التحرير
د. فريد الأنصاري
Farid-elansari@maktoob.com
نحن اليوم في عالم طغت ظلمات الفتن فيه على معالم السنن، وغطى دخان الحرائق على الحقائق؛ فتعسرت الرؤية، وتداخل الحق بالباطل، وتشابهت طرائق السير على السائرين؛ واختلّت الموازين لدى كثير من الناس؛ بفعل سحرة العصر وكهانه الكبار؛ من شياطين الإعلام، ومَرَدَةِ الإخراج والتصوير؛ حيث صار للدين صورة (كاريكاتورية) مرعبة في مخيلة كثير من المستلَبين، وجموع التائهين، من المسلمين المتغربين.
وزاد في ذلك بشاعةً سلوكُ بعض المتدينين الجهلة، وخطابُهم الفجّ ممن تداخلت في (لا شعورهم) رغبة التدين مع رغبة التنفيس عن المعاناة والألم اللذين يعتصران قلب المؤمن في هذا الزمان؛ جرّاء الظلم والظلمات التي تجتاح هذا العالم الجديد؛ فكان تدين بعضهم إلى الانحراف أقرب منه إلى الاعتدال في السلوك والاعتقاد؛ بل حتى في الملبس والمظهر، وقد رأينا منهم من لبس اللباس الأفغاني ببلاد المغرب؛ ظناً منه أنه لباس السنَّة على التحديد والتعيين؛ فخالف عرف أهله وبلاده، وما جرت عليه عاداتهم من الأزياء؛ وكانوا بذلك إلى البشاعة أقرب؛ فساعدوا أبالسة الإعلام على صناعة الصورة المخيفة للإسلام والمسلمين، وبدأت تؤثر بالفعل حتى على بعض المسلمين؛ مما اضطرنا إلى أن نُذَكِّرهم بأن الدين جميل.
ولقد وجدنا شرائح من هؤلاء ـ أيضاً ـ ممن ضاعت منهم هويتهم أو ماتت، وضلت عنهم لغتهم، أو كادت عندما يُقَدَّرُ لهم أن تستيقظ فطرتهم من جديد، ويرغبون في العودة إلى تحقيق الشعور بالانتماء إلى هذه الأمة؛ فيجدون حرجاً شديداً في أن يكونوا في صف واحد مع (الإرهاب) ، ولقد لقينا منهم من يخاف حتى من المرور إلى جانب شاب ملتح، أو شيخ معمَّم يمشي هادئاً على قارعة الطريق، وفي حوارات شتى، وجدنا من يفزع من عقيدة الإسلام؛ لأنها في مخيلته ـ كما تلقاها عن الإعلام الغربي المتصهين ـ عقيدة الموت أو أيديولوجية العدم، وهو مع ذلك يعلن ـ بقوة ـ أنه مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويكره أن يوصف بالكفر ـ صادقاً ـ كما يكره أن يُلقى في النار، إلا أن الشبهات تعذبه عذاباً مريراً. كيف يكون مسلماً، وهذا (الالتزام الديني) ـ كما يراه أو كما صُوِّرَ له بالأحرى ـ هو إلى البشاعة والشناعة أقرب منه إلى الجمال والجلال؟
فهل لم يعد من بدّ إذن من إعادة (درس الدين) ، وشرح أبجديات التدين في الإسلام للعالمين، والكشف عن حجاب النور الذي يجلل حقيقته للناظرين؟
لا شك أن من واجبات الدعوة إلى الله أن ينهض أهل الفضل والعلم بإنجاز شتى ضروب البيان؛ مما يحتاج إليه إنسان هذا الزمان الذي وقع ضحية التغريب والتخريب في السلوك والاعتقاد، ووقع أسيراً بالشبكة التي نصبها كَهَنَةُ الإعلام، وسَحَرَةُ الفضائيات، {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116] . وما أحسب هذا ببعيد عن معنى (فتنةِ القَطْر) المذكورة في حديث رسول الله #، فيما رواه أُسَامَةُ بن زيد ـ رضي الله عنه ـ: (أَنّ النّبِي # أَشْرَفَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ (?) . ثُمّ قَالَ: «هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ إِنّي لأَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلاَلَ بُيُوتِكُمْ، كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ» !) (?) .
من أجل هذا وذاك؛ كانت هذه الورقات في (جمالية الدين) .
إن «الجمالية» علم يبحث في معنى «الجمال» من حيث ماهيته، ومقاييسه، ومقاصده. «والجمالية» في الشيء تعني أن «الجمال» فيه حقيقة جوهرية، وغاية مقصدية، فما وُجِدَ إلا ليكون جميلاً (?) .
أما عندما نقول هنا (جمالية الدين) فإننا نعني أن الله الذي جعل الدين جميلاً، قَصَد أن يكون التدين جميلاً أيضاً، قصداً تشريعياً أصيلاً؛ بمعنى أن ذلك قُصِدَ منه ابتداءً، وليس مصادفة واتفاقاً؛ فالجمالية هنا متعلقة بتلك الإرادة الإلهية التي قضت أن (يتجمل) الناس بالدين، ويتزينوا به؛ عبادةً لله رب العالمين، ومنهاجاً لعمران الإنسان في الأرض، مصداقاً للحديث النبوي الشريف: «إن الله ـ تعالى ـ جميل يحب الجمال» (?) ، والتجميل المطلوب في هذا الحديث يتعلق بالشكل والمضمون معاً، كما سترى بعد مفصلاً بحول الله.
ومن هنا فإن (جمالية الدين) مفهوم له امتداد كلي شمولي؛ إذْ يمتد ليغطي علاقات المسلم بأبعادها الثلاثة: علاقته مع ربه، وعلاقته مع الإنسان، ثم علاقته مع البيئة أو الكون والطبيعة. وما يطبع ذلك كله من معاني الخير والمحبة والجمال. وكل ذلك يدخل تحت مفهوم (العبادة) بمعناه القرآني الكلي الذي هو غاية الغايات من الخلق والتكوين، مما بينته الآيات البيِّنات من مثل قوله ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 ـ 58] .
ولذلك فإن «الجمالية» في الدين لا تدرك من ألفاظ بعينها في الشرع فحسب، بل هي (مفهوم) مبثوث في أصول الدين وفروعه. إنها تؤخذ من كل معاني الخير، والتخلق، والتجمل، والتزين، والإحسان، ونحو هذا من معاني الجمال المبثوثة في القرآن الكريم والسنة النبوية.
ولن يكون التدين ـ من حيث هو حركة في النفس والمجتمع ـ جميلاً إلا إذا جَمُلَ باطنُه وظاهرُه على السواء؛ إذ لا انفصام ولا قطيعة في الإسلام بين شكل ومضمون، بل هما معاً يتكاملان. وإنما الجمالية الدينية في الحقيقة هي: (الإيمان) الذي يسكن نورُه القلبَ، ويعمره كما يعمر الماء العذب الكأس البلورية؛ حتى إذا وصل إلى درجة الامتلاء فاض على الجوارح بالنور، فتُجَمّل الأفعال والتصرفات التي هي أخلاق (الإسلام) ، ثم تترقى هذه في مراتب التجمل؛ حتى إذا وصلت درجةً من الحسن؛ بحيث صار معها القلب شفافاً كأنه يشاهد الله ـ تعالى ـ أو يراقبه؛ كان ذلك هو (الإحسان) .
والإحسان: هو أعلي مراتب الدين وعنوان الجمال في الدين، وهو الذي عرفه الحبيب المصطفى بقوله #: «الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك!» (?) .
فالدعوى التي بُني عليها غرض هذا المقال إذن: هي تقرير حقيقتين في الإسلام:
الأولى: أن الجمال جوهر أصيل في الدين، تفيض أنواره من كل حقائقه الإيمانية والتشريعية؛ ولذلك فإن خطاب الوحي قد قام ـ فيما قام عليه ـ على وضع مقاييس الجمال، وبيان المعالم الكلية لمنهاج التجمل بالدين.
والثانية: أن تجميل التدين وتحسينه؛ حتى يكون غاية في الحسن والجمال؛ هو قصد مبدئي أصيل من الدين.
وإذا كان (الدين) هو نصوص القرآن والسنة الصحيحة ـ وهي كلها بحمد الله جميلة ـ فإن (التدين) هو كسب الإنسان، وسعيه؛ لتمثل قيم الدين في نفسه ومجتمعه.
إلا أن الغالب في لفظ (الدين) أن يرد بمعنى (التدين) على سبيل الترادف، سواء على مستوى نصوص الشرع، أو على مستوى نصوص اللغة؛ ففي معجم مقاييس اللغة لابن فارس: (الدال والياء والنون: أصل واحد، إليه يرجع فروعُه كلها. وهو جنس من الانقياد والذل؛ فالدين: طاعة، يقال: دان له يدين دِيناً، إذا أصْحَبَ وانقاد، وطاعَ. وقوم دِينٌ؛ أي: مطيعون منقادون. قال الشاعر: «وكان الناس ـ إلا نحن ـ ديناً» ) (?) .
فالدين في هذا السياق هو التدين عينه
أما في الاستعمال الشرعي؛ فالدين يَرِدُ بمعنى الإسلام نفسه؛ أعني: الاسم العَلَم على دين الله الحق. ويرد بمعنى التدين. ولا يميز بينهما إلا السياق. فالأول: هو قول الله ـ عز وجل ـ: {إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسْلامُ} [آل عمران: 19] ، وقوله ـ سبحانه ـ: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] ، وكذا قوله ـ عز وجل ـ: {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} [النساء: 46] . وأما الثاني: ـ أي حيث يرادف الدين ـ التدين، فهو كقوله ـ تعالى ـ: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29] . فالسياق هنا دال على أن المراد من (الدين) ، وهو ما يضمره الإنسان في قلبه من اعتقاد، وما يمارسه من عمل: هو التدين؛ ولذلك تعلق به الإخلاص، وإنما هذا شعور بشري. وقد تكرر هذا في القرآن كثيراً.
ولعل ورودهما مترادفين في الحديث النبوي أكثر. وذلك نحو حديث: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها. فاظفر بذات الدين تربت يداك!) (?) ، فواضح أن المراد بـ (الدين) هنا هو عملها الديني؛ أي: التدين، لا نصوص الشرع، ومثل هذا قوله # للمسافر: (أستودع الله دينَك، وأمانتَك، وخواتيمَ عملك) (?) . وكذا قوله #: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعِرْضِه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) (?) .
وكان أغلب استعمال العلماء قديماً لمعنى التدين، إنما هو بلفظ (الدين) لا (التدين) . وذلك نحو قول علماء الجرح والتعديل: (لين الدين، أو في دينه لين) لمن كان ضعيف التدين. ولم يرد لفظ (التدين) في القرآن قط، حتى إنه لما أراد الله ـ عز وجل ـ أن يأمر بحسن التدين قال ـ سبحانه ـ: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] . فـ (إقامة الدين) كما دل عليه السياق: هي تطبيق نصوص الدين. والتطبيق: هو التدين.
ولفظ (التدين) فصيح في العربية، وإن لم يجرِ استعماله لدى الأقدمين كثيراً؛ وذلك أنه (يقال: دَانَ بكذا دِيَانَةً، وتَدَيّن به فهو دَيِّن ومُتَدِّينٌ. والدين: الإسلام، وقد دِنْتُ به. والدِّين: ما يَتَدَيَّنُ به الرجل) (?) . وإنما شاع استعمال لفظ (التدين) في العصر الحاضر؛ نظراً لما عرفه الناس من انسلاخ عن الالتزام بالدين؛ إذ قد يكون المسلم متديناً وقد يكون غير متدين، دون أن يلزم عن ذلك الخروج الكامل عن الدين. ولم يكن الناس قبل في حاجة إلى هذا التمييز في القديم إلا قليلاً. وأيضاً فإن خلط الدين كنصوص في أذهان الكثير من الناس، بالدين كممارسة بشرية؛ أدى إلى استحباب بعض العلماء الفصل بين المعنيين بتخصيص (الدين) ـ في الفكر الإسلامي الحديث ـ للدلالة على مجموع نصوص الوحي من الكتاب والسنة، وتخصيص (التدين) كما هو في اللغة بالدلالة على التطبيق البشري للدين.
إلا أن استعمالنا نحن ههنا لمصطلح (الدين) إنما هو واقع بدلالته القرآنية الأصيلة؛ أي: الجامعة بين القصدين: قصد نصوص الوحي، وقصد التطبيق البشري لها؛ وذلك لأن (التدين) لا يكون جميلاً إلا بمقدار مقاربته للمقاييس الجمالية للدين، فجمالية الدين هي التي تفيض بأنوارها على جمالية التدين، لا العكس. ومن هنا كان حديثنا هاهنا مبنياً في القصد على بيان (جمالية الدين) بالأصالة، وما ينبغي أن ينتج من جمال في التدين بالتبع. فاستعمالنا لمصطلح (الدين) كان باعتباره مصطلحاً مركزياً كلياً ـ كما هو في القرآن ـ للدلالة على هذا الغرض الجامع. كما أننا استعملنا مصطلح (التدين) أحياناً لإفراد السلوك البشري بالقصد، إذا دعت الحاجة السياقية لذلك؛ إذْ إن (التدين) ـ من حيث هو تجربة بشرية ـ قد لا يكون جميلاً بالضرورة؛ لأنه ببساطة كسب الإنسان. والإنسان مهيأ للخير والشر معاً، ولو جاء ذلك في ثوب الدين وأشكاله، وهنا مكمن الخطر؛ فالدين ككسب بشري ـ من حيث الأصل ـ الغالب فيه أن يكون جميلاً، نعم! لأن الدين كنصوص إنما نزل من أجل هذه الغاية: تزيين بني آدم بعبادة الله تعالى؛ ومن هنا ظن بعض الناس أن كل ما ينسب من قول أو فعل للمتدينين إنما هو شيء جميل، كما أنه قد يظن بعض هؤلاء في أنفسهم ذلك، وقد لا يكون في واقع الأمر كذلك؛ لاحتمال الخطأ والزلل، والانحراف عن الدين بقصد أو بغير قصد. بل قد يكون ـ إذا شط به الانحراف في الفهم أو في الممارسة ـ إلى القبح أقرب.
ومن هنا كان هذه المقالات محاولة للنظر في (جمالية الدين) لرد التدين إليه؛ لأن جمالية الدين ثابتة لا غبار عليها، ولا يخشى عليها. وإنما الذي يعتريه التشوه والانحراف هو التدين. وأما الدين فهو محفوظ بحفظ الله الحفيظ العليم. إلا أن ضياع الدين بضياع التدين وارد بمعنى آخر؛ وذلك أن التدين إذا جَمُل وحَسُن لَحِقَ جمالُه بالدين؛ فيزيده جمالاً وبهاءً، كما أنه إذا فسد وساء لحقه فسادُه؛ فيشوه معالمه، ويكسف صورته في العالم! وهنا تكمن المشكلة.
لقد أتى على المسلمين حين من الدهر ضاعت منهم فيه قيم الدين؛ فتشوهت في قلوبهم وتصوراتهم مقاصده الجميلة. والنتيجة: أنِ انحرَفَ بذلك في حياتهم منهج الدين، لقد طغى على كثير من المتدينين اليوم سلوك خطير أعوج، وهو اعتقادهم الشعوري، أو اللاشعوري، بأن الدين الحق إنما هو الخشونة، والحُزُونَةُ في القول والعمل.
إن الظروف التاريخية الحديثة والمعاصرة، وكذا الظروف السياسية التي أظلت العالم الإسلامي منذ بداية القرن الميلادي العشرين، والتي ما تزال تظله مع مطالع هذا القرن الجديد، قلت: إن هذه الظروف كلها أنتجت حالة «رد فعل» سيئة لدى كثير من المتدينين، سواء في فهم الدين، أو في انتهاجه وسلوكه.
إن النار التي يُحَرَّقُ بها المسلمون في العالم اليوم، جماعات وشعوباً ـ وخاصة أجيال حركة الوعي الإسلامي، وطلائع الصحوة الإسلامية ـ جعلت تعابير طوائف منهم، وأشكالاً من ممارسة بعضهم، تنفث رماداً ودخاناً؛ فاستغله الإعلام الغربي ـ ومن هو على شاكلته ونهجه من الإعلام العربي ـ استغلالاً سيئاً؛ لخدمة أغراضه المركزية؛ فرسم له صورة كاريكاتورية مفزعة ما أنزل الله بها من سلطان؛ فسلط الضوء على النقطة السوداء في المجتمع الإسلامي، وضخَّمها تضخيماً، وعرض الصورة الشاذة بدل الصورة الطبيعية. تماماً كما يقع للوجه الجميل النابض بالحسن والجمال، إذا ركزت نظرك لا على هيئته الكلية، وإنما على موقع خالة ذات سواد غامق فيه، حتى لا تكاد ترى منه غيرها، فتضخمت في عينك؛ حتى استوعب نتوؤها في خيالك كل الوجه، فتحوَّل الجمال فيه إلى صورة مفزعة، ولو نظرت إلى الخالة بحجمها الصغير في عرض الوجه؛ لفاض الحُسْنُ المتدفق من كل تقاسيمه ومعالمه عليها، ولرأيتها آنئذ جمالاً في ذاتها، بل لرأيتها سراً من أسرار جمال الوجه، وعيناً من عيون الحسن المتدفق عليه، ولكن أعاذنا الله من العمى، {فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] ، ورحم الله الشاعر العربي؛ إذ قال:
وعينُ الرِّضا عن كل عيبٍ كليلةٌ
ولكنَّ عينَ السخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَا
وللأسف الشديد؛ فإن ذلك كان من الأسباب الرئيسة، الكامنة وراء ضمور الوجه الجميل للدين الذي هو وجهه الحقيقي، المعبر عن تناسق قسماته وصفاء جوهره.
إن طوائف من أبناء جيل الصحوة الإسلامية اليوم قد تخشبت قلوبهم، وتشنجت أقوالهم، وتحجرت عيونهم؛ فكانوا مثالاً للتدين الفِجّ، والسلوك القبيح، والذوق المتردي، وقد استغل الإعلام المغرض هذه الحالات الشاذة المنحرفة؛ فانطبع بذلك في فهوم كثير من الناس: أن الدين هو أبعد ما يكون عن قِيَم الحب والجمال، وكأنه ما أُنزل إلا ليكون ملاذاً «أيديولوجياً» لمرضى العقول ومتخلفي الأذواق والشعور.
وكان الأحرى بهؤلاء أن يحافظوا للناس على رونق الدين، ورُواء التدين، ويقدموا للناس مثالاً فنياً رفيعاً للإيمان، يشع بالجمال الآسر للقلوب، ويُخرجوا للعالم نموذجاً بهياً للسلوك، يسحر العقول، ويأخذ بالألباب، فيكون المسلم بذلك آية للجمال الرائق الرقراق، السارب أريجه في الأنفس والمجتمعات، ولا يصبغوه بأحوالهم النفسية التي تعاني تحت ضغط العالم الظالم، والطغيان العاتي هنا وهناك، ولكن.. ما أشد ردود الأفعال المتشنجة!
لقد عورضت نصوص الكتاب والسنة معارضات غير متوازنة، وضرب بعضها ببعض؛ فشاهت الفهوم، وكانت الكارثة حيث غابت نصوص التيسير والتبشير، وسيطرت فهوم التعسير والتنفير؛ فاختلّ التوازن في تدين كثير من الناس فهماً وتطبيقاً.
ساءت النماذج في هذا الزمن؛ حتى لقد شعرت ـ كما شعر كثير غيري ـ أننا في حاجة ماسّة إلى «تذكر» أن الدين جميل حقاً، وأن التدين إنما هو تمثُّل قيم الجمال، والتزين بأنوارها في السلوك والوجدان.
نعم! الدين جميل، وأي شيء يكون جميلاً في هذه الدنيا إن لم يكن هو الدين؟
وإنما قدم القرآنُ «الإسلامَ» على أنه مثال الجمال الأعلى من كل الأديان، وإنما عرضه زين الدعاة محمد رسول الله # على الناس ـ كل الناس ـ عرضاً جميلاً؛ فكان المتدينون في زمانه ـ عليه الصلاة والسلام ـ والأعصر التي بعده قناديلَ تمشي في الأرض، ورياحين تملأ الزمان والمكان بأريج الجنة، فماذا وقع للناس اليوم؟
إن معاني الجمال في الدين من صفاء الروح، ومنازل الإيمان، وأحوال الإحسان؛ لم يستفد منها جمهور كبير من أبناء الصحوة الإسلامية المعاصرة؛ لأسباب منها: اشتهار نسبة كثير من مفاهيمها وألفاظها إلى المتصوفة ـ زعموا ـ بشتى مدارسهم ومذاهبهم؛ فكان أن زهد الناس فيها؛ بسبب ما خالط بعض كتبهم من خرافات، وشطحات، وبدع في الدين، ومنكرات، وإنما هي آيات قرآنية أو نبوية محضة، نعم! ربما اكتسبت في سياق الاستعمال التاريخي دلالات منحرفة في بعض الأحيان؛ فيكون الواجب هو تحريرَها منها، لا إلغاءها والتنكر لها.
إن بعض الناس قد تحدثه عن شيء من ذلك؛ فيتبادر إلى ذهنه أنك سوف تقيده ـ بعد ذلك ـ ببدع التصوف من وساطات منكرة، واصطلاحات غامضة، ودعاوى أخرى ما أنزل الله بها من سلطان؛ إلا الافتئات على الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.
مع أن المسلم غني ـ ولله الحمد ـ عن وساطة الأشياخ والأوتاد والأبدال؛ بكلام الله ـ جل ثناؤه ـ وحديث رسول الله # المتاحَين لكل من أقبل على الله ببصيرة وقلب مفتقر، لا يتوقف كرمه وفضله ـ تعالى ـ على (إذْن) شيخ، أو رِضى (غوث) ، وإنما نوره ـ سبحانه ـ ظاهر أبداً، متدفق سرمداً؛ وذلك سر من أسرار جمالية الإسلام دين التوحيد الحنيف، وهو لازم عن جمال أسمائه الحسنى، وكمال صفاته العلى ـ سبحانه وتعالى ـ عما يصفون.
نعم! للعلماء المربين وللحكماء المرشدين فضل الدلالة على الله، والتبصير بمسالك السير إلى منازل الحق سبحانه؛ لما لهم من سابقة العلم والذوق والمعرفة بالطريق، والانتصاب للدعوة إلى الله. وما دون ذلك من دعاوى الخصوصات الشاطحة، والفلسفات المخرقة، باطل منكر، لا يقود إلا إلى العمى والضلال.
ولكن ما ينبغي لهذا أن يعمينا عن جمال الدين، وإنما خاطبنا الله ـ تعالى ـ بالجمال، وأمرنا أن نرحل إلى منازله العليا، ونسير إليها سيراً لا يفتر، ولا ينقطع حتى يدركنا اليقين، لا ينبغي للمؤمن الكيِّس الفطن أن تعميه غلطات المبتدعين ـ مهما قبحت ـ عن محاسن الدين؛ فيقنع في دينه بظواهر الألقاب، ويرمي بعيداً باللباب.
إذن يكون من الجاهلين!
كيف والجمال هو الدين؟
لقد خلق الله الإنسان في أجمل صورة وأحسنها، وقارِنْ بينه ـ إن شئت ـ وبين سائر الحيوانات والوحوش ظاهراً وباطناً! قال ـ عز وجل ـ: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 64] ، ثم جعل له الكون من كل حواليه جميلاً، وحسنه تحسيناً، عساه يكون في تدينه حسناً جميلاً! قال ـ تعالى ـ: {إنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف: 7] ؛ فالزينة الكونية مبعث وجداني للتحلي بالزينة الإيمانية.
إن الناظر في هذا العالم الكوني الفسيح، يدرك بسرعة أن الإنسان يعيش في فضاء فني راق، بيئة واسعة بهية، هي آية من الجمال الذي لا يبارَى، بدءاً بالأرض حتى أركان الفضاء، الممتدة بجمالها الزاخر في المجهول، تسير في رونق الغرابة الزاهي إلى علم الله المحيط بكل شيء، ومن ذلك قوله ـ سبحانه ـ: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} [الحجر: 16] وجعل الأرض الجميلة تتنفس بالجمال، نعماً لا تحصى ولا تنتهي {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] . وأرشد ذوق الإنسان إلى تبين معالم هذا الجمال في كل شيء: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ #! 5! #) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ #! 6! #) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ #! 7! #) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 5 - 8] .
ثم انظر إلى هذا الجمال المتدفق كالشلال من الآيات التاليات! يقول ـ سبحانه ـ بعد الآية السابقة بقليل في سياق المنّ بهذه النعم الجميلة الجليلة: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ #^10^#) يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ #^11^#) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ #^12^#) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ #^13^#) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ #^14^#) وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ #^15^#) وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ #^16^#) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ #^17^#) وَإن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 10 - 18] . إنها صورة كلية شمولية، ذات ألوان وأنوار حية متحركة، بتضاريسها وبحارها، وأحيائها جميعاً، ثم بفضائها الرحب الفسيح.
وفي سورة الأنعام صور تنبض بجمال الخصب والنماء، جمال لا يملك من له أدنى ذرة من ذوق سليم إلا أن يخضع لمقام الجمال الرباني العظيم. قال ـ جل جلاله ـ: {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إلَى ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ #^99^#) } [الأنعام: 99] . ويلحق بها قوله ـ تعالى ـ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ #^27^#) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 27 - 28] .
فهذه آياته الصريحة، وإشاراته اللطيف كلها، كلها مشعة بتوجيهات ربانية لتربية الذوق الإسلامي؛ حتى يكون في مستوى تمثل مقاصد الدين البهية، بتدينه الجميل.
إن الله ـ تعالى ـ خلق الحياة على مقاييس الجمال الإلهية الباهرة الساحرة، وأرسل الرسل بالجمال؛ ليتدين الناس على ذلك الوِزان وبتلك المقاييس، ولذلك قال النبي محمد # سيد الأتقياء، وإمام المحبين: «إن الله ـ تعالى ـ جميل يحب الجمال» (?) . وفيه زيادة صحيحة: «ويحب معالي الأخلاق ويكره سِفْسافَها» (?) ؛ مما يشير إلى أن الجمال مطلوب في أداء المسلم شكلاً ومضموناً، مبنى ومعنى، رسماً ووجداناً.
لقد كانت الآيات المذكورة قبل من سور النحل، والأنعام، وفاطر، توقظ الشعور الوجداني الإنساني؛ لينتبه إلى مواطن الخير والحسن في نعم الله؛ ولذلك كانت مقاطع الآيات كلها تختم بصيغ التنبيه والاعتبار: (إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون.. لقوم يعقلون.. لقوم يذّكرون.. ولعلكم تشكرون.. لعلكم تهتدون) بل بعضها كان صريحاً في الأمر بالنظر إلى نوابض الجمال في الكون والطبيعة، كما في قوله ـ تعالى ـ الوارد قبل: {انظُرُوا إلَى ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99] . ذلك أن تتبع جداول الجمال يقود إلى منبعه العظيم؛ حيث الحق والخير الصافي الرقراق. هنالك إذن يعب المتدينون من موارد الدين ما يتزينون به لربهم عبادة وسلوكاً؛ فإذا القلوب تنبض بجمال الإيمان، حباً لا يخبو أبداً، وما ألطف قوله ـ تعالى ـ في هذا: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7] . أن تحب الإيمان يعني أن الدين سكن فؤادك، فتعلقتَ به كما يتعلق المتيم بمحبوبه، والحب لا يسكن قلباً إلا إذا شاهد مباهج الجمال التي تأخذ بمجامعه، ولذلك قال: {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} فإذن كيف يصدر عن مسلم كهذا قبح في التعبير أو قبح في السلوك؟ إذن يكون خارج معنى (العبادة) حينئذ، وخارج مقاييس الدين؛ ذلك أن الله لا يقبل إلا جميلاً ولا يقبل إلا طيباً صدقت يا رسول الله!: «إن الله ـ تعالى ـ جميل يحب الجمال، ويحب معالي الأخلاق ويكره سِفْسافَها» .
فليكن الدين إذن: سيراً إلى الله في مواكب الجمال! قال ـ تعالى ـ: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ #^31^#) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ #^32^#) قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31 - 33] فأي جمال بعد هذا وأي حسن؟ وأي ترشيد لذوقه أدَقّ من هذا وأرقّ؟ بدءاً بخوالج نفسه ووجدانه حتى مظاهر شكله ولباسه، دون أن يغفل شيئاً من مقاييس الذوق في الطعام والشراب، كل ذلك في سياق عبادة الله رب العالمين، فليكن هذا هو الدين الحق وإلا فلا دين!
وإنها للطافة كريمة أن يجمع الحق ـ سبحانه ـ في مفهوم الدين من خلال هذه الكلمات النورانية بين جمالين: جمال الدين، وجمال الدنيا: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32] ، ليكون ذلك كله هو صفة المسلم.
ولقد حرص الرسول # على تربية صحابته الكرام على كل هذه المعاني، وكيف لا، وهو أول من قرر جمال ربه؛ فأحبه حتى درجة الخلة، قال # لأصحابه يوماً: «لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت ابن أبي قحافة (أبا بكر) خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله» (?) وصح ذلك عنه # في سياق آخر؛ قال #: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله ـ تعالى ـ قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإنَّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد! إني أنهاكم عن ذلك!» (?) . وكان يعلمهم كيفية سلوك طريق المحبة بعبارات وإشارات شتى، ما تزال تنبض بالنور إلى يومنا هذا، فانظر إن شئت إلى قوله #: «أنتم الغُرُّ المحجَّلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء؛ فمن استطاع منكم فليطل غُرته وتحجيله!» (?) . والغرة بياض في ناصية الحصان، والتحجيل بياض في يديه؛ فتلك سِيم الجمال في وجوه المحبين وأطرافهم، يوم يَرِدُون على المصطفى #، وهي سِيَم «ليست لأحد من الأمم» (?) بها يُعرفون في كثرة الخلائق يوم القيامة، كالدُّرّ المتناثر في دُجُنَّة الفضاء، هذه ومضة الإبراق النبوي تبشر برشح الأنوار على أطراف المتوضئين الساجدين، رشحاً لا يذبل وميضه أبداً؛ فإذا النبي الكريم يميز جمال المحبين وسط الزحام واحداً واحداً.
ـ قال #: «ما من أمتي من أحد إلا وأنا أعرفه يوم القيامة! قالوا: وكيف تعرفهم يا رسول الله! في كثرة الخلائق؟ قال: أرأيت لو دخلتَ صُبْرَةً [محجراً] فيها خيلٌ دُهْمٌ، بُهْمٌ، وفيها فرَسٌ أغَرُّ مُحَجَّلٌ، أما كنتَ تعرفه منها؟ قالوا: بلى! قال: فإن أمتي يومئذ غُرٌّ من السجود، مُحَجَّلون من الوضوء» (?) .
فأي تذويق فني هذا للدين؟ وأي ترقية لطيفة للشعور هذا؟ وأي تشويق؟
ولم يفتأ النبي # يرقّي الذوق على مستوى التصرف والسلوك، ليس في مجال المعاملات فحسب، ولكن أيضاً في مجال الدعوة والإرشاد. وليس قوله #: «إن الله ـ تعالى ـ رفيق يحب الرفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف» (?) وقوله: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا..!» (?) . وقوله أيضاً في فرض الإحسان على المؤمن في كل تصرفاته وأعماله التعبدية والعادية: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء..» الحديث (?) ـ إلا نموذجاً لعشرات الأحاديث المنضوية تحت هذا المعنى الكلي الكبير: الإحسان في كل شيء: في الشعور، والأخلاق، والمعاملات، والتصرفات، والسلوك.
إن الصحوة الإسلامية المعاصرة لفي حاجة إلى تربية ذوقية؛ ترهف حسها بمواطن الجمال، الموجهة لكل شيء في هذا الدين، عقيدةً وشريعة. ولقد انتبه السابقون إلى ذلك وانبهروا به؛ فسارعوا إلى الالتحاق بقوافل المحبين، وكان منهم مصنفون ذوّاقون، نبّهوا إلى هذه المعاني، من أمثال الإمام ابن الجوزي، والإمام ابن القيم، والإمام الشاطبي رحمهم الله أجمعين.
ألا ما أحوجنا اليوم إلى إعادة القراءة للدين، في مصادره العذبة الصافية الجميلة! قراءة تصل المسلم بالله؛ حتى ينتبه إلى الحقيقة الجمالية الجوهرية في الإسلام، عقيدة وشريعة، وبيان نوابض الحسن من كل ذلك في مجال التدين؛ عسى ألا يحجبنا دخان الحرائق المشتعلة بهذا الزمان عن مشاهدة ما لدينا من ثروة جمالية، والتجمل بمباهجها تديناً نسلك به إلى الله ذي الجمال والجلال، سلوكاً نكون به (أسوة حسنة) حقاً، وشهداء على الناس صدقاً، كما كان رسول الله # بجمال تدينه الرفيع أسوةً حسنة لأمته وشهيداً عليها. قال ربنا ـ جل علاه ـ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] . وقال ـ سبحانه ـ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] .
{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8] {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} .
[الحشر: 10] .
^
العدد 210