د. وليد بن محمد الشباني
«إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] وقال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إن كُنتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172] » (?) هذا توجيه من نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم -، للمؤمنين بأن يتقوا الله فيما يأكلون وما ينفقون؛ فالله ـ تبارك وتعالى ـ طيب مقدس منزه عن النقائص والعيوب كلها، ولا يقبل من الصدقات إلا ما كان حلالاً، ولا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيباً طاهراً من المفسدات كلها كالرياء والعُجْب وغيرها.
فالطيب يوصف به الأعمال والأقوال والاعتقادات؛ فكل هذه الأمور تنقسم إلى طيب وخبيث؛ ولذلك يقول الله ـ تعالى ـ: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100] ، وكذلك المؤمن كله طيب: قلبه ولسانه وجسده بما يسكن في قلبه من الإيمان، وبما يظهر على لسانه من الذكر وعلى جوارحه من الأعمال الصالحات. وطيب الأعمال للمؤمن لا تكون إلا ممن طيب مطعمه، ولا يكون ذلك إلا من كسب حلال؛ فبذلك يزكو عمله. وبالمقابل فإن أكل الحرام يفسد العمل ويمنع قبوله. ولذلك أشار الله ـ تبارك وتعالى ـ لهذه الحقيقة في محكم التنزيل ولم يفرق بين الرسل والمؤمنين؛ فقد أمر المرسلين بأكل الطيبات وربطها بالعمل الصالح، فلا يُهدى المرء للإكثار من الأعمال الصالحات والمداومة عليها إلا بتحري الحلال في الكسب.
وبالمثل أمر الله المؤمنين بأكل الطيبات ومن أنها لازم العبودية. وقد دلل النبي -صلى الله عليه وسلم - على ذلك بذكره الرجل «يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا ربُّ! يا ربُّ! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام؛ فأنَّى يستجاب له؟» (?) فهذا الرجل قد اجتمعت فيه أسباب كثيرة لإجابة الدعاء وقبوله، منها إطالة السفر، وظهور الفاقة، ومد اليدين إلى السماء والإلحاح على الله بتكرير ذكر ربوبيته، ومع ذلك لم يستجب له ربنا القائل: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] بسبب التساهل في المطاعم والمشارب واللباس وعدم تحري الحلال فيها.
قال أبو عبد الله الباجي الزاهد ـ رحمه الله تعالى ـ: «خمس خصال بها تمام العمل: الإيمان بمعرفة الله عز وجل، ومعرفة الحق، وإخلاص العمل لله، والعمل على السنة، وأكل الحلال؛ فإن فقدت واحدة لم يرتفع العمل» .
وقد أخبر نبينا -صلى الله عليه وسلم - أن فتنة هذه الأمة بالمال (?) ، وقد ظهر كثير من وسائل استثمار المال وتنميته مما هو داخل إما في الربا المحرم أو البيوع الفاسدة مما يجب على علماء الأمة والناصحين لها التحذير منها والأخذ على يد المروجين لها والداعين إليها. ولعل من أظهرها شراً وأصرحها حرمة ما فعلته بعض شركات المساهمة في بلادنا وبعض البنوك التجارية من إصدارها للسندات بحجة زيادة السيولة لديها وتمويل مشاريعها الرأسمالية. ولعله من المناسب أن نتطرق إلى توضيح ماهية السندات المراد الاستثمار فيها، وما حُكمها، وما هو أثرها، وما هي البدائل المتوفرة عنها؟
فالسندات كما عرفها الخياط في كتابه «الأسهم والسندات» هي صكوك قابلة للتداول، تُصدرها الشركات أو المؤسسات، وتمثل قرضاً طويل الأجل يعقد عادة عن طريق الاكتتاب العام. فالسند هو الوثيقة المضمونة التي تمثل قرضاً طويل الأجل تصدره الشركة، وتكفل لحامله فائدة معينة دورية (عادة) ثم تعيد الشركة المصدرة لسند رأس مال المُقرِض في نهاية تاريخ الاستحقاق.
والسندات كالأسهم من حيث خصائصها العامة؛ فهي متساوية القيمة، ولها قيمة اسمية، وقابلة للتداول، ولا تقبل التجزئة في مواجهة الشركة أو المؤسسة (?) ، ولكن السند يختلف عن السهم في أنه يمثل دَيْناً على الشركة، ويعطي مالكه حقاً في فائدة معينة سواء ربحت الشركة أم خسرت، وليس لحامل السند الحق في التصويت في الجمعية العمومية أو الادارة أو الرقابة، وعند تصفية الشركة يكون لمالك السند الأولوية في الحصول على قيمة السند، وتنقطع صلة مالك السند بالشركة حال وفاء الشركة لقيمته.
وللسندات أنواع متعددة لعل من أشهرها السند العادي ذا الاستحقاق الثابت الصادر بسعر الإصدار، وهو السند الذي يصدر بالقيمة المسجلة على صك السند، وهي نفس القيمة التي يتم وفاؤها في تاريخ نهاية الاستحقاق مع حصول مالك السند على مقدار من العائد معين ودوري خلال عمر السند؛ إضافة إلى القيمة المسجلة على صك السند عند استحقاقه. وقد يكون هذا السند مضموناً بضمانات معينة كرهن رسمي على عقارات وأصول الشركة.
كذلك من أنواع السندات ما يتم إصداره بحسم إصدار، وهو السند الذي يكون مسجلاً على ظهره قيمة معينة تستحق الوفاء في تاريخ الاستحقاق؛ بحيث إن النقدية المستلمة من شاري السند تكون أقل من القيمة الاسمية الظاهرة على صك السند. كذلك هناك سندات قابلة للاستدعاء وهي السندات التي تحوي شرطاً يخوّل مصدِّرَها الحقَّ في استدعاء السندات التي تحوي هذا الشرط لإطفائها (أي إنهاء الالتزام) بسعر محدد في خلال فترة محددة. كذلك هناك سندات قابلة للتحويل، وهي السندات التي تعطي لصاحبها الحق، ضمن مدة معينة، تحويل سنداته إلى أسهم أو أي نوع آخر من أنواع الأوراق التجارية. وتجدر الإشارة إلى أن جميع تلك الأنواع بدون استثناء تعطي لمالكها الحق في مقدار معين من المال بالإضافة إلى أصل قيمة السند. هذا المقدار من المال قد يكون مقداراً ثابتاً دورياً كنسبة من القيمة الاسمية للسند، أو قد يكون مقداراً متغيراً مربوطاً بسعر الفائدة السائد في السوق، فيكون مقدار الحق الزائد عن أصل الدين دورياً متغيراً كنسبة من سعر السوق السائد، كما قد يكون هذا الحق مبلغاً مقطوعاً قد تم خصمه من القيمة الاسمية لأصل السند؛ بحيث تم استلام مبلغ القرض بقيمة أقل من القيمة الاسمية للقرض؛ مع الالتزام بتسديد القيمة الاسمية للسند في تاريخ الاستحقاق. فالسندات جميعها تسدد للمقرض مبلغاً زائداً عن أصل الدين: إما في شكل دفعات دورية، أو بشكل مبلغ مقطوع.
ولقد افتى جمع من العلماء المعاصرين بعدم جواز التعامل بالسندات ومن هؤلاء الشيخ محمود شلتوت، والدكتور محمد يوسف موسى، والدكتور محمد عثمان شبير، والدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور عبد العزيز الخياط، والدكتور علي السالوس، وغيرهم كثير. واستدلوا على حكمهم بأدلة كثيرة لعل من أوضحها قولهم إن السند قرض على الشركة أو المؤسسة التي أصدرته لأجل بفائدة مشروطة ومعينة؛ فهو من ربا النسيئة؛ فكل قرض جر نفعاً فهو ربا. وهذا القرض من خلال آلية السندات هو صورة من صور ودائع البنوك التي تحسب له فوائد؛ حيث يتم استثماره بعد تملكه مع ضمان رد المثل وزيادة. وهذا هو القرض الربوي الذي كان شائعاً في الجاهلية وحرمه علماء المسلمين في القديم والحديث بالكتاب والسنة. فهذه السندات قد اجتمع فيها عناصر ربا النسيئة الثلاث وهي: الديْن، والأجل، وزيادة مشروطة في الديْن مقابل الأجل (?) . وقد صدر من المجمع الفقهي حول السندات قرار رقم (62/11/6) ، وهذا نصه (?) :
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 - 23 شعبان 1410هـ، الموافق 14 - 20 آذار / مارس 1990م بعد اطلاعه على الأبحاث والتوصيات والنتائج المقدمة في ندوة (الأسواق المالية) المنعقدة في الرباط 20 - 24 ربيع الثاني 1410هـ / 20- 24 /10/ 1989م بالتعاون بين المجمع والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية، وباستضافة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية. وبعد الاطلاع على أن السند شهادة يلتزم المصدِّر بموجبها أن يدفع لحاملها القيمة الاسمية عند الاستحقاق، مع فائدة متفق عليها منسوبة إلى القيمة الاسمية للسند، أو ترتيب نفع مشروط سواء أكان جوائز بالقرعة أم مبلغاً مقطوعاً أم خصماً قرر ما يلي:
1 ـ أن السندات التي تمثل التزاماً بدفع مبلغها مع فائدة منسوبة إليه أو نفع مشروط محرمة شرعاً من حيث الإصدار أو الشراء أو التداول؛ لأنها قروض ربوية سواء أكانت الجهة المصدِّرة لها خاصة أو عامة ترتبط بالدولة ولا أثر لتسميتها شهادات أو صكوكاً استثمارية أو ادخارية أو تسمية الفائدة الربوية الملتزم بها ربحاً أو ريعاً أو عمولة أو عائداً.
2 ـ تحرم أيضاً السندات ذات الكوبون الصفري باعتبارها قروضاً يجري بيعها بأقل من قيمتها الاسمية، ويستفيد أصحابها من الفروق باعتبارها خصماً لهذه السندات.
3 ـ كما تحرم أيضاً السندات ذات الجوائز باعتبارها قروضاً اشتُرط فيها نفعٌ أو زيادة بالنسبة لمجموع المقرضين، أو لبعضهم لا على التعيين، فضلاً عن شبهة القمار.
4 ـ من البدائل للسندات المحرمة - إصداراً أو شراء أو تداولاً - السندات أو الصكوك القائمة على أساس المضاربة لمشروع أو نشاط استثماري معين؛ بحيث لا يكون لمالكها فائدة أو نفع مقطوع، وإنما تكون لهم نسبة من ربح هذا المشروع بقدر ما يملكون من هذه السندات أو الصكوك، ولا ينالون هذا الربح إلا اذا تحقق فعلاً. ويمكن الاستفادة في هذه الصيغة التي تم اعتمادها بالقرار (5) للدورة الرابعة لهذا المجمع بشأن سندات المقارضة.
ولعل من المناسب ذكر بعض آثار وأضرار التعامل بالسندات كما قرر ذلك المختصون. فمن أقبح أضرار إصدار السندات وتداولها بيعاً وشراءً المجاهرة بالمعصية وعدم الاستتار بها. فمن يسعى في إصدارها والإعلان عنها في وسائل الإعلام المختلفة، ومن يسعى في تداولها والاستثمار فيها، هو مجاهر بالمعصية معلن لها داعم لاستمرارها، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم -: «كل أمتي معافى إلا المجاهرون» (?) ؛ فمن خلال طرح السندات في الأسواق المالية للمسلمين، يتم المجاهرة بكبيرة من كبائر الذنوب، وتجد من المسلمين من يسعى لتأصيلها والدفاع عنها، وهذا ما لا يجب أن يكون. فمُصدِر السندات والساعي في نشرها وبائعها ومبتاعها كلهم داخلون في لعنة الله وسخطه، وكفى بقول جار بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ شاهداً لذلك حيث يقول: «لعن رسول الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال هم سواء» (?) . فالواجب على أبناء المسلمين مجاهدة هذه الكبيرة والدعوة لمقاطعة استثمارات تلك الشركات مُصدِرَة السندات وفضح عُوارهم، والسعي لنشر البدائل المباحة لأدواتهم المالية.
كذلك فإن في إصدار السندات والتعامل بها بيعاً وشراءً إضعافاً لمعنى الألوهية في قلوب العامة. فكما هو معلوم أن الحكم لله، وأن شريعته هي الحاكمة في واقع المسلمين. وما كلمة: «لا إله الا الله» والإقرار بها إلا العمل على وفق أمرالله بحسب الوسع والطاقة. فمن أصدر السندات أو من تداولها بيعاً وشراءً، وهو عالم بحقيقتها، إنما هو متبع لهواه، محاربٌ لله وحُكمِه. يقول الله ـ تعالى ـ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23] .
كذلك فإن التضخم من أخطر الظواهر الناتجة عن ممارسة الإقراض بفائدة ربوية؛ فالتضخم هو الارتفاع العام والمستمر في أسعار السلع والخدمات بسبب أن السوق لا تلبي جميع طلبات المستهلكين. ففي فترات التضخم تقل قوة النقود الشرائية وتزيد أسعار السلع والخدمات، حيث لا تستطيع كمية معينة من النقود أن تشتري ما كانت قادرة على شرائه في الماضي. كذلك في فترات التضخم عوائد الاستثمار الناتجة عن المشاريع الإنتاجية تكون أقل مقارنة بمثيلاتها في الماضي، فالتضخم يأكل تلك العوائد ويقلل حقيقتها. فارتفاع أسعار الفائدة بشكل عام يقلل من حجم الاسثمار مما يخفض الناتج القومي والعمالة، بينما انخفاض سعر الفائدة يؤدي إلى زيادة الاستثمارات ومن ثم الناتج القومي والعمالة. ولذلك يقول البروفيسور جوتفر هابرلر G. Haberler ـ أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفرد الأمريكية - في كتابه (الانتعاش والكساد) : «إن السياسة النقدية يجب أن تتجه دوماً إلى تخفيض سعر الفائدة، وإن المجتمع النامي بصورة مثالية سيصل إلى حالة تصبح فيها الفائدة صفراً» .
وكما هو معلوم فإن هناك علاقة ارتباط وتأثير متبادل بين سعر الفائدة الذي تتحكم به السلطات النقدية وسعر الفائدة الذي يتعامل به الممولون في القطاع الخاص. فالسياسات الاقتصادية السليمة في نُظُم الاقتصاد الحر يجب أن تسعى لإلغاء الفائدة على القروض واستبدالها ببدائل أخرى تدعم الاقتصاد وتقويه، وتسعى إلى تحفيز الاستثمار فيه. ولذلك يعد من أسباب التضخم التعامل بالمعاملات الربوية والتي منها السندات. فالسندات يصدرها صاحب المشروع للحصول على التمويل اللازم لعملياته الإنتاجية، ويلتزم بالوفاء بأصل الدين مع الفوائد الربوية المصاحبة. فإصدار السندات يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج؛ ومن ثَمَّ تنعكس بشكل زيادة في أسعار السلع والخدمات؛ حيث إن ارتفاع سعر الفائدة (الذي يمثل العائد على رأس المال المستخدم في العملية الإنتاجية في الاقتصاد الغربي يتم تمريره إلى المستهلك وتحميله إياها من خلال زيادة أسعار السلع والخدمات زيادة لا تُقابلها زيادة حقيقية في معدل الإنتاج مما يؤدي بدوره إلى الزيادة في المستوى العام للأسعار السائدة) (?) (التضخم) . كذلك فإن ارتفاع التكاليف بسبب الفوائد الربوية يؤدي إلى عدم تشجيع أصحاب رؤوس الأموال على الاستثمار، بل الاكتفاء بالعوائد غير الإنتاجية مما يساهم في ركود الحركة التصنيعية والبنائية في المجتمع.
وإن من العجيب أن ترى بعض أبناء المسلمين وقد ولاَّهم الله أموال المسلمين وائتمنهم الناس على إدارتها من خلال الشركات العاملة في بلاد الإسلام والتي يراد من إنشائها بناء الأوطان بناءً يُرضي الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم -، تراهم قد دعوا الناس للاكتتاب في ما فيه محاربةٌ لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم -، فتراهم يدعون الناس للاكتتاب في السندات التي هي ربا الجاهلية التي قال الله فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130] . وقال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278 - 279] . ثم يأتي أناس من المسلمين يَدعُون أبناء المسلمين للدخول في حرب مع الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم -. فكيف يُتَصور أن يكتب الله لتلك الشركات التي تحارب الله ورسوله بإصدارها للسندات الربوية النجاح والفلاح مع وعيد الله بالحرب، هذه الحرب التي هي من الله للمؤمنين عند عدم تقواهم لله وتركهم الربا. وكيف يُتَصور أن يحصل المكتتبون في تلك السندات والمتعاملون بها بيعاً وشراءً على البركة في الرزق والصحة في البدن والسلامة في المعاش وهم مُحَارَبُون من الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم -. كذلك فإن البركات والطيبات من الرزق تتناقص وتنقطع عند التعامل بالربا من خلال بيع وشراء السندات وما شابهها من وسائل الربا وأدواته؛ فالله ـ تعالى ـ يقول ـ ومن أصدق من الله قيلاً ومن أصدق من الله حديثاً ـ: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 160 - 161] .
والحمد لله الذي أكمل الدين، وجعلنا خير أمة أخرجت للناس؛ فلا تجد باباً للحرام إلا وقد فتح الله بدله أبواب الحلال. فالبدائل الشرعية للسندات قد تكلم فيها الكثير من علماء المسلمين المعاصرين، ومن هؤلاء الدكتور محمد عثمان شبير، والدكتور عبد اللطيف عبد الله الوابل، والدكتور محمد علي القري بن عيد، وغيرهم كثير. ومن هذه البدائل الشرعية ما قرره مجمع الفقه الاسلامي في دورةِ مؤتمره الرابع بجدة من 18 - 23 جمادى الآخرة 1408هـ الموافق 6 - 11/2/1988م بشأن سندات المقارضة وهي أداة استثمارية تقوم على تجزئة رأس المال القراض (المضاربة) بإصدار صكوك ملكية برأس مال المضاربة على أساس وحدات متساوية القيمة ومسجلة بأسماء أصحابها باعتبارهم يملكون حصصاً شائعة في رأس مال المضاربة، وما يتحول إليه بنسبة ملكية كل منهم فيه. وقد أجاز المجمع الفقهي تلك الصيغة عند توافر عناصر معينة حددها في فتواه، وليس المجال مجال تفصيل وشرح لها، ومن أراد المزيد عليه الرجوع للفتوى المذكورة.
كذلك من البدائل المطروحة ما ذكره الدكتور محمد علي القري بن عيد في بحثه المنشور في مجلة مجمع الفقه الإسلامي في العدد الحادي عشر، الجزء الأول؛ حيث طرح ما أسماه صكوك المشاركة «التي تقوم فكرتها الأساسية على إصدار الشركة عند حاجتها إلى المال لصكوك لا تختلف في طبيعتها عن الأسهم بما فيها التداول في أسواق المال، ويتمتع حملتها بكل حقوق المساهم، ويأخذ من الأرباح نصيباً لا يختلف عن أنصباء من يملك من حَمَلَة الأسهم مثل حصته من الشركة، ما عدا أن حامل الصك يتنازل عن حقه في التصويت في الجمعية العمومية وتلتزم الشركة بإعادة شراء هذه الصكوك بعد فترة محددة» (?) . ومن الأدوات المالية البديلة للسندات الربوية شهادات التأجير وشهادات الاستثمار الإسلامية التي استحدثها البنك الإسلامي للتنمية مع البنوك الإسلامية القائمة.
أخيراً: أقول لكل من ولاَّه الله أمراً من أمور المسلمين أن يتقي الله في عمله، وأن ينصح لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن يسعي بكل ما يستطيع للعمل وفق ما فيه مرضاة لله تعالى، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3] . والله الهادي إلى سواء السبيل.