مجله البيان (صفحة 5276)

القسطية لا الديمقراطية

أ. د. جعفر شيخ إدريس

الديمقراطية هي الفتنة الجديدة التي ابتلي بها المسلمون، بل الناس عامة. وزاد من الافتتان بها أن الولايات المتحدة، ولا سيما في عهد رئيسها الحالي، جعلت نشرها من أكبر أهدافها التي تنفق في سبيلها الأموال الطائلة وتقيم الحروب الطاحنة، وجعلت الالتزام بها هو معيار تقدم الأمة واستحقاقها لصداقة الولايات المتحدة، أو هكذا

ومما جعل مناقشتها مع مؤيديها والدعاة إليها والراضين بها من المسلمين أمراً صعباً أنه لم يعد لها معنى واحد عند الداعين إليها. بل صارت تشير إلى معان عدة يختار كل واحد منهم ما شاء منها، ولا يدري أن صاحبه يشير بالكلمة إلى معنى غير المعنى الذي يقصده هو.

هذا الاختلاف في مفهوم الدمقراطية أمر يشكو منه كبار منظِّريها وفلاسفتها المعاصرين؛ فهذا أحدهم يقول ما ترجمته:

هنالك ميل إلى وصف النظام بالديمقراطي فقط لأننا نوافق عليه. ولكننا عندما نفعل ذلك إنما نتحدث عن آرائنا لا عن النظام.

ويقول:

المعتقد عموماً أن «الدمقراطية» عبارة صارت تستعمل استعمالاً واسعاً جعلها كلمة غامضة، بل كلمة لا معنى لها. إن كل شكل من أشكال التنظيمات في المجال السياسي (بل وغير السياسي) أصبح يوصف بالدمقراطية أو الدمقراطي (?) .

سنحاول فيما يلي مناقشة صلة الدمقراطية بالإسلام بحسب المعاني المختلفة التي يقصدها أنصارها من المسلمين؛ لأن الإنسان إنما يسأل عن المعنى الذي قصده من عبارته، حتى لو كان استعماله للعبارة خطأ.

وقد أدرنا الحوار في مسائل الدمقراطية هذه بين مسلميْن يدعو أحدهما إلى نظام سياسي إسلامي خالص يسميه القِسْطِيَّة، وآخر من دعاة الدمقراطية.

- يبدأ القِسْطي الحوار بقوله:

دعونا نتفق أولاً على ما نعنيه بالقسطية، وما نعنيه بالدمقراطية. أما القسطية فهي كما يدل عليها لفظها الحكم بالقِسْط. والحكم بالقسط هو الحكم بما أنزل الله تعالى. وما أنزل الله يشمل الأحكام الجزئية التي تدل عليها الأدلة التفصيلية من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم -، ويشمل المبادئ الأساسية التي يسميها الفقهاء بكليات الشريعة التي تقرر فيما تقرر أن كل ما حقق القسط فهو من شرع الله، فتفتح الباب واسعاً للاستفادة من كل تجربة بشرية نافعة أياً كان مصدرها.

وإذا كانت القسطية هي الحكم بما أنزل الله؛ فإن الدمقراطية هي الحكم بما يراه الشعب. هذا هو معناها الذي يدل عليه لفظها، وهو المعنى المتفق عليه بين منظِّريها. حكم الشعب معناه أن الشعب صاحب السيادة العليا في المسائل التشريعية، وأنه لا سلطة فوق سلطته التشريعية، وعليه فإن كل ما حكم به فيجب أن يكون هو القانون الذي يخضع له كل مواطن من مواطني القطر الذي اختار الدمقراطية نظاماً سياسياً له.

لا يمكن لإنسان يدعي الإسلام ويعرف معناه أن يؤمن بالدمقراطية بهذا المعنى؛ لأنه إيمان يتناقض تناقضاً بيناً مع أصل من أصول الإيمان التي جاء بها دينه، والتي تؤكدها كثير من آيات الكتاب وأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم -. من ذلك قوله ـ تعالى ـ: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ فَإن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 49 - 50] . {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا * وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء: 60 - 61] ، {إنَّا أنزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] ، {إنِ الْحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40] .

- ماذا تعني أنت بالإسلام، وماذا تعني بالدمقراطية؟

ـ الدمقراطي: أما الإسلام فأظننا متفقون على معناه، وأما الدمقراطية؛ فأنا لا أعني بها ما ذكرت. هل تتوقع من إنسان مسلم أن يقول إن من حق الناس أن يشرعوا تشريعات لم ياذن بها الله؟

ـ ماذا تعني بها إذن؟

ـ لقد عانت الشعوب العربية كثيراً من الحكم الفردي الدكتاتوري. فالذي أريده هو أن يستبدل بهذا الحكم حكم دمقراطي يكون من حق الشعب فيه أن يختار حكامه في انتخابات حرة نزيهة، وأن يحاسبهم، وأريده ان يكون حكماً يلتزم بما يسمى بحكم القانون فلا يفرق بين الناس في المعاملة، وأن يكون حكماً يستمتع الناس فيه بحقهم في الحرية، حرية التعبير، وحرية الحركة، وحرية تكوين الأحزاب والجماعات، وأن يكون حكماً يتميز بتداول السلطة، وأن يكون حكماً شفافاً لا تحاك الأمور فيه في الظلام بل تُعرض على الناس ليقولوا فيها رأيهم. فحكم الشعب في رأيي ليس المقصود به المقابلة بين ما يراه الشعب وما يحكم به الخالق سبحانه، وإنما المقصود به حكم الشعب في مقابلة حكم الفرد.

ـ الاستعمال الصحيح للكلمات هو أن يقصد بها المعنى المتفق عليه بين مستعمليها، ولا سيما المختصين منهم بالأمر. فاستعمالك لكلمة الدمقراطية بهذا المعنى المحدود هو استعمال غالط؛ لأنه إذا كانت الدمقراطية هي حكم الشعب، لزم عن ذلك منطقاً أن كل ما ليس بحكم للشعب فليس بحكم دمقراطي، سواء كان الحاكم به فرداً أو مجموعة من الأفراد، وحتى لو كان هو الخالق سبحانه.

لكنني تمشياً مع المبدأ الذي ذكرته ساناقشك في الدمقراطية بحسب فهمك الغالط هذا لها، فاقول لك: إن كل هذا الذي ذكرته هو من مبادئ الحكم التي اختارها الغربيون، فصارت الدمقراطية في نظرك ليست حكم الشعب، ومنهم شعب بلدك، وإنما هي حكم الشعب الأمريكي أو الإنجليزي.

لقد تداول مفكرو الشعب الأمريكي وممثلوه مثلاً الرأي في نوع الحكم الذي يرونه صالحاً لبلادهم، وتأثروا في اختيار ما اختاروه بكبار الفلاسفة والمفكرين الأوروبيين، كما تأثروا بتاريخهم وقيمهم الدينية وغير الدينية، ثم اتفقوا بأغلبيتهم على وضع دستور يضمن تلك المبادئ. أما أنت فلا تريد لأمتك أن تفكر كما فكروا، بل تريد لها أن تكون أمة مقلدة تأخذ ما توصل إليه اولئك الأصلاء وتطبقه على بلدك مهما كان الاختلاف بينكم وبينهم.

ـ أنا لا أقول بما قلتُ؛ لأن الغربيين قالوا به، وإنما أقول به لأن تلك المبادئ الدمقراطية التي ذكرتها مبادئ إنسانية تصلح لكل البشر في كل زمان ومكان.

ـ هذا أولاً ليس بصحيح؛ فقد كان معظم المفكرين الغربيين ضدها، ولم تلقَ هذا القبول والشعبية إلا بعد الحرب العالمية الثانية؛ فهل تقول: إن الناس لم يكتشفوا شيئاً هو من لوازم بشريتهم إلا قبل من مئة عام؟ ثم إن المبادئ التي ذكرتها ليست من لوازم الدمقراطية بمعنى حكم الشعب، وليست من المتفق عليه بين كل الشعوب التي اخذت بالنظام الدمقراطي.

ـ هل تتكرم بذكر أمثلة لما ترى أنه ليس من لوازم الدمقراطية؟

ـ قد تستغرب إذا قلت لك إن النظام الحزبي ليس من لوازم الدمقراطية، وأن بعض من يسميهم الأمريكان بالآباء الذين صاغوا دستورهم كانوا ضدها وكانوا يعدُّونها مما يُذْكي الخلاف بين الناس ومما يؤدي إلى الفساد. ولذلك لا تجد لها ذكراً في دستورهم. وقد يزيد استغرابك إذا قلت لك إنه حتى الانتخابات ليست من لوازم الدمقراطية. إن كل ما تتطلبه الدمقراطية هو أن يختار الناس من يحكمهم. أما أن يكون الاختيار بهذه الطريقة المعينة؛ فليس من لوازم الدمقراطية.

ـ كيف يكون الاختيار إذن؟

ـ لقد كان الأثينيون يختارون المسؤولين بالاقتراع. ويرى بعض المفكرين الماركسيين اليوم أن طريقة الاقتراع أقرب إلى فكرة الدمقراطية التي تساوي بين الناس وتفترض أن كل واحد منهم من حقه أن يكون حاكماً، وهم يرون أن الانتخابات لا تحقق هذه المساواة؛ لأنها تفتح الباب لتأثير المال وتأثير الإعلام والدعايات، ويستدلون على عدم المساواة هذه بالنسبة الكبيرة للرجال في مقابل النساء، وبالنسبة الكبيرة لمن له مال، أو لمن تخرَّج في الجامعات في مقابل طبقات العمال والمزارعين والعامة. ولو كنت ممن يؤمن بالدمقراطية لاتفقت معهم.

ـ ننتقل إلى موضوع آخر. ألا ترى في الدمقراطية ما يتوافق مع الإسلام؟

ـ بلى فيها الكثير مما يتوافق مع الإسلام.

ـ فلماذا إذن لا نقول إن الدمقراطية التي نريدها هي هذه المبادئ الدمقراطية التي تتوافق مع ديننا؟

ـ لأنني لا أريد أن أنسب إلى الدمقراطية فضلاً ليس لها. فإذا كان ديني هو السابق إلى تلك المبادئ الحسنة؛ فلماذا أنسبها إلى الدمقراطية؟

ـ تنسبها إليها فقط؛ لأنها تتوافق معها.

ـ إن في النصرانية واليهودية الكثير مما يتوافق مع الإسلام مما هو أهم من تلك المبادئ السياسية التي ذكرنها، فهل نقول إن الإسلام نصراني أو يهودي؟

ـ هل تعني ان علينا أن لا نستفيد من تجارب غيرنا، وأن نغلق الباب دون كل فكر حديث وتجربة حديثة؟

ـ أنا لم أقل هذا، بل قلت لك: إن مثل هذه الاستفادة هي من لوازم الحكم بالقسط. لكنَّ هنالك فرقاً بين أن ألتزم بديني، ثم أستفيد من تجارب الآخرين فأضع كل جزئية استفدتها في إطاري الإسلامي، وبين أن أستبدل بإطاري الإسلامي إطاراً آخر، ثم أضع فيه ما يناسبه مما هو في ديني. وهذا الأخير هو ما تدعونا إليه أنتم معاشر الداعين إلى الدمقراطية.

ـ نسيت أن أسألك: ما المبادئ الدمقراطية التي ترى انها تتوافق مع الإسلام؟

ـ منها: مبدأ حق الأمة في اختيار حكامها؛ فيكفيك فيه هذه القصة التي أوردها الإمام البخاري في صحيحه والتي سنجتزئ كلمات منها لضيق المجال. قال عبد الرحمن بن عوف لابن عباس وهم في منى: «لو رأيت رجلاً أتى أميرَ المؤمنين اليوم، فقال: يا أمير المؤمنين! هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً؟ ... ... فغضب عمر، ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العشيةَ في الناس فمحذرهم من هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم (?) . .. ... .... ... ... من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تَغِرَّة (?) أن يُقْتَلا» (?) .

ومنها المبدأ المسمى بحكم القانون، فيكفيك فيه قول الله ـ تعالى ـ: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] ، وقوله ـ تعالى ـ: {فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152] .

وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها الناس! إنما ضل مَنْ كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد. وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها» (?) .

ومنها مبدا الإباحة الذي يسمى الآن بالحرية؛ فإن المبدأ الإسلامي يقول: إن الأصل في الأشياء الدنيوية هو الإباحة. فالإنسان يتحرك ويتكلم، ويأكل ويشرب، ويبيع ويشتري حتى يقول له الدين: لا تفعل كذا أو كذا. وإذا كان الإسلام قد جعل الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ أعظم مهمة يقوم بها بشر، وإذا كان قد جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الصفات المميزة للمسلم؛ فكيف لا يبيح له أن يعبر عن نفسه؟ لكنها حرية في إطار القِيَم والأحكام الإسلامية كما أن الحرية في البلاد الغربية الدمقراطية هي في إطار قيمهم وقوانينهم.

ومنها ما صار يسمى بالشفافية. هل رأيت دليلاً عليها أصدق من أننا ما نزال نعرف كل ما دار من كلام بين المسلمين في الشؤون العامة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم - وفي عهد خلفائه الراشدين، بل نعرف كثيراً مما دار حتى بعد تلك العهود؟ ألسنا نعرف ما دار في اجتماع المسلمين لاختيار خليفة للرسول -صلى الله عليه وسلم -؟ ألسنا نعرف ما دار بينهم في أمر قتال المرتدين؟ ألسنا نعرف كيفية اختيارهم للخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه؟

ـ إذا كان الأمر كذلك؛ فلماذا تخلَّف المسلمون في عصورنا هذه في هذه الأمور؟ ولماذا عمت بلادهم إلا قليلاً الحكومات الاستبدادية؟

ـ هذه قصة طويلة لعلنا نناقشها في مناسبة أخرى. أما الآن فيكفي أن أذكِّركم بأن الدين إنما هو هداية وتوجيه، وأوامر ونواه؛ فليس فيه هو نفسه ما يجبر الناس على تطبيق ما يؤمرون به. فإذا كان هنالك من خطأ فهو في الناس وليس في دين الله. ثم إذا كان الناس لم يلتزموا بهذه المبادئ وهم يعلمون أنها من دين الله؛ فهل تظن أنهم سيلتزمون بها لأنها أتتهم من الغرب؟ إنه لا بد من عمل لإصلاح الأمة لتتقبل هذه المبادئ وتضحي في سبيلها.

ـ نحن ندعو إلى الدمقراطية؛ لأن فيها من الآليات ما يحول دون هذا الانحراف؟

ـ كلاَّ، ليس فيها شيء مما تتوهم، بل إن مفكريها يعترفون بأن النظم لا تصلح إلا بصلاح الأمم. وما يقال عن الإسلام يقال أسوأ منه عن الدمقراطية؛ فليس فيها ما يجبر الناس على الالتزام بكل مقتضياتها، ولذلك فإن أسوأ دكتاتور عرفه الغرب إنما جاء بانتخابات حرة، أعني هتلر، كما أن كثيراً من الحكومات المنتخبة كانت حكومات فاسدة. بل إن أكبر القرارات والسياسات الظالمة كانت في عصرنا هذا نتيجة قرارات دمقراطية لا شك في دمقراطيتها. فاستعمار الغربيين لكثير من بلدان العالم بما فيها البلدان الإسلامية كان نتيجة قرارات دمقراطية، وغزو أفغانستان ثم العراق وقتل الآلاف المؤلفة من الأبرياء وتخريب البلاد كان نتيجة قرارات دمقراطية لا يرتاب أحد في دمقراطيتها. فإذا كان ما حدث في العالم الإسلامي إنما يعزى إلى البشر لا إلى الدين؛ فإن كثيراً مما حدث في البلاد الغربية إنما كان شيئاً يأذن به المبدأ السياسي الذي يدينون به.

ـ كل هذا صحيح لا يماري فيه منصف. لكن أظنك تسلِّم معي بأنَّ هنالك شيئاً يُعزى إلى الدين نفسه.

ـ ما هو؟

ـ إن الإسلام يقر مبدأ اختيار الأمة لحاكمها، ولكنه لم يلزم المسلمين بطريقة معينة لاختيار الحاكم.

ـ وكذلك الامر في الدمقراطية. إنها إنما تقول إن الحكم للشعب، وهذا يقتضي أن يكون الشعب هو الذي يختار حكامه. لكن ليس فيها ما يقول إن الحكام أو النواب يجب أن يُختاروا بالطريقة الفلانية. ولذلك فإنهم يختلفون في ما ينهجون من وسائل لاختيار حكامهم.

ـ لكنها كلها تقوم على مبدأ الانتخابات.

ـ نعم لكن هذه هي الطريقة التي رأى الغربيون أنها مناسبة لهم في عصرهم هذا وفي ظروفهم هذه، وليست الطريقة التي تلزمهم بها الدمقراطية. والمسلمون يستطيعون أن يختاروا لأنفسهم من الوسائل ما يحقق مبدأ اختيارهم لحكامهم ذاكرين أن الحاكم في الإسلام إنما يُختار ليحكم بما أنزل الله لا برأي من انتخبوه، ملتزمين في ذلك بمبدأ الشورى كما أشار إلى ذلك الإمام ابن حجر في في كلمته التي نقلناها آنفاً. إن عدم تحديد الإسلام للطريقة التي يُختار بها الحاكم هي من محاسنه لا من نواقصه؛ لأن هذه الطرق تتأثر بالظروف والملابسات التي تتغير بتغير الزمان والمكان. ولذلك فإن الغربيين حتى مع اتفاقهم على مبدأ الانتخابات وجدوا أن للانتخابات صوراً شتى تختلف نتائج كل واحدة منها عن الأخرى، ولذلك اختلفوا في ما يتبنون منها. ولا داعي للدخول في تفاصيلها؛ فهي أمور معروفة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015