أ. د. جعفر شيخ إدريس
المواطنة انتساب جغرافي، والهوية انتساب ثقافي. المواطنة انتساب إلى أرض معينة، والهوية انتساب إلى معتقدات وقيم ومعايير معينة.
فما العلاقة بينهما؟ نذكر فيما يلي أمثلة للعلاقات بينهما، وللمشكلات التي تثيرها هذه العلاقات، فنقول:
- الهوية لازمة للمواطنة؛ لأن المواطنين لا بد لهم من نظام سياسي، وعلاقات اقتصادية واجتماعية، وقوانين تضبط هذه العلاقات. وكل هذا إنما يبنى على معتقدات وقيم ومعايير؛ أي على هوية معينة.
- ليس الوطن الذي ينتسب إليه المواطنون هو الذي يحدد لهم نوع الهوية التي إليها ينتسبون. فالوطن الواحد قد تتعاقب عليه نظم مختلفة بل ومتناقضة. فالروس كانوا مواطنين روساً، حين كانوا ينتمون إلى الاتحاد السوفييتي، وحين كان نظامهم الاقتصادي اشتراكياً، وكان نظام حكمهم دكتاتورياً، وهم الآن مواطنون روس بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وبعد حلول الرأسمالية محل الاشتراكية، والديمقراطية محل الدكتاتورية.
- فالهوية إذن هي النظارة التي يرى من خلالها المواطنون ما هو مناسب أو غير مناسب، صالح أو غير صالح لوطنهم. فإذا اختلفت النظارات اختلف تقويم الناظرين إلى ما ينظرون إليه، وإن اتفقوا على الحقائق الحسية.
- وإذا صح هذا فإن المواطنين مهما كان إخلاصهم لوطنهم وحرصهم على مصلحته لا يمكن أن ينظروا إلى تلك المصلحة باعتبارهم مواطنين فقط، بل لا بد أن ينظروا إليها بحسب هوياتهم. لكن بعض الناس يتوهمون أنه بإمكان المواطنين في بلد ما أن يحلوا مشكلاتهم بمجرد انتمائهم الوطني. فيقولون مثلاً: لماذا لا نجلس باعتبارنا سودانيين فقط أو سوريين فقط، أو يمنيين، أو خليجيين، أو مصريين، وننسى انتماءاتنا الدينية والأيديولوجية لنحل مشكلة من مشكلاتنا الاقتصادية؟ نعم هنالك مشكلات يمكن أن يحلها الناس حتى باعتبارهم بشراً، ودعك من أن يكونوا مواطني دولة من الدول، ولكن ما كل المشكلات كذلك، وإلا لما انتمى الناس أصلاً إلى ثقافة من الثقافات، بل نظروا إلى كل مشكلة باعتبارهم بشراً لا غير.
خذ مثلاً مشكلة (مرض الإيدز) : إن الناس سيتفقون باعتبارهم بشراً وبغض النظر عن انتماءاتهم الوطنية بأنه شيء ضار؛ لأنه خطر على حياتهم وحياة أولادهم، وهم باعتبارهم بشراً حريصون على الحياة. هل يتفقون على طريقة معالجته؟ ليس بالضرورة؛ فقد يقول المتدينون ـ مسلمين كانوا أو يهوداً أو نصارى ـ إن العلاج الحاسم إنما يكون بالكف عن أية ممارسة جنسية قبل الزواج. وقد يذهب المسلم إلى القول: إن هذا يستدعي فصل الرجال عن النساء، وإلزامهن بزي معين لا يكون مثيراً للرجال. ولكن أناساً من غير المتدينين قد يرون في مثل هذه الاقتراحات حداً من الحرية، وهي في نظرهم أمر ضروري ضرورة العفة التي ينشدها المتدينون؛ ولذلك يرون الاكتفاء بالبحث عن علاج طبي لا سلوكي.
وخذ قضية أخرى يواجهها كل البشر: (كيف تكون العلاقة الجنسية بينهم؟) هل تكون إباحية يقضي كل فرد منهم حاجته مع من شاء كيف شاء؟ هل يتزوجون؟ وهل يكون الزواج بواحدة أم أكثر؟ وهل هنالك حد لهذا الأكثر؟ هذه قضايا لا يحلها الناس بمجرد انتمائهم الوطني؛ لأنه ليس في هذا الانتماء ما يهديهم إلى خيار من هذه الخيارات، أو يفرضه عليهم.
لا بد للمواطنين إذن من هوية، من ثقافة تكون هي المنظار الذي ينظرون به إلى الواقع، والمعيار الذي يقترحون به الحلول لمشكلاته.
ولكن ماذا إذا كان المواطنون في البلد الواحد منقسمين إلى ثقافات، وهويات مختلفة؟ هنالك عدة احتمالات:
- أحسنها من حيث الاستقرار وعدم التنازع: هو أن تكون إحدى هوياتهم هذه هي الغالبة من حيث عدد المنتسبين إليها. قيّدتُ الحسن بالاستقرار السياسي، وعدم التنازع ولم أقُلِ التطور العلمي، أو الاقتصادي، أو العسكري؛ لأن الهوية التي استقر أمرهم عليها قد لا تكون بطبيعتها مساعدة على ذلك.
- وإذا لم تكن هنالك هوية غالبة بهذا المعنى فقد يكون المنتمون إلى إحدى الهويات أقوى من غيرهم؛ فيفرضون على البلد هويتهم، وينظمون أمره على أساسها. هذا سيكون بالطبع على حساب بعض الحريات، لكن هذه الأدلجة المفروضة بالقوة قد تكون مساعدة على تطور البلاد اقتصادياً وعلمياً وعسكرياً، كما كان الحال في الاتحاد السوفييتي، وكما هو الآن في الصين، وكوريا الشمالية.
- وإذا لم يحدث هذا ولا ذاك، وكانت الهويات والثقافات المتعددة متساوية في قوتها فأمام مواطنيها خيارات:
- فإما أن يحلُّوا نزاعهم بتقسيم وطنهم، كما حدث للهند حين خرجت منها باكستان، ثم خرجت بنجلادش من باكستان، وكما خرجت أرتريا من أثيوبيا، وكما انقسمت شيكوسلوفاكيا، ويوشك أن تنقسم الآن أكرانيا.
- وإما أن يبحثوا عن صيغة يتعايشون بها رغم اختلافاتهم؛ فماذا يا ترى يمكن أن تكون هذه الصيغة؟
يرى بعضهم أن أحسن طريقة لتعايش مثل هذه الهويات المختلفة: هو أن تختار نظاماً علمانياً محايداً بينها، وديمقراطياً يعطى كل واحد منها حق الوصول إلى السلطة، إذا ما اختارته الأغلبية.
لكن المشكلة أنه لا يوجد نظام للحكم محايد بين هويات مختلفة اختلافاً أساسياً، ويستحيل عقلاً أن يوجد. لا يمكن أن يكون النظام الاقتصادي في البلد الواحد رأسمالياً واشتراكياً، ولا يمكن أن يكون اقتصاد السوق رأسمالياً يبيح الربا، وإسلامياً يحرمه ويفرض الزكاة، لا يمكن أن يكون النظام السياسي إسلامياً يلتزم بشرع الله باعتبار أن الحكم التشريعي له سبحانه، وديمقراطياً يعطي هذا الحق للبشر يشرعون ما شاؤوا؛ فالعلمانية هي نفسها إذن هوية من الهويات، فأنّى تكون محايدة بينها؟
ومن المتفق عليه بين منظِّري الديمقراطية من الغربيين، ودعك من عوام السياسيين من أمثال بوش: أن الديمقراطية لا تصلح ولا تكون سبباً للاستقرار إلا في إطار متفق عليه بين معظم المواطنين، ثم تكون خلافاتهم الثقافية خلافات فرعية داخل هذا الإطار العام الجامع. وأما إذا كانت الخلافات أساسية، وحول الإطار نفسه فإن الديمقراطية لن تحل إشكالاً، ولن تحقق استقراراً؛ لأنه لا أحد من المتنازعين سيقبل حلاً لمجرد أن الأغلبية التي يختلف معها قالت به.
ما الحل إذن؟ الحل في مثل هذه الحال: هو أن يجتمع المختلفون، ويبدؤوا بتقرير المبدأ الذي هم متفقون عليه: أنه من مصلحتهم جميعاً أن يبقوا في وطن واحد، ثم ينظروا إلى الكيفية التي يحققون بها هذا الهدف، من غير تقيد سابق بديمقراطية، ولا علمانية، ولا غير ذلك من النظم والأيديولوجيات الشائعة، بل يقولون: هذه أوضاعنا، وهذه خلافاتنا؛ فلنبحث عن حل أصيل لها ومتناسب معها، وهو حل يستلزم ـ ولا بد ـ قدراً من التنازلات والمساومات، وقد يكون شيئاً جديداً يستفيد من الدين ومن التجربة الديمقراطية، أو العلمانية، أو غيرها، ولا يأخذ أياً منها بكامله. هذا ما حاول فعله واضعو الدستور الأمريكي؛ فبالرغم من أن الولايات المتحدة تعد اليوم مثالاً للديمقراطية؛ إلا أن الذين وضعوا دستورها لم يكونوا ملتزمين بتجربة ديمقراطية معينة، ولا بمبادئ ديمقراطية معينة، بل كان بعضهم يخشى مما أسموه بدكتاتورية الأغلبية التي قد تؤدي إليها الديمقراطية. ولذلك جاء دستورهم شيئاً جديداً لا يمكن أن يوصف بالديمقراطي إذا ما قيس بالمبادئ الديمقراطية الصارمة. من ذلك أنه من الممكن ـ بل حدث ـ أن يكون الرئيس الفائز في الانتخابات أقل أصواتاً من منافسه. ومنها فكرة الكليات الانتخابية التي لا تقيد أعضاءها برأي ولايتهم، بل تجيز لكل واحد منهم أن يصوِّت لمن يراه صالحاً من المرشحين للرئاسة بغض النظر عن الأصوات التي نالها في الولاية.
لكن حتى هذا لم يحل الإشكال حلاً كاملاً؛ فما زال الشعب الأمريكي منقسماً في قضية العلاقة بين الدين والدولة، وما زالت الكتب فيها تكتب، والبحوث تُنشر، والقضايا ترفع، وهذا يعني أن التعددية ليست شيئاً حسناً في ذاته وبإطلاق. التعددية تكون حسنة إذا ما كانت إيجابية، وهي لا تكون كذلك إلا إذا كانت ضمن إطار ثقافي جامع؛ أي ضمن هوية جامعة. فتعددية الهويات المختلفة المتناقضة: هي مشكلة يجب أن تعالج وليست واقعاً يحافظ عليه، أو يتباهى به، كما يفعل كثير من الناس الآن في السودان وغيره؛ وذلك لأنه لا يسهل مع مثل هذه التعددية تحقيق استقرار سياسي، ولا يسهل معها من ثَمَّ تطور اقتصادي، أو علمي أو تقني. هذا هو المتوقع عقلاً، وهو الذي تدل عليه تجارب الأمم قديمها وحديثها.
قد يقال: لكن هذه هي الولايات المتحدة تتباهى بأنها أمة واحدة رغم أنها تكونت من مواطنين من أجناس متعددة، وديانات متباينة، ولغات مختلفة، وثقافات متناقضة. نعم! لكنها لم تصر أمة واحدة إلا حين صهرت هذه المكونات كلها في بوتقة، وأخرجت منها شيئاً واحداً متجانساً. يمكن لذلك أن نقول: إن التعدديات نوعان: تعددية صحن السَلَطة الذي يحتفظ كل مكون من مكوناته بلونه وطعمه وملمسه: فهذا طماطم، وهذا جرجير، وهذا عجور، وهكذا. وتعددية القِدر الذي توضع فيه كل المكونات، من لحم، وخضار، وملح، وبهارات لتطبخ إداماً واحداً ذا طعم واحد، وربما لون واحد. هذا الأخير هو الذي يقال: إن الولايات االمتحدة فعلته، إنها كما يحلو لهم أن يقولوا بوتقة melting pot جعلت من مكوناتها أمة أمريكية واحدة. يقول كاتب أمريكي: لقد كانت الأمركة عملية انسجام قسري كانت الولايات المتحدة فيها بمثابة البوتقة لا النسيج ذي الألوان والصور المختلفة. لم يكن ينظر إلى المجتمع الأمريكي على أنه قطعة من روسيا؛ قطعة من إيطاليا، وقطعة من بولندا مزج بعضها ببعض، كلا! بل إن القوميات المختلفة جُعلت أمريكية كما ينقى المعدن الخام ليصير ذهباً خالصاً. الأمركة نقتهم وأزالت خبثهم. إن أصحاب موكب حركة البوتقة لم يكونوا يحتفلون بالتسامح، ولكن بالخضوع لمفهوم ضيق للقومية الأمريكية، بتصوير الأجانب بأناس في أزياء غريبة، ينغمسون في قدر كبير، ويخرجون منه نقيين بهندام جميل، ولهجة أمريكية خالصة، ومنظر أمريكي؛ أي أمريكان إنجليز (?) .
كيف يقال: إن أمريكا تؤمن بالتعددية، وهي زعيمة الغرب الذي ما زال يسعى لقتل الثقافات الأخرى، ولأن تكون ثقافته هي المهيمنة على العالم؟ اقرؤوا في هذا ـ إن شئتم ـ كتاب (إدوارد سعيد) الاستعمار الثقافي (Cultural Imperialism) ، بل إنهم ليعدون ثقافتهم جزءاً من قوتهم التي يسمونها بالقوة الناعمة أو اللينة soft power في تقرير جديد للجنة استشارية من لجان الكونغرس فيه تقويم لسياسة الحكومة الأمريكية، ونقد لها جاء قولهم: كنا نتحدث حتى الآن على افتراض أن الهوية شأن داخلي في وطن من الأوطان، لكن الواقع ليس كذلك. فالعلاقة بين الوطن والهوية لا تكاد تكون علاقة مطابقة. وهذا يسبب مشكلات كثيرة منها:
- أنه كما أن تعدد الهويات في الوطن الواحد قد يؤدي إلى تمزيقه؛ فإن اتحاد الهويات في أوطان متعددة قد يؤدي إلى توسيع للحدود الوطنية، بضمّ بعض الأقطار إلى بعض، أو بالتعاون الوثيق بينها الذي يجعلها كالوطن الواحد، كما هو الحال الآن في الاتحاد الأوروبي.
- لكن هذا التوحيد أو التمزيق لا يحدث في الغالب إلا بطريقة عنيفة. وفي هذا يقول المؤرخ الإنجليزي (لويس ناميير) : «إن الدول لا تتوحد أو تُحطم، والحدود لا تُمحى أو يعاد رسمها بالحجج وصوت الأغلبية. إن الأمم تحرر وتتوحد أو تمزق بالحديد والدم، لا بالتطبيق الكريم لمبدأ الحرية» .
- بما أن مصالح المواطنين في أرض معينة لا تكاد تكون محصورة في حدود أرضهم، ولا سيما في عصرنا هذا الذي تشابكت فيه المصالح بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ العالم؛ فإن مفهوم الدولة الوطنية بدأ يتضاءل، وتحل محله تحالفات أو اتحادات بين دول متعددة. ولكن هذه التحالفات لا تنجح إلا إذا كانت مبنية على هويات مشتركة. خير مثال على ذلك (الاتحاد الأوروبي) الذي لم يجد مشكلة في ضم كل قطر ذي هوية أوروبية نوعاً ما، لكنه يتلكأ في قبول (تركيا) ذات الهوية المختلفة، بالرغم من أنها دولة علمانية، وبالرغم من أنها غيرت في كثير من قوانينها لتوافق البلاد الأوروبية.
- بما أن التطور الهائل في وسائل الاتصال جعل من كرتنا الأرضية ما يشبه الوطن الواحد فقد ازداد حجم المشكلات التي تهم الناس باعتبارهم بشراً، وبغض النظر عن أوطانهم وهوياتهم. من أوضح الأمثلة على ذلك مشكلة (الخروق) التي بدأت تحدث في طبقة الأوزون، والتي تسببت في ارتفاع درجة الحرارة في الكرة الأرضية. وقد كان من نتائج كثرة ازدياد المشكلات المشتركة بين الناس أن كثرت المنظمات العالمية كثرة ليس لها مثيل في تاريخ البشرية.
- لكن بعض الدول القوية صارت تحاول إخضاع البشرية كلها إلى قيم نابعة من هويتها، أو خادمة لمصالحها؛ بحجة أنها قضايا إنسانية عامة لا ثقافية خاصة. ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما سمي بـ (الإعلان العام لحقوق الإنسان) الذي يقول كثير من نقاده حتى من الغربيين: إن كثيراً من بنوده لا ينطبق عليه وصف الحق الإنساني، والذي يرى بعضهم أن كثيراً منه تعبير عن ثقافة معينة هي الثقافة الغربية. بل إن بعض الجهات المؤثرة صارت تستغل الأمم المتحدة نفسها لإلزام الأمم كلها بقرارات نابعة من قيمها، ومنها قضية المرأة.
نخلص من هذا كله إلى أنه على المسلمين في بلد: كالسودان أن لا يُخدَعوا بما يقول لهم مثلاً الزعيم (قرنق) من أن علينا جميعاً أن نجتمع باعتبارنا سودانيين فحسب، وأن نجعل الدين أمراً شخصياً؛ لأن الأديان تفرقنا والوطن يجمعنا. إن قرنق لا يتحدث هنا باعتباره سودانياً فحسب، بل ولا باعتباره جنوبياً فحسب، وإنما يتحدث باسم الحضارة الغربية وقيمها.
إن تخلّي المسلمين عن دينهم في حياتهم العامة ليس استمساكاً بوطنية لا هوية فيها كما يدعي (قرنق) ، وإنما هو إحلال للهوية الغربية محل الهوية الإسلامية.