الربيع بن إبراهيم مليحي
تتولد بين الناس في خضم هذه الحياة علاقات مختلفة باختلاف الدوافع، والأغراض التي هي من ورائها؛ فهناك روابط يؤلف بينها النسب، وأخرى تجمع أطرافها المصاهرة، وثالثة يحكمها الجوار، وهكذا سائر العلاقات الأخرى التي تتكون نتيجة المصالح المشتركة، والمواقف المتبادلة، واللقاءات اليومية، والاجتماعات الدورية، كعلاقة زملاء العمل، وعلاقات التجار والشركاء، والأصدقاء، وغيرها؛ مما يجعل موضوع العلاقات، والإفادة منه في مجال الدعوة إلى الله محل اهتمام الباحثين، ومن هنا وُلدت هذه الدراسة الموجزة في هذا الموضوع المهم، فخرجت بتوفيق الله ـ تعالى ـ في سطور معدودة، رجاء أن يعقبها دراسات متميزة من المختصين في هذا المجال الحيوي الذي يأتي اليوم في مقدمة الأولويات. ورغم إيماني الكبير بأن الجميع يدرك خطورة هذا الموضوع، وحيويته إلا أننا
- أهمية العلاقات:
لا أظن أن أحداً من الناس يجادل في أهمية العلاقات الجيدة، ودورها الفعال في جميع مجالات الحياة على مستوى الشعوب والأفراد؛ ولذلك فالحديث عن أهمية العلاقات يعد من نافلة القول، إلا أنني أودّ أن أُذكّر القارئ الكريم ببعض الجوانب المهمة التي تبرز من خلالها أهمية العلاقات، وخاصة في مجالات الدعوة المختلفة، ومن أبرز هذه الجوانب ما يلي:
أولاً: الحماية والنصرة؛ حيث تُشكّل العلاقات الجيدة حماية للداعية تمكّنه من نشر دعوته الإصلاحية، وتبليغ رسالته، ولو بشكل محدود. ولعلك أخي القارئ تلمح شيئاً من هذا المعنى المهم من خلال تأملك في قوله ـ تعالى ـ: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91] .
قال العلاَّمة السعدي ـ رحمه الله ـ في معنى الآية: أي: ليس لك قَدْر في صدورنا ولا احترام في أنفسنا، وإنما احترمنا قبيلتك بتركنا إياك (?) ، ومما يزيد هذا الجانب وضوحاً ذلك الدور الفعال الذي لعبته علاقة النسب بين النبي -صلى الله عليه وسلم - وبين عمه أبي طالب؛ حيث أحاطته -صلى الله عليه وسلم - بنوع من الطمأنينة والأمن استطاع من خلاله أن ينشر دعوته المباركة، وأن يبذر نواة الخير في مكة وما حولها، ولست بحاجة إلى أن أدلل على جودة تلك العلاقة؛ لأن السيرة قد شهدت بذلك لأبي طالب من خلال مواقفه الجيدة في التصدي لمحاولات صناديد قريش الآثمة التي كانت تستهدف النبي -صلى الله عليه وسلم -، ودعوته المباركة، بل وسُطِّرت له تلك الأبيات التي تدل على شدة محبته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وقوة دفاعه عنه، والتي منها قوله:
واللهِ لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أُوُسَّدَ في التراب دفينا
فاصدعْ بأمرك ما عليك غضاضةٌ وابشر وقِرَّ بذاك منك عيونا (?)
فتأمل أخي القارئ! كيف تحوط العلاقات أصحابها ببعض الحماية التي تكون نافعة جداً، وبالذات في ظل الخلافات الشديدة التي قد تكون عائقاً كبيراً في طريق نشر الخير! وهنا أمر مهم جداً يحسن التنبيه إليه: وهو أن تلك العلاقة حظيت بنوع من التفاعل بين الطرفين. فالنبي -صلى الله عليه وسلم - يحرص على برّ عمه أبي طالب، ويتودد إليه بما لا يتعارض مع أمر الله، ويعرض عليه الدعوة إلى الخير، حتى في اللحظات الأخيرة من حياته، وكذا عمه أبو طالب يقابل ذلك المعروف بالحماية والعطف والحب والشفقة كما تقدم.
ثانياً: زيادة الإنتاج الدعوي؛ وذلك من خلال استثمار الأموال والطاقات والأوقات التي لا تُمنح لأحد في الغالب إلا بحسب العلاقات أو المصالح المشتركة، ومن هنا تبرز أهمية العلاقات، ويتحتم على الدعاة إلى الله السعي في بنائها، واستثمارها في مجالات الدعوة المختلفة، ولست بحاجة إلى الإسهاب في هذا الجانب؛ لأن جهد الواحد ليس كجهد الاثنين، وجهد الأفراد ليس كجهد المؤسسات؛ ولأن ما يُنجز من الأعمال الدعوية في ساعة ليس كما ينجز من الأعمال في ساعتين؛ ولأن ما يبذل من المال للدعوة من شخص واحد ليس كما يبذل من المال من شخصين، وهكذا يدرك الجميع أهمية العلاقات، وأنها بلا شك من أعظم روافد العمل الدعوي، وبالذات في هذا الزمن الذي تحتل فيه العلاقات مكانة مرموقة على مستوى الشعوب والأفراد؛ فهل يحرص الدعاة المصلحون على بناء العلاقات، واستثمارها في الدعوة إلى الله، أم يبقون نكرات في مجتمعاتهم، وأحيائهم، يتعللون بالخوف من بريق الشهرة، ويشعرون أن بروزهم ينافي كمال الإخلاص، وقد يفقدهم بعض المصالح الراجحة: كحفظ الأوقات، وطلب العلم، ونحو ذلك؟ مع أن هذا الكلام وإن كان حقاً إلا أن التوازن أمر مطلوب في أمور الحياة، وسر عظيم من أسرار النجاح.
- كيف نبني العلاقات؟
إن اللبنة الأم في بناء العلاقات هي الحب الصادق الذي هو في الحقيقة قاعدة صلبة تقوم عليها أروقة العلاقات، ومن أجل ذلك حث الإسلام على مد الجسور الموصلة إلى تلك القاعدة العظيمة، ليسود الوئام والوفاق، ويتم التعايش السليم الذي يليق بالإنسان في هذه الحياة، ومن هذه الجسور ما يلي:
1 ـ التعارف:
وهو أول مرحلة من مراحل بناء الحب؛ حيث يجدر بالحريص على بناء العلاقات أن يتعرف على من حوله، وأن يمد معهم جسوراً من العلاقة الجيدة التي تقود بإذن الله ـ تعالى ـ إلى احتواء أحبابه، واصطفائهم متعبداً بذلك الله تعالى، مستجيباً لندائه الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] .
يقول العلامة السعدي ـ رحمه الله ـ في معنى الآية: أي يخبر الله ـ تعالى ـ أنه خلق آدم من أصل واحد وجنس واحد، وكلهم من ذكر وأنثى، ويرجعون جميعهم إلى آدم وحواء، ولكن الله ـ تعالى ـ بث منهما رجالاً كثيراً ونساء، وفرّقهم، وجعلهم شعوباً وقبائل صغاراً وكباراً؛ وذلك لأجل أن يتعارفوا؛ فإنهم لو استقل كل واحد منهم بنفسه لم يحصل بذلك التعارف الذي يترتب عليه التناصر والتعاون والتوارث، والقيام بحقوق الأقارب، ولكن الله جعلهم شعوباً وقبائل؛ لأجل أن تحصل هذه الأمور وغيرها؛ مما يتوقف على التعارف ولحوق الأنساب (?) ، وبهذا تتضح أهمية التعارف البنّاء المثمر الذي يترتب عليه النفع في الدنيا والآخرة، ويجب أن يتسابق في مضماره الدعاة، جاعلين رسولهم إلى من يودون التعرف عليهم البسمة الصادقة، والاتصال الحار، ونحو ذلك من مفاتيح القلوب.
2 ـ الهدية:
وهي السحر الحلال الذي يفتح الباب المصمت، ويسل سخيمة القلب، ويذهب وَحَر الصدر، ويزرع الحُب الجمّ، وما أجمل قول الشاعر:
إن الهدية حلوة كالسحر تجتلب القلوبا
تدني البغيض من الهوى حتى تصيّره قريبا
وتعيد مضطغن العدا وة بعد نفرته حبيبا (?)
وأجمل من ذلك وأعظم قول الرسول -صلى الله عليه وسلم - في رواية أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: «تهادوا تحابوا» (?) ومما يزيد من أهمية الهدية أن أولي النُّهى يدركون الأثر العظيم الذي تحدثه الهدية، كما بيّن القرآن الكريم في قصة ملكة سبأ، كما قال ـ تعالى ـ على لسانها: {وَإنِّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35] ، قال قتادة: رحمها الله، ورضي عنها ما كان أعقلها في إسلامها، وفي شركها؛ علمت أن الهدية تقع موقعاً من الناس (?) . إن هذا الأثر العظيم للهدية لا يزال في حيز التنظير في واقع كثير من الدعاة، ولما يخرج بعد إلى حيز الممارسة، والتطبيق بشكل مثمر؛ فليحرص الدعاة على هذا المنهل العذب، والمورد الزلال الذي يتسلل إلى القلوب، فيعمرها بالحب بإذن الله.
3 ـ الحقوق الشرعية المتبادلة:
وهي منظومة من الحقوق الواجبة للمسلم على المسلم، أو المندوبة بينهم، سردها -صلى الله عليه وسلم - في رواية أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلّمْ عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمِّته، وإذا مرض فعُدْهُ، وإذا مات فاتبعه» (?) . إن هذه الحقوق العظيمة، والآداب الرائعة التي تبدأ بالسلام من أول لقاء في هذه الحياة، وتنتهي بالوداع الذي لا لقاء بعده إلا في الآخرة لهي في الحقيقة جسور عظيمة، تزرع المحبة في القلوب، وتبني أروع العلاقات الأخوية المستمرة بإذن الله.
ومن هنا فإن الدعاة هم أحوج الناس إلى إحياء هذه الآداب الرائعة، والتفاعل معها، وإخراجها من حيز المقابلة الميتة، والبسمة الباهتة، والنمطية المملة (الروتين) إلى حيز الأخوة الصادقة، والتواصل الحي الذي يدفعه الصدق، والإخلاص والحرص على نفع الآخرين وهدايتهم. يقول الدكتور النغميشي: «إن حسن التجاوب، وحرارة الاتصال بين طرفين، والتفاعل بينهما يعتمد اعتماداً كبيراً على مفهوم التبادل في العلاقات؛ فعلى قدر ما يبذل كل طرف من جهده، وماله ومشاعره نحو الطرف الآخر تقوم العلاقة، وتتصاعد إلى أعلى» (?) .
4 ـ الخدمة وقضاء الحوائج:
إذا كانت الجسور التي سبق الحديث عنها تشكّل أهمية لا بأس بها في بناء العلاقات المثمرة فإن خدمة الناس، وقضاء حوائجهم هو الجسر الأعظم الذي يلتقي مع تلك الجسور، ويشكل معها قوة هائلة في بناء العلاقات، وسر ذلك يعود إلى طبيعة النفس البشرية التي فُطرت على محبة من يحسن إليها ويقوم بشؤونها ومصالحها، ومن ثم فهي تنظر إليه نظر الإجلال والتعظيم والحب، وهذه النظرة الفطرية هي في الحقيقة ناتجة من ضعف الإنسان، وحاجته المستمرة التي لا تنتهي في هذه الحياة إلا بوفاته؛ ولذلك فليس غريباً أن يهتم الناس بمصالحهم الدنيوية، وتأمين الحياة الكريمة التي لا تصلح حياتهم إلا بها، ولا شك أن الإسلام يراعي هذه النظرة الفطرية ويهتم بها، ويوجه الإنسان إلى الاهتمام بهذا الجانب المهم من خلال المنهج القويم الذي سلكه رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؛ حيث كان يدعو ربه بصلاح دنياه، كما في دعائه الثابت في صحيح مسلم: «اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي» (?) . ومن تأمل سيرته -صلى الله عليه وسلم - رأى فيها سمة المبادرة إلى الاهتمام بشؤون الناس، وتلمّس حاجاتهم، كما قالت خديجة ـ رضي الله عنها ـ في وصفه -صلى الله عليه وسلم -: «إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق» (?) .
وهكذا نجده -صلى الله عليه وسلم - من خلال سيرته العطرة يشفع لمغيث عند زوجته بريرة من أجل أن يعود إليها؛ فتقول: يا رسول الله! أتأمرني بذلك؟ فيقول: «لا، إنما أنا شافع» (?) ، وها هو -صلى الله عليه وسلم - يحث أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ على البذل والصدقة، عندما رأى قوماً من مضر مجتابي النمار، وقد بدت معالم البؤس والفاقة على وجوههم (?) ، ومن تتبع مواقفه -صلى الله عليه وسلم - في هذا الجانب المهم رأى عجباً، وأدرك سر الحب العظيم لشخصه الكريم -صلى الله عليه وسلم - من أصحابه رضي الله عنهم أجمعين.
وعلى هذا المنهج القويم تربى السلف الصالح من الصحابة والتابعين، رضي الله عنهم؛ فقد ذكر ابن قتيبة الدينوري ـ رحمه الله ـ جملة من أخبارهم في هذا الجانب؛ فهذا ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ يبحر في عالم المروءات والقيم عندما يقول: «ثلاثة لا أكافئهم ... » ثم ذكرهم، وقال: «أما الرابع فلا يكافئه عني إلا الله عز وجل؛ قيل: ومن هو؟ قال: رجل نزل به أمر، فبات ليلته يفكر بمن ينزله، ثم رآني أهلاً لحاجته، فأنزلها بي» (?) . وقيل لابن المنكدر: أي الأعمال أفضل؟ قال: إدخال السرور على المؤمن، فقيل: أي الدنيا أحب إليك؟ قال: الإفضال على الإخوان (?) ، وقال: الحسن ـ رضي الله عنه ـ: لأن أقضي حاجة لأخ أحبُّ إليَّ من أن أعتكف سنة (?) . وهكذا يبرز الاهتمام بهذا الجانب المهم في حياة أولئك الأفذاذ جيلاً بعد جيل، حتى ظهر أثر ذلك في أدبهم العربي الرفيع، وأصبح المدح بخدمة الناس، ومواساتهم من أغراض الشعر البارزة، ولا أدل على ذلك من قول الشاعر:
بدا حين أثرى بإخوانه ففكك عنهم شباة العدم
وذكره الحزم غب الأمور فبادر قبل انتقال النعم
- أهمية نفع الناس:
إن خدمة الناس، والسعي في قضاء حوائجهم جسر من المعروف محفوف بالمتاعب والتضحيات، ولكنه يوصل بإذن الله ـ تعالى ـ إلى أرقى العلاقات المثمرة المؤدية إلى السيادة؛ حيث لا شك أن خادم القوم سيدهم، وما أحسن قول الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
ومن هنا فإن على الدعاة اليوم أن يتسابقوا إلى نفع الناس، ودفع المكروه عنهم، وخاصة في هذا الزمن الذي كثر فيه الكلام، وقلّ فيه العمل، وظهر فيه الشح والأثرة، وتعانق فيه الفقر والجهل؛ فما أحوج الناس إلى الكلمة الحانية والمواساة الكريمة، والخدمة الجيدة، والنفع المتعدي، وبالذات في هذا العصر الذي ملَّ فيه الناس من جعجعة بلا طحين وعلقت آمالاً كبيرة على الدعاة والمصلحين. وهذان بيتان من الشعر، هما في الحقيقة حكمة عظيمة، خرجت من أفواه الأولين لتقول لنا جميعاً:
وليس فتى الفتيان من راح واغتدى لشرب صبوح أو لشرب غبوقِ
ولكن فتى الفتيان من راح واغتدى لضر عدو أو لنفع صديقِ
- ثمار العلاقات الاجتماعية:
في ختام هذه المقالة يحسن التنبيه إلى بعض القضايا المهمة التي تساهم بمجموعها في إخراج ملخّص للثمرة المرجوة من هذه الدراسة:
القضية الأولى: يجب أن ندرك أهمية بناء العلاقات الاجتماعية. يقول الدكتور إبراهيم القعيد: (إن العلاقات الإنسانية في بيئة العمل هي المادة اللزجة التي تحرك آلة العمل والإنجاز، وكلما كانت هذه المادة عالية اللزوجة أدت إلى تحقيق نتائج باهرة، وأوصلت الإنسان إلى قمم من الأداء والرضى الوظيفي والراحة النفسية، والعكس صحيح تماماً) (?) . وهذا الكلام النفيس ليس حكراً على الأعمال الوظيفية فقط، بل ينبغي أن يوظف في مجالات الدعوة المختلفة، ومنها الأعمال الوظيفية ولا شك.
القضية الثانية: يجب أن نستثمر هذه العلاقات المختلفة في مجالات الدعوة المتعددة؛ حيث يمكننا أن نوظف علاقاتنا وعلاقات الآخرين أيضاً، وذلك من خلال توجيه الأموال والأوقات، والطاقات والأفكار، وغير ذلك، حتى إننا لنطمع من خلال العلاقات في حنجرة المغني أن تصدح بالأذان، وتتغنى بالقرآن، وفي قافية الشاعر أن تجسد معاناة المسلمين، وتصور مآسي المنكوبين، وتواسي جراحاتهم، كما نطمح بريشة الفنان أن ترسم لوحة من التفاؤل تبشّر بالنصر، وتفتح باب الأمل، وفي قلم الصحفي أن يسطر الحق في الزوايا والأعمدة التي طالما سُطِّر فيها الباطل، وفي سلطة رجل الأمن أن يأخذ بها على يد السفيه، ولست أبالغ إذا قلت: إننا نطمع من خلال العلاقات أن يتحول الضعف إلى قوة، والبغض إلى حب، والتشاؤم إلى تفاؤل، والهزيمة إلى نصر، والتفرق إلى وحدة، وهكذا ينبغي أن تستثمر العلاقات دون أن تقف بها عند حد معين، ما لم تصل إلى مداهنة مزرية، أو شفاعة محرمة، ونحو ذلك.
القضية الثالثة: يجب أن ندرك أننا قد ننجح في بناء العلاقات، ولكن لا ننجح في استثمارها بالشكل المطلوب، وهذا يعني هدر طاقات، وزيادة أعباء، واستهلاك أموال وأوقات دون مقابل يذكر؛ مما يجعل العلاقات تعمل بالحدّ السالب فقط، وهو الأمر الذي يؤدي إلى الفتور والضعف، ومن أجل ذلك ينبغي أن نعي جيداً أن سر النجاح في العلاقات يكمن في مدى استثمارها، والمحافظة على عطائها بالقوة نفسها؛ لأن من المسلّمات البدهية أن الوصول إلى القمة مهم، والبقاء هناك أهم، ومعرفة أسباب البقاء في القمة هو سر النجاح بإذن الله تعالى.