محمد إبراهيم مبروك
المنهج المعتاد في نقد النصرانية الثالوثية هو ذكر عقائدها ومفاهيمها، ونقدها نقداً عقليّاً في الأساس، ولكنني سأتخذ هنا منهجاً آخر: هو إثبات فقدان هذه النصرانية الثالوثية للمصداقية التاريخية، وفقدان قبولها العقلي، بل الإيماني لدى أهلها من الغربيين على وجه الخصوص. وحقاً أن المنهجين غير متناقضين ويكمل أحدهما الآخر، ولكن نظراً لضيق المساحة هنا فإنني سأكتفي بالمنهج المذكور إلى أن يتيسر لنا المجال للحديث عن الموضوع بشكل أشمل في موضع آخر.
ذكرت في دراسة سابقة لي في البيان ـ حقيقة التنوير: عدد (204) ـ أن النصرانية الثالوثية قد تكون هي المعضلة العظمى التي تعرض لها العقل الغربي في تاريخه، والمبعث الأساسي لكل أزماته حتى وقتنا الحاضر، وتتمثل هذه المعضلة بشكل أساسي في إشكاليات أربع (?) هي: شك الغربيين في وجود المسيح نفسه ـ عليه السلام ـ حيث يقول «هـ. ج. ويلز» في ذلك: «يكاد يكون المصدر الوحيد لمعلوماتنا عن السيد المسيح محصوراً في الأناجيل الأربعة» (?) . والإشكالية الثانية: تتعلق بصحة تواريخ الأناجيل ومدى نسبتها إلى أصحابها؛ حيث يتفق المؤرخون الغربيون أنها وجدت بعد رحيل المسيح بعشرات السنين. والإشكالية الثالثة: هي صحة ما جاء في هذه الأناجيل والتناقضات فيما بينها. والإشكالية الرابعة: هي اختلاف مقررات وتعاليم هذه الأناجيل عن المقررات والتعاليم الأساسية للكنيسة؛ فليس في هذه الأناجيل مبدأ التثليث، ويكاد يجمع أعلام المؤرخين الغربيين من أمثال: (ول ديورانت) ، و (أرنولد توينبي) ، و (هـ. ج. ويلز) الذين يأخذ عنهم العالم أجمع إلى الدرجة التي يفتقر معها التوثيق التاريخي لدى كتاب العالم بالنسبة لما يخص العالم الغربي بفرض إهمالهم، أقول: يكاد يُجمع هؤلاء المؤرخون على أن النصرانية الثالوثية المعروفة الآن لا علاقة لها بالمسيح ـ عليه السلام ـ وإنما هي من صنع شخص آخر هو «شاؤول اليهودي» أو مَنْ يسمى بـ «بولس الرسول» ، والذي لم يَرَ المسيح ـ عليه السلام ـ قط.
ولد (بولس) المذكور في بلدة طَرَسوس التي كانت حينذاك من الحواضر الرومانية البارزة، وتضم جامعة تعلم الفلسفتين الرواقية والأبيقورية، وصارت لبولس معرفة بالأديان الإغريقية والرومانية. والخلاصة أنه كان يهوديّاً مشبعاً بالحضارة الهلينستية (الحضارة الإغريقية الممتزجة بالحضارات التي امتدت لها غزوات الإسكندر والرومان) . ولأنه كان من الفرِّيسيين فقد قصد أورشليم ليتعلم الناموس في مجمع أورشليم، وعندما فرّ النصارى هرباً من ملاحقة الفريسيين (?) والصدوقيين إلى دمشق وما وراءها طلب من رئيس الكهنة رسائل يحملها إلى مجامع دمشق لتلقي القبض على أتباع المسيح (?) ، إلا أنه اتجه إلى وجهة أخرى تماماً في الطريق.
وبداية ينقل «ول ديورانت» عن بولس قوله: «استعبدت نفسي للجميع لأربح الأكثرين؛ فصرت لليهود يهودياً لأربح اليهود، وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس لأربح الذين تحت الناموس، وللذين بلا ناموس كأني بلا ناموس مع أني لست بلا ناموس.. صرت للكل كل شيء، لأخلِّص ـ على كل حال ـ قوماً، وهذا أنا أفعله لأجل الإنجيل؛ لأكون شريكاً فيه» (?) .
ويضيف «ول ديورانت» : «لقد أنشأ (بولس) لاهوتاً لا نجد له إلا أسانيد غامضة أشد من الغموض في أقوال المسيح، وكانت العوامل التي أوحت إليه بالأسس التي أقام عليها ذلك اللاهوت هي انقباض نفسه وندمه، والصورة التي استحال إليها المسيح في خياله، ولعله قد تأثر بنبذ الأفلاطونية والرواقية للمادة والجسم واعتبارهما شراً وخبثاً» (?) .
أما «هـ. ج. ويلز» فيقول عن (بولس) : «من الواضح جدّاً أنه متأثر بالمثرائية (?) ؛ إذ هو يستعمل عبارات عجيبة الشبه بالعبارات المثرائية، ويتضح لكل من يقرأ رسائله المتنوعة جنباً إلى جنب مع الأناجيل أن ذهنه كان مشبعاً بفكرة لا تبدو قط بارزة قوية فيما نقل عن (يسوع) من أقوال وتعاليم؛ ألا وهي: فكرة الشخص الضحية الذي يُقَدَّمُ قرباناً لله كفارة عن الخطيئة، فما بشّر به (يسوع) كان ميلاداً جديداً للروح الإنسانية، أمَّا ما عَلَّمَهُ (بولس) فهو الديانة القديمة، ديانة الكاهن والمذبح وسفك الدماء طلباً لاسترضاء الإله» (?) .
ويستطرد (هـ. ج. ويلز) في شرح التطورات التي طرأت على العقائد التي تم انتسابها للمسيح فيقول: «على أن ما أسهمت به نحلة الإسكندرية في الفكر المسيحي والطقوس النصرانية كان أعظم قدراً أو يكاد؛ إذ كان طبيعيّاً أن يجد المسيحيون في شخصية (حورس) ـ الذي كان ابناً لأوزوريس) في نفس الوقت ـ شبيهاً مرشداً لهم فيما يبذلون من جهود عنيفة لتفهم ما خلفه لهم (القديس بولس) من خفايا. وقد كان الانتقال من هذا إلى المطابقة بين شخصية (مريم، وإيزيس) ، ثم السمو بها إلى مرتبة شبه قدسية، بالرغم مما سبق أن اقتبسناه من أقوال (يسوع) عن أمه وإخوته ـ يقصد ما ورد في الأناجيل المتداولة من أقوال منسوبة للمسيح تظهر عادية شخصية الأم والأخوات ـ خطوة طبيعية جدّاً لذلك» (?) .
أما (أرنولد توينبي) فقد ذهب إلى أن «الديانة المسيحية التي استأثرت في النهاية بنصف العالم الهليني تعد صورة معدلة للديانة اليهودية، وقد تم هذا التغيير عن طريق تطعيم الديانة اليهودية. تقول العقيدة المسيحية: إن (إله إسرائيل) الذي خلق الإنسان على صورته قد هيأ أيضاً وسيلة للخلاص لخلائقه البشرية بأن تجسد بذاته في صورة إنسان، وكان هذا المبدأ المسيحي الثوري الذي يقول بتجسيد الله في نظر اليهود إقحاماً إلحاديّاً على الديانة اليهودية لأسطورة كانت من أفدح وألعن الأخطاء التي وقعت فيها الديانة الوثنية الهلينية، كانت هذه خيانة لكل ما حققته العقيدة اليهودية بعد صراع طويل مرير من أجل تطهير نظرة الإنسان إلى طبيعة الله والسمو بها، ولم يكن لأي يهودي صادق الإيمان أن يُقدِم عليها» (?) .
وهنا نلاحظ أن أهم أعلام التاريخ الغربي يتفقون على التالي:
- أن النصرانية الثالوثية بشكلها الحالي هي في الأساس من ابتداع (بولس) .
- أن (بولس) ابتدع هذه العقيدة من خلال المزج بين الديانة اليهودية والعقائد الهلينية (اليونانية) في الأساس التي تتشبع ثقافته بها.
- أن القصة النهائية التي صاغها هذا الابتداع في شكلها الذي عرفت به تمثل أسطورة سخيفة مثيرة للاحتقار لدى الأعلام الغربيين السابق ذكرهم.
والنتيجة الحتمية لكل ما سبق هو التناقض التام بين عقائد النصرانية الثالوثية والعقل، بين المؤمنين والكافرين بها على السواء؛ فيصف (القديس أوغسطين) ـ أهم أعلام النصرانية الثالوثية في العصور الوسطى ـ الموقف من هذه العقائد بقوله: «لست أسعى للفهم لكي أعتقد، بل إني أعتقد كي أفهم» .
- التغيير البروتستانتي على يد مارتن لوثر:
أما (مارتن لوثر) صاحب الثورة الإصلاحية البروتستانتية الأكبر فيقول: «لا تستطيع أن تقبل كلاً من الإنجيل والعقل، فأحدهما لا يفسح الطريق للآخر.. إن العقل هو أكبر عدو للإيمان» (?) ، وعلى هذا فمن حق (فولتير) أن يصرخ: «إن لديَّ مائتي مجلد في اللاهوت المسيحي، والأدهى من ذلك أني قرأتها وكأني أقوم بجولة في مستشفى للأمراض العقلية» (?) .
ولعل عدم الائتلاف هذا والعداوة بين الإيمان والعقل لديهم هو الذي دعا أعلام رجال الدين المسيحي إلى ابتداع مفاهيم وأحكام تصيب من يتأمل فيها بالذهول؛ ولأن هذا باب لا نهاية له فسوف أذكر هنا مثالين فقط: المثل الأول: هو أن (القديس أوغسطين) قد ذهب إلى أن من مات من الأطفال قبل التعميد مآله النار» (?) . وكان (القديس أنسلم) يظن: «أنه ليس في عذاب الأطفال غير المعمدين الآثمين؛ لأن آدم وحواء قد (ارتكبا الإثم) من المخالفة للعقل والمنطق أكثر مما في فرض الرِّق على أبناء الأرقاء، وهو لا يرى أن في هذا بعداً عن المعقول» (?) .
أما المثال الثاني: فهو كيفية مواجهة «مارتن لوثر» لمشكلة المشاكل الاجتماعية لدى النصرانية الثالوثية، وهي عدم السماح بالطلاق؛ فماذا يكون الموقف لو كان الرجل عِنِّيناً؟ لقد ذهب (لوثر) إلى الحل التالي: «أي امرأة تتزوج من رجل عِنِّين يجب أن يسمح لها ـ إذا وافق زوجها ـ بأن تضاجع رجلاً آخر لكي تنجب منه طفلاً، ويجب أن يسمح لها بأن تدعي أن الطفل هو ابن زوجها» (?) .
حقاً! إن الإيمان بالنصرانية الثالوثية لا يعني فقط أن تقف فوق رأسك، ولكن أن تمشي عليه أيضاً.
ولقد أعتاد الكُتَّاب والباحثون أن يذكروا في هذا السياق الجمود الكنسي والفساد البابوي، واضطهاد الكنيسة للمفكرين والعلماء في العصور الوسطى، ولكن نظراً لانتشار هذا الموضوع، وشيوع ذكره لدى الكُتَّاب والباحثين فسوف نتغاضى عنه هنا تماماً (?) ، ونعمد مباشرة لذكر التطورات الأكثر أهمية في تاريخ النصرانية.
- الاتجاهات النصرانية المذهبية:
أولاً: مجمع نيقية والصراع بين الموحدين والثالوثيين:
لم يتم انتشار النصرانية الثالوثية (مذهب بولس الجديد) إلا بعد صراع طويل مع النصارى الموحدين، تم حسمه أخيراً بقوة السيف؛ فقد تصدى تلاميذ المسيح المخلصون لأقوال (بولس) ، وتشير أعمال الرسل ـ كما تسمّى في العهد الجديد ـ إشارة دائمة إلى أعداء (بولس) ، وإلى صراع معهم أينما ذهب بغلاطية، وكورنثوس، وكولوسي، وروما، وإنطاكية (?) .
ويشير المؤرخون إلى أن النصرانية ربما كانت الأكثر انتشاراً في القرون الأولى لميلاد المسيح عليه السلام، وكانت المشكلة الكبرى هي تبني الكنيسة الرومانية لعقيدة التثليث، والعمل على نشر ذلك بالقوة، وقد توالت الثورات والمذابح بسبب هذا الموقف، وكان أشد هؤلاء الثوار الموحدين خطراً هو (آريوس) الليبي المولد، ونظراً لانقسام الدولة الرومانية بين قوادها في مطلع القرن الرابع؛ فقد رأى (قسطنطين) أن يستعين بالنصارى في حربه ضد خصومه، وعندما انتصر في أحد معاركه تحت شارة الصليب رأى أنه مدين لهذه الديانة بالفضل، وعندما وجد الخلافات المذهبية قائمة وتهدد وحدة الإمبراطورية دعا أساقفة جميع الولايات لحضور مؤتمر عام في (نيقيا) ، وفي مايو عام 325م افتتح بنفسه رسميّاً هذا الاجتماع الجليل ـ وهو أول المجامع المسكونية الكنسية ـ وأعرب عن أمله ورجاله في أن تتم وحدة المسيحيين واجتماع كلمتهم (?) .
ويقدم (يوسبيوس) (260 - 340) أبو التاريخ الكنسي، والذي لعب دوراً هاماً في اجتماع نيقية «وكان المجلس عاصفاً، ولما قام (آريوس) المسن ليتكلم لطمه على وجهه شخص هو (نيقولاس الميري) ، ثم هرول الكثيرون بعد ذلك إلى الخارج، وقد وضعوا أصابعهم في آذانهم في رعب مفتعل من هرطقات الرجل.. وتمخض هذا المجمع عن بيان العقيدة النيقية وهو بيان «ثالوثي» دقيق، وناصر الإمبرطور هذه العقيدة الثالوثية» (?) .
وإلى هنا أتوقف عن الحديث عن النصارى الموحدين، وتطورهم التاريخي بعد ذلك؛ حيث أجاد الدكتور (سفر الحوالي) الكتابة في هذا الموضوع في الدراسة التي نشرت بالبيان عدد (شعبان) ، ويمكن الرجوع أيضاً في ذلك إلى كتابنا الإسلام والغرب الأمريكي.
- مجمع خلقيدونية:
انعقد مجمع خلقيدونية في المدينة التي سمي بأسمها عام 451م بناء على دعوة الإمبراطور مرقيانوس، والإمبراطورة بولخاريا لانعقاد هذا المجمع بناءً على طلب أسقف روما الذي احتج على قرارات المجمع المسكوني الرابع سنة 449م، الذي قرر أن السيد المسيح بعد تجسده صار اتحاد اللاهوت والناسوت في طبيعة واحدة بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير، ومن ثم فقد قرر مجمع خلقيدونية إلغاء قرارات المجمع السابق الذي دعا إليه (تاؤدسيوس الصغير) الإمبراطور، والذهاب إلى أن السيد المسيح بعد تجسده كان له طبيعتان: لاهوتية، وناسوتية. ومشيئتان: لاهوتية، وناسوتية. وقد نتج عن قرارات هذا المجمع انقسام الكنيسة إلى شطرين:
الشطر الأول: يضم كنيسة رومية والقسطنطينية اللتين اعتنقتا المعتقد القائل بأن للمسيح طبيعتين ومشيئتين.
الشطر الثاني: ويضم كنيسة الإسكندرية ومن اتبع خطواتها مثل: السريان، والأرمن، وغيرهم الذين ذهبوا إلى أن طبيعة المسيح هي الطبيعة الواحدة (أي اتحاد اللاهوت والناسوت بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير) ، وتم نفي (ديسقورس بابا الإسكندرية) على أثر ذلك، والذي قام بإرسال تلميذه (يعقوب) إلى مصر لتثبيت أتباعه على معتقده، ومن هنا كانت تسمية بعض المؤرخين للأرثوذكس المصريين باليعاقبة.
ويذهب القمص (زكريا بطرس) إلى أنه: «قد تدخلت الأغراض والمطامع الشخصية في التفرقة بين صفوف الكنيسة الواحدة ـ الأوْلى أن يقول في اختراع المعتقدات ـ رأينا مجهودات بابا روما ضد البابا (ديسقورس) لا لشيء سوى الغيرة والأنانية ـ فقد أوكل الإمبراطور إلى (ديسقورس) رئاسة المجمع المسكوني الرابع، فعز على (بابا روما) الذي كان يطمع في هذا ـ فعمل على سحق (ديسقورس) ، وتم له ذلك في مجمع خلقيدونية؛ حيث استباح له ضميره أن يقسم الكنيسة إلى شطرين، ولكن نار الغيرة لم تقف عند هذا الحد فنظر (بابا روما) إلى بطريرك القسطنطينية ـ عاصمة الدولة الرومانية في ذلك الحين ـ وما وصل إليه من مركز مرموق أقر مجمع خلقيدونية 451م؛ فمنح بطريرك الإسكندرية حق الزعامة والتقدم، فاحتج أسقف روما، ووقف الخصمان وجهاً لوجه في نضال وشجار حول لقب «الأعظم» . ثم من جهة أخرى قام شجار آخر عنيف بين الكنيستين حول إضافة كلمة إلى قانون الإيمان ـ وهي كلمة «الابن» التي أضافتها كنيسة روما إلى قانون الإيمان عن الروح القدس عند القول: «نعم! نؤمن بالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب ـ وهنا تضيف كنيسة رومية كلمة «والابن» فيقولون المنبثق من الأب والابن» .
وكان نتيجة لهذا أن اعترضت كنيسة القسطنطينية على ذلك، واعترضت أيضاً على بعض العادات الكنسية التي وضعتها كنيسة رومية كضرورة بقاء الكهنة غير متزوجين، وظل النزاع قائماً بين الكنيستين حتى سنة 1053م؛ حيث أصدر (بابا روما) حكم الحرمان على أسقف القسطنطينية، فلم يكن من هذا الأخير إلا أن أذاع على العالم أن كنيسة روما قد هرطقت.
- النصرانية في الميزان:
وقد نتج عن هذا الصراع والشجار انقسام للخلقيدونيين إلى شطرين:
الأول: كنيسة رومية، وسميت بالكنيسة الكاثوليكية أو اللاتينية أو الغربية، وكنيسة القسطنطينية التي سمت نفسها الكنيسة الأرثوذكسية الخلقيدونية تمييزاً لها عن الكنائس التي لا تعترف بمجمع خلقيدونية (?) .
- انقسام الكنيسة الكاثوليكية:
لرجال الدين النصارى الغربيين التابعين للكنيسة الكاثوليكية تاريخ طويل في الثورة عليها، ولكن أول الأعلام البارزين من هؤلاء (هوجون ويكلف 1320- 1384م) أستاذ اللاهوت الإنجليزي الذي ذهب إلى أن العلاقة بين الله والإنسان علاقة مباشرة لا تحتاج إلى وساطة الكنيسة، وأن أعظم ما تحتاجه الكنيسة هو التخلص من أملاكها الدنيوية المتزايدة. وقال: «إن المسيح والقديسين لم يأتوا إلى الناس بشيء من صكوك الغفران، وأن الأحبار يخدعون الناس بصكوك الغفران الزائفة، وينهبون بذلك أموالهم لعنة الله عليهم» .
أما زعيم البروتستانتية الأكبر فهو (مارتن لوثر) الذي كان متأثراً باليهودية تأثراً كبيراً، ويرى أن العهد القديم حجب العهد الجديد. ولكن من ناحية أخرى فهناك شواهد تدل على تأثر (لوثر) بالزرادشتية؛ فقد نسب إلى فعل الشيطان ظواهر شتى لا تسر مثل: سقوط البرد، والرعد، والطاعون، ولكن فلسفته ازدادت قتامة باقتناعه بأن الإنسان بطبيعته شرير وميال للإثم، وأنه ليس هناك من هو مسيحي، أو ورع بفطرته، ويرى أنه لا يمكن لقدر من الأعمال الصالحة أن تكفِّر عن الذنوب التي اقترفها خير الناس، «ولا يمكن أن تكفر خطايا البشر إلا تضحية المسيح المفتدية - آلام ابن الله وموته ـ ولا يمكن أن ينجينا من عذاب جهنم إلا الإيمان بهذا التكفير الإلهي» (?) ؛ مما شكل ثورة على الكنيسة في الغرب إلى قسمين: كاثوليكية، وبروتستانتية.
بدأت ثورة (لوثر) على الكنيسة الكاثوليكية برفضه للشهادة على فاعلية صكوك الغفران التي يصدرها الباب ويتم الاتجار فيها لإعفاء الناس من الخطيئة، ورأى أن سهولة إصدار هذه الصكوك والاتجار فيها «قد أضعف الإحساس بالندم الذي يجب أن يثيره ارتكاب الإثم، وجعل الخطيئة تبدو أمراً تافهاً يمكن تسويته وديّاً بصفقة تعقد مع بائع يتجر بالغفران» (?) .
وبعد انضمام عدد من علماء اللاهوت إليه، واشتداد صراعه مع الكنيسة ارتفع صوته عالياً بالقول بأن: «البابا زعيم لص، وأن عصابته تحمل اسم الكنيسة، وروما بحر من الدنس وحمأة من القذارة، وبالوعة ليس لها قرار من الظلم، ألا يجدر بنا أن نتقاطر من كل حدب وصوب لنقوم بإزالة هذه اللعنة الشائعة التي حاقت بالبشرية؟» (?) .
وقد زار (لوثر) روما عام 1510م ولكنه وصفها بعد الثورة بأنها تدعو إلى المقت، وقال: «إن البابوات أسوأ من الأباطرة الوثنيين، وإن اثنتي عشرة فتاة عارية كن يقمن بخدمة رجال البلاط البابوي وقت ذلك» (?) .
ويتم التساؤل: كيف من الممكن للاهوت غير جذاب كهذا أن يحرز رضا مئات الملايين من الناس في سويسرا، وفرنسا، واسكتلندا وإنجلترا وخصوصاً في أمريكا التي هي موضع دراستنا؟ بل نتساءل إلى أبعد من ذلك عن مدى علاقة تلك الجبرية المروعة بسلوك البيورتانيين الإنجليز أتباع (كالفن) في أمريكا الذي تميز بالإجرام والوحشية؟ ويجيب المحللون على ذلك بأن هؤلاء خصوصاً البيورتانيين (المتطهرين) رأوا في أنفسهم أنهم ينتمون إلى تلك الصفوة القليلة التي كتب لها الخلاص في القدر الإلهي، وأن ذلك الخلاص تبعاً لفكر (كالفن) ومن قبله (لوثر) لا يتعلق بشكل السلوك أو الأعمال التي يتخذونها خصوصاً عندما يكتمل الإيمان بالاعتقاد بأن من يمارسونه ضدهم من تلك الكثرة الغالبة التي قدر عليها العذاب. كما أنه من الجدير بالقبول تلك المقارنة التي يشيع بين المحللين عقدها بين عقيدة هؤلاء البيورتانيين (المتطهرين) وبين عقيدة الشعب اليهودي، وقد أشرنا فيما سبق لمدى تأثر (لوثر) نفسه بالعهد القديم؛ فكلا الفئتين تعتقد بالاختيار الإلهي لها، وأن لديها مهمة مقدسة في تطهير الأرض الموعودة (فلسطين بالنسبة لليهود وأمريكا أو إسرائيل الجديدة بالنسبة للإنجليز