وصفي عاشور أبو زيد
تطالعنا بعض الفضائيات ومواقع الإنترنت ببعض المشايخ من غير أهل العلم الراسخين الذين يتصدرون لأخطر الأمور في الإفتاء، ويفتون الجمهور العريض في أنحاء العالم على الهواء مباشرة دون تأنٍّ ولا مراجعة، وبجرأة ظاهرة يجعلون الحلال حراماً والحرام حلالاً فيَضلون ويُضلون، وصدق فيهم ما رواه البخاري بسنده عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» (?) .
وكثير من هؤلاء يبيحون أشياء محظورة، بل يحللون أشياء محرمة بحجة التيسير في الفتوى، وأن الدين الإسلامي دين التيسير ورفع الحرج، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد بُعث بالحنيفية السمحة، وما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وهذا كله حق، لكن ما أجدره بكلمة علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ في قول الخوارج: «لا حكم إلا لله» بأنها «كلمة حق يراد بها باطل» .
وهذا ما يدعو إلى الوقوف ـ بشيء من التفصيل ـ على تعريف التيسير، وتوضيح ضوابطه في الشريعة الإسلامية، حتى يتسنى لنا أن نفهم أنه ليس كل تيسير منضبطاً ومعتبراً، بل إن من التيسير ما لو تتبعناه بلا ضوابط لاندرست معه معالم الشريعة الغراء.
ومن الأهمية ابتداء تبيين المصطلحات التي يحتوي عليها الموضوع مثل: الفتوى، والتيسير، وما يتصل بهما، حتى نكون على بينة من الأمر؛ فلن يكون هناك خلاف أو تناقض متى انكشفت المفاهيم، واتضحت المسميات.
- معنى الإفتاء:
قال في اللسان: يقال: أَفْتاه في المسأَلة يُفْتِيه إِذا أَجابه، والاسم: الفَتْوى، والفُتيا: تبيين المُشكِل من الأَحكام. أَصله من الفَتَى، وهو الشاب الحدث الذي شَبَّ وقَوِيَ؛ فكأَنه يُقوّي ما أَشكل ببيانه فيَشِبُّ ويصير فَتِيّاً قوِيّاً، وأَصله من الفتى، وهو الحديث السنّ، وأَفْتَى المفتي إِذا أَحدث حكماً (?) . والإفتاء في الاصطلاح: هو تبيين الحكم الشرعي للسائل عنه، والإخبار بلا إلزام (?) .
وتجدر الإشارة أن مفهوم المفتي عند الأصوليين هو نفسه مفهوم المجتهد، فيقول علاَّمة متأخري الحنفية ابن عابدين ـ رحمه الله ـ: وقد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد، فأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفتٍ، والواجب عليه إذا سئل أن يذكر قول المجتهد كالإمام على وجه الحكاية، فعرف أن ما يكون في زماننا من فتوى الموجودين ليس بفتوى، بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي (?) . وقال زكريا الأنصاري الشافعي: المفتي هو العدل المقبول الرواية المجتهد في الأحكام الشرعية (?) .
وبناء عليه فإن أغلب من نراهم اليوم على الهواء مباشرة في الفضائيات المتعددة ليسوا مفتين بالمعنى العلمي للكلمة وبمفهومها عند الأصوليين، وإنما هم نقلة لما قاله المجتهدون من قبل، والذين قالوا: إن المفتي هو المجتهد أرادوا بيان أن غير المجتهد لا يكون مفتياً حقيقة، وأن المفتي لا يكون إلا مجتهداً، ولم يريدوا التسوية بين الاجتهاد والإفتاء في المفهوم.
- بين الفتوى والحكم:
كما أن هناك فرقاً بين الحكم التكليفي لأمر ما والفتوى في هذا الأمر؛ فليس الحكم التكليفي هو الإفتاء، بل الحكم التكليفي شيء، والفتوى شيء آخر، وإن كانت وظيفة المفتي أن يحكم على أفعال العباد أياً كانت حالهم ووضعهم.
والحكم في ذاته لا يتغير أبداً مهما تغير المكان والزمان والأشخاص والأحوال؛ فحكم شرب الخمر مثلاً في ذاته محرم شرعاً لا يتغير إلى يوم القيامة، أما الفتوى فتتغير بتغير الزمان والمكان والأشخاص والأحوال والنية والعوائد، كما قرر ذلك المحققون من علماء الأمة.
وعلى ذلك فيمكن أن تغير الفتوى حكماً من الأحكام لسبب من أسباب تغير الفتوى في واقع معين، لكن لا يغير ذلك من الحكم نفسه، إنما أباحت الفتوى شيئاً ما لضرورة من الضرورات؛ فشرب الخمر يباح أحياناً في أحوال وضرورة معينة؛ فإذا كان المسلم في صحراء ولا يجد ما يدفع به الموت من شدة العطش، أو حدثت له غُصَّة في حلقه، ولا يجد ما ينقذ به نفسه إلا شرب الخمر قطعاً فيباح له هنا ـ بالفتوى ـ أن يشرب الخمر، ومن هنا قعَّد الفقهاء قاعدة شهيرة: «الضرورات تبيح المحظورات» ، ولكن لا تغيِّر هذه الفتوى من الحكم في ذاته شيئاً؛ فيبقى حكم الشرب محرماً ثابتاً محكماً إلى يوم القيامة؛ فإذا ما وجد المسلم شديدُ العطش ما يدفع به عطشه سوى الخمر، أو يدفع به الهلاك بالغُصّة سواها ارتدَّ الحكم على الفور إلى أصله وهو الحرمة.
- معنى التيسير وأدلته:
أما التيسير أو اليُسْرُ بسكون السين وضمها فهو ضد العسر، والمَيْسُور ضد المعسور، وقد يَسَّرَهُ الله لليُسْرَى أي وفقه لها (?) . والتيسير مبدأ أصيل في الشريعة الإسلامية، ومقصد أعلى من مقاصد التشريع الإسلامي؛ فما من حكم من الأحكام الشرعية العملية إلا والتيسير لحمته وسداه، والذي يتأمل التشريع الإسلامي يوقن بهذه الحقيقة يقيناً لا يخالطه شك ولا ريب، وقد قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «لا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، ولا ييسر آمِرٌ على مأموريه ويرفع عنهم ما لا يطيقونه إلا واللهُ ـ تعالى ـ أعظم تيسيراً على مأموريه، وأعظم رفعاً لما لا يطيقونه عنهم، وكل من تدبر الشرائع لا سيما شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- وجد هذا فيها أظهر من الشمس» (?) .
والمتأمل في القرآن والسنة يجدهما يفيضان بذلك حقاً؛ فبعد تشريع الصيام قال ـ تعالى ـ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] ؛ وبعد إباحة مُلك اليمين للزواج قال ـ سبحانه ـ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] ، وبعد أحكام الطهارة قال ـ عز من قائل ـ: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] ، وبعد أن عذر الضعفاء والمرضى في الجهاد قال ـ تعالى ـ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} [التوبة: 91] ، وبعد الأمر بالجهاد قال: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، ورفع عن الأعمى والمريض والأعرج الحرج في أن يأكل من بيت أبيه أو أمه ... إلخ، فقال: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] ، بل رفع عنهم الحرج مطلقاً، فقال ـ سبحانه ـ: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح: 17] ، ولما زوَّج الله رسولَه ـ عليه السلام ـ بزوجة مولاه زيد بعد أن طلقها قرر أن الغاية من ذلك رفع الحرج على المؤمنين في أزواج أدعيائهم، فقال: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37] .
والسنَّة النبوية المطهرة فيها ما فيها من مظاهر التيسير في حياة النبي العملية والقولية، بل إن فيها أوامر صريحة به من النبي عليه صلوات الله وسلامه. فعن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده قال: لما بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعاذ بن جبل قال لهما: «يسِّرا ولا تعسِّرا وبشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوعا ... » (?) . وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: «يسِّروا ولا تعسِّروا، وسكِّنوا ولا تنفروا» (?) .
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: «ما خُيّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً؛ فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنفسه في شيء قط إلا أن تُنتَهك حرمة الله فينتقم بها لله» (?) . وعن أبي هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: «دعوه وهَرِيقوا على بوله سَجْلاً من ماء، أو ذَنُوباً من ماء، فإنما بُعثتم ميسِّرين، ولم تُبعثوا معسِّرين» (?) .
والمتتبع لأقوال الصحابة وفهمهم للدين والأحكام، ويلاحظ معاملتهم وتعاطيهم مع الواقع المعيش في ظل النصوص، وكذلك السلف الصالح والأئمة الكبار على مر القرون لا يخطئه في ذلك كله مراعاتهم واعتبارهم، وفهمهم لهذا المبدأ الجليل، وقد أخرج الدارمي في سننه عن عمر بن إسحاق قال: لَمَن أدركت من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر مما سبقني منهم، فما رأيت قوماً أيسر سيرة، ولا أقل تشديداً منهم (?) .
- مجال التيسير:
والتيسير وإن كان مبدأ أصيلاً في التشريع الإسلامي، ومقصداً أعلى في الشريعة الإسلامية إلا أن له مجالاً يعمل فيه، ومجالاً لا يعمل فيه؛ فالتيسير أو التغيير والتخفيف لا يدخل في أصول الدين وكليات الشريعة التي بها بقاء الدين ودوامه. قال الشافعي ـ رحمه الله ـ: «كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصاً بيناً لم يَحِلَّ الاختلاف فيه لمن عَلِمَهُ» (?) .
فأصول الدين، وكليات الشرع وثوابته، وأصول الحلال والحرام، وأصول الأخلاق والآداب لا يجوز أن يوضع شيء منها موضع الخلاف والجدل، وإلا اندرست معالم الشريعة، فلا يدخل فيها التيسير إلا لعارض الضرورة بالمعنى الأصولي للكلمة. وأما ما سوى ذلك من الفروع والجزئيات والمتغيرات، وكل ما لم يقم عليه دليل صحيح صريح قاطع؛ فهذا يدخله التيسير بضرورة وبغير ضرورة بما لا يتعارض وأصول الشرع والأخلاق والحلال والحرام. قال الإمام الشافعي: «وما كان من ذلك يحتمل التأويل، ويُدرَك قياساً، فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس، وإن خالفه فيه غيره لم أقل إنه يضيق عليه ضيق الخلاف في المنصوص» (?) .
وللإمام ابن القيم في هذا السياق كلام يؤكد هذا التقسيم؛ فيقول ـ رحمه الله ـ: «الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة: كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك؛ فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه. والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زماناً ومكاناً وحالاً كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها؛ فإن الشارع ينوِّع فيها بحسب المصلحة» (?) .
يتبين من ذلك أن التيسير لا يكون في أي مجال في الشريعة، بل له مجال لا يتخطاه، ومدى لا يتعداه، ونحن إنما نكون مع الأصول في صلابة الحديد، ونكون مع الفروع في ليونة الحرير بما لا يتعارض مع المقررات الشرعية الكبرى.
- مبادئ لها أثرها في التيسير:
وقد ذكر الفقهاء أسباباً لها أثرها القوي في التحول من التشديد إلى التيسير، ومن العزيمة إلى الرخصة، مثل: السفر، والمرض، والإكراه، والنسيان، والجهل، والعسر، وعموم البلوى، كما أن هناك مبادئ أصولية وفي علم القواعد استخلصها الفقهاء والأصوليون لها أثرها كذلك في هذا الأمر، ومن أهم هذه المبادئ:
ـ المشقة: فإن المشقة توجب التيسير وتجلبه، والأمر إذا ضاق اتسع، وقد ضبط السيوطي المشقة التي تجلب التيسير فقال: المشاق على قسمين: مشقة لا تنفك عنها العبادة غالباً: كمشقة البرد في الوضوء والغسل، ومشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار، ومشقة السفر التي لا انفكاك للحج والجهاد عنها، ومشقة ألم الحدود، ورجم الزناة، وقتل الجناة، فلا أثر لهذه في إسقاط العبادات في كل الأوقات.
وأما المشقة التي لا تنفك عنها العبادات ـ غالباً ـ فعلى مراتب:
الأولى: مشقة عظيمة فادحة: كمشقة الخوف على النفوس والأطراف ومنافع الأعضاء؛ فهي موجبة للتخفيف والترخيص قطعاً.
الثانية: مشقة خفيفة لا وقع لها كأدنى وجع في إصبع، وأدنى صداع في الرأس، أو سوء مزاج خفيف؛ فهذه لا أثر لها، ولا التفات إليها.
الثالثة: متوسطة بين هاتين المرتبتين؛ فما دنا من المرتبة العليا أوجب التخفيف، أو من الدنيا لم يوجبه: كحُمَّى خفيفة، ووجع الضرس اليسير، وما تردد في إلحاقه بأيهما اختلف فيه، ولا ضبط لهذه المراتب إلا بالتقرب (?) .
ـ ارتكاب أخفّ الضررين، فإذا ما كان هناك خياران أمام المكلف: أحدهما فيه ضرر، والآخر أشد ضرراً كان ذلك موجباً لارتكاب أخف الضررين، كالحاكم المسلم الذي يتحالف مع عدو لدفع خطر عدو أشد خطراً وضرراً منه؛ فهو يرتكب أخف الضررين، ويدفع أعظم الشرين.
ـ تغير الفتوى بمقتضياتها، من تغيرٍ للزمان، والمكان، والأشخاص، والأحوال والنيات والعوائد، كما قرره ابن القيم وغيره، ومشهور ما فعله الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ من تغيير في مذهبه بعد مجيئه إلى مصر، وصار له مذهبان: مذهب قديم، ومذهب جديد. وتغير هذا المتغيرات يقتضي الإفتاء بما يوائمها بما لا يتناقض مع الأصول الكلية والمبادئ الكبرى في الإسلام.
ـ مآل الفتوى: بمعنى أن ينظر المفتي في مآل وعواقب فتواه؛ فإن أيقن أن مآلها ضرر وتعسير، وتحقيق لمصالح غير مشروعة امتنع عن هذه الفتوى، وبذلك يكون قد يسر على الناس، ومن ذلك امتناع النبي -صلى الله عليه وسلم- عن إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، مخافة أن تقع فتنة أكبر جراء حداثة القوم بالإسلام؛ فعن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟ قالت: فقلت: يا رسول الله! أفلا تردها على قواعد إبراهيم؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت» (?) .
فهذه كلها مبادئ لها أثرها في التيسير على الناس في مجال الفتوى، بما استخلصه فقهاؤنا من قواعد وضوابط تؤثر بقوة في عملية التيسير.
- ضوابط التيسير المعتبر:
من المؤكد أن كل تيسير لا يعد معتبراً في شريعة الإسلام؛ فمن التيسير ـ كما سبقت الإشارة ـ ما لو تتبعناه لاندرست معه معالم الشريعة؛ ولذلك فهناك بعض الضوابط الحاكمة للتيسير حتى يكون تيسيراً متوافقاً مع مقاصد الشريعة ومع روح التشريع ومنها:
الأول: أن يكون التيسير مضبوطاً بالدليل، وهو من أهم الضوابط، وأخطر الشروط للتيسير في الفتوى؛ فالقول بالتيسير لا بد له من دليل يسنده ويؤيده من أدلة أصول الفقه المعروفة، أما أن يُفتى بالتيسير دون ضابط من دليل كتاب أو سنة أو اجتهاد؛ فهذا ما لا يقره الشرع، وهو عينه الذي يقع فيه كثير من المفتين ـ أو بالأحرى نقلة الفتاوى ـ في هذا العصر.
ومثال ما له دليل: زكاة الفطر هل تُخْرَج حبوباً أم نخرج القيمة؟ فيها الرأيان، ولكل دليله ووجهته، الحبوب هي رأي الجمهور، والقيمة هي مذهب عمر بن عبد العزيز، وأبي إسحاق، وأبي حنيفة، وجمهور من علماء العصر؛ فعلى المفتي هنا أن يراعي الأيسر على الناس في بيئة من البيئات، أو زمن من الأزمنة، وأن يراعي أيضاً الأنفع للآخذ ما دام في المسألة رأيان، ولكل رأي دليله المعتبر شرعاً.
ومثال آخر: في وقوع الطلاق الثلاث طلقة واحدة أو ثلاث طلقات؛ فقد استقرت الفتوى على وقوعه طلقة واحدة، وهو الأيسر حفاظاً على كيان الأسرة من الانهيار، ومراعاة لما جُبِل عليه الإنسان من عجلة وتسرع، وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية ومدرسته الذي خالف فيه الأئمة الأربعة، كل ذلك في ضوء ما يستند إليه هذا الأيسر من أدلة الشرع المعتبرة، وهكذا.
أما أن يفتي المفتي برأي أيسر وليس له ما يؤيده من أدلة كتاب أو سنة أو غيرهما؛ فهذا ما لا يجوز الإفتاء به.
الثاني: عدم تتبع الرخص، وهو من الشروط والضوابط المهمة أيضاً؛ لأن المفتي لو أفتى الناس بالرخص في كل شيء، وفي كل حال ولكل شخص لذاب الدين بين الناس، وأصبح الأصل هو الترخص لا العزيمة؛ ومع أن الله ـ تعالى ـ يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معاصيه؛ فإنه ـ تعالى ـ لا يرضى لعبده أو من قام مقامه في الفتيا أن يتتبع الرخص من كل مذهب، ويفتي الناس بها؛ لأنه بذلك يمرق من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة.
ولذلك حذر فقهاؤنا كثيراً من هذا الأمر، وشددوا النكير على فاعليه. قال الزركشي: «فلو اختار من كل مذهب ما هو الأهون عليه ففي تفسيقه وجهان: قال أبو إسحاق المروزي: يفسق، وقال ابن أبي هريرة: لا ... وأطلق الإمام أحمد: لو أن رجلاً عمل بكل رخصة بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة كان فاسقاً. وخصّ القاضي من الحنابلة التفسيق بالمجتهد إذا لم يؤد اجتهاده إلى الرخصة واتبعها، وبالعامي المقدم عليها من غير تقليد؛ لإخلاله بغرضه وهو التقليد. فأما العامي إذا قلد في ذلك فلا يُفَسَّق؛ لأنه قلد من يسوغ اجتهاده. وفي (فتاوى النووي) الجزم بأنه لا يجوز تتبع الرخص.
قال الزركشي: وفي «السنن» للبيهقي عن الأوزاعي: من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام، وعنه: يترك من قول أهل مكة المتعة والصرف، ومن قول أهل المدينة السماع، وإتيان النساء في أدبارهن، ومن قول أهل الشام الحرب والطاعة، ومن قول أهل الكوفة النبيذ. قال: وأخبرنا الحاكم، قال أخبرنا أبو الوليد يقول: سمعت ابن سريج يقول: سمعت إسماعيل القاضي قال: دخلت على المعتضد فدفع إليَّ كتاباً نظرت فيه، وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء، وما احتج به كل منهم، فقلت: مصنف هذا زنديق؛ فقال: لم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رُويت، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب (?) .
فلا بد من مراعاة الدليل للترخص، وحسن تقدير الحالة التي يفتى فيها هل يصلح لها الإفتاء بالرخصة أم لا؟ وكذلك الشخص المستفتي هل يصلح له الترخص المنضبط أم أن له العزيمة لزجره، وهكذا بحسب الحال والشخص وغير ذلك، فلا يكون الإفتاء بما فيه الرخصة عن غير ثقة ودليل، وإلا كان الترخيص تشهياً وجرياً مع الهوى؛ ولهذا قال النووي في مقدمات المجموع: وأما من صح قصده فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها لتخليص من ورطة يمين ونحوها فذلك حسن جميل، وعليه يُحمَل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا! كقول سفيان: إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد (?) .
الثالث: ألا يتتبع الحالات الخاصة بوقائع معينة، أو ما كان استثناء من الأصل لبيان معنى معين، فلا يجوز للمفتي أن يعمم وقائع خاصة بأشخاص معينين إلى غيرهم من أفراد الأمة، كذلك الصحابي الذي أجاز النبي شهادته منفرداً، واكتفى بها دليلاً، مع أن الأصل شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين؛ فهذه خاصة به لا تتعدى إلى غيره من المسلمين.
وكذلك ما جاء لا على الأصل ولكن على سبيل الاستثناء لإبراز معنى معين والتأكيد عليه؛ وذلك مثل ما فعله النبي ـ عليه السلام ـ من جمع بين الصلوات دون عذر جمع من سفر أو مطر أو مرض، كما رواه مسلم بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الظهر والعصر جميعاً بالمدينة في غير خوف ولا سفر، قال أبو الزبير: فسألت سعيداً لِمَ فعل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس كما سألتني فقال: أراد أن لا يُحرِج أحداً من أمته (?) . فهذا الفعل فعله النبي ـ عليه السلام ـ كي يبين مدى اليسر في الشريعة الإسلامية، ويؤكد على أن رسالته إنما جاءت لترفع الإصر والأغلال التي كانت على البشر قبل مجيء الرسالة الحنيفية السمحة.
ومع ذلك فقد ذهب فقهاؤنا ـ رضي الله عنهم ـ مذاهب شتى في تأويل الحديث، حتى لا يخرج قصر الصلاة عن أعذاره المعروفة، فقال ابن قدامة بعد ذكر الحديث: ولنا عموم أخبار التوقيت، وحديث ابن عباس حملناه على حالة المرض، ويجوز أن يتناول من عليه مشقة: كالمرضع، والشيخ الضعيف، وأشباههما ممن عليه مشقة في ترك الجمع، ويحتمل أنه صلى الأولى في آخر وقتها، والثانية في أول وقتها، فإن عمرو بن دينار روى هذا الحديث عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال عمرو: قلت لجابر: أبا الشعثاء أظنه أخَّر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء. قال: وأنا أظن ذلك (?) .
وهذا الإمام النووي يورد تأويلاً لهذه الحالة بأنها محمولة على المطر، ثم يقول: ولكن هذا التأويل مردود برواية في صحيح مسلم، وسنن أبي داود عن ابن عباس: «جمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة من غير خوف ولا مطر» ، وهذه الرواية من رواية حبيب ابن أبي ثابت، وهو إمام متفق على توثيقه وعدالته والاحتجاج به. قال البيهقي: هذه الرواية لم يذكرها البخاري مع أن حبيب بن أبي ثابت من شرطه. قال: ولعله تركها لمخالفتها رواية الجماعة. قال البيهقي: ورواية الجماعة بأن تكون محفوظة أوْلى؛ يعني رواية الجمهور: من غير خوف ولا سفر. قال: وقد روينا عن ابن عباس وابن عمر الجمع في المطر، وذلك تأويل من تأوله بالمطر. قال البيهقي في معرفة السنن والآثار: وقول ابن عباس: أراد أن لا يُحرج أمته: قد يحمل على المطر؛ أي لا يلحقهم مشقة بالمشي في الطين إلى المسجد. وأجاب الشيخ (أبو حامد) في تعليقه على رواية من غير خوف ولا مطر بجوابين: أحدهما: معناه: ولا مطر كثير، والثاني: أنه يجمع بين الروايتين؛ فيكون المراد برواية: من غير خوف ولا سفر: الجمع بالمطر، والمراد برواية: ولا مطر: الجمع المجازي، وهو أن يؤخر الأولى إلى آخر وقتها، ويقدم الثانية إلى أول وقتها (?) .
وأياً ما كانت تأويلات الفقهاء فإن النفس تطمئن إلى أنه ثابت عن النبي ـ عليه الصلاة السلام ـ بيقين أنه جمع بلا عذر (?) حتى يؤكد على المعنى الذي أشرنا إليه سابقاً، ولكن ليس معنى هذا أن يفتي المفتون بذلك، ويجعلوه أصلاً، وينسوا الأصل، وهو الجمع بأعذاره المعروفه؛ ولهذا قال (الشوكاني) بأن الجمع يجوز مطلقاً بشرط أن لا يتخذ ذلك خُلُقاً وعادة (?) . قال ابن حجر: وممن قال به ابن سيرين، وربيعة، وأشهب، وابن المنذر، والقفال الكبير، وحكاه الخطابي عن جماعة من أصحاب الحديث (?) . وعليه فلا يجوز للمفتي أن يعدي حالة خاصة إلى الناس ويعممها عليهم، أو يفتي بحالة استثنائية، وينسى الأصل؛ ويجعلها هي الأصل؛ بدعوى التيسير على الناس.
الرابع: أن يكون هناك ما يدعو للتيسير، وليس هذا شرطاً أساسياً من شروط التيسير في الفتوى؛ لأن التيسير أصل من الأصول التي بنيت عليها الأحكام، ولكن إذا كان هناك ما يدعو للتيسير الظاهر تأكد التيسير في الفتوى وتحتم، كضرورة من الضرورات، أو وقوع مشقة من المشقات، وهكذا.
فالأصل أن يأخذ المكلفون بالعزيمة ما لم يدعُ داعٍ إلى التحول من العزيمة إلى الرخصة، وهذا الضابط يدخل فيه النوعان اللذان أشار إليهما الإمامان: الشافعي، وابن القيم من قبل؛ ففي النوع الأول ـ الكليات والأصول ـ يدخل التيسير فيه بالضرورة المعتبرة شرعاً؛ فالضرورة هنا هي التي دعت إلى التيسير، وفي النوع الثاني ـ الفروع والمتغيرات ـ يدخل التيسير باختيار الرأي الأيسر ما دام له دليل، وقد يكون التيسير فيه راجعاً إلى الضرورة أيضاً، ولا يلزم للتيسير في هذا النوع وجود الضرورة، وربما يليق للمفتي أن يفتي بالتغليظ والتشديد لمن يناسبه ذلك طبقاً لتغير الأحوال واختلاف الأشخاص زجراً للعامة، ولمن قلَّ دينه ومروءته، بشرط أن تكون فتياه طبقاً لمقتضى الأدلة الشرعية وأصول الفتيا.
وبعد: فهذه بعض الشروط التي يجب على المفتي مراعاتها إذا أراد التيسير على الناس، والحق أن الباحث عن شروط التيسير لا يجد الحديث عنها مفرداً أو مستقلاً عند أحد من علمائنا لا في القديم ولا الحديث، كل ما هنالك الحض على التيسير في الفتوى وأدلة ذلك من الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح مما يعطي البحث فيها أهميته، ويستوجب على الباحثين والمتخصصين إجراء البحوث العلمية في هذه المسألة.
أما الذين يجترئون على منصب الإفتاء ـ وما أخطره ـ فالنصيحة الواجبة لهم هي: أن يتقوا الله في هذا المنصب الذي تولاه الله بذاته العليا: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} [النساء: 176] ، وأن يتريثوا في النطق بالحكم في مسألة من المسائل، حتى لا يأخذهم الله بما يقولون، وإذا كان لا يعلم حكم مسألة من المسائل فإنه يسعه ما وسع الأئمة الكبار الذين كانوا يقولون: «لا أعلم» ، وكانوا يحيل بعضهم الفتوى على بعض.