اعتاد العلمانيون في العالم العربي
أ. د. محمد يحيى
في السنوات الأخيرة على الشكوى المنتظمة، مما يسمونه بالرقابة الدينية المفروضة على الإبداع والفكر. ومحور هذه الشكوى هو أن الإسلاميين (وهم في عرف العلمانيين من الجهلاء والظلاميين وأعداء العقل إلى آخر هذه الاتهامات الجوفاء) لا ينفكون يطالبون بمنع الكتب والكتابات والأعمال الرئيسة التي لا تعجبهم بحجة أنها تخالف الدين.
والعلمانيون يعدون أنفسهم في هذه المعادلة على أنهم الطرف المظلوم المضطهد الذي يدافع باستماتة عن التغرير والعقلانية والتقدم والعلم. والموضوع بأسره هو ضرب من الدعاية الكاذبة التي عودنا العلمانيون والمتغربون عليها لتغطية مواقفهم القمعية والضاربة للإسلام، والتي هي بالفعل أكثر مما يحصل. ولكن يشاء الله في الفترة الأخيرة أن يفضح الجانب العلماني نفسه في تطور مثير للاهتمام حدث في مصر؛ فخلال شهر مايو ـ 2004م ـ أخذت بعض الكتابات العلمانية تبشر بقرب إنشاء ما وصف بـ (المرصد الإعلامي للمرأة) أو المرصد النسائي الذي تحدد هدفه الأساسي في المتابعة الدقيقة لما يكتب ويثار في الإعلام حول المرأة لاتخاذ موقف منه بالمنع أو التحذير أو حتى الترحيب إذا كان مما يتماشى مع المفاهيم التي يقول دعاة النسائية أو النسوية أنها تخدم مصالح المرأة حسب مفاهيمهم هم التي هي مفاهيم حركات المرأة في الغرب. والطريف أن المرشح لرئاسة أو توجيه هذا المرصد هو رجل (وليس امرأة) ، كما أنه هو أعلى الأصوات العلمانية الداعية ـ بحكم منصبه الثقافي ـ إلى ضرب الإسلاميين بحجة رئيسية هي أنهم يحبذون ويروجون للرقابة الدينية أو محاكم التفتيش كما يسميها.
وهذا المرصد ليس أكثر من مجرد هيئة للرقابة، أو محكمة لكن أحداً لم يعترض عليها؛ لأنها محكمة تفتيش علمانية، وليست دينية رغم عدم وجود مثل هذه المحاكم على الجانب الإسلامي لا في الحاضر ولا في الماضي؛ فكل ما يخالف الأفكار الضيقة والخاصة عن المرأة التي يقول العلمانيون والنسويون أنها هي الحق المطلق والأبدي، سوف يختفي من وسائل الإعلام ودور النشر وصفحات الصحف وكل وسائل النشر والإعلان؛ بحجة أنها فكر ظلامي بائد يتنافى مع معايير العصر والعقل والاستنارة والإصلاح. أما كل ما يخدم هذا الفكر الضيق الخاص بدءاً من دعوة الاسترجال للمرأة، ونهاية بالشذوذ النسائي مروراً بكل دعوات الشقاق والصراع بين الرجال والنساء وهموم الأسرة، وقلب أدوار المرأة ونزع أوضاعها في كنف الإسلام وشريعته، فهو مقبول ومرحب به، بل شجع عليه باعتباره يخدم قيم العقل والاستنارة.. إلخ. إذن نحن أمام جهة رقابة على الفكر والضمائر والتوجهات في كل شيء إلا في الاسم؛ حيث زينت بلقب ـ على (الموضة) السائدة ـ وهو «المرصد» . لكن هذه الرقابة لها نفس الوضع الكريه والأفعال الشنيعة التي كانت تُلصق بمحاكم التفتيش الكاثوليكية، بل تتفوق ـ على العكس ـ من الكاثوليكية أو غيرها، وهي فئة ترفع للدعاية شعارات الحرية والعقل والديموقراطية، لكنها الآن تمارس عكس هذه الدعاية، وتفرض الرقابة الخانقة على كل ما يخالف آراءها الضيقة. ولا يخلو هذا الكلام من الدليل؛ فعندما عرض التلفزيون المصري منذ سنوات قليلة مسلسلاً يظهر فيه شخص مقترن بأربع نساء، ويحيا حياة سعيدة معهن ثارت ثائرة أدعياء الدفاع عن المرأة (بدون توكيل من النساء) وطالبوا وطالبن بمنع هذا المسلسل، وطاردوا مؤلفه وممثليه (ولا سيما القائم بدور البطل) ، ووصلوا إلى حد التهديد بقطع أرزاقهم وإيقافهم عن التمثيل. حدث هذا لمجرد أن المسلسل يقوِّم مفهوماً لا يخالف الشريعة، بل يوافقها ويظهر حسناته حتى وهو يفعل ذلك في قالب من الفكاهة لا يحبذ أبداً تعدد الزوجات. وخلال هذا وقبله وبعده لا ينفك أتباع مدخل ما يسمى بـ (صورة المرأة) في ملاحقة واصطياد كل صورة أو دور تظهر فيه المرأة محجبة، أو زوجة محبة متفانية، أو أمّاً مضحية أو متدينة، ويصورون ذلك كله على أنه تكريس لدونية واضطهاد وقمع للمرأة، ويطالبون بمنع هذه الصور أو «النماذج السيئة» بزعمهم، وإحلال أخرى محلها تتمثل في النساء المسترجلات السافرات الإباحيات اللواتي هن في عرف هؤلاء نموذج المرأة المصرية. أليس في كل هذه التوجهات قمع وكبت يتجاوز أي رقابة أخرى دينية كانت (وهي غير موجودة) أو غير دينية (وهي السائدة) .
ومما يلقي بأقوى الضوء على هذا التأسيس الجديد لرقابة علمانية أو نسوية جديدة وشرسة، ما حدث في مصر نفسها وفي نفس أيام طرح مفهوم المرصد النسائي. ففي أواخر شهر مايو نفسه خرج الأزهر فجأة وبدون توقع وعلى خلاف التوجه السائد فيه وخارجه بمؤتمر صحفي أعلن فيه عن حظر كتاب صدر منذ عشرين سنة لكاتبة علمانية على أنه يحتوي طعناً جوهرياً في الإسلام. وقبل أن يفيق الناس من هذه المفاجأة التي تتناقض مع مواقف مشهورة أخيرة لشيخ الأزهر ليس أقلها موقفه من قضية الحجاب في فرنسا، نشرت الصحف المصرية أن وزير العدل سوف يفعِّل قراراً بمنح سلطة الضبطية القضائية لأعضاء في مجمع البحوث الإسلامية فيما يتعلق بالكتابات التي تحتوي مساساً بالدين. وهنا نسي العلمانيون مطلبهم الجديد بإنشاء رقابة لا دينية لصالح فكرهم، وراحوا وسط مطالبهم بالقمع والكبت لما يخالف الفكر النسوي يتحدثون عن الرقابة الدينية وتدخُّلِ المشايخ الظلاميين في الإبداع وسيادة الجهل والقمع.. إلخ.
وطبعاً لم يهتم أحد أو يلاحظ أحد من العلمانيين وحتى من غيرهم هذا التناقض الصارخ بين إنشاء هيئة لقمع الكتب من ناحية، والهجوم على ما يسمونه كذباً بالقمع والكبت الديني من ناحية أخرى.
ويبدو أن العلمانيين في خضم الوقوع في هذا التناقض نسوا أن الهدف الحقيقي من وراء الإعلان المفاجئ والسائر ضد التيار عن حظر الكتاب وإرساء الضبطية القضائية لم يكن بأي حال مراقبة من يهاجمون الإسلام، بل على العكس مهاجمة الإسلاميين والكتاب الإسلاميين أنفسم عن طريق فرض الرقابة الحكومية على الفكر الإسلامي، وإرغامه على السير في ركاب عملية ما يسمى بتجديد الخطاب الديني (أي علمنته وتغريبه) برفع سيف الرقابة الأزهرية المزعومة على كل ما يكتب عن الإسلام من الجانب العلماني (بحجة أنه اجتهاد وتجديد) بينما تنزل بيد القمع على الكُتَّاب والمفكرين الصادقين (بحجة أنهم متطرفون متشددون يسيئون إلى صورة الإسلام) .
نسي العلمانيون هذا الهدف الواضح من التحرك المفاجئ ظاهرياً، وأثاروا ضجة حول ما أسموه بـ (الرقابة الدينية) . ولسوء حظهم فإن هذه الثورة من جانبهم أجبرت الجهات الرسمية على رد فعل دفاعي زعموا فيه أن الهدف من مسألة الضبطية القضائية هو الرقابة على طبع المصاحف وكتب الأحاديث فقط لضمان خلوها من الأخطاء المطبعية. وربما تكون هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي يتسبب فيها العلمانيون في خدمة للإسلام بإجبار المسؤولين على إخفاء حقيقة الهدف من مسألة الضبطية القضائية. لكن هذا لا يخفي أبداً التناقض الصارخ بين دعاواهم عن الحرية وممارساتهم القمعية «المرصدية» .
(*) أستاذ الأدب الإنجليزي، كلية الآداب، جامعة القاهرة.