د. عبد الكريم بكار
من السهل على المرء أن يتأمل في حياة الأمة وفي مسيرته الشخصية ليجد العديد من الأشياء التي تحتاج إلى مزيد من التدقيق والمراجعة؛ فالوعي النقدي لا يتعاظم لدى الإنسان إلا من خلال التفكير فيما لا يفكر فيه الناس وإلا من خلال التفكير في الأشياء الصغيرة، وما هو من قبيل المهمل. ليس من السهل على الأمة أن تكتشف على نحو محدد ويقيني أسرار التقدم العام الذي تتطلع إليه، ولا أسرار التخلف المخجل الذي تعاني منه؛ فالأمر في غاية التعقيد، ولهذا فإن لدينا الكثير من الارتباك في التصورات، والكثير من الأسئلة التي لا نجد لها سوى أجوبة هشة، أو نرد عليها بإثارة أسئلة جديدة. لكن هذا كله لا يمنع من أن نحاول على نحو دائم لفت الانتباه إلى بعض ما نظن أنه يساعد على تحسين الفهم، وإنضاج الرؤية. وأود في هذا السياق أن أشير إلى النقاط الآتية:
1 ـ نحن نشعر بالمصائب والصعوبات على نحو أوضح بكثير من شعورنا بالفرص والإمكانات المتاحة. هل هذا لأن قبضة المصيبة حين تطرق أبوابنا أقوى من قبضة الفرصة؟ أو أن حسّنا التاريخي والتربوي تم تركيبه على نحو يجعل الاهتمام بالمصيبة أقوى من الاهتمام بالفرصة؟ لا أعرف الجواب الدقيق. لكن يمكن القول: إن للتربية الاجتماعية شأناً في هذا؛ حيث تعوّد كثيرون بدافع من نبلهم وتدينهم أن يشاركوا غيرهم في حل أعباء أحزانهم، لكنهم لم يتعودوا تشجيعهم على ملامسة أفق جديد؛ بل على العكس من هذا يقومون بمراقبتهم بعيني صقر؛ ليثبتوا لهم ـ كلما سنحت الفرصة ـ أن أي محاولة للعثور على فرصة، هي شيء خطر أو مهلك، وإن من الأفضل للمرء أن يظل على ساحل الأمان؛ حيث يقف الملايين من العاطلين والمتفرجين والحائرين.
إن تربيتنا الاجتماعية تجعلنا نهلّل للظافر بقطع النظر عن مشروعية وسائله، كما تجعلنا نحذّر من يحاول تحقيق أي نصر من ويلات الإخفاق بقطع النظر عن مشروعية مقاصده. إننا لا نثق بصحة قول أبي ريشة:
شرف الوثبة أن تُرضي العلا غلب الواثب أم لم يغلبِ
ونتيجة كل هذا كثرة المقلدين، وقلة المبدعين، ووفرة الشامتين وقلة المشجعين.
2 ـ من الواضح أن معاناة بني آدم الجوهرية ليست في إدراك الحاجات الأساسية، ولكن في إدراك الحاجات الثانوية؛ فنحن لا نجد أي مشكلة في إدراك ما تحتاجه أجسامنا من طعام وشراب ودفء، لكن نجد الكثير من الصعوبات في إدراك ما تحتاج إليه نفوسنا من تزكية، وأرواحنا من إشراق، وعقولنا من تنوُّر وتوهج. المشكل يتعاظم حين يتحول الزمان، وتتغير الأوضاع ليصبح إشباع ما كان يظن أنه ثانوي شرطاً لتلبية ما هو أساسي.
حينئذ يمكن لشعب بأكمله أن يجد نفسه مفتقراً إلى الأساسيات والكماليات معاً. وعلى سبيل المثال فإن التعليم مدى الحياة واكتساب المهارات، وصقل الخبرات صار اليوم أحد أهم المداخل لتحقيق مستوى مقبول من العيش الحرّ الكريم. والأمم التي لم تعِ هذا التحول حائرة اليوم في أمرها؛ لأن معظم استعداداتها وتجهيزاتها السابقة تقوم على أن تحقيق أي قدر من المعرفة والمهارة كافٍ لإخراج جيل قادر على كسب رزقه. وتجهيزاتنا المدرسية ومستوى استفادة أبنائنا من المختبرات والمعامل الموجودة في المدارس ـ شاهد على هذا!!
الجميع اليوم يتحدثون عن البطالة بوصفها تعبيراً عن العجز عن كسب المال الذي نحتاج إليه أساساً من أجل تأمين حاجاتنا الضرورية. ونحن نسلك الكثير من المسالك المظلمة لتحقيق ذلك، لكن دون جدوى. أما البحث في جذور المشكلة؛ فما زال بعيد التناول. الإنسان التواق إلى معرفة الجديد، والمنشغل بالبحث عن الحقيقة: هو رأس مال الأمم المتقدمة اليوم. وتكوين هذا الإنسان يحتاج إلى مؤسسات تعليمية ممتازة، وأطر تدريبية وتقنية متقدمة. وهذا ما تفتقده الأمم الفقيرة والنامية في هذا الزمان. إن مشكلة إعراض السواد الأعظم من المسلمين في الأرض عن القراءة واصطحاب الكتاب أخطر من مشكلة (البطالة) التي يجأرون بالشكوى من لأوائها؛ لأن الجهل يؤدي إلى تكلس الإنسان، ويجعله غير مؤهل للتفاعل مع المعطيات العلمية الجديدة، كما يجعل إدراكه للحاجات التربوية الجديدة ضعيفاً، كما أن فهمه للمرامي الحضارية للإسلام في أدنى حالاته. ومن هنا فإن مهمة المفكرين أن يوقظوا وعي الناس بالحاجات الثانوية التي أضحت أساسية، كما أن عليهم أن يوقظوا وعيهم بالمشكلات الصغرى التي تحولت إلى مشكلات كبرى.
وهذا الأمر يحتاج إلى تأسيس الأرضيات الفكرية المشتركة، وبلورة المقولات والطروحات على نحو يمكّننا من القيام بحملات تنويرية قوية ومتتابعة.
ولله الأمر من قبل ومن بعد؛ للحديث صلة.