أ. د. محمد يحيى
وسط دعاوى كثيرة من الغرب تبشر بقيم التسامح والتعددية في الرأي، وسعة الصدر لتقبل النقد، وهي دعاوى موجهة للمسلمين، وبخاصة المتهمين مسبقاً بالتعصب وعدم تقبل الرأي الآخر ـ وسط ذلك كله نجد في الكتابات الصحفية الأمريكية تعبيراً خطيراً عن رفض الأمريكيين لهذه القيم بالذات وتبرمهم بها.
بل سعيهم إلى القضاء عليها ومحاربة من يوجه النقد لأمريكا حتى ولو لم يكن معه سوى القلم يسجل به احتجاجه. ففي عدد مايو ـ يونيو من المجلة المعروفة فورين أفيرز (الشؤون الخارجية) يكتب موسى نعيم محرر المجلة مقالة تحت عنوان: (مخاطر العداء الخفيف لأمريكا) ويعمد في بدايتها إلى التفرقة بين نوعين من العداء لأمريكا أولهما: هو النوع القاتل المتمثل في أعمال العنف (أو الإرهاب) الناجمة عن كراهة القيم والسياسات الأمريكية والرغبة في إيذاء ذلك البلد وشعبه، والثاني: هو العداء الخفيف (وهو يستعمل هذه الكلمة في إيجاد لبعض أنواع الأطعمة التي تقل فيها نسبة السكر أو الدهون) الذي يعبّر عن الاحتجاج الشعبي في الشوارع والإعلام ضد أمريكا دون الوصول إلى الرغبة في تدميرها.
ويرى الكاتب أنه بينما يقلل بعض الأمريكيين من خطر العداء الخفيف لأمريكا باعتباره لا ينتج أعمالاً ملموسة مدمرة، ولأن دعاته يقولون في الوقت نفسه أنهم لا يكرهون أمريكا كبلد، بل يرفضون وينتقدون سياساتها إلا أن لهذا النوع من العداء لأمريكا مخاطرة حسب قوله، ويمضي إلى القول: «إلا أن أصحاب العداء الخفيف لأمريكا مخطئون عندما يفترضون أن لا ثمن لإدانتهم العامة ولا سيما أن هجماتهم الحادة ضد سياسة الولايات المتحدة تساعد على إشعال نار العداوات الأعمق والأشمل، وعلى إثارة الشكوك ضد الولايات المتحدة وحكومتها وشعبها. ولسوء الحظ أصبح من السهل جداً على من يختلفون مع سياسات أمريكية محددة أن يصدقوا، وينشروا أسوأ الاقتراحات الممكنة حول الطبيعة السيئة والدوافع الشريرة والأصوات الخفية للولايات المتحدة» .
ويستطرد الكاتب قائلاً: «إن الذين يسهمون في العداء الخفيف لأمريكا ويروجونه حتى وهم يشاطرون المبادئ والقيم التي تمثلها الولايات المتحدة يدمرون من قدرة البلاد على الدفاع عن تلك المبادئ في الخارج؛ فالنفوذ الدولي يتطلب وجود القوة، لكنه يعتمد كذلك على المشروعية، وتنبثق تلك المشروعية من تقبل الآخرين الذين يسمحون باستعمال ذلك النفوذ، بل يرحبون به. وفي نهاية المطاف فإن رفض أصحاب العداء الخفيف للولايات المتحدة بشكل تلقائي لتصرفات الولايات المتحدة الدولية هو على قدر من السوء بالنسبة للعالم كمثل إعطاء تلك القوة العظمى شيكاً على بياض بأن تمارس قوتها دون القيود التي يفرضها المجتمع الدولي، وبالإضافة إلى ذلك فإن حدة الجرعة المعادية لأمريكا عالمياً تزعزع ـ أيضاً ـ دعم الشعب الأمريكي لالتزامات بلادهم الدولية، وقد لا يكون الالتزام الأمريكي الدولي أفضل وصفة دائماً لحل المشكلات الدولية؛ لكنه في الغالب الفرصة الوحيدة الموجودة. ويعاني الكثير من الأمريكيين بالفعل من صعوبة تفهُّم أن يحملوا عبء كونهم رجل شرطة العالم، ومع ذلك لا يتلقون الاحترام في المقابل، بل ربما يساعد العداء الخفيف لأمريكا السائد في بلدان عديدة على دعم اتجاه دعاة العزلة في أمريكا» .
وبعد أن يوجه محرر مجلة (الشؤون الخارجية) اللوم إلى إدارة الرئيس بوش؛ لأنها لا تأخذ العداء الخفيف لأمريكا ـ حسب تعريفه له ـ على محمل الجدية وتعتبره مجرد (موضة) لا ضرر منها؛ لأن المحتجين في غالبهم يأخذون بالعادات الأمريكية في أنماط الملبس والمأكل والمشرب. ويمضي في تحذيره بالقول: «وعلى الجانب الآخر فإن رئيس الوزراء البريطاني (توني بلير) ورئيس الوزراء الأسباني (خوزيه ماريا أسنار) ورئيس الوزراء الإيطالي (سيلفيو بيرلسكوني) يستطيعون بدقة تحديد تكاليف العداء الخفيف لأمريكا الذي يسود في مجتمعاتهم. إن العداء الخفيف لأمريكا قد رفع من المخاطر الشعبية السياسية لدعمهم لبوش الذي سوف يدرك بدوره وبسرعة أن كلامه الشديد اللهجة، وتصرفاته الأحادية تنطوي على مخاطر وتكلفة ضخمة. صحيح أن الولايات المتحدة استطاعت غزو العراق دون موافقة الأمم المتحدة، لكن عسكرييها بحاجة إلى القواعد في البلدان الأخرى، كما تحتاج أجهزة مكافحة الإرهاب فيها إلى مساعدة استخبارات الدول الأخرى بما فيها حتى الفرنسية، ويحتاج مراقبوها الحاليون إلى العمل الوثيق مع نظراتهم بالخارج، كما أن موظفيها الذين يبعثون بالدولة في أفغانستان والعراق يحتاجون إلى مساعدة وأموال الدول الأخرى. إن الولايات المتحدة سوف تكتشف بسرعة أنها تعتمد على البنية التحتية للدول الأخرى بقدر ما تعتمد على الكفاءة الفتاكة لقواتها المسلحة في تحقيق أهدافها الدولية، وفي المقابل فإن تلك النية الحسنة تعتمد بشدة على مزاج وتوجهات القوى الشعبية في الداخل وفي شتى أنحاء العالم؛ ولهذا السبب فإن الصعود العالمي لتيار العداء الخفيف لأمريكا هو تيار خطير، ولا يتوقف خطره على الأمريكان وحدهم» .
وخطورة الفكر الذي يعبِّر الكاتب عنه هنا هو ذلك التسويغ لمواقف أمريكا، والتحذير مما يسميه بالعداء الخفيف لأمريكا، وهو في حقيقته مجرد تعبير سلمي عن الاحتجاج ضد سياسات الولايات المتحدة، ونجده حتى وهو يتفق مع عدم خطورة هذا التوجه بشكل مباشر يحذر منه، ويدعو ضمناً لمواجهته؛ لأنه ينطوي على مصادمة الأفعال وتصرفات أمريكا على الساحة الدولية التي يعترف هو وفي صلب مقاله أنها كثيراً ما تكون أحادية ومصادمة لقرارات الأمم المتحدة وآراء المجتمع الدولي، وهذا التوجه ينطوي على دعوة لمحاربة أشكال الاحتجاج السلمي وبالتعبير على سياسات أمريكا بعد معاملتها على أنها ضرب في ضروب العداء لأمريكا واعتبارها تمثل خطراً.