بدر بن علي المطوع
لقد احتلت المقدمة الغزلية مكاناً متميزاً في هيكل القصيدة العربية، فجرى الشاعر العربي على أن يستهل قصيدته بمدخل غزلي يفضي به إلى غرضه الأصلي من القصيدة. غير أن القصيدة الغزلية أخذت بالنزوع والاستقلالية في مرحلة مبكرة جداً عن أغراض الشعر الأخرى، فأُفْرِدت الدواوين لقصائد الغزل. وليت الأمر توقف عند هذا الحد، بل تحول الشعر الغزلي من التعبير عن ألم الصبابة، وما يعتلج في النفس من تباريح الهوى، إلى التعبير عن مقدمات الجماع، وذكر القبلة والإفحاش في الوصف.
وعلى الرغم من أن المقدمة الغزلية التي صدَّر بها كعب قصيدته تعد وثيقة من وثائق الأدب الإسلامي، إلا أنها ـ مع الأسف الشديد ـ استخدمت في الاتجاه المعاكس لذلك، فاتخذ بعض النقاد مما جاء فيها أدلة اتكأ عليها لإباحة الغزل على إطلاقه.
وفي المقابل ذهب بعض آخر إلى رفض هذه المقدمة تحرُّجاً من القول بسماع الرسول -صلى الله عليه وسلم - لها، بسبب ما جاء فيها من غزل تناول فيه الشاعر أوصاف معشوقته الحسية والمعنوية.
وقبل الخوض في الحديث عن الإشكالات التي دعت النقاد إلى الانقسام حولها أود أن أشير بداية إلى بعض النقاط:
- أولاً: توثيق القصيدة من حيث السند:
حظيت لامية كعب بن زهير ـ رضي الله عنه ـ بشهرة وذيوع قل أن تنافسها عليه قصيدة أخرى؛ فقد سارت بها الركبان، وتوارثتها السنون، نظراً لشرف الموقف الذي قيلت فيه، وجلالة الممدوح، وسمو المناسبة، ولهذا فقد أصبحت هذه القصيدة ميداناً للبحث والدراسة قديماً وحديثاً.
ومن أهم ما أعلى شأن هذه القصيدة إلى هذا الحد، إنشادها بين يدي الرسول -صلى الله عليه وسلم -، وإصغاؤه إليها، وإعجابه بها؛ فهي بذلك تعد جزءاً من السنة النبوية الشريفة، ومصدراً من مصادر التشريع والاحتجاح.
ولأنها كذلك، وجب أن يكون توثيق مقدمة القصيدة مقصوراً على كتب الحديث والسيرة النبوية، وعدم الالتفات إلى غيرها؛ لأن النتيجة التي سننتهي إليها ستكون مبنية على ما سمعه الرسول -صلى الله عليه وسلم -، ولا شك في أن ما سمعه الرسول -صلى الله عليه وسلم - وأقره يُعد من السنة النبوية التي يحتج بها، لذا سيكون النظر والتعامل مع هذا الخبر والقصيدة على أنها وثيقة شرعية يجب توثيقها عن طريق أهل العلم بالحديث والأسانيد.
والمقدمة الغزلية المراد توثيقها للوقوف على ما سمعه الرسول -صلى الله عليه وسلم -، وما لم يسمعه، جاءت في شرح السكري على ديوان كعب بن زهير ـ رضي الله عنه ـ على النحو التالي:
بانَتْ سُعادُ فقَلْبِي اليومَ مَتْبُولُ
مُتَيَّمٌ إثْرَها لَم يُجْزَ مَكْبولُ
وما سعادُ غَدَاةَ البَيْنِ إذ رَحَلُوا
إلا أَغَنُّ غَضِيضُ الطَّرْفِ مَكْحولُ
تَجْلو عَوَارِضَ ذي ظَلْمٍ إذا ابتَسَمَتْ
كأنَّهُ مُنْهَلٌ بالرَّاحِ مَعلُولُ
شُجَّتْ بِذِي شَبَمٍ مِن ماءِ مَحْنِيَةٍ
صافٍ بأَبْطَحَ أَضْحى وَهْوَ مَشمُولُ
تَّجْلو الرِّيَاحُ القَذَى عَنهُ وأَفْرَطَهُ
مِن صَوْبِ سارِيَةٍ بِيضٌ يَعَالِيلُ
يَا وَيْحَهَا خُلَّةً لو أَنَّهَا صَدَقَتْ
مَا وعَدتْ أَو لَوَ انَّ النُّصْحَ مَقبولُ
لكنَّهَا خُلَّةٌ قَد سِيطَ مِن دَمِهَا
فَجْعٌ وَوَلْعٌ وإخلافٌ وتَبديلُ
فما تدومُ على حالٍ تكونُ بِها
كَما تَلَوَّنُ في أثوابِها الغولُ
وما تَمَسَّكُ بالوَصْلِ الذي زَعَمَتْ
إلا كَما تُمْسِكُ الماءَ الغَرابيلُ
كانَت مَواعيدُ عُرْقوبٍ لها مَثَلاً
وما مَواعيدُها إلا الأَباطيلُ
أرجو وآمُلُ أنْ يَعْجَلْنَ في أَبَدٍ
ومَا لَهُنَّ طَوالَ الدَّهْرِ تَعْجِيلُ
فلا يَغُرَّنْكَ ما مَنَّتْ وَما وَعَدَتْ
إنَّ الأَمانِيَّ والأحلامَ تَضليلُ
أمْسَتْ سُعادُ بأرضٍ لا يُبَلِّغُها
إلا العِتاقُ النَّجِيباتُ المَرَاسيلُ
وبهذا يتضح أن عدة الأبيات الغزلية المثبتة في شرح الديوان هي: (ثلاثة عشر بيتاً) . فهل سمع الرسول -صلى الله عليه وسلم - هذه المقدمة الغزلية كاملة دون زيادة أو نقصان؟ أم سمع بعضها؟ وهل هناك أبيات غزلية أخرى في هذه المقدمة لم تثبت في هذه النسخة التي بين أيدينا؟ وهل سمعها الرسول -صلى الله عليه وسلم -؟
كل هذه الأسئلة تبحث عن إجابة واضحة دقيقة موثقة.
ومن خلال الرجوع إلى كتب الحديث اتضح أن عدداً من أهل العلم قد نقل خبر إسلام وتوبة كعب بن زهير ـ رضي الله عنه ـ وإنشاده قصيدته اللامية بين يدي الرسول -صلى الله عليه وسلم -، مصدّرة بهذه المقدمة الغزلية بأسانيد مختلفة؛ فقد رواها بإسناد موصول كل من: إبراهيم بن ديزيل في جزئه، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في السنن الكبرى، ودلائل النبوة، وأبي بكر الإشبيلي في فهرسة ما رواه عن شيوخه. كما رويت بأكثر من طريق موقوفة على موسى بن عقبة، أو علي بن جدعان، أو محمد بن إسحاق.
ويعد إسناد ابن ديزيل الموصول أعلى تلك الأسانيد، وإن كان فيه الحجاج بن ذي الرقيبة، وأبوه، وجده؛ فقد حسنه علي بن المديني، كما صححه الحاكم، وأشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر.
فقال علي بن المديني: «لم أسمع قط في خبر كعب بن زهير حديثاً قط أتم ولا أحسن من هذا، ولا أبالي ألا أسمع من خبره غير هذا» (1) .
وقال الحاكم: «هذا حديث له أسانيد قد جمعها إبراهيم بن المنذر الحزامي؛ فأما حديث محمد بن فليح عن موسى بن عقبة، وحديث الحجاج بن ذي الرقيبة فإنهما صحيحان» (2) .
وقال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر بعض طرق القصيدة: «ووقعت لنا بعلوّ في جزء إبراهيم بن ديزيل الكبير» (3) .
وفيما تقدم دليل على صحة الخبر، وثبوت سماع الرسول -صلى الله عليه وسلم - للقصيدة.
- ثانياً: عدد أبيات المقدمة الغزلية، واختلاف ألفاظها وترتيبها:
فقد اختلفت المصادر في عدد أبيات المقدمة الغزلية، التي تراوحت بين (اثني عشر إلى أربعة عشر بيتاً) ، وسأورد عدد أبيات المقدمة الغزلية عند من أثبت القصيدة كاملة، وبالله التوفيق.
فقد جاءت المقدمة الغزلية في رواية الديوان (ثلاثة عشر بيتاً) ، وهكذا عدها الحاكم في المستدرك، والذهبي في مغازيه.
أما ابن ديزيل فقد عدها (اثني عشر بيتاً) في جزئه الكبير.
وأوردها ابن إسحاق في السيرة النبوية (أربعة عشر بيتاً) ، ومثله ابن هشام في سيرته، وابن كثير في سيرته، والعامري في بهجة المحافل.
وبالإضافة إلى اختلاف عدد الأبيات في المقدمة الغزلية، نجد أن هناك اختلافاً في ألفاظ وترتيب بعض الأبيات أيضاً. فأما اختلاف الترتيب، واختلاف بعض الألفاظ، فهذا لا يضر، وهو موجود في الأحاديث الصحيحة، ولم يُطعَن في شيء منها لذلك ما دام أن الألفاظ ليست متضادة بل مترادفة.
أما اختلاف عدد الأبيات، فهذا راجع لاختلاف الطرق التي رويت منها القصيدة؛ فالرواة يختلفون في الحفظ والإتقان؛ فالأبيات التي تثبت في جميع الطرق، ثابتة لا محالة، أما الأبيات القليلة التي انفرد بها بعض الرواة، ولم يأت بها غيره فينظر فيها إلى حاله، فإن كان ثقة متقناً قُبلت منه، وعُدَّت من قبيل زيادة الثقة، وإن لم يكن كذلك فهي شاذة لا يحتج بها.
ومن الأبيات المنسوبة لكعب بن زهير ـ رضي الله عنه ـ في مقدمته الغزلية:
هَيْفَاءُ مُقْبلةً، عَجْزَاءُ مُدْبِرةً لا يُشْتَكَى قِصَرٌ منها ولا طولُ
فقد انفرد بروايته محمد بن إسحاق، حين قال: «حدثني عاصم، عن عمرو بن قتادة» ثم ساق الخبر والقصيدة. وواضح ما في هذا السند من انقطاع بيِّن؛ لأن الزمن قد شط بين عصر النبوة وعاصم. كما أن هذا البيت لم يرد عند غير ابن إسحاق بأي سند من الأسانيد التي سبق إثباتها في كتب الحديث، وإنما ساقه أهل العلم بالسيرة، كابن هشام، وابن كثير، والعامري، نقلاً عن رواية ابن إسحاق.
أضف إلى ذلك أن ابن إسحاق الذي انفرد برواية هذا البيت قد تعرض بسبب هذه الأشعار التي حشدها في سيرته إلى نقد شديد واتهامات جارحة، وممن وجه إليه هذا النقد ابن سلاَّم؛ حيث قال: «وكان ممن أفسد الشعر وهجَّنه، وحمل كل غثاء منه محمد بن إسحاق ... وكان أكثر علمه بالمغازي والسير وغير ذلك ـ فقَبِلَ الناس عنه الأشعار، وكان يعتذر منها ويقول: لا علم لي بالشعر، أُتينا به فأحمله. ولم يكن ذلك له عذراً، فكتب في السِّيَر أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعراً قط، وأشعار النساء فضلاً عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود، فكتب لهم أشعاراً كثيرة، وليس بشعر، أفلا يرجع إلى نفسه، فيقول: مَنْ حَمَلَ هذا الشعر؟ ومن أداه منذ آلاف من السنين» (1) .
وتبعه ابن النديم فقال: «كان يُعمَل له الأشعار، ويُؤتى بها ويُسأل أن يدخلها في كتابه في السيرة فيفعل، فضمَّن كتابه من الأشعار ما صار به فضيحة عند رواة الشعر» (2) .
كما طعن فيه الذهبي بسبب إيراده هذه الأشعار المكذوبة أيضاً، فقال بعد أن ساق قول ابن سلام الآنف الذكر: «لا ريب أن في السيرة شعراً كثيراً من هذا الضرب» (3) .
وقريب من هذا قول ياقوت في معجمه: «محمد بن إسحاق كانت تُعمَل له الأشعار فيضعها في كتب المغازي، فصار بها فضيحة عند رواة الأخبار والأشعار» (4) .
وبما أن حال ابن إسحاق في الشعر مطعون فيه إلى هذا الحد، فلا يصح إذاً قبول هذا البيت منه، خصوصاً أنه انفرد بروايته، ولم يُرْوَ عن غيره ممن ساق القصيدة بسندها.
ومما يستأنس به في سبيل رد هذا البيت، ما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، من أنه قد نفى (هيتاً) المخنث عن المدينة إلى الحِمَى لَمَّا سمعه يصف (بادية بنة غيلان) بقوله: «إنها تُقْبِل بأربع وتُدْبِر بثمان» (5) .
وما نسب إلى كعب في هذا البيت لا يخرج في معناه عما قاله (هيت) المخنث في هذه العبارة الثابتة في صحيح البخاري.
فهل يصح القول بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم - يجيز الفحش إذا كان منظوماً، ويرفضه منثوراً؟! حاشاه ـ عليه الصلاة والسلام ـ.
وبناءً على ما سبق، لا يصح القبول بأن هذا البيت قد أُنشد بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم -، فأقر عليه صاحبه، ولم ينكر عليه.
ثالثاً: موقف النقاد (الإشكالية والحل) :
عند النظر في آراء النقاد المتعلقة بهذه المقدمة الغزلية نجد أننا أمام فريقين:
الفريق الأول: احتفل بهذه المقدمة وما جاء فيها، وحاول تحميلها ما لا تحتمل من التأويلات، ليبيح شعر الغزل على إطلاقه.
أما الفريق الآخر: فذهب إلى رفضها، منكراً ومستبعداً سماع الرسول -صلى الله عليه وسلم - لها، لما فيها من أوصاف حسية، ومخالفات شرعية.
ويبدو لي أن أسباب الاختلاف حول قبول ورفض هذه المقدمة، تعود إلى ما فيها من إشكاليات ثلاث:
1 - فالإشكالية الأولى تكمن في البيت المنسوب لكعب بن زهير ـ رضي الله عنه ـ الآنف الذكر، وقد اتضح بطلانه وسقوط الاستشهاد به، وبذلك زالت الإشكالية الأولى.
2 - وتتجسد الإشكالية الثانية في التصوير الحسي للمرأة في قصيدة كعب؛ غير أنه عند تأمُّل المعاني التي اشتملت عليها أبيات المقدمة الغزلية نجد أنها تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أبيات ذات أوصاف ومعان معنوية، وهي السمة الغالبة على أبيات المقدمة الغزلية، وتتجسد هذه الأوصاف في:
البيت الأول: حيث ذكر الشاعر شدة حبه لسعاد، وأثر فراقها على قلبه.
الأبيات من السادس إلى الثاني عشر: حيث ركز فيها الشاعر حديثه على خُلُق محبوبته، وما اتصفت به من خيانة للعهود، وعدم وفاء بالوعود، وتلوُّن ودِّها، وكثرة مواعيدها الباطلة، وإخلافها لذلك أبد الدهر.
البيت الثالث عشر: حيث تناول فيه الشاعر حقيقة بُعد محبوبته عنه، ليتخلص في هذا البيت من المقدمة الغزلية إلى وصف الناقة.
أما القسم الآخر من المعاني التي اشتملت عليها المقدمة الغزلية، فهي معان ذات أوصاف حسية، وهي أقل من سابقتها بمراحل، وتتمثل هذه الأوصاف في:
البيت الثاني: حيث شبه صوت معشوقته وعينيها المكحولتين بصوت ظبي أغن ذي طرف فاتر.
الأبيات من الثالث إلى الخامس: حيث وصف أسنانها وجمال ابتسامتها، ثم شبه رضابها وطعم ريقها بخمرة ممزوجة بماء بارد صاف.
ومن هذا التقسيم يتضح طغيان الأبيات ذات الأوصاف المعنوية على الأبيات ذات الأوصاف الحسية؛ فقد استغرقت الأوصاف المعنوية تسعة أبيات من أصل ثلاثة عشر بيتاً هي مجموع أبيات المقدمة الغزلية، بينما جاءت الأوصاف الحسية في أربعة أبيات فقط.
وبناء على هذا، أستغرب من تعميم بعض النقاد، حين يحاكم هذه المقدمة الغزلية على أساس أنها في مستوى واحد من حيث الأوصاف الحسية الواردة فيها، فيحكم (بحسية) هذه المقدمة الغزلية، دون تفريق بين ما جاء فيها من أوصاف معنوية، وأخرى حسية.
وعلى كل، اتضح من خلال ما سبق عرضه أن طابع العفة هو الغالب على أبيات المقدمة الغزلية، كما أن ما جاء فيها من أوصاف حسية لا تعدو كونها أوصافاً تقليدية أكل عليها الدهر وشرب، وملها الشعراء والقراء من كثرة تكرارها؛ فهي لا تستثير فيهم نزوة، ولا تحرك فيهم شهوة.
ولذا، قَبِلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ما جاء في هذه الأبيات الغزلية، وبهذا تزول الإشكالية الثانية.
3 - أما الإشكالية الثالثة فتظهر فيما جاء في هذه القصيدة من وصف للخمرة ومدح لها على مسمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم -.
وتفسير ذلك هو: أن كعباً قد يكون قال ذلك على الظن ومن باب الاستعارة والتشبيه؛ ليدلل ويبالغ في وصف جمال وحلاوة معشوقته، وكل عاشق يظن ويتوقع أن ريق محبوبته طيب المذاق، خصوصاً أن الخمرة كانت من الأشربة المحببة إلى نفوسهم ولم يُقطَع بتحريمها إلا متأخراً، وقد روعي ذلك في طريقة تحريمها؛ حيث حرمت بالتدريج وكان ذلك على ثلاث مراحل، حيث قال ـ تعالى ـ بداية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] .
وفي المرحلة الثانية نزل قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] .
ثم نزل النهي عنها قطعياً في قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] .
ولا يخفى أن هذه الآية الأخيرة وردت في سورة المائدة، وهي آخر سورة أنزلت، مع سورة الفتح، ويدل هذا على شغف العرب بها وصعوبة انفكاكهم عن شربها ومحبتها، ومن هنا لم يكن مستغرباً ذكر كعب ـ رضي الله عنه ـ لها، خصوصاً أن ذكره لها ليس فيه مدح للخمرة بقدر ما فيه مدح لريق معشوقته الخيالية، وأن طعم رضابها يفعل بالهائم بحبها فعل الخمرة بشاربها. ولذا كان تشبيهه ريق محبوبته بالخمرة لا حرج فيه.
ونظير ذلك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إن من البيان لسحراً» (1) .
فقد شبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم - البيان بالسحر، حيث يستميل الإنسانُ الذَّرِبُ البليغُ الفصيحُ اللسان بحلاوة كلامه، وروعة أسلوبه، وخلابة معانيه المستمعَ إليه، فيفعل ذلك بالنفوس فعل سحر الساحر الذي يستميل القلوب إليه بشعوذته وسحره.
فرسول الله -صلى الله عليه وسلم - ـ قطعاً ـ في حديثه هذا لا يبيح السحر ولا يحله، كما أن كعباً ـ رضي الله عنه ـ في قصيدته لا يستبيح الخمرة ولا يدعو إليها.
وختاماً: فإن ما يمكن القطع به هو أن هذه المقدمة الغزلية عفيفة لا فحش فيها، أما ما جاء فيها من أوصاف حسية؛ فهي قليلة جداً، كما أنها لا جدة فيها ولا ابتكار، بل إنها لا تعدو أن تكون تكراراً لمعان أُنهكَت في سُنَّة التشبيه ومطالع الغزل.
والدليل على عفة هذه المقدمة الغزلية، سماع الرسول -صلى الله عليه وسلم - لها دون تنبيه على شيء محظور فيها؛ فلو كان فيها ما يجافي الخلق الكريم، والذوق السليم لأبانه عليه الصلاة والسلام، ولو حصل ذلك لنُقِلَ إلينا، كما هو شأن سائر الأحكام.
هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.