د. عبد العزيز كامل
قبل ستة أشهر من (الاعتراف به) نائباً للرئيس في السودان، ريثما تنضج الطبخة لتحويله إلى رئيس، هلل الآلاف من أنصار المتمرد الصليبي (جون جارانج) بالهتاف والأغاريد والزغاريد مرددين: «أهلاً أهلاً بالرئيس.. أهلاً أهلاً بالرئيس..» وكان ذلك في معقله بالجنوب؛ حيث ألقى فيهم كلمة حماسية قال فيها: «إن الجيش الشعبي لتحرير السودان، سيصبح قوة سياسية كبرى في جنوب السودان وشماله» .
وبعد أن تم توقيع اتفاق (السلام) مع هذا المحارب في (9/1/2005م) قال جارانج: «إن هذا الاتفاق سيغير وجه السودان إلى الأبد» ، وهي كلمة لها أبعادها، ولها ما بعدها.
فالسودان يريد أعداء الأمة تغيير وجهه (إلى الأبد) لماذا؟
- لأنه بوابة الإسلام الجنوبية إلى إفريقيا المستهدفة بالتنصير الشامل منذ عقود.
- ولأنه أكبر الدول الإفريقية مساحة، وأخصب الدول العربية أرضاً بما يكفي العرب جميعاً للاكتفاء الغذائي، لو أرادوا الاستغناء عن ابتزاز أعدائهم.
- ولأنه يمثل العمق الاستراتيجي لمصر التي تظل بحجمها ودورها ـ رغم تقلبات السياسة ـ أكبرَ تحد لإسرائيل.
- ولأن السودان الفقير في الواقع أصبح غنياً في المتوقَّع؛ بما ظهر فيه من كنوز البترول في جنوبه، واليورانيوم في غربه.
- ولأن هذا البلد يملك موقعاً استراتيجياً متميزاً على البحر الأحمر، يتحكم في الملاحة إلى قلب إفريقيا.
- ولأن السودان هذا هو البلد الذي خرج عما يشبه (الإجماع) على ضلالة العلمانية، فحاول إحلال أحكام الشريعة مكان أحكام البشر الوضيعة.
- ولأنه هو البلد العربي الوحيد الذي عبأ جيشه الرسمي بشعارات (الجهاد) في المعارك المفروضة عليه، في زمان أصبح المراد بالجهاد هو أن يكون مرادفاً مباشراً لـ (الإرهاب) .
- ولأن السودان كان له موقفه المميز من تأييد القضايا العادلة كما في فلسطين والعراق، بل كانت له مشاركات في تفعيل العمل الإسلامي، فصار ـ حتى وقت قريب ـ ملتقى للكلمة الحرة، والحركة الطليقة.
- ولأنه شريك كبير في ملكية أطول نهر في العالم، وهو نهر النيل الذي جعله الله شرياناً للحياة لما لا يقل عن مئة مليون مسلم في مصر والسودان وغيرها، يراد إخضاعهم لتحكم حفنة من نصارى جنوب السودان المتواطئين مع نصارى أثيوبيا، وأوغندا، وكينيا، والمدعومين جميعاً من إسرائيل وأعوانها.
لأجل هذا كله وغيره نُظر إلى السودان المستضعف على أنه يملك كل أسباب القوة البشرية والاقتصادية والمائية والاستراتيجية؛ بحيث لو تحرر من الضغوط والمشكلات والأزمات لأصبح مهيأ لانطلاقة كبيرة تكسر إسار الرق الحضاري المضروب على القسم الإسلامي من إفريقيا، وبخاصة إذا توافرت لمصر معه ظروف مشابهة من التحرر من الضغوط والمشكلات والأزمات وعشوائية السياسات.
- تأهيل المحاربين:
هل يعقل أن يتلقف عدو محارب كل أسباب القوة المعطلة هذه؛ ليفعِّلها في حرب المسلمين، بدلاً من انتفاعهم بها..؟ هذا للأسف ملخص المشهد الأخير في السودان بعد ما يسمى بـ (اتفاق السلام) ، مهما هلل المهللون، ورقص الراقصون! ... فأن يتولى كافر محارب المنصب الأول في جنوب السودان، والمنصب الثاني في كل السودان؛ فإن هذه ليست مصيبة السودان وحده، بل مصيبة كل جيران وإخوان السودانيين في العقيدة والدين؛ لأن هذا المنصب يؤهله واقعياً؛ لأن يكون رئيساً فعلياً لكل السودان إذا ما دبرت أحداث التغييب أو تغيير الرئيس ليحل محله ـ بشكل دستوري جداً ـ نائب الرئيس (الأول) ! وهنا تتحول الأغلبية إلى أقلية ويتحول الحكام إلى محكوميين يلهثون للاستجداء من الأعداء.
هذه الصورة القاتمة من تنصيب الكفار في هذه المناصب الخطرة، إن ساغت في شرائع السياسات العلمانية اللادينية؛ فإنها لا تسوغ في الشرعة الإلهية التي لا تسمح بأن تكون كلمة الذين كفروا هي العليا في أوطان المسلمين؛ حتى انعقد إجماع الأمة على أن الكافر لا تصح ولايته في الحكم أو القضاء؛ فأن يكون تولي أمثال جارانج منصب قاضٍ في إحدى محاكم السودان المسلم باطلاً؛ فإن توليه لمنصب النائب الأول عن الرئيس العام أشد بطلاناً ونُكراً؛ فالحكم والنيابة في الحكم والإمارة والقضاء كلها ولاية، والولاية لا تكون لكافر طرأ عليه الكفر؛ فكيف بمن وُلد في الكفر وظل على الكفر، وحارب من أجل الكفر؟! إن ولايته باطلة منذ اللحظة الأولى لانعقادها {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] .
وقد قال القاضي عياض: «أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل» (1) ونائب الإمام يأخذ حكم الإمام؛ لأنه في وارد أن يخلفه في أي لحظة. ولم ترتضِ الشريعة للمسلمين أن يكونوا سلبيين تجاه تولية الكفار؛ ولهذا قال الإمام ابن حجر العسقلاني: «ينعزل بالكفر إجماعاً، فيجب على كل مسلم القيام في ذلك، فمن قَوِيَ على ذلك فله الثواب، ومن داهن فعليه الإثم، ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض» (2) .
هل نحن مضطرون لأن نثبت ـ في زمن الصحوة ـ بطلان ولاية النصارى على المسلمين، كما اضطررنا طويلاً لإثبات بطلان تولية المرتدين وغير ذلك من بدهيات الدين؟
إن تلك (المكافأة) التي توجت تمرداً استمر لنحو عشرين عاماً من كافر محارب ستكون سابقة لكل المتمردين على المسلمين لكي يستمروا في تمردهم حتى ينالوا جائزة المردة في نهاية المطاف.
ما يحدث في السودان اليوم هو النهاية، أو بداية النهاية، لمسلسل طويل من تآمر النصارى وتواطؤ العلمانيين المنافقين وتغافل المسلمين؛ فالإنجليز ـ وقاتل الله الإنجليز ـ هم أول من وضع بذور الفتنة في جنوب السودان عندما احتلوا هذا البلد في أواخر القرن التاسع عشر؛ فقد تعمدوا وقتها إقفال الجنوب الذي يكثر فيه الوثنيون أمام الدعوة الإسلامية، في الوقت الذي أطلقوا فيه يد التنصير، فأباحوا وأتاحوا للمنظمات التنصيرية أن تنطلق دون عقال، مدعومة بإمكانات المؤسسات الكنسية في العالم، وبعد الاستقلال جاءت حكومات متعاقبة، كان لها دور ـ فيما يبدو ـ في إضعاف الدعوة بين الوثنيين الذين تحوَّل الكثير منهم إلى محاربين تحت لواء النصرانية، في وقت كانت الحكومات تتصرف وكأنها لا ترى للإسلام حاجة بهم، أو ترى بهم حاجة للإسلام ما داموا مواطنين مسالمين؛ وحتى المحاربين منهم أُهمل شأنهم حتى استفحل، وهكذا تدفع الأجيال ثمن التفريط في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله.
والحكومة السودانية الحالية لا تُعفى أيضاً من جانب من المسؤولية عما آل إليه أمر الجنوب؛ فقد قامت بإلغاء قانون الحد من التنصير الذي أصدره الفريق إبراهيم عبود الذي حكم في الفترة من 1958 إلى 1964م، وكان هذا القانون قد منع بناء كنائس جديدة في الجنوب إلا بإذن الحكومة، فقيَّد من اندفاع حركة التنصير التي تتخذ من الكنائس منطلقاً لها، إلا أن الإنقاذ جاء ـ وللأسف ـ من حكومة الإنقاذ؛ حيث ألغت هذا القانون استجابة لشيطان الفاتيكان الذي زار السودان عام 1994م، ففتحت بذلك باباً لدخول الناس في دين التثليث أفواجاً، وسارع مجلس الكنائس العالمي باهتبال الفرصة، لا في الجنوب فحسب، بل في الشمال والوسط كذلك، بل في العاصمة الخرطوم نفسها؛ حيث تجرأ النصارى في نشاط التكفير المسمى بـ (التبشير) ، حتى في أوساط المثقفين والطلبة المسلمين، وأقيمت معارض للترويج لما يسمى بـ (الكتاب المقدس) تحت شعار (إنجيل لكل طالب) ، وبدلاً من أن تتوجه جهود الدعوة الإسلامية إلى الجنوب الغارق في أوحال الأوثان والصلبان، إذا بدعوات الشرك المضادة تغزو الموحدين في عقر ديارهم في الوسط والشمال. فاتجهت المعركة إلى ساحة الصراع الديني باسم التنافس بين الشماليين والجنوبيين.
وإلى جانب الضرب على وتر الاختلاف الاعتقادي بين الشمال والجنوب جاء اللعب بمشاعر الاختلاف العنصري؛ فالشماليون عرب في أكثريتهم، والجنوبيون زنج في غالبيتهم، وهنا تهيأت لأعداء السودان الفرصة في تأجج الخلاف وتحويله من نزاعات دينية وعنصرية إلى صراعات سياسية وعسكرية.
لقد تلقفت دولة اليهود ـ بعد قيامها ـ الراية السوداء من الإنجليز بعد رحيلهم؛ ففي وقت مبكر، وفي عهد أول رئيس للوزراء في دولة اليهود وهو (داود بن جوريون) دعا مستشاره (أوري لوبراني) لمراقبة دائمة لأوضاع السودان، باعتباره العمق الاستراتيجي لمصر وهي العدو الأكبر لإسرائيل آنذاك، ولأن السودان ـ كما قال ـ يملك سواحل مترامية الأطراف على البحر الأحمر، فيمكن لإسرائيل أن تستفيد منها مستقبلاً، إذا وجدت لها موطئ قدم هناك من خلال العملاء.
وقد كانت أثيوبيا ـ معقل النصرانية في إفريقيا ـ رديفاً لدولة اليهود في التربص بالسودان المسلم، ويمثل تحكُّمها في منابع النيل إغراء خاصاً لـ (إسرائيل) التي تتخذ من النيل إلى جانب الفرات شعاراً على عَلَمها الرسمي، يمثله الخطان الأزرقان، المشيران للحدود (الطبيعية) لدولة إسرائيل (الكبرى) .
وقد بدأ الاتصال بين الإسرائيليين والانفصاليين الجنوبيين في السودان قبل ظهور (جارانج) بمدة طويلة؛ حيث قامت دولة اليهود طوال عقد الخمسينيات بتقديم أوجه الدعم للنصارى والوثنيين الجنوبيين في شكل مساعدات (إنسانية) لتعمق من خلال ذلك الشقاق بينهم وبين مواطنيهم من المسلمين في الشمال، وفي عقد الستينيات، بدأ الإسرائيليون في تسليح الجنوبيين وتشجيعهم على التمرد، وأقاموا لهم معسكرات تدريب في إثيوبيا وأوغندا وكينيا، ثم أقاموا معسكرات تدريب خاصة في الجنوب السوداني نفسه لتدريب الجنوبيين بإشراف ضباط إسرائيليين، وخلال عقد السبعينيات استمر تدفق الأسلحة على الجنوب السوداني على الرغم من منح الجنوبيين حكماً ذاتياً، وكانت الأسلحة التي يُقتل بها المسلمون هناك على يد النصارى والوثنيين هي أسلحة عربية، غنمها اليهود من العرب بعد هزيمتهم عام 1967م. ومع اقتراب عقد الثمانينيات تكونت طبقة من العسكريين الذين خرجتهم مدرسة ضباط المشاة التي أنشأتها إسرائيل خصيصاً لتخريج عناصر عالية المستوى من المتمردين؛ حيث تكفلت دولة اليهود ـ إضافة إلى ذلك ـ بدفع رواتبهم، وفي تلك الأثناء بدأ نجم (جون جارانج) يسطع بالظلام، وقد اختبره ضباط الموساد الإسرائيلي طويلاً قبل أن يقتنعوا بنصيحة الأمريكيين بالاعتماد عليه، وبخاصة بعد أن حصل على منحة للدراسة في إحدى الجامعات الأمريكية، ليحصل بها على درجة الدكتوراه في الاقتصاد الزراعي، مضيفاً بذلك خبرة اقتصادية، إلى خبرته العسكرية كعقيد سابق في الجيش السوداني الحكومي في الجنوب.
وقد حرصت (إسرائيل) على صقل وتطوير خبرات (جارانج) العسكرية، من خلال استضافته إليها، ليتلقى دورات تدريبية في كلية الأمن القومي في تل أبيب.
وطوال عقد الثمانينيات اشتركت دول الجوار الجائر على السودان في ترسيخ أقدام المتمردين بزعامة جارانج، فزودتهم أثيوبيا بإذاعة خاصة، لينسقوا جهودهم من خلالها على المستوى الشعبي، واستضافت كينيا جارانج ليكون مقره الرسمي وسكنه فيها، وأسبغت دول أخرى الشرعية على حركته بقبولها ممثلاً لقسم من الشعب السوداني.
أما عقد التسعينيات فقد شهد نقلة نوعية في الارتقاء بمستوى أعداء السودان؛ حيث بدأت دولة اليهود بإمدادهم بأسلحة ثقيلة ومتقدمة، وزودتهم بطائرات مقاتلة خفيفة للهجوم على المراكز الحكومية في الجنوب، وساعدتهم بأقمارها الصناعية في رصد تجمعات القوات الحكومية، وبدا للجنوبيين أن أوان قطف الثمار قد حان، فسعَّروا من حربهم الشرسة على الحكومة السودانية الواقعة تحت طائلة العقوبات والحصار الاقتصادي الأمريكي، ولم يكن أمامها من خيار إلا مواجهة العدوان بإمكانات متواضعة، لكن بروح جهاد وفداء رائعة، جعلت آلاف السودانيين يتطوعون مع الجيش الحكومي لخوض حرب مفروضة لإملاء شروط مرفوضة لإذلال المسلمين لعصابة الصليب المقاتلة.
ولكن المعركة مع كل هذا البذل والتحمل والتضحيات لم تكن متكافئة، وبخاصة عندما توسع الدعم العالمي، فقوَّى مواقف الانفصاليين التفاوضية وجعلهم يتنطعون في الشروط والجزاءات والمطالبة بالمزيد من التنازلات في وقت كان الموقف العربي ـ كعادته ـ صامتاً باهتاً، مع يقين الساسة العرب أن السودان يغرق، لدرجة أن (عمرو موسى) الأمين العام للجامعة العربية قال قبيل الاجتياح الأمريكي للعراق: «إن ما يجري في السودان، لا يقل خطورة عما يجري في العراق» . وما هي إلا شهور معدودة حتى تفجرت الأحداث هناك في دارفور، لتترجم عما قاله وعرفه الأمين العام للجامعة، فتبين أن ما يراد بالسودان فعلاً من الإخضاع والتقسيم، لا يقل خطورة عما يراد بالعراق، وإن اختلفت الوسائل.
- سلام أم انقسام؟
أطلقت الولايات المتحدة مؤخراً مشروعاً عدائياً جديداً تحت اسم (قانون سلام السودان) ، ويدعو القانون الذي وقع عليه بوش في 24/12/2004م، إلى تجميد أرصدة الحكومة السودانية ومسؤوليها عقاباً لمواقفهم من أزمة دارفور التي ولدت فيها دعوة انفصالية أخرى بين العرب والأفارقة في غرب السودان، ليشمل الكلام عن التقسيم غرب السودان إضافة إلى جنوبه، ويدعو القانون أيضاً الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، أن تحذو حذو الولايات المتحدة في اتخاذ إجراءات مماثلة، بما فيها وقف استيراد النفط السوداني (في عهد البشير طبعاً) !
الكلام عن تقسيم السودان باسم السلام ليس جديداً؛ ففي بداية عقد الثمانينيات نشرت مجلة (كيفونيم) الإسرائيلية تقريراً للمنظمة الصهيونية العالمية بالقدس يتحدث عن مخطط تقسيم الدول العربية إلى دويلات طائفية وعنصرية (1) ، وقد نظَّر واضعو هذا التقرير لسياسة استعمارية جديدة، تستهدف إعادة رسم الخرائط في المنطقة على أسس تختلف عن الأسس التي جرت عليها تقسيمات (سايكس ـ بيكو) ؛ بحيث تفصل هذه التقسيمات الأقليات غير العربية ـ ولو كانت مسلِمة ـ عن بقية الجسم العربي، وتفصل كذلك الكيانات الطائفية المذهبية عن المحيط السني الأوسع، وقد اشتمل ذلك التقرير على جزء خاص بالعراق، تحدث عن تقسيمه بين الشيعة والسنة، وبين السنة العرب والسنة الأكراد، وكان فيه جزء عن تقسيم سوريا بين العلويين والمسلمين والدروز، وجزء عن تقسيم لبنان المقسم أصلاً، بل تطرق التقرير إلى التقسيم في مصر والجزيرة العربية واليمن، أما السودان فكان طبيعياً أن يأتي الكلام عن تقسيمه بين الأغلبية العربية المسلِمة في الشمال، وبين الأقلية الزنجية النصرانية والوثنية في الجنوب.
وبالرغم من مرور ما يقرب من ربع قرن على نشر هذا التقرير فإن (الجامعة) العربية لم تفلح في جمع الصفوف لمواجهته، بل تفرق أعضاؤها وبَلِيَتْ شعاراتها حتى صار الكلام عن الوحدة العربية الآن ضرباً من الهذيان، واقتصر الكلام اليوم في سائر الدول العربية على (الوحدة الوطنية) ، أما الوحدة الإسلامية التي ضُيعت بين هذه الدعوات، فقد كان تضييعها هو البداية لإضاعة ما سواها.
دعوات الانفصال التي تطرح الآن تحت مسمى (الاستقلال) لتقسيم العالم العربي إلى أشلاء، هي التي طُرحت قبل ذلك لفصل العرب عن المسلمين وبخاصة عن تركيا، حتى انقسم العالم الإسلامي الواحد إلى عالمين: عربي وإسلامي، لا تجمع بينهم سياسياً إلا تلك الهيئة الهزيلة المسماة بـ (المؤتمر الإسلامي) .
وفي ظل الوجود الصوري لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وجامعة الدول العربية، فإن (انفصال) أو (انقسام) أو (سلام) السودان جرى التوقيع على الاتفاقية الخاصة به، أو الممهدة له ليصبح التقسيم أمراً واقعاً ومتحققاً، لمدة ست سنوات تبدأ من تاريخ توقيع الاتفاق. وقد أصبح جون جارانج بعد توقيع هذا الاتفاق رئيساً فعلياً للجنوب ريثما يُجرى استفتاء بعد ست سنوات يحدد فيه جارانج وعصابته إن كانوا سيكتفون بجنوب السودان، أو سيظلون مشاركين ـ في ظل الاتفاق ـ في حكم بقية السودان. والاتفاق إضافة إلى هذا سيكون سبباً في ميلاد جيش نظامي (رسمي) جديد، لكنه سيسمى (جيش القوات المشتركة) ، بقيادة مزدوجة تضم قيادة جيش «تحرير» السودان المتمرد، مع الجيش الحكومي السابق، وسيبلغ قوام هذا الجيش 39 ألف جندي، نصفهم من المتمردين، فإذا أسفر الاستفتاء بعد السنوات الست عن اختيار الجنوبيين للوحدة، فسيظل جيشاً واحداً برأسيين، وأما إن آثروا الانفصال ـ وهو المتوقع ـ فسيكون هناك جيشان نِدّان مستقلان.
وسوف يحصل المتمردون خلال السنوات الست القادمة على 50% من واردات البترول الذي جُمِّد في عروق الأرض حتى يتمكن الجنوبيون من الاستفادة منه، أما السلطة التي تاق إليها جارانج تحت مسمى (تحرير السودان) فإن اتفاق (السلام) أو (الانقسام) سوف يضمن له أن يرسخ أقدامه فيها عن طريق تقاسم كونفدرالي لتلك السلطة، يتيح لهذا المارد أن يتحول إلى رئيس وزراء، أو رئيس دولة في حكومة مستقلة في الجنوب، إضافة إلى احتفاظه بمنصب نائب الرئيس على كل السودان في حال الرغبة في ذلك.
أما الشريعة الإسلامية ـ في ظل هذا التقاسم ـ فقد نالت النصيب الأوفر من الإجحاف؛ فبالرغم من أن الحكومة السودانية كانت تقدم رجلاً وتؤخر أخرى في مشوار تطبيق الشريعة بسبب الضغوط الدولية؛ فإن هذه الشريعة قد جرى إلجاؤها إلى الانزواء في أضيق الحدود، ليخرج أمر الجنوب كله عن أحكامها، التي تطبق في دولة الإسلام أول ما تطبق على المتمردين الخارجين عن الشرعية من الخونة والمحاربين والجواسيس، سواء كانوا من المسلمين أو غير المسلمين.
والحكومة السودانية التي تشعر أنها مغبونة في نزاعها مع نصارى الجنوب، قد أعطت كل هذه التنازلات لعصابة من المردة حتى تحفزهم على تفضيل خيار الوحدة على الانفصال؛ لأن هذا الانفصال مهما بدا له من إيجابيات يدعيها بعضهم في السودان وخارجه؛ فإنه خيار سيئ، والأسوأ منه هو تحلُّل الاتفاق بحيث يصير كل طرف حراً فيما يفعل في ظل الاختلال الحاد في موازين القوى الآن لصالح الجنوبيين المدعومين من الطاغوت الأمريكي.
ومدة السنوات الست التي حددها الاتفاق، كافية على كل حال لتغيير الوقائع على الأرض، لا في الجنوب (المستقل الآن) فقط، بل في الشمال كذلك، وإذا قُدِّر لهذا الاتفاق ألا ينجح مثلما حدث مع الاتفاقات السابقة مع زعماء متمردين آخرين مثل (مشار) و (لام آكول) اللذين عادا للمعارضة؛ فإن عودة جارانج في تلك الحالة لن تكون مجرد معارضة، بل ستكون معاندة مساندة بقوى اليهودية والصليبية العالمية التي سيُعتبر عندها أن الحكومة السودانية هي التي نقضت العهود، ولم تُوَفِّ بالالتزامات، ومن ثم ستكون هدفاً مباشراً للحرب المعلنة ضد الإسلام باسم الحرب على الإرهاب.
هناك في الجعبة أيضاً (رؤساء) آخرون، يستعدون للقيام بما قام به (الرئيس) البئيس (جون جارانج) في الجنوب؛ ففي غرب السودان في (دارفور) برزت ثلاث حركات متمردة، اختارت إحداها نفس الاسم الذي اختاره المتمرد (جارانج) وهو (الجيش الشعبي لتحرير السودان) ، ويتهيأ خارجون آخرون من قبيلة الرشايدة في الشرق السوداني لتمردات مشابهة، وقد أطلق هؤلاء على مشاغبيهم من الآن اسم (الأسود الحرة) !
يضاف إلى هذا أن هناك فصائل من متمردي الجنوب لم يشملها الاتفاق الأخير، وهي غير ملزمة به، وهي الفصائل التي كانت قد انشقت على (جارانج) بعد اتفاقية الخرطوم للسلام عام 1996م، ومن هذه الفصائل: الفصيل المتحد بزعامة (لام آكول) وفصيل (فاولينو ماتيب) وفصيل (قوة دفاع الجنوب) والخطر يأتي من كون هذه الفصائل لا تزال على خط المعارضة والمناهضة للحكومة السودانية، ولن تلتزم بما سيلتزم به جارانج بمقتضى الاتفاق ـ إن التزم به ـ وقد يعمل بعضها على إحباط ذلك الاتفاق لعدم اعترافها بزعامة جارانج.
وتقف الحكومة السودانية وسط كل هذه التحديات الداخلية والخارجية في موقع الأسد الجريح المدافع عن عرينه المستهدف، وهو يتلقى الضربات والطعنات من كل حدب وصوب والهدف إخضاعها وتركيعها: مرة باسم تشددها مع الجنوب، ومرة بذريعة تسيبها في دارفور وتارة بدعوى رعايتها للإرهاب، ولو بأثر رجعي، وأخرى بحجة شعاراتها (الرجعية) التمسك بتطبيق الشريعة الإسلامية!
لكل هذا أجدني موقناً بأن النظام السوداني نفسه مستهدَف، تماماً كما كان النظام في العراق وأفغانستان مستهدفين، مع الفارق في طبيعة الاستهداف، ولهذا فليس من المعتقد أن يصمد النظام وحده لمواجهة كل تلك التحديات ما لم يكن مدعوماً بلُحمة إسلامية موحدة تسدد رؤاه، وتعزز خطاه بعد عون الله. أما بقية العرب والمسلمين الذين تخلوا عن السودان بعد العراق وفلسطين، فحسابهم عند رب العالمين، ومصيرهم في المراحل المقبلة مرهون بمواقفهم من إخوانهم، فالكل في مركب واحد ينجو فيه الجميع، أو يغرق به سائرهم.
ويبقى الإسلاميون في السودان هم أمل الأمة بعد الله ـ عز وجل ـ في كشف تلك الغمة التي تتجمع نُذُرُها في الآفاق؛ فالظاهر أن قدر الإسلاميين في كل الأوطان الإسلامية، أن تنتهي إليهم إدارة الأزمات التي تسبب فيها غيرهم عبر عهود وعقود، وواجبهم اليوم أن ينهضوا لإحياء الولاية العلمية، الموكول إليها قبل الولاية السياسية أن تقود الأمة في أزمنة النوازل، ولعل ما يحيي الآمال في وضع الأقدام على بداية الطريق الصحيح في مواجهة التحديات، هو ما تنامى إلى أسماعنا عن تكوين رابطة عامة لفصائل الإسلاميين في السودان تحت مسمى (تجمع أهل القبلة) ليكون هذا التجمع منطلقاً لوضع حد للفرقة التي مزقت شمل العمل الإسلامي في السودان، كما مزقته في غيره من البلدان، فكان لذلك أثره المباشر في مزيد من الهوان الذي تعانيه الأمة، وليس على الله بعزيز أن يُفلح هذا التجمع في تأهيل الصف السوداني لمنازلة ما قد تأتي به الأيام من عوادٍ وأحزان.
نسأل الله العظيم أن يحفظ السودان وأهله، ويبقيه قوياً بالتوحيد والوحدة، ولو كره المشركون والانفصاليون.