التحديات والأولويات والمستقبل
د. صالح بن سليمان الوهيبي
- أولاً: مقدمة:
يمر العالم الإسلامي بمرحلة عصيبة منذ أحداث واشنطن ونيويورك التي اصطلى المسلمون حيثما كانوا بحرّها. وكان للدعوة الإسلامية وللمنظمات الإسلامية نصيب وافٍ من الظلم الذي حاق بالعالم الإسلامي؛ بزعم أن المنظمات داعمة للإرهاب. ونعتقد أنه يُراد للمسلمين عامة ـ دولاً وحكومات وشعوباً ومنظمات.. ـ أن يخضعوا للابتزاز الصهيوني والاستعماري الذي حاول توظيف الأحداث لإذلال العالم الإسلامي والمسلمين.
وفي هذه الورقات استطلاع لأهم تلك التحديات التي تعرقل مسيرة العمل الخيري، مع الإشارة إلى أولوياته في هذه المرحلة، وما ينتظره من مستقبل وفق ما نتوقعه، والله ـ تعالى ـ أعلم وأحكم.
من أبرز تلك التحديات في نظرنا ما يأتي:
1 ـ الضغط الغربي (الأمريكي) على العمل الخيري والدعوي الإسلامي: وقد اتخذ هذا الضغط عدة أشكال منها:
- اتهامه بوجود علاقة بينه وبين الإرهاب، ويتمثل ذلك في وجود أي علاقة مع المجاهدين الأفغان أو حماس أو الجهاد الإسلامي أو حزب الله أو أحزاب كشمير. وقد أُغلقت بعض المؤسسات الإسلامية الأمريكية؛ بزعم وجود هذه العلاقة. كما حُبس بعض المسلمين العاملين في المجال الخيري والفكري؛ بزعم أنهم على علاقة بهذه أو تلك، منهم في أمريكا: الدكتور مازن النجار، والدكتور سامي العريان، والدكتور عبد الرحمن العمودي. وقُبض على عاملِين في المؤسسات الأمريكية؛ بذريعة أنهم طلاب خالفوا قوانين الهجرة بعملهم في المؤسسات، ولو تطوعاً كما حصل للدكتور إبراهيم سليمان الذي عمل متطوعاً مع الندوة العالمية في واشنطن بعض الوقت.
- محاولة إجبار الجهد الخيري على التخلي عن ربط الدعوة مع الإغاثة؛ إذ بدأت المؤسسات الأممية والغربية تثير الغبار حول العمل الإنساني الإسلامي بحجة أنه ليس عملاً إنسانياً خالصاً! أمَّا أن تقوم (المؤسسات النصرانية) باستغلال حاجة الناس، ونشر الإنجيل مع الغذاء فذلك أمر سائغ لديهم.
- التضييق على مناشطه التي يعقدها بالتعاون مع (المؤسسات الإسلامية) في الغرب. ويأتي هذا التضييق في صور شتى منها: عدم منح تأشيرات أصلاً، أو التأخر في منحها إلى أن تفوت المناسبة، أو إرهاب (المؤسسات الإسلامية) في الغرب والإيحاء إليها بخطورة العمل مع الهيئات الإسلامية في العالم الإسلامي، أو منع الأئمة والخطباء من إمامة الناس في رمضان.. وغير ذلك مما هو منشور في الصحافة مشهور.
- التضييق على التبرعات والتحويلات المالية للمؤسسات الإسلامية، ولعل الكل يعلم أن المصارف تعيش جوَّ رعب عند تحويل مبلغ ليتيم أو أسرة فقيرة مخافة أن يضل المبلغ طريقه فيقع في غير ما أريد له.
- تصفية المؤسسات نفسها ولو كانت خارج أمريكا، وهو من الأهداف الرئيسة من الحملة كلها. وقد جُمّدت مجموعة من المؤسسات الإسلامية في أمريكا وغيرها، كما صُفّيت مؤسسة الحرمين الخيرية.
2 ـ الهجوم الصهيوني متمثلاً في وسائل الإعلام والمنشورات المتتابعة التي تهدف إلى تسميم عقول الناس عامة والغربيين على وجه الخصوص إزاء العمل الخيري الإسلامي. وقد كسب العدو الصهيوني الكثير بعد أحداث سبتمبر على نحو غير مسبوق.
3 ـ الحملة العلمانية والليبرالية التي يقودها مجموعة من الكتّاب في منطقة الخليج بالذات، ويريدون تصفية العمل الخيري الدولي متذرعين بحجج واهية يقصدون من ورائها تقويض العمل وتصفيته. وقد تجرأ هؤلاء في حملتهم على المؤسسات والعاملين فيها، ونادى بعضهم بإغلاق بعض المؤسسات الخيرية زاعماً أنها استنفدت الغرض من قيامها.
إن الغرض من ذكر ما سبق هو بيان بعض التحديات والجهات المتربصة بالعمل الخيري داخلياً وخارجياً، وينبغي ألاّ يؤدي ذلك إلى إخافة العاملين في المؤسسات أو المتبرعين لها أو المتعاطفين معها؛ لأن العمل الخيري باقٍ ما بقي الإسلام، وما المؤسسات إلا أدوات لتنفيذ المبادئ الإسلامية الحاضّة على فعل الخير، وإسداء النفع للناس وخدمتهم.
وتقع على عاتق المؤسسات الخيرية مسؤولية الاستفادة من هذه المرحلة لمراجعة أوضاعها، والرقي بمستويات العمل فيها، وتحديد أولوياتها في العمل. ومن أهم العناصر التي ينبغي مراعاتها: هو الثبات على هذا الطريق، والإحسان فيه، والصبر على ما يرد من جرائه من إشكالات.
- ثالثاًً: أولويات العمل الخيري:
من الصعوبة بمكان أن نتحدث عن أولويات مؤسسات العمل الخيري وكأنها كتلة واحدة متجانسة؛ ذلك أنها في واقع حالها متنوعة من حيث الأجواء التي تحكمها، والوظائف التي تفضّل القيام بها والقناعات الفكرية لدى القائمين على شؤونها. لكنّ ثمة قدراً مشتركاً لدى هذه المؤسسات، أرجو أن أوفق إلى تحديده في مجال الأولويات، ومن ذلك:
أـ تحرير مفهوم العمل الخيري وهيئاته؛ وذلك بعدة وجوه:
(1) تحرير معنى العمل الخيري في عقول العاملين في مؤسساته؛ لئلا يختلط مع أية مفاهيم أخرى تؤثر فيه، أو تمكّن المتربصين به من الولوج إليه من خلال تلك الاجتهادات. ومن أخطر تلك المفاهيم في هذه المرحلة: الربط بين عمليات الجهاد أو المقاومة وبين العمل الخيري، وهي الثغرة التي يحاول العدو الصهيوني ومساندوه ـ مثلاً ـ الدخول على مؤسساتنا الإسلامية من خلالها.
(2) العمل على تغيير نظرة الناس إلى العمل الخيري باعتباره عملية استجداء (شحاذة) ، والنظر إليه ـ بدلاً من ذلك ـ باعتباره خدمة تقدمها الهيئات للمتبرعين متحملة مسؤولية وضع التبرعات حيث ينبغي أن توضع.
ب ـ تثبيت عامة الناس والمتبرعين؛ لئلا تهتز ثقتهم بالمؤسسات الخيرية، وعدم الصمت على دعاوى الأعداء والمنافقين. ومن واقع تجربتنا في الندوة حققنا ما يلي:
- الاتصال بالمسؤولين في أي بلد يكون فيه مكتب للمؤسسة، وبيان دورها وما تقدمه من خدمات لهم، ومن ذلك المسؤولون في المملكة العربية السعودية. والقاعدة التي نتبعها مفادها أن: «اجعل المسؤولين يسمعون منك، لا عنك!» .
- تقوية العلاقة بالمتبرعين والمحسنين من خلال الزيارات الميدانية، وتزويدهم بتقارير دورية عن مصير تبرعاتهم، ودعوتهم لزيارة المؤسسة. وقد يرغب بعضهم في زيارة المسجد الذي شيده أو الآبار التي حفرها، فينبغي ترتيب الزيارة والإفادة منها لغرس مزيد من الثقة لديه.
- التزام (المصداقية) في العمل مع عامة الناس، سواء في تنفيذ المشروعات (من مساجد ومدارس وآبار..) أو كفالة الأيتام وغيرها من البرامج التي تجتذب الناس.
ت ـ مراجعة وضع المؤسسات الخيرية، والخروج بها من حيز التقليدية والإدارة الفردية إلى حيز العمل الشوريّ الذي يحقق لها ديمومةً بعون الله، ويعينها على الإفادة من أنظمة الجمعيات سواء مما وضعته الأمم المتحدة أو غيرها. وعلى الرغم من وجود مجالس إدارات لكثير من المؤسسات، إلا أنها غالباً ما تكون صورية، وقلما يدعى المجلس إلى اجتماع.
ث ـ الخروج من نطاق المحلية إلى نطاق العالمية الواسع بالتعاون مع الهيئات الإسلامية والعالمية الأخرى في مجالات البرامج والنشاطات والمشروعات. ومن ذلك أيضاً: المشاركة في مؤتمرات الجمعيات الأهلية (غير الحكومية) التي تنضوي تحت مظلة الأمم المتحدة. وقد جربت عدة جمعيات إسلامية المشاركة في تلك المؤتمرات، وقدمت خلالها ورش عمل بالتنسيق مع الجهات المعنية فيها.
ج ـ دعم المجالس والمكاتب التنسيقية والسعي لفهم وظيفتها، وعدم تحميلها مهمات تنفيذية أو معاني أخرى. ومن تلك المجالس: (المجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة) ومقره القاهرة، (المكتب الدولي للجمعيات الخيرية والإنسانية) ومقره جنيف، وهنالك مجلس ثالث في طور التشكّل (تحت مظلة رابطة العالم الإسلامي) في مكة المكرمة.
ح ـ مراجعة وضع الهيئات من حيث الحرص على التخصص، وتوزيع المناشط والاهتمامات مع الهيئات الأخرى، فلا تستطيع هيئة خيرية أن تتميز في كل مجال، وإنما لها أولويات في برامجها تحتاج إلى التركيز عليها.
خ ـ تفعيل الآليات المناسبة لمواجهة الحملات الضارية، من نشاط إعلامي، ومؤتمرات، وندوات، واتصالات فردية.
د ـ بذل عناية خاصة لرفع كفاءة العاملين في القطاع الخيري والمشرفين على تنفيذ برامجه ومناشطه. وأعتقد أن الهيئات الخيرية بحاجة إلى هيئة خيرية تكرس جهدها لدعم مسيرة العمل الخيري وتدريب أطره، وقد كان لـ (معهد إعداد) في الرياض خطة طموح في هذا المنحى، فآمل أن تستمرّ.
- رابعاً: مستقبل العمل الخيري:
الحديث عن أمرٍ مستقبلٍ لا يخلو من صعوبات، لكننا نطرح بعض الرؤى والتوقعات التي نحسب أن العمل الخيري مقبل عليها، ومن ذلك:
1 ـ بقاء العمل الخيري: إذ إنه جزء من الدين، ولن يستطيع أحد أن يقتلع المبدأ ما دام الإسلام قائماً. وعلى الهيئات الإسلامية التذكير بهذا الأصل، وتذكّره في عملها وفي دفاعها عن نفسها وعن برامجها، مع إدراكها في الوقت نفسه أنها أدوات لتنفيذ المبدأ، وهي ليست في مأمن من التعسف والتصفية.
2 ـ استهداف المؤسسات الخيرية: ذلك أنها استطاعت أن تنافس الجمعيات الدولية، وأن تعوق بعض مخططاتها. وفي هذا الشأن قد تختلف مصالح الهيئات الإسلامية مع الهيئات الدولية أحياناً وقد تفترق؛ فهي تلتقي مع الهيئات الدينية (النصرانية بالذات) في الدفاع عن القيم الأخلاقية والأسرية، وتلتقي مع (المؤسسات الأممية) في نصرة المظلومين وإغاثة المنكوبين، وتفترق رؤاها مع الفريقين في مجال التربية والدعوة.
3 ـ حصول مزيد من التضييق على مناشط الهيئات الخيرية في الدول الغربية، وبعض الدول الإسلامية تحت ذريعة التطرف ودعم الإرهاب. وقد بدأت بوادر كثيرة منذ ثلاث سنوات أو أكثر، وأصبح وجود تأشيرة من باكستان مثلاً مثار شك قد يؤدي إلى الاعتقال تعسفاً.
4 ـ احتمال دخول العمل الخيري والدعوي في صراع علني مع المحتل في فلسطين، وقد يشاركه في هذا الوضع بعض المؤسسات الغربية؛ وذاك أن المحتل الصهيوني يريد قطع أية صلة بين الفلسطينيين والعالم، وهو يضرب حصاراً كاملاً عليهم لإذلالهم وإخضاعهم لشروطه المهينة. وقد ظهرت حالات تذمر بين الهيئات الأوروبية من جراء ما يلاقيه عاملوها من معاملة سيئة في فلسطين من قوى الاحتلال. ومن الخير للمؤسسات الإسلامية أن تجمع معلومات عما تتلقاه إسرائيل من تبرعات، وتنظر في «مشروعيتها» لترد على الاتهامات بمثلها.
5 ـ ازدياد الحاجة إلى مؤسسات العمل الخيري وخدماتها سواء في بلدانها أم في البلدان المستفيدة؛ نظراً لاحتمال ازدياد نسبة الفقر خلال العقود القادمة؛ فالزيادة السكانية مطردة، وعجز الجهات الرسمية عن توفير الخدمات الأساسية في تصاعد؛ مما يضع عبئاً من المسؤولية على الهيئات الخيرية. كما أن الكوارث والحروب صارت أشد ضرراً؛ مما يضاعف من مهمات العمل الخيري.
6 ـ ضرورة التفكير في أطر جديدة للعمل، ومن ذلك مثلاً ما يلي:
(1) عقد اتفاقيات تعاون أو مذكرات تفاهم مع جهات خيرية وحكومية؛ لتسهيل مهمة الهيئات.
(2) الحرص على توطين العمل الخيري والدعوة في المجتمعات المستهدفة؛ وذلك بتدريب كوادر من تلك المجتمعات، ومساعدتهم على إنشاء جمعيات خيرية ودعوية راشدة.
(3) وضع (خطط استراتيجية) للعمل تتضمن مفردات العمل نفسه مع بدائل. والخطط تعين ــ بتوفيق الله ــ على البعد عن ردود الأفعال والارتجال.
(4) عقد علائق مع المنظمات غير الإسلامية المستعدة للتعاون في مجالات الإغاثة والقضايا الإنسانية.
(5) التفكير في آليات جديدة لتنمية الموارد المالية والأوقاف، وتحقيق نوع من الاستقرار؛ للعمل وفق الأطر المشروعة.
- خامساً: خاتمة:
نختم هذه الورقات بعدة أمور:
1 ـ تبشير الناس بمستقبل مشرق لهذا الدين وهذه الأمة، كما وعد بذلك الصادق المصدوق #، والعمل على الوصول إلى هذا الهدف.
2 ـ الحرص على الثبات وتثبيت الناس في وسط هذه المحنة؛ بما في ذلك الحرص على تقوية ثقة الناس بالله ـ تعالى ـ أولاًً، ثم بالمنظمات والقائمين عليها.
3 ـ بذل جهود مضاعفة في هذه المرحلة، وحث العاملين على الاحتساب وجودة العطاء والتوجه إلى الله ـ تعالى ـ بصادق الدعاء؛ للخروج من هذه المحنة التي تمر بها الأمة المسلمة.
4 ـ الحرص على الالتزام بمنهج الإسلام في التعامل والحب والكره مع المسلمين وغيرهم؛ إذ العمل الخيري صور من صور هذه الأمة ودينها.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- أصل هذه الورقات أفكار مقدمة للمؤتمر الخليجي الأول للجمعيات والمؤسسات الخيرية الذي عقد تحت عنوان (الآفاق المستقبلية للعمل الخيري: الواقع والتطلعات) الذي نظمته (مبرة الأعمال الخيرية) في الكويت في المدة 10 ـ 12/10/1425هـ الموافق 23 ـ 25/11/2004م.