة الشيخ اتضح له مدى امتلاكه لهذا الباعث المحرك على الفعل. يقول ـ رحمه الله تعالى ـ مصوراً الحالة النفسية التي كان يعيشها من جراء هجوم طلبة كلية (آدمز مشين) التنصيرية على أصول الإسلام ما نصه: «وقد أحال هذا الهجوم على الإسلام حياتنا إلى بؤس وعذاب وشقاء، وأحدثت عندنا حيرة وقلقاً بسبب عدم معرفتنا شيئاً نرد به عليهم، وكنت أرغب في ترك المحل والهرب إلى مكان آخر، ولكن ذلك كان مستحيلاً لصعوبة وجود مكان آخر» يلجأ إليه.
2 - الإصرار وقوة العزيمة: ولعل هذه الصفة من أبرز ما يميز الشيخ؛ إذ على الرغم من أنه ترك الدراسة النظامية وهو في سن السادسة عشرة، إلا أن ذلك لم يحُل بينه وبين استمرار بناء النفس ومداومة القراءة والتعلُّم الذاتي؛ حتى إنه صار آية في فنه، يشهد له بذلك القاصي والداني قبل شهادة نتاجه العلمي المقروء والمرئي والمسموع، مما جعل بعض الجامعات تراه أهلاً لدرجة الأستاذية في تخصصه وتقوم بمنحه إياها، هذا في الجانب العلمي. أما في الجانب العملي فالأمر أكثر وضوحاً؛ إذ إنه ما إن قرأ كتاب «إظهار الحق» حتى بادر إلى تخصيص يوم إجازته لزيارة طلبة كلية (آدمز مشين) وأساتذتها في منازلهم ويقارع أباطيلهم بالبراهين والحجج الداحضة، ومع ازدياد عود الشيخ صلابةً نجد نشاطه يتجاوز مدينته، فيخرج إلى جوهانسبرج وكيب تاون، وفي عام 1959م نراه يترك وظيفته ليتفرغ للعمل الدعوي كلياً، واستمر في الذهاب والإياب في أرجاء البلاد دون أن تعرف نفسه الملل، ليبدأ عقب ذلك الخروج إلى بقية البلدان؛ حتى إنه حاضر أو ناظر في نيويورك وشيكاغو ولندن وكوبنهاجن وسيدني، وغيرها من كبريات مدن العالم.
3 - الشجاعة الأدبية: وهب الله ـ تعالى ـ الشيخ إقداماً ورباطة جأش وقبولاً للتحدي بصورة جعلته لا يهاب الصعاب، ولا يرهب مكر الآخرين وكيدهم على صغر سنه وفقره وقلة حيلته، في مقابل قوة المنصرين وكثرتهم وكون السلطة بأيديهم، وهو وإياهم في بلد عنصري لا يرى لغير الجنس الأوروبي كرامة ولا قيمة، واستمرت شجاعته الأدبية معه إلى أن توفاه الله تعالى إذ استمر في مناظرة أرباب التنصير من كافة المذاهب في بلدانهم واحداً تلو الآخر، دون أن يدخل إلى قلبه خوف أو وجل.
4 - الحلم والتواضع: إن من أهم ما تمتع به الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ صفتي الحِلْم والتواضع؛ فحلمه مكنه من الهدوء بصورة ملفتة أمام خصومه، ومن القدرة على تجاوز الإهانات التي لاقى كثيراً منها أثناء الحوار والمناظرة، وتواضعه الجم وبساطته الظاهرة وبعده عن مظاهر الترف والتكلف ـ رغم مكانته المرموقة وشهرته الواسعة ـ مما أكسبه القلوب وساعده على تقريب الناس منه وجذبهم إليه.
5 - الرفقة المعينة: كان إلى جانب الشيخ رفقة جردت نفسها للوقوف معه لنصرة الحق، وأسهمت بفاعلية في تشجيعه وإعانته وفتح الآفاق والفرص أمامه، والحق يقال إن الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ رغم عصاميته الظاهرة ما كان ليبلغ ما بلغ لو لم يوفقه الله ـ تعالى ـ بصحبة مقتنعة بشخصيته، مؤمنة برسالته، ملازمة له في حله وترحاله، تمهد له دروب النجاح وتثبته أثناء مضيه فيها.
6 - وضوح الهدف: إذ منذ أن بدأ الشيخ ـ رحمه الله عز وجل ـ نشاطه الدعوي، وهدفه بيِّن متمثَّل في الدفاع عن الإسلام، ورد شبهات النصارى حول القرآن المجيد والنبي الكريم -صلى الله عليه وسلم -، وذلك من خلال بيان عقائد الإسلام كما هي، ونشر ترجمة معاني القرآن كما هي، والانطلاق من قاعدة: «خير وسيلة للدفاع الهجوم» ، ولذا فقد عمل على دراسة كتاب النصارى المقدس بعهديه، وإظهار ما فيه من تناقض مع مسلَّمات العقل، وما بين نسخه من اختلافات ضخمة ناتجة عن تبديل وتحريف بشري متكرر ومتعمد. وقد استمر الشيخ ـ رحمه الله ـ منذ أكثر من سبعين عاماً مرتباً لأولوياته، مركِّزاً على هدفه هذا الجلي، متجهاً نحو تحقيقه بكل ما يملك من جهد وإمكانات، لم يحد عن ذلك إلى أن توفاه الله تعالى.
7 - التخصص الدعوي: لم يتجاوز الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ المجال الذي نذر نفسه له، من مقارعة أباطيل النصارى ودحض شبهاتهم حول الإسلام، وقد مكنه استمرار التركيز على هذا الجانب من تحقيق مزيد من العمق والإبداع فيه، حتى إنه ـ رحمه الله تعالى ـ بلغ من إتقانه له حداً لا يجارى. فماذا يا ترى ستكون النتائج لو أن كل فرقة من الدعاة تخصصت في مجال دعوي محدد؟
8 - خدمة جانب حيوي وبِكر: لعل من أهم العوامل التي ساهمت بفاعلية في نجاح الشيخ وبروزه توفيق الله ـ تعالى ـ له بالتركيز على جانب حيوي مهم، حاجة الأمة إليه ماسة، وبخاصة في زمن غربة الإسلام، وضعف إمكانات الداعين إليه في مقابل قوة إمكانات التنصير وهيمنة إرسالياته على كثير من المؤسسات التعليمية والصحية والإعلامية في أصقاع الأرض، ولذا فقد كان للمشاركات المتميزة التي أسهم بها الشيخ حضورها الفاعل في الصراع العقدي الدائر بين الإسلام والكنيسة اليوم.
وزاد من فرص الشيخ في النجاح أن هذا المجال ما يزال على المستوى الدعوي الإسلامي شبه بكر، الجهد فيه محدود وقليل، ولذا فقد كان تقديم أي إسهام متميز من الشيخ ملحوظاً ومؤثراً في الساحة الدعوية بصورة بينة جداً.
9 - تنمية المهارات والقدرات الذاتية: عمل الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ على صقل مواهبه، وتنمية قدراته منذ أن بدأ في سلوك هذا الطريق، فمع أن الشيخ توقف عن الدراسة النظامية في سن مبكرة جداً إلا أنه استمر في تنمية لغته الإنجليزية، ومعلوماته من خلال القراءة والبحث، وبعد أن اطمأن إلى جودة معلوماته أخذ في تحسين مهارة الإلقاء لديه، فحضر دروساً في ذلك عند متميز في هذا الجانب (لا يكاد السامع يمل حديثه) ، ثم انضم إلى دروس تُمكِّن مَنْ يحضرها من استثمار تناقضات (الكتاب المقدس) في الدعوة إلى الله تعالى. وما فتئ الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ يوماً بعد آخر يحسِّن من قدراته على الإلقاء والمناظرة من خلال ممارسته العلمية المتكررة حتى بلغ فيها المبلغ الذي يعرفه الجميع.
10 - التركيز على الإنجاز: من تأمل في حياة الفقيد ـ رحمه الله تعالى ـ تجلى له بُعدُهُ عن التنظير الواهي، وتركيزه على تنفيذ الوسائل المحققة لهدفه الدعوي الذي ارتضاه لنفسه؛ فهو يناقش ويناظر ويحاضر وما زال يتعلم، وهو يقيم الدورس ويعقد الدورات ويصنف الرسائل وينتقل من مدينة إلى أخرى ليدعو الآخرين ويعلمهم ما تعلم، وهو يتفق مع رفيق دربه غلام حسن على تأسيس مكتب للدعوة لمقارعة الباطل وإقامة الحجة على المعاندين، وهو يترك وظيفته ليتفرغ لدعوته، وهو يدخل في شراكة دعوية مع بعض أغنياء المسلمين بغرض استثمار وجاهتهم وقدراتهم المالية في خدمة الدعوة إلى الله تعالى، وهو ينشئ المؤسسة تلو الأخرى لخدمة دعوته وتحقيق رسالته، وهو ينتقل من بلد إلى آخر ليثبِّت المسلمين ويقيم الحجة على خصومهم، وهو يعقد اللقاءات المتكررة مع المنصرين لمناقشتهم في أمور دينهم، ولفت نظرهم إلى جوانب القصور والضعف الموجودة في عقائدهم وكتبهم، وهو يوزع أكثر من: 20.000.000 مليون نسخة من رسائله وأشرطته المسموعة والمرئية، وأكثر من 400.000 نسخة من ترجمة معاني القرآن الكريم عبر المركز العالمي للدعوة الإسلامية الذي شارك مع إخوانه في تأسيسه في ديربان، وهو يرد على ما يرده من أسئلة من الآخرين مع أنه طريح الفراش مشلول اللسان والأطراف لا يتحرك منه غير عينيه وحاجبيه لمدة تزيد على عشر سنين إلى أن وافاه الأجل المحتوم ـ جعله الله تعالى في عليين ـ مما يجعلنا نقول بصوت مرتفع: حقاً إن امتلاك المبادرة الفاعلة والتركيز على إنجاز الأهداف المختارة هو سبيل الناجحين.
ويبقى توفيق الله ـ تعالى ـ وعونه وتسديده قبل ذلك وبعده هو العامل الأهم في قبول الناس لجهود الشيخ واستفادتهم منها وسمو النجاحات التي حققها.
لقد كان الشيخ تجربة دعوية ناجحة، وأنموذجاً في العلم والعمل يستحق الدراسة والاحتذاء، وعسى الله ـ تعالى ـ أن يسخر العاملين في المؤسسات الدعوية لتبني أصحاب التجارب الناجحة من أمثال الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ ليزداد النجاح نجاحاً والإشراق إشراقاً، وأن يسخر من المؤسسات أو الدعاة من يعمل على تدوين تجربة الشيخ وأمثاله من المبدعين، حتى لا تموت بموتهم وتتمكن الأجيال الدعوية القادمة من توارثها.
- وختاماً:
فقد كانت جهود الشيخ وإسهاماته المتنوعة إضافة متميزة في التجربة الدعوية المعاصرة، يُعتَقَد بأن نجاحها الأكبر كان في بهت الذين كفروا، وفي تثبيت المسلمين الذين يعيشون في أجواء نصرانية طاغية وإشعارهم بالعزة والتفوق العقدي. والمأمول من تلاميذ الشيخ ومحبيه أن يطوروا هذه التجربة وينطلقوا من حيث انتهى الشيخ لا من حيث بدأ، فيركزوا على المعرفة المتعمقة بالشريعة الإسلامية والديانة النصرانية المحرفة على حد سواء، ويعملوا على المزج بصورة أظهر بين إرادة تثبيت المسلمين وبين الرغبة في دعوة النصارى، فيحسنوا في الأساليب ويطوروا في الوسائل بصورة ملموسة تخفف من الشعور لدى الفئات النصرانية المترددة بأن هدف المسلم من المناظرة هو إفحام خصمه فقط لا العمل على هدايته، وتبرز بصورة أكبر يسر الإسلام وسماحته، وكون ـ مولانا القدير ـ أنزله رحمة للعالمين.
اللهم بجودك وفضلك تقبل الشيخ، وتجاوز عنه، وارزقه مرافقة نبيك -صلى الله عليه وسلم - في جنات الخلد، يا إله الأولين والآخرين، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، وصلِّ اللهم وسلم على إمام المرسلين وعلى الآل والأصحاب أجمعين، والحمد لله رب العالمين.