قراءة في أزمة المياه وأبعادها الخطيرة
د. خالد سعد النجار
كثرت في الآونة الأخيرة صيحات الدعاة المخلصين والخبراء المتخصصين عن مواجهة المنطقة العربية الإسلامية (الشرق الأوسط) في القرن المقبل عدة أزمات، تضاف إلى رصيد الأزمات التي تعاني منها في الوقت الحاضر،
ولكن تلك الأزمات المقبلة المتوقعة ذات طبيعة خاصة؛ فهي من الخطورة الشديدة بما يجعلها قاصمة الظهر الحقيقية التي يمكن أن تؤدي إلى انهيار الكيان العربي الإسلامي في المنطقة بأسرها، ووقتها لن تنفع الشعارات ولا الهتافات ولا المؤتمرات التي تتمخض عنها استنكارات وتوصيات.
ولا سبيل للخروج من تلك الأزمات المتوقعة إلا بالاستعانة بالله ـ تعالى ـ ثم بالدراسات الواعية من الخبراء والمتخصصين لإيجاد الحلول المناسبة التي يعقبها البدء في التنفيذ الجاد، وأن نعد لكل أمر عدته قبل أن نكون لا في العير ولا في النفير.
- أزمة المياه في الوطن العربي:
تعاني أغلب مناطق الوطن العربي من ظاهرة ندرة المياه لوقوعها جغرافياً في المنطقة الجافة وشبه الجافة من الكرة الأرضية، ومع زيادة نمو السكان في الوطن العربي فإن مشكلة الندرة تتفاقم كنتيجة منطقية لتزايد الطلب على المياه لتلبية الاحتياجات المنزلية والصناعية والزراعية، كما لا تقتصر المشكلة على مسألة ندرة المياه، بل تتعدى إلى نوعية المياه التي تتدنى وتتحول إلى مياه غير صالحة للاستهلاك الآدمي لأسباب متعددة.
وتكاد المشكلة تشمل جميع مصادر المياه في الوطن العربي؛ فالأنهار العربية الكبرى مثل: النيل والفرات تنبع من دول غير عربية، وتجري وتصب في بلدان عربية؛ مما يجعل لدول المنبع ميزة (جيوبوليتيكية) استراتيجية في مواجهة البلدان العربية، كما لا تتوفر على المستوى الدولي قوانين كافية لتقاسم الموارد المائية المشتركة، وإن وجدت أعراف وتقاليد غير ملزمة لاقتسام المياه، وتبقى الاتفاقيات بين الدول المشتركة في مصدر مائي معين هي أعلى مراتب الالتزام المعترف به دولياً لتقاسم الموارد المائية، ويتطلب الاستغلال الأمثل للمياه الجوفية ومياه الأمطار استثمارات ضخمة لإقامة التجهيزات والمشروعات اللازمة لهذا الاستغلال، كما أن مشروعات تحلية المياه تحتاج بالإضافة إلى الاستثمارات الضخمة تكنولوجيا متقدمة.
وقد جاء في تقويم أجرته مجلة [إيكونوميست] البريطانية في أوائل عام 1996م ما نصه: [إن الماء في الشرق الأوسط شحيح بدرجة ليس لها مثيل في أي مكان آخر في العالم، وأنه يزداد نقصاناً] .
وفي عام 1989م خلص مؤتمر [الموارد المائية للدول العربية وأهميتها الاستراتيجية] الذي عقد في عمان بدعوة من الجامعة الأردنية إلى أن أهم خصائص موارد المياه العربية هو قلتها؛ بحيث إنها لا تكفي لتغطية الاحتياجات الحياتية واحتياجات التنمية التي يطمح إليها العرب في العقود المقبلة، وخلص المؤتمر إلى أن الأمن المائي العربي هو بأهمية الأمن السياسي العربي.
وفي تقرير «لمركز الدراسات الاستراتيجية» في واشنطن أكد أن المياه وليس النفط ستكون قضية المصادر الطبيعية المسيطرة؛ فالنزاع على مصادر المياه المحدودة والمهددة يمكن أن يؤثر في الروابط بين دول المنطقة، وربما يؤدي إلى جيشان لم يعرف له مثيل من قبل.
لذلك أصبح الماء قضية ملحة تحمل في طياتها إمكانية زعزعة استقرار النظام حيثما تطل بأنيابها، ونشوء نزاع بين الدول المتجاورة، وقد نقل عن العاهل الأردني السابق الملك حسين قوله: [إنه لن يدخل حرباً مع إسرائيل مرة أخرى إلا بسبب الماء] .
وبالرجوع بأحداث التاريخ إلى الوراء قليلاً نلاحظ وجود بعض التوترات بسبب قضية المياه؛ مما يؤكد أن أزمة المياه المتوقعة ليست من نسج الخيال أو حالة من التشاؤم تنتاب بعضاً منا، بل إن لها إرهاصات ومقدمات تنذر بإمكانية انفجارها في أي وقت.
ففي 26/2/1956م أعلنت إثيوبيا في جريدتها الرسمية [إثيوبيان هيرالد] أنها سوف تحتفظ لاستعمالها الخاص مستقبلاً بموارد النيل وتصرفاته في الإقليم الإثيوبي ـ أي حوالي 86% من إيراد النهر بأكمله ـ وقد وزعت مذكرة رسمية على جميع البعثات الدبلوماسية في القاهرة تضمنت احتفاظها بحقها في استعمال موارد المياه النيلية لصالح شعب إثيوبيا. وقد عادت تلك التصريحات إلى الظهور سنة 1980م؛ حيث أشار ممثل إثيوبيا في «قمة لاجوس» أنه [لا توجد اتفاقيات دولية حتى الآن بشأن توزيع حصص مياه النيل] .
وقد وضعت إثيوبيا عام 1981م قائمة بأربعين مشروعاً للري يقع بعضها على حوض النيل الأزرق وحوض السوباط أمام «مؤتمر الأمم المتحدة للبلدان الأقل نمواً» ، وأعلنت أنه في حالة عدم توافر اتفاق مع جيرانها في حوض النيل فإنها سوف تحتفظ بحقها في تنفيذ مشروعاتها من جانب واحد.
وفي حديث للدكتور (زويدي أباتي) المدير العام «لتنمية الأودية الإثيوبية» دعا إلى توزيع مياه نهر النيل بالتساوي بين الدول التسع المشاركة في حوض نهر النيل، وأنه إذا أرادت دولة الاستئثار بنصيب أكبر فإنها يجب أن تدفع تعويضات مناسبة لدول الحوض الأخرى والتي ستتأثر الكمية التي ستحصل عليها من جراء ذلك، كما طالب بتوقيع اتفاقيات جديدة بين دول الحوض تقوم على أساس المساواة والعدالة في التوزيع.
أما في حوض نهر دجلة والفرات فالأزمة ليست بأقل شأناً من أختها في حوض النيل؛ ففي عام 1981م بدأت تركيا مشروعها الكبير [مشروع جنوب شرقي الأناضول الكبير] Gصلى الله عليه وسلم، وهو يضم 13مشروعاً لأغراض الري وتوليد الطاقة الكهربائية، وكان بناء سد أتاتورك - خامس أكبر سد في العالم ـ على نهر الفرات من أهم المشاريع التي أظهرت حقيقية أزمة المياه في حوض النهر؛ حيث أقدمت تركيا في 13/1/1990م على منع مياه نهر الفرات وحبسها عن العراق وسوريا؛ بغرض تخزين تلك المياه خلف السد، وذلك لمدة شهر حتى 13/2/1990م، وكان قول الممثل التركي: [لا أحد يقيم سداً مائياً ليستخدمه كمتحف للجميع] ، ومضت تركيا في تنفيذ خطتها دون الالتفات للاحتجاجات السورية والعراقية من جراء ذلك العمل.
ويعتقد كثير من المحللين أن وجود شواهد بترولية في سوريا أدى إلى وجود نية تركية قوية لمقايضة البترول بالمياه؛ حيث يقول (سليمان ديميريل) في افتتاح سد أتاتورك في يوليو 1992م: [إن منابع المياه ملك لتركيا كما أن النفط ملك للعرب؛ وبما أننا لا نقول للعرب إن لنا الحق في نصف نفطكم فلا يجوز لهم أن يطالبوا بما هو لنا] .
وأما في الأراضي الفلسطينية المحتلة فالأمر أكثر توتراً وصعوبة؛ حيث كان تأمين مصادر وفيرة من المياه للدولة الصهيونية أحد أهم أهداف الحركة الصهيونية على حساب العرب.
ويلخص د. سامر مخيمر ـ وهو أحد المتخصصين العرب في جانب المياه ـ خطة إسرائيل المائية وترتيباتها للاستحواذ على مياه نهر الأردن بقوله (1) :
يمكن تقسيم ترتيبات إسرائيل المائية إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: وتمتد في الفترة من 1948 - 1958م؛ حيث شرعت إسرائيل في أعمال خطة زراعية / مائية تركز على ثلاثة أهداف:
أ - إمكانية استيعاب المهاجرين الجدد.
ب - إقامة المستوطنات الزراعية.
ج - إنتاج الغذاء.
ويتطلب تحقيق هذه الأهداف تنفيذ مشروعات مائية تتمثل في:
1 - إنشاء شبكات مياه في مختلف المناطق لحصر الموارد الجوفية.
2 - إقامة جملة من خطوط الأنابيب المحلية تمتد من الشمال إلى الجنوب.
3 - إنشاء قناة لسحب المياه من نهر الأردن باتجاه الصحراء الفلسطينية.
وقد بدأت إسرائيل بين عامي 1948 - 1953م بحفر عدة آلاف من الآبار لتزويد المستوطنات بالمياه، لدرجة استنزفت الطبقة المائية الجوفية للشريط الساحلي، ثم شرعت بعد ذلك في تنفيذ ما عرف بـ[خطتي السنوات السبع، والسنوات العشر] ، وبدأ تنفيذ الأولى فعلاً عام 1953م، ثم عدلت إلى الخطة الثانية عام 1956م.
وتضمنت الخطتان استيلاء إسرائيل على 50% من مياه نهر الأردن، مع العلم أن كمية المياه التي تنبع من الأراضي التي تحتلها لا تتجاوز 23% من المجموع الكلي لكميات المياه التي يحتويها نهر الأردن وروافده. ويتوازى مع المشروع السابق مشروع [العوجا ـ النقب] الذي تم إقراره عام 1954م، والذي يشكل حلقة متكاملة مع قناة نقل مياه الأردن، وهو يتألف من خطين: شرقي وقد نفذ عام 1955م، وغربي ونفذ عام 1960م، ويهدف إلى تأمين نقل المياه الواردة من مشروع تحويل نهر الأردن والضخ من بحيرة طبرية إلى أرض النقب.
المرحلة الثانية: وتمتد منذ 1958 - 1968م، وقد نفذت إسرائيل خلال هذه الفترة أضخم وأكبر مشروعاتها المائية مشروع [طبريا ـ النقب / الناقل القطري) لنقل 300 مليون متر مكعب من المياه سنوياً إلى النقب الشمالي وإلى الجنوب.
المرحلة الثالثة: وتمتد منذ 1968م ـ حتى الآن مرحلة الإنتاج والتكنولوجيا الزراعية، ولم تواكب هذه المرحلة مشروعات مائية كبرى.
وتشير البيانات إلى أن استهلاك الإسرائيليين في الضفة الغربية يمثل 87.5% من مياهها، بينما لا يتجاوز نصيب العرب 12.5%؛ مما يعني أن معدل استهلاك الفرد الإسرائيلي يبلغ ستة أضعاف المواطن العربي الفلسطيني، كما يدفع الفلسطينيون في الضفة الغربية ستة أضعاف ما يدفعه المستوطن اليهودي في مقابل الانتفاع بالمياه؛ حيث يبلغ سعر المتر المكعب من المياه للفلسطينيين في الضفة الغربية 1.3 دولار، أما سعر الكمية ذاتها للمستوطن فيبلغ 6 دولارات فقط.
- أزمة الغذاء في الوطن العربي:
مما لا شك فيه أن العالم في الفترات الأخيرة شهد نمواً كبيراً في إنتاج الغذاء والمحاصيل الزراعية، إلا أن هناك بعض الحقائق لا يمكن تجاهلها عند الحديث عن تلك النهضة، من أهم هذه الحقائق أن هذا النمو في إنتاج الغذاء جاء من خلال الارتقاء بإنتاجية الأرض، وليس من خلال زيادة المساحة المنزرعة، أي من خلال استخدام تكنولوجيات ومدخلات إنتاج أفضل. وهذا النمو في الإنتاج رافقه نمواً مماثلاً تقريباً في عدد السكان، ومن ثم ظهر التحسين في مستوى ما يخص الفرد الواحد محدوداً للغاية.
كما أنه في نطاق محدودية الموارد الطبيعية اللازمة للزراعة: [الأرض، والماء] وصعوبة زيادتها واستمرار الزيادة السكانية سوف يتركز اعتماد العالم مستقبلاً على التكنولوجيا للوفاء باحتياجات السكان الجدد ولتحسين مستوى ما يخص الفرد بوجه عام.
وهذه الحقائق تشمل بالطبع العالم العربي؛ فبالرغم من الزيادة المتواضعة في إنتاج الغذاء في الفترات الأخيرة إلا أن الزيادة السكانية قد التهمت كل هذه الزيادات، وظل مستوى ما يخص الفرد العربي من الغذاء أقل كثيراً عن المتوسطات العالمية، والتي لا يمكن بأي حال قبول أقل منها.
فبالنسبة للقمح كان متوسط ما يخص الفرد العربي 77 كجم، بينما المتوسط العالمي 101 كجم، والسكر 9.7 كجم والمتوسط العالمي 19.9 كجم، وفي جانب اللحوم 16.4 كجم والمتوسط العالمي 33.4 كجم، والأسماك 7 كجم والمتوسط العالمي 18.3 كجم، والألبان 53 كجم أما المتوسط العالمي 95 كجم.
ومن ثم لجأت الأقطار العربية قاطبة إلى الاستيراد لسد الفجوة الغذائية الناتجة من زيادة الطلب على الغذاء وضعف الإنتاج المحلي.
- مواجهة الزراعة العربية العديد من المخاطر:
1- تناقص قاعدة الموارد الطبيعية [الأرض الزراعية، والماء] :
لقد تناقص متوسط ما يخص الفرد العربي من المساحة المنزرعة بدرجة كبيرة؛ بسبب الزيادة السكانية والتوسع العمراني، مع قلة معدلات استصلاح أراضي جديدة. ففي مصر على سبيل المثال: أدى تحويل جانب من الأراضي الزراعية لاستخدامات أخرى غير زراعية إلى تناقص ما يخص الفرد الواحد من الأراضي الزراعية من نحو 2038م 2 عام 1907م إلى 1020م 2 عام 1957م ـ أي إلى نحو النصف خلال خمسين عاماً ـ ثم إلى 522م 2 عام 1985م ـ أي النصف مرة أخرى خلال 28 عام فقط ـ ثم إلى 471م 2 عام 1992م، ومن حيث النوعية والخصوبة فلا شك أن الأرض تتعرض لكثير من المصادر المسؤولة عن تدهور الخصوبة، لعل أهمها: عوامل التعرية، والتدهور الكيماوي.
2 - اتفاقيه الجات Gصلى الله عليه وسلمTT:
إن كلمة «الجات» هي الحروف الأولى بالإنجليزية لتعبير [الاتفاقيات العامة على الرسوم الجمركية والتجارة] General صلى الله عليه وسلمgreement on traiffs and trade، وهي تعود في تاريخها إلى عام 1947م، عندما اجتمعت 23 دولة صناعية في جينيف، للنظر في تحرير التجارة وفتح الأبواب بين هذه الدول وإلغاء الحواجز فيما بينها، وتم التوصل إلى اتفاقية وقعت في المغرب عام 1994م، وبلغ عدد الدول الموقعة 117 دولة.
وتنص بنود الاتفاقية بالنسبة للزراعة على تخفيض الدعم الداخلي للإنتاج الزراعي في الدول المتقدمة بنسبة 20% خلال 6 سنوات، وفي الدول النامية بنسبه 13.3% خلال مدة 10 سنوات، وإلغاء دعم التصدير.
والمتوقع أن ترتفع أسعار الصادرات من الدول الزراعية المتقدمة، وهذا سوف يؤدي بدوره إلى زيادة تكلفة استيراد الغذاء بالدول الإسلامية النامية. كما أن التخوف قائم من ضعف استفادة الدول الإسلامية النامية من إزالة الحواجز، مع لجوء الدول المتقدمة إلى التشديد في مراقبة الجودة والالتزامات بالمواصفات القياسية والحجر الزراعي، وهي شروط لا تقدر عليها الدول النامية.
ولقد صدق حقاً من قال: [إن «اتفاقية الجات» منتدى الأغنياء] ؛ حيث إن المستفيد الأكبر هي الدول الصناعية والزراعية المتقدمة؛ فلقد نشرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التابعة للأمم المتحدة إحصائية توضح أرباح الدول الغنية من «الجات» ، وورد بها ما يلي:
- أرباح المجموعة الأوروبية: 61 مليار دولار سنوياً.
- الولايات المتحدة: 36 مليار دولار سنوياً.
- اليابان: 27 مليار دولار سنوياً.
- الصين: 37 مليار دولار سنوياً.
وبصفة عامة يقدر إجمالي مكاسب الدول الغنية بين 200 ـ 300 مليار دولار سنوياً، اعتباراً من سنة 2002م.
وتشير دراسة للمنظمة العربية للتنمية الزراعية إلى أن: تحرير التجارة العالمية في السلع الزراعية سوف يسبب ارتفاع أسعار الحبوب الغذائية، وكذلك انخفاض الإنتاج الحيواني في دول المجموعة الأوروبية؛ بسبب إنقاص أو تخفيض الدعم، ومن ثم يتوقع ارتفاع الأسعار العالمية للحوم والألبان.. وتقدر خسائر الدول العربية نتيجة لذلك بنحو 664 مليون دولار (زيادة في قيمة الواردات للدول العربية) ، وكذلك تقدر الخسارة في صورة نقص الرفاهية الاجتماعية للدول العربية بمقدار 887 مليون دولار] .
إلا أنه ـ للأمانة ـ لا بد أن نذكر أن هناك فريقاً من الخبراء يرون بعض الجوانب المشرقة لهذه الاتفاقية، والتي تتمثل في تشجيع الاستثمار في الدول النامية وزيادة الحافز الذي يحتم عليها الارتقاء بالإنتاجية؛ لمواجهة هذا الارتفاع في الأسعار.
3 - ضعف مجال البحوث الزراعية:
البحوث الزراعية هي الأمل الوحيد أمام الزراعة العربية للارتقاء بإنتاجية الأرض الزراعية عن طريق تطوير نوع السلالات المستخدمة، والتي تتميز بإنتاجية عالية، أو تحمُّل أكبر لظروف البيئة، أو غيرها من الصفات المرغوبة، والتي يطلق عليها «عملية التوسع الرأسي» في الزراعة، وخاصة أن التوسع في مساحة الأرض المنزرعة أصبح أملاً فرصته ضعيفة في كثير من البلدان العربية.
ومجال البحوث الزراعية يعاني في معظم البلدان العربية من العديد من الصعوبات التي تحد من قدرتها على تحقيق تلك الآمال المعلقة عليها، ومن أهم هذه الصعوبات: ضعف التمويل، وعجز العديد منها على مواجهة مشاكل التنمية دون عون خارجي، والافتقار إلى أسلوب سليم لإدارة الموارد البشرية والمادية المتاحة ونقص الكوادر البشرية المدربة، ويكفي أن نعلم أن عدد الباحثين في مجال البحوث الزراعية في الوطن العربي ـ وهي 19 دولة ـ هو 6534 باحثاً، وفي الدول المتقدمة ـ وهي 22 دولة ـ هو 56376 باحثاً، وجملة الإنفاق على البحوث الزراعية في الوطن العربي هو 230 مليون دولار، وفي الدول المتقدمة هو 85400 مليون دولار.
ويلخص د. محمد السيد عبد السلام ـ وهو من كبار المتخصصين في مجال الزراعة ـ الوضع الحالي في كلمات رائعة رشيقة حيث يقول (1) :
[والآن كل هذه الظروف آخذة في التغيير؛ فالموارد الطبيعية الزراعية المطلوبة للمزيد من الاستثمار لم تعد متاحة، بل إن المستثمر منها بالنسبة للفرد آخذ في التآكل؛ نتيجة لاستمرار الزيادة السكانية، والقلق على حالة البيئة آخذ في التصاعد، وفي فرض محددات جديدة على التنمية الزراعية ومستقبل إمدادات الغذاء على الصعيد العالمي وفي العالم النامي بوجه خاص لا يدعو إلى الاطمئنان، واستعداد الشمال لمساعدة الجنوب آخذ في التراجع على المستوى الثنائي وعلى مستوى المنظمات الدولية، والتكنولوجيا الحيوية الحديثة التي تبنى عليها الآمال في مستقبل التنمية الزراعية ليست متاحة مجاناً بل محمية، وينبغي على من يحتاج إليها أن يدفع الثمن، ونظم وإجراءات الحماية سوف تتلاشى في ضوء اتفاقية منظمة التجارة العالمية، وسوف تتصاعد المنافسة بين الدول والتكتلات الاقتصادية، وسوف تكون قدرات العلم والتكنولوجيا السلاح الفاعل في هذه المنافسة، وسوف تكون المغانم للأقوياء الذين يملكون سلاح العلم والمغارم لأولئك الذين يفرطون في الاستحواذ على هذا السلاح. إنه نظام جديد عاصف، وغالباً لا يعرف التسامح تجاه العاجزين مما يحتم على الدول العربية أن تحسب له كثيراً لتواجه سلبياته، وتستفيد من إمكانياته، ولا تكون إحدى ضحاياه] .
- أزمة البطالة في الوطن العربي:
جاءت ثورة النفط عام 1973م لترسم معالم جديدة للمنطقة العربية بالنسبة للأوضاع الاقتصادية؛ ففي الدول العربية النفطية زادت الدخول، وارتفع فيها متوسط دخل الفرد بما يقارب دخله في الدول الصناعية المتقدمة، وتميزت تلك الفترة بزيادة معدلات الاستثمار، ووضعت برامج وخطط طموحة لبناء شبكه البنية الأساسية والتوسع في بناء المدن والمناطق العمرانية الجديدة؛ وكان قلة عدد السكان في تلك البلاد سبب هام في زيادة احتياج تلك الدول للعمالة الخارجية لتحقيق تلك الثورة الهائلة في التنمية، فرحبت بالعمالة العربية وغير العربية التي راحت تتدفق إلى هذه البلاد بشكل سريع، وفي ظل هذا الرواج الاقتصادي اقترب معدل البطالة في تلك الدول إلى الصفر تقريباً.
وأما في الدول العربية غير النفطية فمعظمها كان عند مشارف السبعينيات قد وصل إلى حالة من الإنهاك الاقتصادي الذي سرعان ما أثر في أحوال العمالة وظروف التشغيل، إلا أنه بالرغم من ضغوط وصعوبات تلك المرحلة فإن ثمة عوامل مختلفة توافرت وخففت من صعوبة الموقف وظهور البطالة كأزمة تهدد العديد من الأيدي العاملة؛ فكان من هذه الظروف:
1 - خروج أعداد كبيرة من فائض العمالة إلى الخارج، وخاصة للبلاد العربية النفطية التي رحبت بتلك العمالة كما ذكرنا.
2 - زيادة حجم المعونات الاقتصادية التي قدمتها البلاد العربية النفطية في تلك الفترة.
3 - الموارد الضخمة التي حصلت عليها هذه البلاد في شكل قروض خارجية من أسواق النقد والمال العالمية؛ حيث كان الاقتراض سهلاً وميسراً في تلك الفترة، وإن كان بتكلفة مرتفعة مؤجلة.
4 - استمرار التزام كثير من حكومات تلك الدول بتعيين الخريجين من حملة المؤهلات كسباً لتأييد الطبقة الوسطى، والحد من المشكلات الاجتماعية والسياسية نتيجة تفاقم البطالة.
ومع بداية الثمانينيات ومروراً بالتسعينيات بدأت الأوضاع تأخذ في التغيير، وأخذت مشكلة البطالة في الانفجار المدوي؛ حيث مالت أسعار النفط عالمياً للتدهور بشكل حاد؛ مما أثر بشكل مباشر على الدول العربية قاطبة، ففي البلاد العربية النفطية انخفضت أحجام دخولها القومية وتبعه انخفاض معدلات نمو الإنفاق الحكومي الاستثماري، وبالذات في مجال البنية الأساسية التي كانت قد قاربت على الاستكمال؛ مما حدا بتلك الدول تطبيق سياسات انكماشية، وكان من ضمنها وقف التعيينات في الأجهزة الحكومية، والحد من استقبال العمالة الوافدة.
أما في البلاد العربية غير النفطية فقد كان لانخفاض أسعار النفط آثار سلبية شديدة، من أهمها انخفاض الدخل القومي؛ حيث كان النفط مصدراً من مصادر هذا الدخل في بعض هذه البلاد مثل: مصر، وسوريا، كما انخفضت المساعدات العربية من الدول العربية النفطية، وكذلك عادت العمالة إلى أوطانها؛ مما أدى إلى ارتفاع نسبة البطالة، وفقدت هذه الدول مورداً هاماً من موارد الدخل القومي المتمثل في التحويلات النقدية التي كان يرسلها العمال بالخارج، وصاحب ذلك تفاقم أزمة المديونية الخارجية لهذه البلاد التي نجمت عن الإفراط في الاستدانة الخارجية وهو ما أدى إلى ارتفاع معدل خدمة الديْن.
كل هذه الضغوط قادت تلك الدول إلى اتباع سياسات اقتصادية صارمة كان لها دور كبير في زيادة معدلات البطالة؛ حيث تخلت كثير من هذه الدول عن تعيين الخريجين، وتقلص دور الحكومة في النشاط الاقتصادي؛ مما أدى إلى خفض الطاقة الإنتاجية التي تستوعب الأيدي العاملة العاطلة، وأضحت البطالة كارثة تهدد الوطن العربي.
ومع قله البيانات والإحصائيات عن حجم البطالة في الوطن العربي نستطيع أن نتلمس حجم المشكلة من التقارير المتاحة؛ ففي التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 1994م كان قد قدر معدل البطالة في الاقتصاديات العربية بحوالي 10% من قوة العمل العربية التي بلغت عام 1993م حوالي 67.5 مليون عامل؛ مما يعني أن عدد المتعطلين يصل إلى حوالي 6.8 مليون عاطل، أما منظمة العمل العربية فقد قدرت معدل البطالة على مستوى جميع البلاد العربية بقرابة 15.5% من قوة العمل العربية؛ وهو ما يعني وجود ما يزيد على عشرة ملايين عامل عربي عاطل.
بعد هذا العرض السريع لطبيعة الأزمات التي تواجه المنطقة العربية لا يسعنا إلا أن نقول: إن الأمر يتطلب جهوداً كبيرة تشمل كل قطاعات الوطن العربي لمواجهه تلك الأزمات، ولكن الملاحظ حتى الآن أن الجهود المبذولة متواضعة إلى حد كبير بالنسبة لحجم المشكلات؛ فالحل يبدأ من الإعلام العربي المسؤول عن عرض القضية أمام الرأي العام، وشحذ همم الشعوب لتحمل المسؤولية، وعقد الندوات واللقاءات مع الباحثين والعلماء المتخصصين لإيجاد تصور عام لحل مثل هذه المشكلات، وتقديم العلماء والخبراء على أنهم هم قدوة المجتمع ومثال كفاح مشرف لكل من أراد الرقي والنهضة؛ فكم في حياه هؤلاء الشرفاء من كفاح ومثابرة وإخلاص نحن أحوج أن نعرفه كي نحتذي به في حياتنا!
ولكن مع الأسف وجدنا قطاعاً عريضاً من الإعلام العربي بكافة أجهزته يلهث وراء نجوم الرياضة والفن، ويكرس جهده ووقته لعرض صور من حياتهم الخاصة وأعمالهم الفنية، وفي جميع المناسبات والأعياد القومية يحشد للمواطن العربي كماً هائلاً من هؤلاء النجوم؛ ليُسألوا عن آمالهم وطموحاتهم، والأكلات التي يفضلونها، والألوان المحببة لديهم، ومعاناتهم في تصوير آخر عمل فني، أو آخر مباراة شاركوا فيها.
وأضحى الأمر عادياً أن تفتح جريدة لتقرأ خبراً عن تهرب أحد هؤلاء النجوم من عدة ملايين من الضرائب، أو تقرأ عن أرباح نجم من آخر شريط كاسيت له بما يوازي ميزانية وزارة مرموقة.
كل هذه الشهرة والثروة دفعت بالكثير من شبابنا العربي العاطل للزحام على أبواب النوادي وصناع نجوم الفن؛ لعلهم يجدون فيهم موهبة تقودهم للنجومية وطريق الشهرة والثروة السهلة السريعة، وأصبح في كل حين يخرج عليك نجم فني أو رياضي جديد حتى فاق عددهم الحصر.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل نحن ـ حقاً ـ وفي ظل الوضع الراهن بحاجة إلى كل هذا الحشد من النجوم الرياضيين والفنانين الذين يقدمون لنا كل هذا الكم الهائل من المباريات والمسلسلات والأفلام والأغاني، أم أننا نرقص فوق سفينة تغرق؟!
- المصادر:
- الاقتصاد السياسي للبطالة، د. رمزي زكي سلسلة عالم المعرفة الكويتية عدد 226.
- النظام الاقتصادي العالمي واتفاقية الجات، د. حسين شحاتة.