مجله البيان (صفحة 5220)

اللغز الأمريكي السوري..الحل يبدأ من أفغانستان

أحمد فهمي

لماذا نشرّق ونغرّب دائماً بحثاً عن نظريات سياسية ومبادئ استراتيجية لتفسير الأحداث وكشف المخططات والمؤامرات، وبين أيدينا كتاب الله ـ عز وجل ـ الذي هو أوْلى أن نبدأ به قبل غيره؛ ليس تقديراً وتقديساً فقط، بل نقول ذلك بين يدي العلاقة المتأزمة بين نظام البعث السوري وإدارة الرئيس بوش، وقد أثارت هذه العلاقة تساؤلات عديدة حول أسباب الأزمة ومستقبلها، وهل يمكن أن تقوم الولايات المتحدة بغزو سوريا أو على الأقل توجيه ضربات خاطفة لإسقاط النظام؟ والسؤال الجامع هو: ماذا تريد أمريكا من النظام السوري؟ وما هو أقصى إجراء عقابي يمكن أن تتخذه ضد دمشق؟

- القرآن يكشف أمريكا:

بعد أن تجهزت إدارة بوش لاحتلال العراق وقبل الغزو مباشرة، خاطب وزير الخارجية (كولن باول) رئيسه خطاباً يذكرنا بالحروب الصليبية؛ فقال: «ستصبح المالك المبجل لخمسة وعشرين مليوناً ـ عراقياً ـ ستملك آمالهم وأحلامهم ومشاكلهم، ستملك كل شيء» (?) .

يقول الله ـ تعالى ـ في قصة سليمان ـ عليه السلام ـ وعلى لسان بلقيس ملكة سبأ: {قَالَتْ إنَّ الْمُلُوكَ إذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل: 34] ، وهذه الآية تصلح أن تكون منطلقاً لفهم الاستراتيجية الأمريكية لاختراق وإعادة تشكيل عدة دول إسلامية بدأت بأفغانستان، ولن تنتهي بالسودان أو لبنان. قَالَ ابن عَبَّاس ـ رضي الله عنهما ـ: «أَيْ إِذَا دَخَلُوا بَلَداً عَنْوَة أَفْسَدُوهُ أَيْ خَرَّبُوهُ، وَقَصَدُوا مَنْ فِيهَا مِنْ الْوُلَاة وَالْجُنُود فَأَهَانُوهُمْ غَايَة الْهَوَان إِمَّا بِالْقَتْلِ أَوْ بِالْأَسْرِ» (ابن كثير) ، ويقول صاحب الظلال تعليقاً على هذه الآية: «إنهم إذا دخلوا قرية أشاعوا فيها الفساد، وأباحوا ذمارها وانتهكوا حرماتها، وحطموا القوة المدافعة عنها وعلى رأسها رؤساؤها، وجعلوهم أذلة؛ لأنهم عنصر المقاومة، وأن هذا هو دأبهم الذي يفعلونه» .

إذن فأهم ما يقوم به أمثال هؤلاء هو تحويل أعزة البلد إلى أذلة، وبمصطلح العصرالحديث تحويل الأغلبية إلى أقلية، والأغلبية يقصد بها غالباً أهل السنة، والأقلية هم غيرهم من الطوائف، وأهل السنة هم الأعزة الذين يحملون دوماً راية المقاومة ضد المحتل الأجنبي، وغير أهل السنة كانوا دوماً يداً ورجلاً وسمعاً وبصراً للأعداء يستخدمهم لإذلال أهل السُنِّة الأعزة دائماً كما حكم ربنا ـ جل وعلا ـ: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8] .

وعندما نتأمل الدول العربية والإسلامية التي وضعتها إدارة بوش ضمن أولوياتها فسنكتشف أنها دول تعاني من مشكلات طائفية وعرقية كبيرة: أفغانستان ـ إيران ـ العراق ـ سوريا ـ لبنان ـ السودان، وعند التدقيق يمكن ملاحظة نمطين تتعامل بهما الولايات المتحدة مع هذه الدول حسب هوية الأغلبية السائدة، وتنقسم الدول وفق ذلك إلى قسمين:

أولهما ويشمل: أفغانستان، العراق، السودان.

والثاني ويشمل: إيران، سوريا.

وتفسير ذلك أنه عندما تكون الطائفة السائدة هي أهل السُنَّة فإن النصرة تكون دوماً للأقليات، ويكون من ضمن مسوغات التدخل: المطالبة بحقوق الأقليات المضطهَدة، والهدف في هذه الحالة لا يقتصر على إسقاط النظام، بل يشمل إعادة صياغة التوازن العرقي والطائفي داخل البلد حسب الرؤية الجديدة، حدث ذلك في أفغانستان والعراق والسودان، وكانت النتيجة أن الأغلبية فقدت قوتها، وتراجعت في مواجهة الدعم الأمريكي للأقليات المتحالفة معها؛ فقد سقطت طالبان التي تنتمي إلى الأغلبية البشتونية، وتحوَّل السنة في العراق إلى أقلية لا تتجاوز في زعمهم 20%، وفي السودان تمددت الحركة الشعبية وأصبح (جارانج) نائباً للرئيس وتنتشر مليشياته في أنحاء الدولة.

ولكن في المقابل عندما تكون الغلبة لغير أهل السنة أو يكونون أقلية فإن أحداً لا ينادي بالحقوق الضائعة، ورغم العلاقات المتوترة منذ سنوات طويلة بين أمريكا وإيران فإن أي إدارة أمريكية لم ترفع عقيرتها بالدعوة لنصرة الأقلية السُنية أو الكردية رغم أنهم يشكلون معاً نحو 30% ورغم وجود أقليات أخرى مهضومة. وفي سوريا أيضاً لم يتحدث أحد عن حكم الأقلية العلوية للأغلبية السنية، وأنه ينبغي إعادة الأمور لنصابها الصحيح ـ كما ادعوا في العراق ـ وتسليم الأغلبية السنية التي تتجاوز 80% من إجمالي السكان حكم البلاد.

والقرآن كما قلنا يُفسر ذلك، وحسب مفهوم المخالفة؛ فإنه إذا كان الملوك المحتلون يجعلون أعزة البلد أذلة؛ فكيف لو كانوا أذلة بحكم الواقع في إيران وسوريا؟ إذن تبقى الأمور على وضعها، وغير السنة لا خوف منهم؛ فلن يرفعوا للمقاومة راية، ولن يتخذوها غاية، ومن ثم تنحصر الجهود والضغوط في مجرد تغيير السياسات أو الأنظمة مع بقاء التركيبة العرقية والطائفية كما هي دون تغيير.

وحسب تلك الرؤية نعيد النظر مرة أخرى لخريطة الدول السابق ذكرها لاستيعاب السياسات الأمريكية ثم استشرافها في المرحلة القادمة، ويمكن تحديد بعض الملامح في هذا السياق نذكرها فيما يلي:

1 - في الغالب ـ والله أعلم ـ ستظل تركيبة الحكم في سوريا على وضعها؛ لأن أي تغيير يدفع بالسنة إلى تسلم الحكم يمكن أن يكون له تداعيات خطيرة في المنطقة؛ إذ سيتشكل هلال سني ـ بدلاً من الشيعي ـ ينطلق من سوريا ويتمدد إلى العراق شرقاً، ثم لبنان غرباً، ولن يكون ذلك ملائماً للمصالح الأمريكية، والبديل المناسب في هذه الحالة إما أن يكون علوياً، أو علاَّوياً ـ نسبة إلى إياد علاوي ـ ولكن إلى الآن لا توجد نماذج مشجعة يمكن لأمريكا أن تعتمد عليها.

2 - التصريحات التي صدرت من الأردن بخصوص الهلال الشيعي لم تلق تجاوباً من الإدارة الأمريكية رغم خطورتها وصحتها، ورغم موقف الإدارة من إيران، وهذا أمر له دلالة خاصة لا تخفى.

3 - عندما نرتب المناطق الساخنة التي ذكرناها سابقاً سنلاحظ أنها تشكل حزاماً ضاغطاً وخانقاً على الكتلة العربية الرئيسة التي تضم قوة اقتصادية وبشرية ودينية هائلة، خاصة لو أضيف إليها تأثير الكيان الصهيوني ورغبته في التمدد خارج حدود فلسطين ـ ليس عسكرياً بالضرورة ـ وأيضاً تأثير التواجد الشيعي في الخليج، ولا تصعب ملاحظة التأييد المطلق الذي تحظى به السياسة الأمريكية لدى هؤلاء، ونذكر مثالين فقط من الكويت والبحرين. يقول رجل الدين الشيعي الكويتي المعروف (محمد المهري) مهاجماً الإسلاميين الذين ينتقدون السياسات الأمريكية: «هناك تيار في الدول الإسلامية ـ سُني بالطبع ـ يعادي أمريكا في مواقفها؛ حتى ولو كانت لصالح الإسلام!» (?) وذكرت تقارير من البحرين أن بعض قادة المعارضة ـ من الشيعة ـ يعتزمون علانية بالاتصال بشخصيات غربية في الخارج ليمارسوا ضغوطاً على حكومة البلاد لتحقيق مطالبهم (?) .

4 - يبرز بوضوح الحرص الإسرائيلي على بناء علاقات قوية في أكثر المناطق الساخنة، مثل: العراق، والسودان، ولو عن طريق خفي.

5 - الاستراتيجية التي تعتمدها الولايات المتحدة في الدول السابقة متماثلة تقريباً في جميع الدول بدءاً من أفغانستان وحتى السودان ولبنان، وهي: إعادة صياغة التوازن العرقي والطائفي وفق تركيبة تناسب المشروع الأمريكي، وهي تركيبة تتميز بإحداث فراغ سياسي عن طريق إضعاف سيادة الدولة، ويصبح التوازن السياسي مفتقراً دوماً إلى القوة الخارجية. وبمعنى آخر: فإن الصياغة الجديدة لا يتحقق فيها التوازن ذاتياً، ولكن خارجياً، وعندما ينسحب الطرف الخارجي تحت أي ظرف ولأي سبب ينهار البناء الداخلي. ولعلنا نذكر تأكيد جهات وأطراف كثيرة داخل العراق ـ بعضها سني ـ على أن انسحاب القوات الأمريكية في هذه المرحلة سوف يسبب انهياراً داخلياً، وحقيقة ما يحدث أن إدارة بوش تحوِّل دول المنطقة إلى قنابل زمنية تضبط مواعيد تفجيرها حسب مصالحها.

6 - إذا أردنا معرفة الدول التالية التي تحتل الأولوية في قائمة التغيير الأمريكية علينا النظر إلى الدول المتعددة عرقياً أو طائفياً، وحيث توجد مشكلات ساخنة للأقليات أو تُبذل جهود لتسخينها عمداً.

7 - مفهوم التحالف بين الولايات المتحدة ودول المنطقة طرأ عليه تغييرات جوهرية عجزت بعض الدول وبعض الزعماء عن قراءتها، أو هم لا يريدون ذلك، فلم تعد هناك تحالفات دائمة، وحليف اليوم قد يصبح عدواً في الغد، وقد يتحول إلى كبش فداء، كما حدث مع الحريري أو فداء للكبش كما حدث لعرفات، وبدا واضحاً أن الإدارة الأمريكية في الفترة الأخيرة تتبنى سياسة بديلة لسياسة «دعم الحليف مطلقاً» ، وهي «دعم الحليف حتى تنتهي مهمته فقط» ، وعندها يتم البحث عن بديل أكثر مناسبة للمرحلة القادمة حتى ولو كان البديل القديم لا يزال محتفظاً بولائه للمصالح الأمريكية. وهنا تجدر الإشارة إلى البدائل الليبرالية التي بدأت تنتعش في كثير من الدول العربية، سواء بفعل فاعل أو بفعل طامع، وبعض الرؤساء العرب قد يصعب عليهم تخيل الحد الذي يمكن أن تبلغه أمريكا في تطوير استراتيجية الاستبدال، وكان قد غاب عن عرفات إدراك هذه الحقيقة. ولو ثبت أن المخابرات الأمريكية أو الإسرائيلية وراء اغتيال الحريري فإن ذلك يعني أن أنماط التخلص من الحلفاء قد وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، وسندرك عندها «مستوى الذكاء الاستباقي» الذي يتمتع به العقيد القذافي حينما وضع كل ما في جيبه على الطاولة الأمريكية فأراح واستراح.

8 - في مجال التعامل مع الأقليات فإنه من المبادئ المهمة معرفة أن: تحقيق بعض المكاسب لأقلية ما لا يعني أبداً تراكم قناعة لدى هذه الأقلية بالعدل والاكتفاء، وإنما يعني تراكم قناعة أخطر لدى قادة الأقلية بضرورة رفع سقف الطلبات لتحقيق مزيد من المكاسب في دورة قد لا تنتهي إلا بسقوط دولة الأغلبية.

- هل تتعرض سوريا لغزو أمريكي؟

هذا السؤال أتعب المحللين والسياسيين وحتى الزعماء، وقد صرح الرئيس السوري (بشار الأسد) في حوار مع صحيفة (لاريبوبليكا) الإيطالية قائلاً: «إذا سألتني عما إذا كنت أتوقع هجوماً مسلحاً؟ حسناً! أتوقعه منذ نهاية الحرب في العراق؛ تصاعدت التوترات منذ ذلك الحين» (?) ، وقد أسلفنا اجتهاداً للإجابة عن هذا السؤال استرشاداً بآية قرآنية، ونذكر أيضاً بعض الدلائل التي يمكن أن تساهم في بلورة أكثر لهذه الإشكالية:

أولاً: من المعلوم أن البيت الأبيض والخارجية والمؤسسات العسكرية والاستخباراتية يُعتمَد في أدائهم وقراراتهم على كَمٍّ هائل من البحوث والدراسات - جزء كبير منها غير معلن ـ التي تقذف بها عشرات مراكز الفكر والبحث الحكومية وغيرها، وهذا الكم يتضمن كل ما يمكن تخيله في هذا المجال، ولا نبالغ إذا قلنا إنه توجد خطط لغزو عدد كبير من الدول في منطقتنا العربية وقلب نظم الحكم فيها بالقوة أو بغيرها، ولا يعني أبداً تداول بعض هذه الدراسات والمخططات أنها دخلت دائرة التنفيذ والفعل، ولذلك ينبغي التفريق بين وجود خطط أو تصورات وبين الاتفاق على تنفيذها بالفعل.

ثانياً: ليس منطقياً أن تبادر أمريكا بفتح ساحة حرب جديدة داخل سوريا المجاورة للعراق، وخاصة أن هذا الاحتلال قد يمثل عنصر تحفيز واستنهاض للسنَّة في سوريا قد يُغرق أمريكا في مستنقع جديد. بالإضافة إلى عدم توفر نخب سياسية قادرة على تولي زمام الحكم في سوريا؛ فليس هناك معارضة قوية في الخارج لها أتباع وكوادر وميليشيات كما كان الحال بالنسبة لشيعة العراق، وجهة المعارضة السورية الأبرز هم الإسلاميون السُنة، ولا شك أنهم مستبعدون تماماً.

ثالثاً: كان مستهدفاً من مسرحية شرم الشيخ تهيئة الأجواء لمد الجسور بين إسرائيل والدول العربية، خاصة بعد انتخاب أبو مازن وانتهاء الانتخابات العراقية، وليس من المعقول أن يتم تعكير الأجواء مرة أخرى بحرب جديدة في سوريا تشارك فيها إسرائيل بدور واضح؛ فذلك يعني اشتعال الرأي العام العربي من جديد، وهو ما سيؤدي إلى عرقلة الاختراق الإسرائيلي للدول العربية.

رابعاً: لو أردنا معرفة أي الدولتين تُضرب أولاً: إيران أم سوريا؟ فالدلائل تشير إلى أن إيران سيكون لها السبق؛ فهي الأكثر تأثيراً على العراق والأكثر قوة وأطماعاً على المستوى الإقليمي، ولكن إلى الآن لا تبدو الإدارة الأمريكية قادرة على اختيار الاستراتيجية المثلى في التعامل مع نظام (الملالي) ؛ فمن الناحية العسكرية تتراوح الخيارات بين توجيه ضربات عسكرية للمواقع النووية والصناعات الصاروخية، ولكن قد لا يؤدي ذلك بالضرورة إلى سقوط النظام، وبين توجيه حملة شاملة لاحتلال الدولة؛ وهذا الخيار مستبعد إلا في حالة توفر رأي عام شعبي مؤيد لمثل هذا الإجراء الانتحاري في بلد مترامي الأطراف مثل إيران.

ومن الناحية السياسية فإن التحريض على الثورة لم يأت بنتائج مشجعة حتى الآن؛ كما أن الضغوط الدولية لم تسفر عن نتائج مرضية، ولذلك يغلب أن تدفع الإدارة الأمريكية في اتجاه مواصلة مزيد من الضغوط، ولا مانع من توجيه ضربات عسكرية وقائية للمواقع العسكرية لعلها تضعف النظام.

خامساً: القرار الأمريكي باحتلال دولة ما يمر قبل صدوره من الرئيس بمراحل مختلفة من البحث والتحليل، وتتناوشه جهات عدة وأطراف عديدة بدءاً من اللوبيات الصهيونية والمجمع العسكري الصناعي، ثم مؤسسات الدولة من استخبارات ودفاع وخارجية، ثم مجلس الأمن القومي ومستشاري بوش، وتوضع المعطيات في النهاية بين يدي الرئيس، بعضها يدعم بقوة اتخاذ قرار الغزو، وبعضها الآخر يحذر من اتخاذ مثل هذا القرار، وقد تتعدد الدلائل على صعوبة اتخاذ قرار الغزو، وأنه سيكون قراراً أحمق، ولكن من يدعي أن الساسة لا يتخذون قرارات حمقاء؟ في نهاية الأمر هناك جهات تستفيد من إشعال أي حرب في أي بقعة من العالم، ولا يهم في هذا الصدد نتيجة الحرب أو حجم الخسائر. وفي حرب العراق مثلاً يبرز عدد الجنود الأمريكيين كعلامة استفهام أثارت حيرة الكثيرين داخل المؤسسة السياسية الأمريكية، بدءاً بنواب في الكونجرس وانتهاء بوزير الخارجية المستبعد (كولن باول) ، كلهم كانوا يتساءلون: لماذا الإصرار على هذا العدد بينما كان يمكن حسم الحرب ـ حسب رؤيتهم ـ بمضاعفته إلى 300 ألف جندي؟ وهي التقديرات التي قدمها القادة العسكريون قبل بدء الاحتلال، ولكن (رامسفيلد) وزير الدفاع أصر على أن 150 ألف جندي تكفي وزيادة.

- ماذا تريد أمريكا من النظام السوري؟

الخلاف بين سوريا وبين أمريكا وإسرائيل ينبغي تحريره بدقة حتى نعرف إلى أين تسوقنا الاستنتاجات والتحليلات الكثيرة، وهنا تبرز عدة أفكار:

1 - لا توجد مشكلات لدى النظام السوري في عقد مباحثات سلام مباشرة مع حكومة شارون، كما أن التمسك بهضبة الجولان أمر يقبل الالتفاف عليه وتقديم تنازلات مشجعة، وقد أعلنت سوريا مؤخراً عن رغبتها في ذلك، ولكن بعد فوات الأوان؛ فقد دخلت المنطقة في مرحلة تقليم الأظافر، ومشكلة النظام السوري أنه يستغرق وقتاً حتى يتجاوز ثوابته القومية الخطابية ومصالحه الخاصة، وإن كان في المجمل يبدو أكثر فاعلية في هذا المجال من صدام حسين بطيء الإيقاع، ولكنه ليس في مستوى القذافي مثلاً الذي نجح في الاحتفاظ برأسه وكرسيه.

2 - نظام البعث السوري لديه قدرة عالية على «ضبط النفس» في مواجهة الاستفزازات أو الاعتداءات الإسرائيلية، كما أن قدراته العسكرية تدهورت إلى حد كبير، وخاصة أنه يمكن اعتبار غالبية السلاح السوري هو منحة روسية.

3 - الدعم الذي تقدمه سوريا للمنظمات الفلسطينية تراجع بصورة ملحوظة، ولم يعد يتجاوز تقديم مقرات لبعض الأعضاء مع تضييق نطاق النشاط والحركة إلى حد كبير، وحتى ذلك يجري تقليصه بعد الإعلان عن غلق مقرات ومكاتب حركة الجهاد الفلسطينية. ويبدي النظام تجاوباً واضحاً في هذا المجال، ولم تعد قضية الإيواء تحتفظ بأهميتها السابقة، خاصة بعد اغتيال أحد قادة حماس في دمشق واكتشاف اليد الطولى للموساد الإسرائيلي في قلب دمشق، وقد صرح (خالد مشعل) رئيس المكتب السياسي لحماس في مؤتمر صحفي عقده بالدوحة أن «الضغوط على سوريا مقلقة، وما يجري في أعقاب اغتيال الحريري مقلق وسينعكس علينا سلباً، لكنه صرح أن الحركة «موجودة في بلاد مختلفة بعضها بشكل معلن وبعضها غير معلن» .

4 - تبقى العقبة الأساسية متمثلة في أنه من قواعد النظام الجديد للشرق الأوسط ألا يتعدى نفوذ أي دولة إلى دولة أخرى، وهذه من متطلبات الفراغ السياسي الذي تنشده أمريكا، ولعلنا نلاحظ ما حدث في معالجة القضية السودانية من تقليص واضح للدور المصري التاريخي في هذا البلد، وحتى تركيا رغم تحالفها مع أمريكا لم يُسمح لها بمد نفوذها إلى الشمال العراقي المجاور لها تحت أي مسمى، بينما فُسح المجال للإسرائيليين لاختراق المنطقة نفسها ـ رغم بعدها عنهم ـ اقتصادياً وعسكرياً واستخباراتياً، وتخلت باكستان راضية عن منطقة نفوذها الطبيعي في أفغانستان، ولا يزال النفوذ الإيراني لدى شيعة العراق وحزب الله يمثل مشكلة كبرى تسعى إدارة بوش للتخلص منها. والخلاصة: أن تقليص النفوذ الإقليمي من شعارات المرحلة الحالية التي يمكن أن تفسر كثيراً من التحركات السياسية، ومن أبرز صور النفوذ أو التدخل في المنطقة: الوجود السوري في لبنان.

5 - وبذلك يبقى الملف السوري اللبناني هو مناط الخلاف، سواء بين السوريين والإسرائيليين، أو بينهم وبين الأمريكيين، وتمثل لبنان أحد المناطق العربية الساخنة التي يمكن لها أن تثير التوترات والاضطرابات على نطاق واسع، نتيجة تركيبتها الطائفية وسهولة اختراقها من قِبَل أجهزة المخابرات المعنية، وكان (هنري كيسنجر) وزير الخارجية الامريكي الأسبق يقول: «إن لبنان ساحة وليس مساحة» ، كما أن لبنان تمثل أداة اختراق مثالية للواقع العربي، سواء من الناحية الثقافية أو السياسية أو الاقتصادية. وبالنسبة لسوريا يعمل في لبنان مئات الألوف من السوريين يقدرهم بعض المحللين بأكثر من 900 ألف سوري، ويحقق العامل البسيط دخلاً يتجاوز عشرة دولارات يومياً، وهو ما يصعب تحقيقه في سوريا، وقد أُجبر مائة ألف سوري على العودة إلى بلدهم عقب اغتيال الحريري مباشرة، أغلبهم من المناطق النصرانية، وفي لبنان تنتشر مشروعات واستثمارات قانونية وغير قانونية تابعة لأقطاب النظام في سوريا، وفي حالة تراجع النفوذ السوري في لبنان فإن ذلك يعني تعرض الاقتصاد والمصالح الخاصة لهزات وانكشافات وفضائح قد لا يمكن تحملها، وهذا ما يجعل الاستماتة السورية واضحة في لبنان. وفي حوار كان أدلى به رفيق الحريري لصحيفة (إيرش تايمز) الإيرلندية، قال: «قبل عام قال لي بشار: أنا الوحيد الذي أملك الحق في اختيار رئيس لبنان، وليس لأي شخص آخر هذا الحق سورياً كان أم لبنانياً» ، ويعتبر رئيس الاستخبارات السورية من أقوى الرجال نفوذاً داخل لبنان (?) .

إذن هي حرب مصالح وليست حرباً قومية أو عروبية؛ فالحرب القومية ينبغي أن تكون في الجولان حيث يمكث المحتل الإسرائيلي وليس في لبنان، ويمكن إضافة البعد الطائفي كمحدد رئيس للأحداث عندما نسترجع أسباب التدخل السوري في لبنان في مطلع السبعينيات عندما كان السُنة يتحكمون في أغلب الأراضي اللبنانية، وكان ذلك يمثل تهديداً لا يمكن السكوت عليه، لتستقر السيطرة العلوية في سوريا؛ فكان التدخل السوري في لبنان لتحجيم السيطرة السنية في الأساس.

هناك اتفاق إذن بين الأطراف المتصارعة على استبعاد السُنة، وعلى التضحية بالجولان، وعلى تسليم عناصر البعث العراقي للاحتلال، وعلى تجميد نشاط ومقرات المنظمات الفلسطينية في دمشق، وعلى ضبط عمليات التسلح، ولكن يبقى الخلاف محصوراً في لبنان كما ذكرنا، ويبقى قرار التعامل العسكري مع سوريا محصوراً بثلاثة عوامل: مرونة النظام الحالي، توفر البديل، مصالح جماعات الضغط الأمريكية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015