مبارك عامر بقنة
منذ أن انفلت العالم الغربي من عقال الدين وخاصة بعد ما سمي بعصر التنوير، أصبح يرتاد بعقله في كل شيء: المعقول وغير المعقول، فصار ينتج أفكاراً وفلسفات متناقضة متعارضة؛ فلا يكاد يرفع من قيمة فلسفة حتى يبادر بنقدها بعد قليل ويدعو إلى هدمها، إضافة إلى تعدد الرؤى الفلسفية وتناقضها بالنسبة للشيء الواحد؛ فليس عندهم شيء ثابت، ولا تكاد تعثر على رأي متفق عليه في النظر إلى هذه الفلسفات، حتى من جهة التعريف بها، وفي هذه الأجواء تُكتب هذه المقالة.
العدمية لقب ينطبق على فلسفات متطرفة متنوعة تشكل النهاية المنطقية لمعظم الفلسفات الإنسانية الغربية الحديثة. وهي ـ كما يعرفونها ـ حالة نفسية وجودية يمارسها الشخص، تقوم على رفض كل شيء من (اللاهوت إلى الفكر العلماني) ، أو بعبارة أخرى: هي الاعتقاد بلا شيء؛ فالإيمان والقيم الإيجابية تنعدم وتتلاشى في العدمية؛ فلا يوجد فرق بين الوجود الإلهي وعدمه، ولا يوجد هناك مطلق أو أي أرضية موضوعية للحقيقة وخصوصاً الأخلاق الحقيقية الفاضلة؛ فكل شيء مباح ولا اعتبار للأخلاق مطلقاً. والأمر الآخر التي ترفضه العدمية هو الإيمان بالغاية النهائية؛ إذ لا يوجد لديهم دليل يثبت أن الكون ذو هدف ويعمل لغاية؛ فالعدم نهاية الوجود.
والدين عند العدميين يعتبر خطراً أساسياً على الفرد والمجتمع؛ لأنه يعطل العقل، ويلوِّث الفِطَر السليمة، ويفسد التحليل النقدي. فالدين يقول: اعمل ما أقول لك؛ لأني قلت ذلك فقط. فالأشياء التي لا يمكن إثباتها تحتاج إلى الدين.
- شيطان العولمة ماذا يقول؟
وقد لخص ـ شيطانهم ـ «نيتشه» العدمية فيما يدعيه بـ «موت الإله» و «سقوط القيم العليا» . فكل القيم والأخلاق الحديثة برمتها خاطئة وغير قابلة للتطبيق والتقدير.
والإنسان هو الذي يجعل هناك اختلافاً بين الخير والشر، والحق والباطل؛ فالعدمية جبرية صرفة؛ فهي تنفي قدرة الإنسان وإرادته، وتجعله كالقشة تحركها الرياح كيف تشاء؛ ولهذا فنحن لسنا مسؤولين عما نفعل. فكل شيء نعمله أو نفكر فيه أو نشعر به هو فقط نتيجة لأسباب مسبقة ـ ولا يهم هل هذه الأسباب المسبقة هي أعمالي وأفكاري ومشاعري الماضية ـ وهذه الأسباب المسبقة ستؤثر على الأسباب التالية.
ولو أننا تتبعنا أثر السلسلة أكثر فأكثر فإننا سوف نصل إلى هذه الأسباب التي هي خارجة عنا تماماً كالبيئة والوراثة؛ فنحن لا نملك حرية الإرادة؛ فليس هناك معنى للخير والشر؛ لسببين:
أولاً: لأننا لسنا مسؤولين عن أعمالنا؛ ولذلك فأنا لا أمدح ولا أذم على الخير والشر.
ثانياً: لأننا لسنا مسؤولين عن أفكارنا، فليس لدينا أي ثقة، أن عقلنا سيقودنا إلى الحقيقة لمعرفة الخير والشر.
وهنا تظهر محاولة العدميين في إسقاط وإلغاء إرادة الإنسان وقدرته على توجيه ذاته والسيطرة على أفكاره وسلوكه كي يكون مسوغاً في أن يفعل الإنسان ما شاء دون رقيب من ضمير، أو سيطرة من سلطة عليا تحول بينه وبين شهواته.
وهذه العدمية المقيتة التي تنافي الإدراك والحس؛ جعلت العدمي يشعر بعدم الرضا والارتياح، ولذلك هو يبحث عن الأسباب التي تجعله يعتقد بعدم وجود الإله. فالذنوب التي نقترفها تشكل مشكلة مع حالة علمنا بوجود الإله؛ لذلك يتجه العدمي إلى أن يجعل نفسه في حالة جهل؛ فيتجه للشك في وجود الإله. فالعدمية شكِّية أساساً في كل شيء: في الإله، والعالم، والحياة.
وللعدمية في الغالب تصنيفان:
الأول: عدمية هامدة (العدمية الاجتماعية) وهي في الغالب ما يُصطلح عليه بالوجودية. والعدمي الهامد عادة ما يُلازَم بأمزجة يأس، وحالات تدميرية عشوائية، وهي تنكر ـ في شكلها الوجودي المتطرف ـ الحياة نفسها بسبب مظهرها اللامعنى.
والانتحار عند نيتشه هو «عمل العدمية» . فالعدمية الهامدة هي قبول عالم دون معنى باستسلام يائس.
الثاني: عدمية نشطة (العدمية السياسية) وهي محاولة للقضاء على كل القيم بما في ذلك القيم المتصلة بالعالم الحق. فالعدمية النشطة تبحث في تدمير التصنيفات الموروثة المتبقية للقيم. وهي شكل العدمية الراديكالية. و (نيتشه) يمثل العدمية النشطة في هجومه على كل الأديان والأخلاق والقيم، وكذلك الإله والغيب والحقائق والعواطف والإنسانية، والتمييز بين الحق والشر والحق والباطل.
والعدمية النشطة تؤدي إلى العدمية الكاملة والتي تتحقق عندما لا يكون هناك أي قيمة تذكر. فالعدمية الكاملة هي التدمير الكلي لجميع القيم. وإذا تحققت العدمية الكلية فإنه بالإمكان التخلي عن العدمية وإيجاد تصنيفات جديدة للقيم والتقدير.
فعندهم غياب كل الموروثات والقيم الدينية يتيح الفرصة لعصر جديد بقيم جديدة، قيم بارزة تطبق على هذا العالم تستند على تأسيس متين لقدراتنا الإبداعية، والتي تشكل عصراً جديداً للتقدم الإنساني بعد انتصار العدمية. ووفقاً لـ (نيتشه) فالحداثة تتميز من قبل مجيء العدمية الراديكالية؛ فالتاريخ بعد قرنين سيكون تاريخاً للعدمية النشطة المتطرفة. والنقطة الحرجة لتفسير الحداثة عند (نيتشه) هي إمكانية انتصار العدمية أي (إعادة تقييم كل القيم) .
- العلاقة بين العدمية وما بعد الحداثة:
إن المُنظِّر الأساسي للعدمية في العصر الحديث هو (نيتشه) وهو أيضاً واحد من المتقدمين الأساسيين لنظرية (ما بعد الحداثة) في التراث الفلسفي الغربي. وهذا يعني أن تفكير (نيتشه) يضم عناصر كبيرة مما يسمى (ما بعد الحداثة) .
وتوصيف نظرية العدمية وربطها بـ (ما بعد الحداثة) أمر في غاية الصعوبة، وخصوصاً أن (نيتشه) إنسان غامض ونظريته ـ كباقي النظريات ـ مفتوحة لكثير من التفسيرات والملاحظات. إلا أنه بالإمكان قراءة نظرية (نيتشه) بطريقة حديثة. وقد قام بتفسيرها وربطها بالحداثة الفيلسوف الإيطالي (فاتيمو) حيث يتصور أن الأشكال العامة لما بعد الحداثة هي في تحولات العدمية؛ فالعدمية تؤكد وتثبت ولا تنكر عن طريق ما بعد الحداثة، فيصح إطلاق القول لما بعد الحداثة بالعدمية.
كتب (نيتشه) في النصف الثاني من القرن التاسع عشر: «العدمية هي علة عصر الحداثة، وخصوصاً، الحداثة الأرومية، فتأثيرها يطال المجتمع الغربي وثقافته بشكل عام بالإضافة إلى الفرد بشكل خاص» . وشخَّص (نيتشه) العدمية بالنبوءة؛ فهو يقول: «ما أرويه هو تاريخ القرنين القادمين؛ فأنا أصف ما سيأتي» وما يأتي قريباً هو: مجيء العدمية. فعند (نيتشه) أن جذور العدمية تنبثق من الماضي وتمتد في المستقبل. ويكشف الفيلسوف الإيطالي (فاتيمو) استقرائياً العلاقة بين العدمية وما بعد الحداثة ليبين وثاقة الصلة بين نظرية عدمية (نيتشه) مع حالة (ما بعد الحداثة) .
فما بعد الحداثة ـ وهو أسلوب من التفكير ـ يُتهم في الغالب بأنه عدمي، وينظر إلى مجتمع عدمي. وبتحليل أعمق للعلاقة بين العدمية وما بعد الحداثة والتي ـ نادراً ـ ما يهدف مشروع ما بعد الحداثة إلى تحرير الإنسانية من خلال تطبيق العقل في الممارسة الاجتماعية. فـ (ما بعد الحداثة) تعني تكاثر وتزايد العلم والتقنيات خلال التصنيع، وإدارة كثير من مظاهر الحياة الاجتماعية، وتطبيق المشاريع السياسية والاقتصادية والسوق الرأسمالية. فـ (ما بعد الحداثة) تتميز بانشطار وتمزق المجتمع إلى مجتمعات متعددة، وأشكال جديدة غير قابلة للقياس. فهذه التشطرات لا يستطيع شخص وصف الواقع الاجتماعي فيها برمته. وبالرغم من الاختلافات بين النظريات المتنوعة لما بعد الحداثة، إلا أن (فاتيمو) يعتقد أنه يوجد اتفاق عام لمعنى فكرة ما بعد الحداثة. ولو كان لهذه الفكرة معنى فإنه يجب أن توصف بمصطلح (نهاية التاريخ) .
وفقاً لوجهة نظر (فاتيمو) ، توصف الحداثة عن طريق فكرة التقدم، والفكرة تستند إلى خط أُحادي النظرة للتاريخ؛ إذ لا نملك سوى نظرة أحادية للتاريخ. وهذه النظرة بُنيت كخط متسق مع المجتمع الذي يتقدم مع مضي الزمن. ففي ميزان الحداثة: الحديث أو الجديد هو بذاته قيمة. وستأتي الحداثة للنهاية عندما لا تنظر للتاريخ بنظرة أحادية، ومن ثَمَّ ينتج ما بعد الحداثة. لذا فإن الموضوع العام (نهاية التاريخ) تعني نهاية الخط الأحادي للتاريخ.
- ماذا تعني دعوى (نهاية التاريخ) ؟
نهاية التاريخ «تعني نهاية الخط الأحادي للتاريخ» : لماذا ينتهي التاريخ؟ يذكر «فاتيمو» ثلاثة أسباب لذلك:
الأول: نظرية أُحادي النظرة للتاريخ، وهي نظرية أيديولوجية تاريخية متحيزة بانتقائية تخدم أغراضاً سياسية لمجموعة من الناس على حساب الآخرين. وفلاسفة التاريخ والمؤرخون يقولون إن النظرة التاريخية الأحادية والتي تؤدي للتقدم الحديث هي فقط تمثل تاريخ الرجل الأوروبي. هناك تواريخ متعددة تظهر رؤى متعددة. وتأكيد تاريخ واحد مسيطر أو ملخص لهذه التواريخ يعني سحق وإبادة للآخرين بطريقة جائرة. مثال ذلك: الرؤية الغربية للتاريخ «تطور العقل» ، استُعملت لتبرير استعمار الشعوب الأقل عقلانية. فالأيديولوجية لهذا التاريخ أيدت الاستبداد والعبودية والإبادة الجماعية للسلالات الأقل درجة، وهي تمثل (نظرية داروين) المادية الملحدة.
الثاني: تفكيك أُحادي النظرة للتاريخ؛ وهذا أدى إلى نهاية الإمبريالية الأوروبية.
فالشعوب المُستبدة تمردت وأكدت وجودها مما جعل الآخرين يدركون أن هناك تواريخ بديلة، وأن التقدم الأيديولوجي يتسم بدرجة عالية من الظلم.
الثالث: وسائل الاتصال الضخمة في ظل وسائل الإعلام الهائلة؛ فإن الثقافة الأقل تُتاح لها الفرصة أن تعبر عن رأيها، ومن ثَم ازدياد التعددية في المجتمع؛ فالإعلام جعلنا مدركين لحقيقة التاريخ أحادي النظرة. فتقنية المعلومات والإعلام جعلت الناس يزداد لديهم الإدراك بأن هناك تواريخ متعددة، وليس تاريخاً واحداً.
باختصار: فإن (ما بعد الحداثة) عند (فاتيمو) وُصف عن طريق (نهاية التاريخ) في مجتمعات الاتصال الهائل المؤسس لعصر الانشطار والتعددية والتنوعية.
ومما يقبل الجدل أن العدمية الحديثة تتبع الحداثة في العموم في توظيف تفسير التاريخ الأحادي؛ فهي تذكر أنموذجاً واحداً وهو الرجل الأوروبي، والتي تقول إنه قدر الإنسانية جمعاء. بينما الحقيقة أن العدمية تعود فقط إلى الغرب كإشارة. لذلك فالعدمية الحديثة هي نقدية التاريخ، والتقدم هو تفكير تطرفي فيها.
فالعدمية كفلسفة تاريخية لا يمكن أن تطبق؛ ولا يمكن وصف نصرها استجابة ملائمة لطبيعتها؛ فمنذ فكرة انتصارها ـ على الأقل في حس الحداثيين ـ فإنها أُدمجت بطريقة معقدة في فكرة التقدم. فعندما ننجز شيئاً ما، فإننا نحقق تقدماً، ومن ثَم نجد أنفسنا في مرحلة جديدة من التاريخ. فالحداثة ذاتها عُرفت بمصطلحات الغلبة والتفوق على القديم. بينما انتصار (نيتشه) للعدمية هو التعايش مع العدمية الكاملة، وليس هناك شيء آخر بعد انتصار العدمية؛ فلا نستطيع وضع قيم جديدة يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون أكثر مصداقية من التي أزلناها بدون إيمان بأن هذه القيم لديها الأخطاء نفسها كما لدى القيم التي أزلناها. لذلك لا يمكن للعدمية الكاملة أن تنتصر، وما يمكن أن تنتصر فيه العدمية يمكن أن يتشكل في انتصار الرغبة بدلاً من انتصار العدمية نفسها.