أهميته وأثره في انتباه المستمعين
إبراهيم بن محمد الحقيل
من دلائل تكريم الإنسان على سائر الحيوان: أن الله ـ تعالى ـ رزق الإنسان القدرة على الإبانة عمّا في نفسه باللسان أو بالإشارة أو بالكتابة.
وحاجة المرء إلى القدرة على البيان لا تقلُّ أهمية عن حاجته إلى عقله؛ لأنه إن لم يستطع الإبانة عمّا في نفسه قلّت فائدة عقله أو تلاشت. ولهذا فإن الله ـ تعالى ـ ما أرسل رسولاً إلا بلغة قومه؛ ليتحقق المقصود من الرسالة وهو: إبانة الطريق الموصلة إلى الله ـ تعالى ـ وتحذيرهم من سبل الشيطان. قال ـ سبحانه ـ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] ، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: «لم يبعث الله نبياً إلا بلغة قومه» (?) .
ولكل وسيلة من وسائل البيان أصولها وقواعدها وأسلوبها، تعارف البشر على ذلك وتواضعوا؛ إذ لا سبيل إلى التفاهم فيما بينهم إلا بذلك.
والخطاب المباشر بـ (الخطابة) هو أشهر وسائل البيان والإقناع، وأكثرها استعمالاً عند بني آدم؛ ولذا اعتنوا به من قديم الزمان، وبحثه المتقدمون منهم والمتأخرون، وأدخلوه ضمن علوم الفلسفة قديماً، وأُنشئت له الأقسام في الجامعات، وخُصص له مناهج ومدرسون مختصون، وأُلّفت فيه الكثير من الكتب والرسائل العلمية كما هو مشاهد في عالم اليوم.
وهذه المقدمة المختصرة تُلقي الضوء على جزء من الخطاب المباشر (الخطابة) يتعلق بصوت الخطيب الذي يلقي الخطبة؛ ذلك أن للصوت تأثيراً ملحوظاً على السامع، وهو الوسيلة الموصلة للمعاني إلى آذان المستمعين.
- أهمية الصوت:
صوت الخطيب مُترجِم عن مقاصده، وكاشفٌ عن أغراضه، ومصاحبته للألفاظ إذا كان الإلقاء جيداً بمثابة بيان المعاني التي أرادها الخطيب، وهو المُعَوَّل عليه في إيصال الخطبة إلى السامعين، ومِنْ ثم إلى قلوبهم. وقد سمّاه الأقدمون: نوراً؛ لأنه يحمل شعلة الضياء إلى الأذهان (?) . وكم من الخطباء الذين يُبهرون السامعين بحسن أصواتهم وجودة إلقائهم أكثر من سحر بيانهم.
ومن دلائل تأثير الصوت في النفوس: أنه قد يقرأ القرآن حافظ متقن مجوِّد؛ لكنه لا يحسن الأداء في القراءة، فلا يؤثر في مستمعيه. وقد يقرأ القرآن من ليس بمجود ولا متقن؛ فيُبكي سامعيه بجودة أدائه، وحسن صوته.
والخطبة الجيدة إذا ألقاها من لا يحسن الأداء كانت كالسيف البتّار في اليد الضعيفة، والخطيب المصقع الذي يلقي خطبة رديئة كالبطل المغوار الذي يقاتل بسيف كالٍّ. فإذا اجتمعت قوة السيف، وقوة اليد التي تحملها، وقوة قلب صاحبها عملت عملها، وهكذا الخطبة إن كانت جيدة في بلاغتها ولغتها وأسلوبها، وألقاها من يحسن الإلقاء عملت عملها في قلوب السامعين.
وكم من أشخاص سمعنا خطبهم، وتأثرنا بها! فلما قرأناها مكتوبة لم تكن كما سمعناها، مع أنها لم تزد حرفاً ولم تنقص حرفاً؛ مما يدل على أن للإلقاء والصوت أثراً كبيراً على السامع.
- هل جمال الصوت خِلقة أم اكتساب؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بد من فهم المقصود منه؛ إذ إن الحكم على جمال شيء أو قبحه أمر نسبي يختلف باختلاف الأذواق، ثم في الذي يُسخَّر له الصوت، وكيفية تسخيره؛ وهذا بلا شك له أثره في الحكم على جمال الصوت أو قبحه.
وكثير من الخطباء قد يحكم على صوته بأنه سيئ مع أن السوء في أدائه لا في صوته، فيقعد عن تحسين أدائه بحجة أن هذا هو ما أعطاه الله تعالى.
والأصوات أنواع، ولكل صوت ما يناسبه من طرق الأداء والإلقاء؛ فما يحسن من الأداء في صوت قد يقبح في آخر؛ بدليل أننا نستمع إلى خطيبين يقلد أحدهما الآخر في طريقة الإلقاء، حتى يكاد أن يكون مثله لولا اختلاف نغمة الصوت، ومع ذلك يُقيل الناس على أحدهما، ويستهجنون الآخر؛ والسبب: أن أحدهما ناسب صوته طريقة إلقائه، بعكس الآخر.
وعلى الخطيب أن يكتشف طريقة الإلقاء المناسبة لصوته ونَفَسه؛ وذلك يكون بتجربة طرق عدة، والنظر في مدى أثرها على السامعين، مع سؤال أهل الخبرة في ذلك، وسيكتشف بعد عدة محاولات طريقة الأداء التي تناسب صوته.
- الهدي النبوي رفع الصوت في الخطبة:
روى جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتدَّ غضبه؛ حتى كأنه منذر جيش يقول: صبَّحكم مسَّاكم ... » (?) .
ويفهم من هذا الحديث أمور، منها:
1 - الاعتناء بشأن الخطبة؛ فإنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يهتم لها وبها، دلّ على ذلك الأحوال التي تعتريه أثناء خطبته؛ فلو لم يكن مهتماً بها لما علا صوته، واحمرَّت عيناه، واشتدَّ غضبه.
قال النووي ـ رحمه الله تعالى ـ: «يُستدَل به على أنه يستحب للخطيب أن يفخِّم أمر الخطبة، ويرفع صوته، ويجزل كلامه، ويكون مطابقاً للفصل الذي يتكلم فيه من ترغيب وترهيب» (?) .
2 - لا يفهم من الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم - كان يرفع صوته دائماً، ويشتد غضبه باستمرار، وتحمرُّ عيناه في كل خطبته؛ بل كان ذلك منه في أحوال تستلزم ذلك كذكر القيامة، أو إذا خولف في أمر غضب لله ـ تعالى ـ كما جاء في بعض روايات الحديث: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر الساعة احمرَّت وجنتاه، واشتدَّ غضبه، وعلا صوته..» (?) . فهذا مقيِّد للإطلاق المذكور سابقاً بذكر الساعة.
وهذا ما فهمه شُرَّاح الحديث. قال القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: «كونه -صلى الله عليه وسلم - تحمرّ عيناه، ويعلو صوته، ويشتدُّ غضبه في حال خطبته، كان هذا منه في أحوال. وهذا مشعر بأن الواعظ حقه أن يكون منه في وعظه بحسب الفصل الذي يتكلم فيه ما يطابقه؛ حتى لا يأتي بالشيء وضده ظاهر عليه. وأما اشتداد غضبه فيحتمل أن يكون عند نهيه عن أمر خولف فيه، أو يريد أن صفته صفة الغضبان» (?) .
3 - أن تغيّر أحوال الخطيب وانفعالاته يكون بحسب المعاني التي يلقيها على السامعين؛ كما دل عليه الحديث، وأقوال العلماء الذين شرحوه؛ حتى لا يكون إلقاؤه مخالفاً للمعاني التي يلقيها. فألفاظ الاستفهام والتعجب، والتوبيخ واللوم، والعتاب والزجر، والتفخيم والتهويل والتحزين والحيرة، والوعد والوعيد، ونحوها لها كيفيات صوتية في الإلقاء تدل على المعنى المراد. وكذلك يقال في خفض الصوت ورفعه ولينه وشدته، وتكرار الكلمة وقطعها ومد الصوت بها لها مواضعها في الخطبة؛ حتى يستثير الخطيب السامعين، ويلفت انتباههم، مما يكون عوناً على الاستفادة من الخطبة؛ إذ هو المقصود من شرعيتها.
ولا شكَّ في أن الخطيب إذا لم يراعِ معاني الألفاظ في صوته فقدت معانيها، ولربما استعجمت على السامعين، وفي هذا المعنى يُذكر أن رجلاً اتُّهم بالسرقة، وليس ثمة دليل يدينه، فوعده القاضي بأن يطلق سراحه بشرط أن يقوم أمام الناس ويعترف بأنه لص! فوافق، فلما صار أمامهم قال بصيغة السؤال والاستنكار: «أنا لص؟!» كأنه يستنكر ذلك؛ فتعاطف الناس معه، ولم يحقق القاضي ما أراده» (?) .
- ما ينبغي مراعاته في الصوت:
1 - موافقته لظروف الخطبة؛ فإن الصوت يختلف باختلاف الحضور واختلاف المكان والزمان، وموضوع الخطبة. فصوت الخطيب يختلف في مناسبة الفرح عنه في مناسبة الحزن، كما يختلف في المكان الضيق عنه في المكان الرحب الغاص بالمستمعين (?) . فعلى الخطيب أن يراعي مثل هذه الظروف، ويكيِّف صوته بما يتناسب معها.
ويرى بعض الباحثين أن المناسب في الخطبة أن يبدأ بها خافضاً صوته، ثم يعلو شيئاً شيئاً؛ لأن العلو بعد الانخفاض سهل، ووقعه على السامعين مقبول. أما الخفض بعد الارتفاع فلا يحسن وقعه (?) .
وعلى الخطيب أن يعرف قدراته الصوتية، فلا يتحمس حماساً يرفع صوته عالياً بحيث لا يستطيع إكمال خطبته على هذا النمط؛ لأنها طويلة، وقدرته الصوتية ضعيفة؛ فيقع في حرج بالغ، ويُفسد انجذاب السامعين إليه.
2 - ألا يجعل صوته نمطياً؛ بحيث يكون على وتيرة واحدة؛ فإن ذلك يلقي في السامعين سآمة وملالاً، بل يغيّر النبرة الصوتية بما يتناسب مع المعاني التي تحويها الألفاظ. وقد كان كثير من الخطباء ـ خاصة كبار السن ـ يرتلون الخطبة كترتيل القرآن، أو كقراءة المتون العلمية على المشايخ، وهذا لا يتناسب مع الخطبة، وإن وجد السامعون له لذة في مسامعهم؛ لكنها ليست لذة بالمعاني والألفاظ، وإنما هي بصوت الخطيب ـ ولا سيما إن كان صوته حسناً ـ وذلك يشغلهم عن معانيها وفوائدها، ولربما أنهم لم يدركوا ما فيها من معانٍ وألفاظ رغم طربهم بها.
3 - أن يفرِّغ فكره أثناء الإلقاء للمعاني التي يلقيها، ويحرك بها قلبه، ويتفاعل معها قدر استطاعته. وللإخلاص في إعداد الخطبة وإلقائها حظ كبير في تحرك القلب بها، ولا سيما إن كان في القلب حرقة لدين لله تعالى، ولنفع إخوانه المسلمين. والشواغل الذهنية أثناء الإلقاء تؤثر كثيراً على القلب، وتفقده الكثير من الخشوع والتدبر.
فانشغال الخطيب أثناء الإلقاء مثلاً بالنحو ـ أي خوف اللحن ـ يجعله يركّز على الإعراب، وينصرف عن المعنى. وسبب ذلك في الغالب: أنه لا يراجع خطبته قبل إلقائها مراجعة تجعله يتقنها، ولا يخاف اللحن فيها. ومن كان دائم الانشغال بذلك حتى لو راجعها كثيراً فينبغي له أن يعربها ـ أي يضبطها بالشكل ـ لأن تفريغ ذهنه للمعاني أهم من انشغاله بأمور يستطيع إصلاحها قبل الإلقاء.
وقد يكون الخطيب مرتجِلاً ـ يخطب بلا ورقة ـ فينشغل بما سيقوله عن تدبر ما يقول، أي: أن فكره يسبق كلامه، فيهيئ في ذهنه الجملة التي سيقولها وهو لا زال في الجملة الأولى، وهذا بلا شك يجعله لا يتدبر، وربما دخلت الجملة الثانية قبل اكتمال الأولى، فيفسد المعنى كما هو ملاحظ على كثير ممن لا يحسنون الارتجال.
وبكل حال فإن الإعداد الجيد للخطبة مع الإخلاص كفيل بانفعال الخطيب في خطبته، ومن ثم انفعال المستمعين. وكلما ضعف الإعداد وقلّ الإخلاص كان الانفعال أقلّ وتأثير الخطبة أضعف. وفي هذا المعنى قال عامر بن عبد القيس ـ رحمه الله تعالى ـ: «الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان» (?) ، ولما سأل معاوية ـ رضي الله عنه ـ صحار بن عياش العبدي عن سر بلاغتهم قال: «شيء تجيش به صدورنا فتقذفه على ألسنتنا» (?) ، وقال الحسن البصري ـ رحمه الله تعالى ـ لواعظ لم تؤثر فيه موعظته: «يا هذا! إن بقلبك لشراً أو بقلبي» (?) .
4 - عناية الخطيب بأجهزة الصوت التي توصل خطبته للسامعين؛ فهذه الأجهزة نعمة من الله ـ تعالى ـ خدمت الخطباء وأراحتهم من رفع أصواتهم رفعاً يُضِرُّ بهم. ومعنى العناية بها: أن يكون الصوت فيها موزوناً بما لا يزعج المستمع ولا يشوّش عليه. وبعض الخطباء لا يرتاح حتى يرتد إليه صوته من شدة جلبة مكبرات الصوت، وبعضهم قد تكون أجهزته لا توصل الصوت من شدة خُفوتها، والموازنة مطلوبة، وأصوات الناس تختلف، والأجهزة أيضاً تختلف، فينبغي أن يضبط صوت الجهاز بما يتناسب مع صوت الخطيب ضعفاً وقوة؛ فإن كان في صوت الخطيب ضعف رفع صوت الجهاز حتى يسمع الناس، وإن كان الخطيب جهير الصوت خفض صوت الجهاز حتى لا يحصل الإزعاج؛ فالإزعاج وضعف الصوت مانعان من الاستفادة من الخطبة.
5 - الاعتدال في سرعة الصوت؛ فلا يتمهل تمهلاً يصيب السامعين بالملال، ولا يسرع سرعة تمنعهم التدبر وفهم المعاني. والسرعة تجهد الصوت لا سيما في الخطب الطويلة. وحدد بعضهم متوسط ذلك بما يقارب (120) كلمة في الدقيقة (?) . وفي ظني أن هذا يختلف باختلاف الأصوات وطريقة الإلقاء، ولكل خطيب ما يناسبه.
ولو أسرع في بعض الجمل ليتمهل في كلمة منها بقصد لفت الانتباه إلى أهميتها؛ فذلك أسلوب من أساليب شد الانتباه، وقد كان بعض مشاهير خطباء الإفرنج ينطق بعدة كلمات بسرعة كبيرة حتى يصل إلى الكلمة أو العبارة التي يريد تأكيدها، ثم يبطّئ صوته عندها، ويضغط عليها (?) .
6 - أن يجتنب الخطيب ما قد يضايقه ويضعف صوته كالضغط على الحنجرة بأزرار الثوب، وإن كان ممن يحتاج إلى ماء لتقوية صوته فلا بأس أن يشرب قبل الخطبة، أو في الجلسة بين الخطبتين، أو حتى في الخطبة إن لم يخش انقطاع الأفكار، وانصراف المستمعين عنه.
وعلى كل حال فإنه ينبغي للخطيب العناية بما يكمل خطبته، ويجعلها مؤثرة في قلوب المستمعين، محصلة لمقاصدها التي شرعت من أجلها، كذلك ينبغي العناية بالصوت، والبحث عن الطريقة الإلقائية الملائمة له.
وتمرينات الحلق واللسان على الأساليب الخطابية؛ مما يجب على الخطباء صرف الاهتمام له؛ فليس ذلك بأقلّ من الاهتمام بإعداد الخطبة موضوعاً ولغة، وبلاغة ومعنى؛ إذ الصوت ناقل لها، وبجمال الإلقاء تكون الخطبة جميلة، وبرداءة الإلقاء تكون الخطبة رديئة، ولو كان إعدادها جيداً.