د. محمد مورو
بعد أن تم إنجاز الانسحاب السوري من لبنان، يثور السؤال البديهي: هل أدى هذا الانسحاب السوري من لبنان إلى حل المشكلة، أم أنه أدى إلى تعقيدها؟ وبكلمات أخرى: هل كان الوجود السوري في لبنان هو سبب مشاكل لبنان؟ أم أن تلك المشاكل هي جزء لا يتجزأ من التركيبة اللبنانية، أو أن تلك التركيبة اللبنانية تسمح بأن يدفع لبنان الثمن المباشر لكل تغير في المعادلة الإقليمية، ومن ثم فإن من الضروري هنا لإدراك نتائج هذا الانسحاب السوري من لبنان إدراك أبعاد المعادلات الإقليمية والدولية في المنطقة والعالم وأثر ذلك على لبنان، ثم لا بد أن ندرك أن الموضوع السوري واللبناني ليس موضوعاً مصمتاً بمعنى أن ما تستهدفه أمريكا من سوريا تستخدم فيه لبنان وأطرافاً لبنانية عديدة، والعكس صحيح أيضاً؛ فإن سوريا تستخدم الورقة اللبنانية في معادلاتها الإسرائيلية والأمريكية. وعلى كل حال فإن المسألة شديدة التعقيد والتداخل، وتحتاج إلى قدر من التركيب والتفكيك لفهم مداخلها ومخارجها.
بداية فإن الأزمة اللبنانية سابقة على الوجود السوري في لبنان ـ وهي أزمة بنيوية حقيقية بسبب نظام المحاصصة الطائفية ـ التي ربما لا يكون هناك بديل عنها حتى الآن. وبسبب ما يمكن أن نسميه الجمود السياسي اللبناني الذي يجعل كل طائفة مرؤوسة لعائلات معينة، تتوارث النفوذ والثروة والسلطة، ويصعب اختراقها جداً، وهؤلاء الزعماء التقليديون شاركوا في كل شيء، في الخطأ والصواب؛ شاركوا في جعل لبنان مجرد شركة اقتصادية وليست دولة، شاركوا في بناء ميليشيات، شاركوا حتى في النساء والسرقات والرشوة والمحسوبية، التي عادة ما يهاجمونها، شاركوا في الإعداد للحرب الأهلية التي استمرت 15 عاماً دون أن يفهم ماذا يريد كل طرف من الداخلين فيها من أهداف من تلك الحرب، ثم شاركوا في اتفاق الطائف بعد ذلك.
الاستثناءات على هذه المسألة كان ظهور حزب الله من خارج الأطر التقليدية، وهو أمر كان له آثار كبيرة، ولكن هذا الحزب خرج من رحم فكرة المقاومة، التي كانت هي وجدان الناس، ولكنه أيضاً استفاد من اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979م، ومن ثم الصعود الشيعي في المنطقة والدعم الإيراني المؤكد، واستطاع أن يتمدد في فراغ غياب الطوائف الأخرى عن خندق المقاومة، ومن ثَم استطاع أن يكسر حاجز العائلات التقليدية، ولكن في المقابل كان نتيجة لمعادلات إقليمية تظهر نتائجها في لبنان سريعاً، وكذلك تيار الرئيس الراحل رفيق الحريري الذي جاء من حرم القدرات المالية والعلاقات الإقليمية، وأدى دوراً اقتصادياً هاماً كانت لبنان تحتاج إليه، ولكن في نفس الوقت فإن صعود تيار الحريري كقيادة للسنة كان نتيجة غياب القيادات التقليدية للسنة بسبب غياب الدور المصري الداعم لها.
ومن المهم هنا أن نؤكد على حقيقة إيماننا بوحدة سوريا ولبنان، بل وحدة العرب والمسلمين كفريضة شرعية، ومن ثم فإن الوجود السوري في لبنان في حد ذاته لم يكن هو المشكلة في الإطار السابق، وفي إطار العلاقات الخاصة جداً بين سوريا ولبنان ولأسباب استراتيجية كثيرة. وفي كل الأحوال فإن النفوذ السوري في لبنان لم يكن بسبب وجود القوات العسكرية السورية في لبنان، ولم ينتهِ بعد خروجها. وفي الإطار السابق ينبغي هنا أن ندرك أن الممارسات السورية في لبنان إبان فترة الوجود العسكري دخلت في مجموعة هائلة من الأخطاء وكان لها أيضاً مميزات؛ فقد عسكرت القرار اللبناني على عكس العادة، وكانت القرارات اللبنانية تتخذ في دمشق، وكانت القبضة السورية على لبنان أكبر من أن يتحملها الشعب اللبناني ذو الطبيعة الخاصة، وهي بالضرورة ساهمت في رفع شأن الشيعة، وقلصت من نفوذ السنة، وقزمت الدروز، وقامت بحماية المسيحيين، ودفعت بقيادات معينة منهم على حساب قيادات أخرى. ولكن الخطأ الفادح الذي وقعت فيه الإدارة السورية في لبنان كان التجديد (لإميل لحود) في رئاسة الجمهورية لمدة سنتين بلا أي ضرورة موضوعية؛ فقد كان يمكن لها استبداله بشخص آخر ماروني أيضاً، موال لسوريا، وهم كثيرون؛ وهكذا وضعت الإدارة السورية في لبنان نفسها في مأزق، وأعطت الذريعة لأعداء سوريا في لبنان بالتحرك تحت غطاء طلب الاستقلال والسيادة، وكان لهم بعض الحق في الحديث عن تجاوزات سورية، وغياب الإدارة اللبنانية، وهو ما استفادت منه القوى المتربصة بسوريا إقليمياً ودولياً، خاصة أن ذلك جاء في أعقاب ظهور معادلات هامة في المنطقة، منها الاحتلال الأمريكي للعراق، وظهور ما يسمى بمشروع الإمبراطوية الأمريكية الصهيونية وسيطرة اليمين الأمريكي المحافظ على البيت الأبيض الأمريكي. وبديهي أن جزءاً من المخطط الأمريكي الصهيوني في المنطقة يستهدف سوريا ولبنان، ويستهدف في إطار ذلك القضاء على المقاومة في العراق ولبنان وفلسطين، وكأن الإدارة الأمريكية ترى أن سوريا تدعم المقاومة العراقية أو تسهل عمليات اجتياز الحدود من قِبَل المجاهدين الذين يأتون إلى العراق من الدول العربية والإسلامية، وأن سوريا تستضيف قيادات حماس والجهاد الفلسطيني، وتدعم حزب الله. وهكذا فإن استهداف سوريا أصبح ضرورة حتمية، وما دام غزو سوريا غير ممكن في تلك اللحظة، فإن استخدام الداخل اللبناني للضغط على سوريا هو المتاح، وكذلك فإن الحسابات الإسرائيلية ترى أن الحكومة السورية لا تزال تطلب ثمناً باهظاً للدخول في عملية السلام، وما دام هذا الثمن غير متاح وغير ممكن فإن الحكومة السورية سوف تعرقل مساعي السلام في المنطقة عموماً، وهكذا قامت إسرائيل بضرب دمشق بالطيران في إشارة معينة، وحركت الإدارة الأمريكية دعاوى ضد سوريا مثل دعم الإرهاب، والحصول على أسلحة دمار شامل، واحتلال لبنان.. إلخ، وحصلت على قرارات من الكونجرس الأمريكي بعنوان (معاقبة سوريا) ثم من مجلس الأمن.
في تلك الأجواء تحركت قوى لبنانية لدفع الولايات المتحدة إلى الضغط على سوريا للانسحاب من لبنان، وتحركت الولايات المتحدة وإسرائيل لدفع قطاعات من الشعب اللبناني وتحديداً القطاع الانعزالي من الموارنة «قرنة شهوان» ثم لحق به (وليد جنبلاط) وتحفظ الرئيس الراحل (رفيق الحريري) ، إلا أن اغتياله ـ أياً كان الفاعل ـ جاء هدية ضخمة لأعداء سوريا، فدخل تيار الحريري «تيار المستقبل» في تحالف مع (قرنة شهوان) و (وليد جنبلاط) ، وأصبح صوت المطالبة بالخروج السوري مسموعاً داخل الأوساط اللبنانية عموماً، ووجدت الحكومة السورية أنها لا تستطيع أن تواجه ردة الفعل الدولية واللبنانية خاصة بعد صدور قرار 1559، فكان القرار الصحيح بالانسحاب من لبنان، وكانت النتائج المباشرة لهذا الانسحاب هو ضعف حلفاء سوريا في لبنان وخاصة الرئيس كرامي، والرئيس لحود، وحركة أمل. ولكن حزب الله كان له وضع خاص، فشرعية المقاومة أعطته القدرة على الصمود وامتلاكه السلاح أيضاً، والرئيس لحود مسارع بالانخراط والاقتراب من الكنيسة المارونية؛ مما جعل المطران (نصر الله صفير) يدافع عنه.
وبديهي أن السوريين لم يظلوا مكتوفي الأيدي فقد دفعوا الرئيس لحود، أو قام هو من تلقاء نفسه بالاتصال بالعماد ميشيل عون ـ الذي كان يتمتع بتواجد قوي داخل الوسط الماروني نظراً لتاريخه في معارضة الوجود السوري. وسواء كانت هناك صفقة بإسقاط التهم عن العماد عون من قِبَل الدولة اللبنانية ومن ثم عودته إلى لبنان في مقابل اقتراب الأخير من لحود وسوريا، أو كان ذلك نوعاً من التكتيك الخاص بالرئيس لحود أو سوريا بدون علم الجنرال عون، فإن الحاصل أن الرجل أحدث نوعاً من القلق داخل التركيبة المارونية، وقد اعتقد زعماء الموارنة في «قرنة شهوان» أن من الممكن تجاهل الرجل، ولكن الانتخابات أثبتت الحضور القوي له في الوسط الماروني، رغم أنف قرنة شهوان، ورغم أنف الكنيسة المارونية، وهو أمر خطير؛ لأن الرجل يطرح ضرورة محاسبة الفاسدين على فسادهم في الحكومات اللبنانية المختلفة؛ وضرورة إنهاء الإقطاع السياسي «العائلات التي تتوارث الزعامة» ووصل الأمر إلى حد تحالف الرجل مع «التيار الوطني الحر» في الانتخابات البرلمانية في الجبل، والشمال مع حلفاء سوريا التقليديين، وحقق اختراقات مهمة أفسدت الحسابات التقليدية.
وهكذا فإن الخروج السوري من لبنان لم يحل المشكلة، بل ربما يزيدها تقييداً؛ فالموارنة انقسموا على أنفسهم، وحزب الله اكتسح المناطق الشيعية، وكان من الممكن أن ينهي وجود حركة أمل ونبيه بري، ولكن لأسباب معينة فضل إعادة جزء من الكتلة الشيعية، وكذلك فإن الانسحاب السوري أراح حزب الله من إمكانية أن يتم تفاهم سوري أمريكي على حسابه، أو مسألة نزع سلاحه فهو أمر غير ممكن إلا بحرب أهلية لا يقدر عليها أحد، والأمريكيون أنفسهم في حالة هزيمة في العراق، وهناك 100 نائب أمريكي في الكونجرس منهم عدد كبير من الجمهوريين وقَّعوا مع نصف مليون مواطن أمريكي على طلب عمل جدول زمني للانسحاب من العراق، ومن ثم فليس وارداً القيام بمغامرة جديدة في لبنان أو سوريا أو إيران. ولعلنا هنا يجب أن نشير إلى أن الفضل في عدم غزو سوريا وإيران وعدم التدخل في لبنان أمريكياً بهدف ذبح حزب الله هو للمقاومة العراقية بامتياز، ومن الممكن أن نقول على سبيل المجاز إن على (حسن نصر الله) أن يقبِّل يد أبي مصعب الزرقاوي! ولعل هذه النقطة نفسها كانت إحدى أخطاء حزب الله؛ فلو أن حزب الله انحاز إلى المقاومة العراقية بدلاً من الموقف الوسطي الذي اتخذه، ولو نبذ حزب الله أمثال الجعفري والحكيم ولو إعلامياً، لكان موقف السنة في لبنان مختلفاً. وعلى كل حال فإن المسألة العراقية بعد تورط قطاع كبير من شيعة العراق في موالاة أمريكا مشكلة لحزب الله؛ لأن عدم اعتراضه على ذلك ـ بالدم والكلام ـ يسقط مصداقية هذا الحزب أولاً، ويحاصره إعلامياً ونفسياً ثانياً.
الانسحاب السوري إذن أضعف حركة أمل، وحزب الكتائب «كريم بقرادوني» ورفع أسهم القوات اللبنانية «سمير جعجع» والعماد ميشيل عون، والتيار الوطني الحر، وخلط المسائل والتحالفات فلم تعد موالاة ومعارضة، بل نجد حزب الله متحالفاًَ مع أمل، وتيار الحريري متحالفاً مع وليد جنبلاط، ومتحالفاً حتى مع القوات اللبنانية «سمير جعجع» ونجد التيار الوطني الحر ـ ميشيل عون ـ متحالف مع أقوى مؤيدي سوريا «أرسلان في الجبل» و «سليمان فرنجية وكرامي في طرابلس» .
المسألة المارونية تحديداً هي ما تستحق التأمل أكثر من غيرها، وعلينا أن ندرك أولاً أن القوات السورية دخلت لبنان بناء على قرار من جامعة الدول العربية بموافقة وربما بتحريض أمريكي؛ لأنه لولا دخول القوات السورية إلى لبنان لكانت القوى الإسلامية والفلسطينية والدروز «التحالف الوطني التقدمي» قد أنهت الوجود الماروني تماماً، بل كان الحديث يتم عن تولية (كمال جنبلاط) رئيساً للبنان، أي إخراج الموارنة من لعبة السلطة، ولو تأخرت القوات السورية ثلاثة أيام على حد قول (كمال جنبلاط) لكان تم تحقيق انتصار كامل على القوات الانعزالية. وهكذا فإن القوات السورية كانت بمثابة سور حماية بطريقة أو بأخرى للقوى المارونية، وبخروج سوريا فإن الموارنة لم يعد أمامهم إلا الصدام مع حزب الله لنزع سلاحه تنفيذاً للقرار 1559، وهذا ما كان يطالب به فرقاء «قرنة شهوان» وهذا يستحيل عملياً؛ لأن حزب الله لن يسلم سلاحه أو طلبه الحماية الدولية والتدخل الأمريكي، وهذا غير متاح حالياً نظراً للمتاعب الأمريكية في العراق، أو الرضا بدور هامشي وهو غير ممكن بعد كل ما قالوه وفعلوه. وهكذا فإن الحل جاء من خطة أقنع بها الرئيس اللبناني أوساط الكنيسة المارونية، بحيث يكون هناك طرف ماروني متحالف مع أعداء سوريا في لبنان «العماد عون» ، وتقليص نفوذ القوى الانعزالية الداعية إلى شد الحبل إلى آخره «القوات اللبنانية» ، وهذا ما اسفرت عنه الانتخابات التي وضعت العماد ميشال عون كأحد أهم الزعامات المارونية.
بقي أن نقول: إن السنة لا يزالون يبحثون عن زعامة حقيقية وفاعلة وقادرة على تنظيم صفوفهم باتجاه دعم المقاومة العراقية، ومواجهة إسرائيل في نفس الوقت، ولأنها سُنَّة فإنها سوف تجد عمقاً استراتيجياً واسعاً في المنطقة، ومن ثم يمكنها أن تستعيد نفوذها الحقيقي في لبنان الذي استطاع حزب الله تحت غطاء المقاومة والدعم الإيراني والسوري غير المحدود أن يستحوذ على جانب هام منه.