الأسباب والأهداف والأسئلة التالية
ياسر الزعاترة
في سياق قراءة خطة الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة التي نكتب هذه السطور قبل يومين من الشروع في تنفيذ أولى خطواتها، يمكن القول إن ثمة وجهات نظر مختلفة للمعالجة؛ أولاها ـ وربما أهمها ـ: وجهة النظر الإسرائيلية التي يمثلها شارون، صاحب الفكرة. وثانيها: وجهة نظر السلطة الفلسطينية، وإلى جانبها العربية، المصرية على وجه التحديد، فضلاً عن المواقف الدولية، الأمريكية على نحو خاص، إضافة إلى وجهة نظر قوى المقاومة، وعلى رأسها حركة المقاومة الإسلامية حماس. بعد ذلك تأتي أسئلة المستقبل بالنسبة لقطاع غزة، ومن ورائه ما تبقى من الأراضي المحتلة عام 1967م، أي مستقبل ما يُعرف بعملية التسوية، بل ربما مستقبل الصراع برمته.
- خلفيات خطة الانسحاب:
لا بد بداية من العودة إلى عام 1999م يوم كان شارون يحضّر لمشروع عودته إلى السلطة والإطاحة بحزب العمل الذي لم يفلح في مسيرة التسوية؛ وذلك لعجزه عن فرض الحل المطلوب على الفلسطينيين في قمة كامب ديفيد، في تموز عام 2000م، وهو الأمر الذي مهد الأجواء لاندلاع انتفاضة الأقصى بعد ذلك بثلاثة شهور، وتحديداً في 28/9/2000م. في تلك الأثناء دخل شارون على خط المزايدة المحمومة على (باراك) وحزب العمل، معلناً أنه الوحيد القادر على جلب السلام والأمن للشعب الإسرائيلي.
خلال شهور، كان شارون قد نجح في الوصول إلى رأس هرم السلطة مؤكداً على مشروعه الرامي إلى القضاء على انتفاضة الأقصى في غضون (100) يوم لا أكثر، لكن الرياح لم تأتِ كما تشتهي سفنه؛ إذ تواصلت الانتفاضة على نحو جعلها مرحلة استثنائية في تاريخ النضال الفلسطيني. وبينما نسي الشارع الإسرائيلي قصة الأيام المئة تحت وطأة الخوف من التهديد الوجودي، وليواصل الاحتماء «بالقاتل الأزعر» حسب وصف أحد الكتاب الإسرائيليين، كان شارون يواصل حربه الشرسة على الفلسطينيين، على حين كان الإسرائيليون يصفقون له والخوف يملأ قلوبهم من الموت الذي يتربص بهم في المقاهي والباصات.
تصاعدت الانتفاضة خلال مطلع عام 2002م، وصولاً إلى معركة مخيم جنين، حين بدأ شارون عملية «السور الواقي» التي أعاد من خلالها احتلال معظم مناطق الضفة الغربية، وبدأ يطارد المقاومة بشكل استثنائي داخل المدن والقرى والبلدات الفلسطينية.
كان هدف عملية «السور الواقي» هو القضاء على الانتفاضة تحت ذريعة أن مناطق السلطة قد تحولت «ملاذاً آمناً» للمقاومة، لكن ذلك لم يحقق النجاح المطلوب؛ فعلى رغم الضربات الكبيرة والصعبة التي تعرضت لها قوى المقاومة، إلا أنها ظلت قادرة على ضرب العمق الإسرائيلي وتعويض الخسائر على نحو يتفاوت بين حين وآخر.
في هذه الأثناء كانت تحضيرات الحرب على العراق قد بدأت، وقبلها بالطبع هجمات الحادي عشر من أيلول التي اعتقد شارون أنها تشكل فرصة سانحة للقضاء على المقاومة بوصفها إرهاباً لا بد من استئصاله.
الذي لا شك فيه هو أن شارون قد عوّل كثيراً على احتلال العراق؛ إذ شكل ذلك في وعيه ووعي الشارع الإسرائيلي والنخب اليهودية في العالم أجمع فرصة حقيقية للخلاص من «التهديد الوجودي» وإعادة تشكيل خريطة المنطقة، وإخضاع العرب والفلسطينيين لشروط التسوية الشارونية.
لم يحدث ذلك بالطبع؛ إذ جاءت المقاومة العراقية لتشطب حلم شارون الجديد، ولتبدأ موجة تراجع في بريقه الشعبي بسبب استمرار المقاومة.
- قطاع غزة، عقدة الاحتلال:
طوال عقود كان قطاع غزة مصدر إزعاج للاحتلال، وإلى جانب ما عرضه الإسرائيليون على المصريين مراراً من أجل التخلص منه، فقد تمنى (إسحق رابين) شخصياً أن يصحو من نومه ذات صباح ليجد قطاع غزة برمته قد غرق في البحر.
لعل ذلك هو ما يفسر كيف أن اتفاق (أوسلو) قد سمي في البداية: (غزة/ أريحا أولاً) ، وهو ما يفسر عبء القطاع من حيث المبدأ، بينما كان العبء قد زاد عقب بدء (حماس) ومعها (الجهاد) حرب عصابات ضد قوات الاحتلال مطلع العام 1990م.
يشار هنا إلى أن اتفاق أوسلو قد نجح في تحقيق الهدف المطلوب، حيث تمكن رجال السلطة خلال زمن قياسي من القضاء على المقاومة في القطاع، بينما لم يكن أمام رجال المقاومة بعد ذلك سوى الرحيل إلى الضفة، وهو ما سرّع في وضع سياج أمني يحول بينهم وبين ذلك. وقد فعل الاحتلال ما فعل بعدما تبين أن رجال حماس في غزة قد نقلوا أعمالهم وخبراتهم إلى الضفة الغربية؛ حيث بدأ جهاز (حماس) العسكري (كتائب القسام) بتنفيذ أعمال كبيرة هناك ظهرت بعد عام 1994م من خلال مجموعات الشهيد يحيى عياش.
منذ أن أحيط القطاع بالجدار الإلكتروني باتت المقاومة هناك تعيش حالة خاصة؛ فبينما هي تملك إمكانات كبيرة، فإن قدرتها على ضرب الاحتلال بطريقة أقوى ـ كما كان الحال في الضفة ـ كانت محدودة نظراً لعدم وجود قوات إسرائيلية، على حين أن المستوطنات محاطة بإجراءات أمنية رهيبة. لكن الإبداع الفلسطيني المقاوم ظل قادراً على تحقيق ما يشبه المعجزات والوصول إلى طرائق تجعل الوجود الإسرائيلي في القطاع مكلفاً إلى حد كبير، لا سيما حين يقاس بالعدد المحدود من المستوطنين الذين يلتهمون 40% من أرضه التي لا تتعدى 362 كيلو متراً مربعاً تشكل حوالي 6% من الأراضي المحتلة عام 1967م، وما يقرب من 1,5% من مجموع الأرض التاريخية لفلسطين، بينما يعيش فيه ما يقرب من مليون إنسان ونصف المليون.
- لماذا لم يُعِد شارون احتلال غزة؟
كان السؤال الكبير الذي طرح على الدوام هو: لماذا لم يفعل شارون بغزة ما فعله بالضفة الغربية من حيث الاجتياح الكامل وضرب مراكز المقاومة ورموزها؟
يجب أن نشير ابتداء إلى أن قطاع غزة لم يسلم من عمليات التوغل والإنزال والاغتيالات؛ فقد ناله منها الكثير، لكن ذلك لم يصل حدود ما جرى في الضفة الغربية من حيث الاجتياح الشامل. وقد حدث ذلك لسببين: الأول: أمني وعسكري، والثاني: سياسي ينطوي على أبعاد أمنية وسياسية أيضاً.
من الناحية الأمنية والعسكرية لم يكن بوسع شارون أن يدخل قطاع غزة ويحتله احتلالاً كاملاً لأيام أو أسابيع كما حصل مع المدن الأخرى في الضفة من دون أن ينطوي ذلك على خسائر كبيرة، على حين كان سيناريو مخيم جنين حاضراً على الدوام؛ وذلك نظراً لكثرة المقاتلين في قطاع غزة من جهة، ولطبيعة الاكتظاظ السكاني الرهيب الذي قد يحيل الاجتياح إلى مجزرة كبيرة، سيكون لها ثمنها السياسي الباهظ.
أما الاحتلال الكامل وبلا حساب فسيكون إيذاناً بانتهاء السلطة التي بقيت سليمة هناك، وعندما تنتهي السلطة فسيدفع الاحتلال أثماناً باهظة سياسياً واقتصادياً وأمنياً، خلافاً لوضع (الاحتلال الديلوكس) الذي عاشه شارون خلال أكثر من عامين وتحديداً منذ نيسان/ أبريل عام 2002م.
نهاية السلطة هي «الكابوس» كما وصفها أحد الكتاب الإسرائيليين؛ إذ سيعني ثمناً اقتصادياً باهظاً بتحمل المسؤولية عن حياة الناس، وسياسياً ثمناً كبيراً بعودة الاحتلال إلى وجهه القبيح، وأمنياً بكسر ميزان القوى المختل مع المقاومة بإمكانية عودتها إلى حرب الشوارع كما كان الحال قبل أوسلو.
- إخفاق شارون الأمني والسياسي:
في ضوء ذلك كله برز الإخفاق الأمني الذريع لشارون بالعجز عن إخماد جذوة المقاومة. أما السياسي فتمثل في العجز عن فرض رؤيته للحل الانتقالي بعيد المدى الذي وعد بتحقيقه إلى جانب وقف الانتفاضة، وهو الحل القائم على دولة فلسطينية هزيلة على قطاع غزة و 42% من الضفة الغربية من دون القدس أو السيادة أو عودة اللاجئين.
هنا بدأ الشارع الإسرائيلي يعلن ضجره من شارون، وكذلك حال النخبة السياسية والعسكرية، وبرزت قصة (موشيه يعلون) وتحذيراته من كارثة سياسية على الدولة العبرية، ومثلها تحذيرات رؤساء الشاباك الأربعة السابقين، وإضرابات الطيارين وعناصر الوحدات الخاصة، والوضع الاقتصادي المتدهور، والمعلومات المخيفة حول الهجرة القادمة والمعاكسة، إلى غير ذلك من المؤشرات السلبية التي دفعت النخبة السياسية والعسكرية إلى مواجهة شارون بعدد من الفضائح، والتي ما كان لها أن تتفجر لولا ذلك، بل إن وثيقة جنيف الشهيرة ما كان لها أن تظهر بذلك الدعم اليهودي والدولي الكبير لولا ضعف شارون وهزاله السياسي، وبتعبير أدق: نهاية مشروعه الأمني والسياسي.
هنا كان على شارون أن يُخرِج كل ما لديه من سحر كي ينقذ نفسه من مصير بائس، فكان الجدار الأمني واحداً من محاولاته المستميتة للتخلص من الهواجس الأمنية، ثم كان الإعلان عن خطة الفصل أحادي الجانب في وقت لاحق عام 2003م، وهي الخطة التي أجمع المحللون الإسرائيليون في حينه على وصفها بالهزيمة أمام الإرهاب. وقد كان لافتاً أن يعلق على المشروع في اليوم التالي (في صحيفة معاريف) رجلان من اليمين (بنتسي ليبرمان) رئيس مجلس يشع للمستوطنين، و (يوسي بيلين) «الحمامة» اليساري المعروف؛ حيث أجمعا على أن شارون قد قدم بمشروعه هدية للإرهاب وأثبت هزيمته أمامه.
كان ذلك صحيحاً مئة بالمئة، ولن نتأكد من ذلك إلا عندما نتذكر أن مشروع شارون للفصل أحادي الجانب ثم إخلاء مستوطنات قطاع غزة، هو عينه مشروع الحل الانتقالي بعيد المدى الذي كان على الفلسطينيين أن يدفعوا مقابله استئصال الإرهاب وعقوداً ومواثيق لا حصر لها، لكنه عاد ليمنحهم إياه بلا ثمن، أقله في البداية وقبل بروز التطورات التالية.
بالمقابل كان المنطق الذي سوّق به شارون الخطة هو أنها مادة الفورمالين التي تجمد من خلالها العملية السياسية، بحسب تعبير مدير مكتبه (دوف فايسغلاس) ، فضلاً عن كونها محطة باتجاه تعزيز الاستيطان في الضفة الغربية والقدس.
- تطورات المشهد العراقي والفلسطيني الداخلي:
خلال عام 2004م كان المشهد الفلسطيني والعربي يبدو مختلفاً إلى حد كبير؛ فقد استنفر الأمريكان والصهاينة في العالم أجمع من أجل إخراج الوضع الصهيوني من مأزقه، وقد بدأت الولايات المتحدة في الضغط على الوضع العربي، وهو الأمر الذي دفعه إلى تراجعات واضحة، حيث كان المشهد العراقي مرتبكاً إلى حد كبير، وخرجت مقولات الإصلاح التي أرعبت النظام العربي الرسمي وعززت من تراجعاته أمام الضغوط الأمريكية.
في هذه الأثناء بدأ شارون هجمته الأكثر شراسة على الشعب الفلسطيني، لا سيما بعد أن تحول قطاع غزة إلى عنوان المقاومة الأروع والأشرس في ظل تراجع المد المقاوم في الضفة الغربية، فكان أن اغتال الصهاينة مؤسس حركة حماس ورمز الانتفاضة (الشيخ أحمد ياسين) ، ثم أتبعوه بالشهيد البطل (الدكتور عبد العزيز الرنتيسي) ، ولم يمض وقت طويل حتى تخلصوا بالسم من الرئيس الفلسطيني (ياسر عرفات) ، وهي الجريمة التي لم يجرؤ النظام العربي ولا حتى الورثة في حركة فتح ومنظمة التحرير على الاعتراف بها، فضلاً عن مواجهتها.
- محمود عباس والمرحلة الجديدة:
مباشرة وبعد مقتل ياسر عرفات جاء (محمود عباس) إلى السلطة بدعم أمريكي مصري إسرائيلي، وليبدأ مرحلة جديدة كان يعلن الإيمان بها على الدوام، أي التفاوض من دون سلاح، وهو ما كان بالفعل؛ حيث جرى ترتيب وضعه بانتخابات رئاسية سريعة منحته بعض الشرعية، في الوقت الذي كان النظام العربي الرسمي في الحالة ذاتها من التراجع.
هنا تحول مشروع الانسحاب من قطاع غزة من مشروع أحادي الجانب إلى مشروع يتم بالتعاون مع السلطة بعد قمة شرم الشيخ مع شارون مطلع عام 2005م، على حين لم يكن بوسع قوى المقاومة أن ترفض مشروع التهدئة الذي جاء تابعاً لذلك، ليس بسبب عجزها عن مواصلة المقاومة؛ لأن وضعها كان قوياً قبل ذلك، بل بسبب تراجع فتح ووقوفها مع التهدئة، وبسبب الموقف المصري، وإلى حدٍ ما تراجع الموقف السوري تحت وطأة الضغوط الأمريكية.
تواصلت العملية بين شد وجذب وردود فلسطينية على الانتهاكات الإسرائيلية على التهدئة، لا سيما بعد أن تواطأ الأمريكان مع السلطة في تأجيل الانتخابات التشريعية الفلسطينية خوفاً من فوز حماس، وصولاً إلى سعي من طرف السلطة إلى فرض الهيبة ولو بالقوة، وهو الأمر الذي أفضى إلى صدامات محدودة بين حماس والسلطة كانت مفتعلة كما تبين للمراقبين.
- أسئلة الانسحاب وتفاصيله:
الآن يبدأ الانسحاب من قطاع غزة، مع محاولة قادة السلطة الإمساك بكامل الملف بعيداً عن الآخرين، وهو ما لا يرضي حركة حماس التي تتعرض لضغوط من جمهورها للتدخل خشية تلاعب قادة السلطة الفاسدين بكل شيء، وفي حين اتهمت الحركة بمحاولة الاستيلاء على السلطة بالقوة من قِبَل قادة حركة فتح؛ فإن موقف الحركة ما زال متردداً إزاء المرحلة؛ فهي تريد المشاركة في ترتيبات ما بعد الانسحاب لكي لا يستقر القطاف في جيوب الفاسدين على حساب من ضحوا وقدموا الغالي والنفيس، لكن الموقف العام لا يبدو مسانداً بحال؛ فالمصريون لن يقبلوا بحركة (أصولية) في خاصرتهم الفلسطينية، والأمريكان لن يقبلوا ولا الإسرائيليون، بينما لا تريد هي التعامل مع المحتلين أيضاً. ولا تسأل بعد ذلك عن موقف حركة فتح التي تملك الاستعداد للاقتتال الأهلي من دون حدود دفاعاً عن مكتسباتها، في حين لا تملك حماس أي استعداد لإراقة دماء الفلسطينيين على مذبح الانسحاب من 6% فقط من الأراضي المحتلة عام 1967م.
من هنا يمكن القول إن أوراق اللعبة ستبقى رهن يد الإسرائيليين وبعض رموز السلطة المتعاونين معها، بل إن هناك من يقول إن تنسيق العملية يتم بين (محمد دحلان) ، رجل الأمريكان وبين الإسرائيليين بعيداً عن محمود عباس نفسه. وفي العموم فإن مشاكل كثيرة لا بد ستندلع على خلفية التفاصيل الكثيرة المتعلقة بالانسحاب، ومن بينها أو على رأسها مسألة توزيع الأراضي التي كانت عليها المستوطنات، لكن فتح ستبقى سيدة الموقف كما يبدو، وإلا فهو الاقتتال الداخلي الذي لا تريده حماس، حتى لو كانت قادرة عليه؛ إذ ماذا تفعل بهذه المساحة من الأرض التي يسيطر عليها المحتلون من البر والبحر والجو؟
في هذا السياق ينبغي التذكير بقضية مهمة تتعلق بالسيادة على القطاع، وهي القضية التي لم تُحسم بعد في الدوائر الإسرائيلية؛ إذ ما زالت مسألة المعبر البري مع مصر، ومسألتا الميناء والمطار قيد التداول؛ فعلى حين يصر الفلسطينيون على سيادة كاملة، تبدو الدوائر الإسرائيلية مترددة حيال أمر كهذا، وإن قررت بناء سياجين أمنيين جديدين حول القطاع. وفي العموم فإن الدور المصري سيبقى حاضراً هنا، سواء كان ذلك بغياب الإسرائيليين أم بحضورهم، أم بحضور دولي في المعبر.
ما من شك أن هناك في الأروقة الإسرائيلية والأمريكية من يشجع على منح السيادة للقطاع من أجل إعطاء الانطباع بوجود دولة فلسطينية تتشكل على الأرض، وإن على مساحة محدودة ومحاصرة، ولا سيما وأن واشنطن ما تزال في حاجة ماسة إلى استمرار التهدئة في الملف الفلسطيني من أجل التفرغ للملف العراقي.
- أسئلة ما بعد الانسحاب من غزة:
لعل الأسئلة الأكثر أهمية هي تلك التي تطرح عما بعد الانسحاب من قطاع غزة وليس قبله، بل إن كثيراً منها قد طرح قبل ذلك، أعني تلك المتعلقة بالممارسات الإسرائيلية على الأرض التي تؤشر على أهداف الانسحاب والموقف من عملية التسوية برمتها.
في هذا السياق كان الإسرائيليون يستغلون التهدئة من أجل فرض وقائع كبيرة على الأرض تتعلق بالجدار الذي تُسرق الأراضي من أجل استكماله، وتتعلق بالتوسع الاستيطاني في الضفة والغور والقدس، وهي ممارسات لم تفعل السلطة حيالها أي شيء يذكر.
من المؤكد أن الانسحاب من غزة سيعيد طرح الأسئلة التالية بشكل أكثر وضوحاً، وعلى رأسها مستقبل التسوية فيما يتعلق بالضفة الغربية. وهنا تحديداً تنهض حقائق الجدار الأمني الإسرائيلي التي يراد لها أن تكون حدود الدولة المؤقتة. ومعلوم أن الجدار المذكور ما زال يقسم الضفة الغربية إلى كانتونات أو يحولها إلى جزر معزولة؛ بينما يسرق أهم أراضيها، وأهم أحواض المياه، من خلال الكتل الاستيطانية الثلاث الكبيرة، والتي يصر الإسرائيليون جميعاً على أن بقاءها غير قابل للمساومة.
وفي حين يحاول محمود عباس الحديث عن ضرورة القفز مباشرة نحو التسوية النهائية، على أمل الخروج من مأزق الدولة المؤقتة؛ فإن المعضلة التي تواجهه هي أن الدولة المؤقتة ذاتها هي المرحلة الثانية من خريطة الطريق التي يطالب هو بتطبيقها، بينما يصر شارون على تجاهلها، أو تمييع الموقف بالحديث عن موقف فلسطيني محسوم من مسألة الإرهاب والبنية التحتية لمنظماته. وفي العموم فإن العام القادم هو عام الانتخابات الإسرائيلية، وفيه لن يقدم شارون للفلسطينيين أي تنازل يذكر، وهو الذي لقي ما لقي من عنت بسبب قرار الانسحاب من القطاع وتفكيك مستوطناته.
هكذا يبدو الموقف الفلسطيني أمام حقائق الجدار والمستوطنات، وحقيقة الدولة المؤقتة التي هي الترجمة الحرفية لمشروع شارون للحل الانتقالي بعيد المدى. لكن قفزة أو تغيراً جوهرياً في لغة التفاوض أو الصراع لن يحدث من دون حدوث تطورات عربية وإقليمية ودولية مهمة، ذلك أن المسار القائم لم يُفرَض إلا بسبب السطوة الأمريكية على الوضع العربي والدولي تبعاً لاحتلال العراق. وإذا ما تواصل الإخفاق الأمريكي هناك، وصولاً إلى نهاية لمشروع الشرق الأوسط الكبير؛ فإن من غير الممكن عندها الاستمرار في لعبة الدولة المؤقتة، وهنا إما أن يمنح شارون للفلسطينيين دولة حقيقية في الضفة والقطاع، أو يعود الصراع إلى دائرة المقاومة المسلحة من جديد.
وفي حين يرى شارون أن ما عرضه باراك على الفلسطينيين في كامب ديفيد عام 2000م كان كارثياً؛ فإن من العبث على المراقب أن يتوقع منه العودة إلى تلك الصيغة التي لن يقبلها الفلسطينيون أيضاً.
خلاصة القول هي أن مشروع شارون للحل الانتقالي بعيد المدى، أو مشروع الدولة المؤقتة التي تبقى مشكلتها مع الدولة العبرية مشكلة نزاع حدودي لا أكثر بينما تبدأ رحلة التطبيع الجديدة مع المحيط العربي، هذا المشروع الذي بدأ في غزة وينبغي أن يتوج بسيطرة إسرائيلية على المنطقة في غضون سنوات قليلة، لا يمكن أن يمر من دون إذلال الأمة ونجاح مشروع الشرق الأوسط الكبير، أما وأنه مشروع في طور الإحباط كما تقول المعطيات الموضوعية في العراق؛ فإن العودة إلى لغة المقاومة تبدو استحقاقاً طبيعياً، سواء كان ذلك بعد شهور أم أعوام. لكن ذلك لا يغير حقيقة أن تحرير غزة بالكامل قد تم بالفعل بسيف المقاومة، لا بالتفاوض والاستجداء، وهي القناعة التي لا يحب المهزومون الاعتراف بها، لسبب بسيط هو أنها نوع من الإدانة للخط الذي سلكوه وما زالوا يسلكونه رغم أن سواهم قد سبق أن جربه دون جدوى