أ. د. محمد أمحزون
إن سنن الله ـ تعالى ـ أو القوانين التي يخضع لها الكون ثابتة وشاملة لا تتغير مهما تغير الزمان والمكان: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43] .
ولقد نجم هذا الثبات وذلك الشمول عن أمرين:
الأول: استبعاد عنصر المصادفة تماماً، إذ لا يمكن للمصادفة أن تثبت نظاماً أو تجعله شاملاً.
الثاني: هو أن الثبات والاطِّراد والشمول جعل قيام العلم أمراً ممكناً؛ إذ لو تغير نظام الوجود وخصائص الأشياء من مكان إلى آخر أو من زمان إلى آخر لما قامت حقائق علمية، ولما كان هناك تقدم وحضارة.
ولما كان دور العلم أن يبصرنا بآيات الخالق ـ جل علاه ـ في الكون، وبنظامه الرائع البديع، كان اطِّراد هذا النظام وسيلة إلى اكتشاف السنن الاجتماعية والتاريخية وقوانين المادة الثابتة الصارمة التي لا تعرف التغيير والتبديل، مما يساعد الإنسان على معرفتها ثم التكيّف معها وتوظيفها في عمارة الأرض وبناء الحضارة.
والأمر الأهم في السنن أنها:
- من الناحية الاجتماعية والتاريخية تكاد تلتحم مع أحكام الهداية القرآنية التي يمكنها بطبيعتها الإيمانية أن تشحن الطاقة الروحية للإنسان، وتجعل من إرادته وقدرته قوة محركة لسنن الأنفس والتاريخ والمجتمع؛ مما يغيّر الموازين والمقاييس الوضعية المتعارف عليها.
- ومن الناحية الطبيعية تفجر طاقاته الإبداعية وتوجه قدراته نحو الكشف والتطوير، وتسخيرهما في تجارب الحياة وتطويع الطبيعة والأشياء.
ومن هذا المنظور علينا أن نعيد إلى عقيدتنا حيويتها وفعلها الاجتماعي الذي ينهض بالأمة، ويدفع بها في مسار الحضارة.
- العلم بالسنن من فروض الكفاية:
من نافلة القول أن سنن الله ـ تعالى ـ المبيَّنة في القرآن الكريم وفي السنّة الشريفة جديرة بالدراسة والفهم؛ لأن دراستها وفهمها من الأمور المهمة جداً والواجبة شرعاً وديناً؛ إذ هي جزء من معرفة الدين، ومن جملته معرفة أحوال الأمم مع أنبيائهم، وما حلّ فيهم بسبب سلوكهم معهم وفقاً لسنن الله تعالى. كما أنها تبصرنا بكيفية السلوك الصحيح في الحياة حتى لا نقع في الخطأ والعثار والغرور والأماني الكاذبة، وبذلك ننجو مما حذرنا الله ـ عز وجل ـ منه، ونظفر بما وعد الله ـ تعالى ـ به عباده المتقين (1) .
«والعلم بسنن الله ـ تعالى ـ من أهم العلوم وأنفعها، والقرآن يحيل عليه في مواضع كثيرة، وقد دلنا على مأخذه من أحوال الأمم؛ إذ أمرنا أن نسير في الأرض لأجل اجتلائها ومعرفة حقيقتها ... ولا أشك في كون الصحابة كانوا مهتدين بهذه السنن وعالمين بمراد الله ـ تعالى ـ من ذكرها ... إنهم بما لهم من معرفة بأحوال القبائل العربية والشعوب القريبة منهم، ومن التجارب والأخبار في الحرب وغيرها، وبما منحوا من الذكاء والحذق وقوة الاستنباط كانوا يفهمون المراد من سنن الله ـ تعالى ـ ويهتدون بها في حروبهم وفتوحاتهم وسياستهم للأمم التي استولوا عليها» (2) .
- أثر السنن في تطور العلوم:
ومن المعلوم أن الله ـ عز وجل ـ منح الإنسان القدرة العقلية ليتمكن بها من استكشاف العالم وتمييز السنن التي تتحكم في المخلوقات المختلفة، ومنحه القدرة المادية التي تمكنه من تسخير هذه المخلوقات في شؤونه وحاجاته؛ حيث أثر ذلك في مجرى وتطور الحياة الإنسانية تأثيراً عميقاً وجذرياً.
ويمكن الإشارة ها هنا إلى أمثلة من سنن كثيرة أثّرت في حياة البشرية، ومكنت من إحراز تقدم هائل في مضمار المدنية، نظراً لاستجابة العلماء لداعي البحث في هذا العلم وإدراكهم وجوب الاهتمام به وأهميته في تقدم المعرفة؛ لأن الهدف الذي تسعى إليه العلوم قاطبة هو معرفة السنن التي تحكم مفردات هذا الكون.
ومن نماذج السنن التي أثرت في حياة البشرية ودفعتها أشواطاً بعيدة في مجال تطور العلوم:
أ - تلك السنة التي تنبّه لها العالم الرياضي الشهير «نيوتن» ، والتي صاغها فيما عرف باسم «قانون الفعل ورد الفعل» ؛ فقد تمكن الإنسان بعد أن يسر الله ـ تعالى ـ له الظروف والإمكانيات المواتية أن يستفيد من خصائص هذه السنة في مجالات عديدة، من أبرزها اختراع المحركات النفاثة التي تساهم في تقدم صناعة الطائرات والصواريخ مساهمة فعالة، حتى أوصلت الإنسان إلى سطح القمر الذي كان في الماضي حلماً بعيد المنال (3) .
ب - وما سيرة الطاقة الذرية أو النووية عنا ببعيدة؛ فقد تمكن الإنسان خلال سنوات قليلة أن يسخر هذه الطاقة الهائلة في أغراض شتى مدنية وعسكرية، بعد أن عرف السنن التي تتحكم فيها، ولم يكن ممكناً له ذلك من قبل حين كان يجهل هذه السنن جهلاً تاماً.
- السنن وسيلة للتحكم في الظواهر الاجتماعية والطبيعية:
وعلى الصعيد الاجتماعي؛ فإن الاستفادة من السنن وملاحظة الأمثلة والأحداث تقدم للناس بصراً ومعرفة نظرية وعملية، حتى لا يقعوا فيما وقع فيه مَنْ قبلهم من المحاذير والمثلات، أو تنقذهم إذا هم وقعوا فيها، وعلى أقل تقدير لكسبهم صلابة موقف من يدرك السنة؛ لأن موقف من يرى السنن يختلف عن نظر وموقف من يجهل مصدر الأحداث؛ فإن حيرة وخوف من يجهل غير بصيرة وطمأنينة من يعلم.
بل مثل من يعلم سنن الاجتماع والتاريخ ومن يجهلها، كمن يعيش في مفازة على خريطة وبوصلة، لا كمن يضرب في تيه الأرض دون معرفة أو دليل (4) .
ولذلك يجب على المسلمين أن يركزوا في معارفهم العامة والمتخصصة على الدراسات التي تمكن من الإحاطة بمفردات هذا العلم، وضبط الآليات التي توجههم للاستفادة في ميدان التطبيق من مختلف السنن (القوانين) التي تتحكم في المساحات الكونية؛ إذ هي التي تؤدي عادة لحدوث الظواهر سواء كانت مادية (طبيعية) أو إنسانية (اجتماعية) ، وتفيدنا في التحكم بهذه الظواهر بمعرفة شروطها وأحكامها وموانع حدوثها، وتجعلها أكثر قدرة على تسخيرها لصالحنا، وتوظيفها في تصريف شؤون حياتنا؛ مما ييسر لنا مهمة الاستخلاف في الأرض وبناء الحضارة.
وإن انطلاق المسلمين لاستيعاب علم السنن، وامتلاك أسباب القوة في جميع مجالات العلوم تجريبيةً وإنسانيةً لحماية دينهم وأوطانهم ومكتسباتهم الحضارية؛ ما زال فريضة شرعية غائبة إن لم يقم بها بعضهم أثموا جميعاً وسئلوا عنها يوم القيامة بين يدي الله ـ عز وجل ـ.
- ثمرات وفوائد اكتساب علم السنن:
فمن الثمرات التي نجنيها من فهمنا لطبيعة السنن ثمرة الإيمان، فالكون ما كان له أن يقوم على هذه الصورة البديعة من التناسق والجمال والتوازن والاستقرار لو لم يكن خالقه رباً واحداً وإلهاً حكيماً عالماً مريداً، خبيراً، قوياً، عظيماً، محيطاً بكل شيء، وقادراً على كل شيء، سبحانه وتعالى (5) .
هذا من جهة. ومن جهة ثانية؛ فإن التوجيهات الإلهية للمؤمنين للتدبر والتفكر في سنن الوجود، هي توجيهات دقيقة للعقل المؤمن ليتفتح على رصد الوقائع واستقراء الظواهر لمعرفة قوانين المادة والكشف عن أسرار الكون؛ إذا ما ينبغي أن يعرض عن ملاحظة دقيق صنع الخالق ـ جل وعلا ـ في الأرض والسماء بعد أن أمره بذلك ليتعرف على كمال الله ـ تعالى ـ ودقيق صنعه، فيعبده على بينة وعلم، وليتعامل مع عالم الشهادة بإدراك قوانينه وتسخيرها، ومن ها هنا كان العقل المسلم فاعلاً متوهجاً تواقاً للمغامرة العلمية، والريادة في رصد الأفلاك، وتشريح الأعضاء، ودراسة الظواهر في العصر الإسلامي الذهبي (1) .
وثمة ثمرة طيبة أخرى يمكن أن نقطفها من فهمنا الصحيح لعلاقة السنن بحياتنا؛ ذلك أن إيماننا بأن كل أمر في هذا الوجود خاضع لسنة سوف يعين المسلمين على الخروج من متاهة الاختلاف والنزاع والضعف والتشتت؛ لأن كشف السنة التي تحكم أمراً من الأمور، سيجعل النظرة إلى هذا الأمر نظرة واقعية وموضوعية، وينقل التعامل معه من نطاق الفرضيات والنظريات القابلة للأخذ والردّ والاختلاف إلى آفاق العلم الذي لا جدال فيه ولا اختلاف (2) .
وفائدة هذا العلم في معرفة أحوال الأمم كفائدة علم النحو والبيان في حفظ اللغة.
ومن الثمرات التي نجنيها من التفاعل مع هذا العلم، أننا حين ندرك إدراكاً عميقاً أن كل شيء في هذا الوجود خاضع لسنن لا تتبدل ولا تتحول، ثم نترجم هذا الإدراك إلى نتاج عملي من خلال تعاملنا الواقعي مع سنن الله ـ تعالى ـ في الخلق، فعندئذ نصبح ـ بعون الله تعالى ـ قادرين على تسخير الكون من حولنا وفق الطريقة القويمة التي أمرنا الله ـ عز وجل ـ بها، وبهذا نتمكن أن نخرج من أزمة تخلفنا، وهي نتيجة طبيعية لغفلتنا عن العلاقة بين الجهد البشري وسنن الله ـ تعالى ـ في الخلق (3) .
وكذلك من الفوائد التي يجنيها الإنسان بتعامله مع السنن ثمرة الحرية، فبفهمه لطبيعة بعض السنن استطاع أن ينفذ من الأرض إلى السماء ويكتسب هامشاً جديداً من الحرية؛ إذ تحرر من قيد الجاذبية الأرضية، وتحرر من قيد السرعة التي منحت له فطرة، وهي سرعة مشيه على قدميه، فأصبح قادراً على الحركة بسرعة مذهلة تتجاوز سرعة الصوت (4) .
ذلك أن السنن تعد بمثابة حواجز تحد من حرية الإنسان في هذا العالم، وتقيد حركته، نلمس ذلك في قوله ـ تعالى ـ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنسِ إنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إلاَّ بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33] .
ولذا نرجح أن السلطان المذكور في الآية هو سلطان العلم ومعرفة السنن الإلهية التي تعين الإنسان على الطيران للنفاذ من أقطار السماوات والأرض ـ والله أعلم ـ.
- السنن تتيح إمكانية تحويل الأفكار بسرعة إلى الفعل:
ولأهمية هذا العلم أصبح العلماء في العصر الحاضر ـ بفضل تعمقهم في فهم السنن الكونية ـ قادرين على كشف أسرار المخترعات الجديدة بصورة أسرع بكثير مما كان يجري في الماضي، كما أتاح لهم فهم السنن للتعجيل في تحويل أفكارهم الفطرية إلى تطبيقات عملية.
- سنن الله في الآفاق والأنفس وعلاقتها بالمجتمع:
السنن في مجال الطبيعة: هي القوانين التي سنّها الله ـ عز وجل ـ لهذا الكون، وأخضع لها مخلوقاته جميعاً على اختلاف أنواعها وتباين أجناسها (5) : {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83] ، فما في الكون من ذرة أو مادة أو حيوان أو نبات إلا له قانون يسير وفقه ويتحكم في جزئياته.
وفي الميدان الاجتماعي: هي القوانين التي يخضع لها البشر في تصرفاتهم وأفعالهم وسلوكهم في الحياة، وما يكونون عليه من أحوال، وما يترتب على ذلك من نتائج كالرفاهية والضيق في العيش، والسعادة والشقاء، والعز والذل، والرقي والتخلف، والقوة والضعف (6) .
وفي حقل التاريخ: هي القوانين التي تتحكم في مسيرة التاريخ البشري، وفي حركته وتوجيه أحداثه.
والسنن مرتبطة أساساً بالله سبحانه وتعالى؛ بمعنى أن كل ناموس من نواميس الكون يستهدف ربط الإنسان بالقوانين العلمية والموضوعية للكون.
فهو ـ سبحانه ـ الذي خلق الكون وخلق كل شيء فيه، وقدّر العلاقات المختلفة بين عناصره ومفرداته، وجعل السنن على هذه الصورة البديعة المتناسقة، وأوجد أسبابها، وقدّر نتائجها، وجعل العلاقة بين السبب والمسبَّب أو النتيجة قائمة وفق نظام مطرد، قابل للتكرار كلما توافرت شروطه وانتفت موانعه.
فلولا ثبات السنن على هذه الشاكلة لما أمكن للبشر أن يسخروها أو يستفيدوا منها، ولما كان في هذا الوجود أصلاً توازن ولا استقرار، ولكانت الفوضى حينئذ هي سمة الخلق.
ومن ها هنا تتجلى حكمة الله ـ جل ثناؤه ـ في صياغة نظام الكون على مستوى القوانين الثابتة، وعلى مستوى الروابط المطردة، كما في قوله ـ تعالى ـ: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43] .
ولما كان التعامل مع الكون المحيط بنا لا يتم بصورة صحيحة إلا بعد فهم السنن الإلهية التي جعلها الله ـ عز وجل ـ مفاتيح للتعامل مع موجودات هذا العالم، وتتيح للإنسان فرصة الاستفادة من كنوزه وثرواته التي لا تعدّ ولا تحصى في آفاق الطبيعة والمادة والنفس والإنسان والمجتمع؛ لهذا فإن الهدف الذي تسعى إليه العلوم قاطبة هي معرفة السنن التي تحكم مفردات هذا الكون؛ لأن معرفة السنن أو الأسباب التي تؤدي عادة لحدوث الظواهر سواء كانت مادية أو إنسانية، تفيدنا في التحكم بهذه الظواهر، بمعرفة شروطها وأحكامها وموانع حدوثها، وتجعلنا قادرين على تسخيرها لصالحنا والاستفادة منها وتوظيفها في تصريف شؤون حياتنا، مما ييسر لنا مهمة الاستخلاف في الأرض وبناء الحضارة.
- أولاً: السنن الطبيعية وعلاقتها بالمجتمع:
القرآن الكريم لم يكتف بتأكيد موضوع السنن نظرياً، بل ربط عملياً إمكانية الإنجاز الحضاري بمعرفة الأسباب، وكشف السنن التي تحكم الكون وعالم الحياة والأحياء، وقدّم «ذا القرنين» أنموذجاً متجسداً للخبير المسلم الذي يستخدم العلم الصناعي في مصلحة البشرية. ويمكن القول بأن الكشف عن السنن الطبيعية قد أثر إلى حد كبير في حياة البشرية التي أخذت تقترب بخطى حثيثة من فهم العالم المحيط بها، وتسخيره بصورة أكثر فعالية.
إن حياة المجتمع واستمراره وتقدمه تعتمد على الكشف عن قوانين الكون وأسراره، وهذه العملية تتطلب صبراً وتحدياً واستجابةً ودأباً وإبداعاً.
فمن جهة: هناك الحاجة إلى معرفة الأسباب التي تفيد عادة في التحكم بالظواهر الكونية المختلفة، وتجعلنا أكثر قدرة على تسخيرها لصالحنا، ودرء أخطارها عنّا ـ بإذن الله تعالى ـ.
ومن جهة ثانية: هناك المعرفة اليقينية بعناصر الظاهرة الكونية؛ فلا يصح أن ندّعي بأن عندنا علماً بظاهرة من الظواهر الكونية ما لم نكن قد عرفنا السنَّة التي تحكمها، وأخذنا في الحسبان أن معرفة السنة التي تحكم ظاهرة ما: تعني بالضرورة معرفة كل العوامل والشروط المتعلقة بالظاهرة المحيطة بها. وتعني كذلك القدرة على إعادة تشكيل الظاهرة من جديد انطلاقاً من تلك العوامل والشروط.
فنصل من خلال ذلك إلى أمرين:
الأول: القدرة على التنبؤ بنتائج الظاهرة تنبؤاً يقينياً.
الثاني: القدرة على تسخير الظاهرة نفسها من خلال تهيئة شروطها وأسبابها التي سبقت المعرفة بها (1) .
وهذا هو العلم اليقيني النافع الذي لا يدانيه شك، ويمكن تسخير الأشياء به، والاستفادة من معطياته وثمراته في تصريف شؤون الحياة، وازدهار المجتمعات، وعمارة الأرض على الوجه الذي أمر الله ـ عز وجل ـ به.
أما ثمار الكشف عن السنن الطبيعية: فإنها تتجلى في فسح المجال للإنسان باستخدام نتائج البحث العلمي في تطوير أساليب العمليات الإنتاجية، واستغلال البيئة المحيطة بالإنسان، وتطويع ما فيها من مواد وطاقة لإشباع مصالحه الاجتماعية: الضرورية والحاجية والتحسينية، وبصورة عامة فهي توفر مجموع السبل التي تتيح للمجتمع حياة مادية آمنة ومرفهة.
لكن ينبغي الإشارة إلى الفارق الكبير بين موقع العلم التجريبي في المشروع الحضاري الإسلامي وموقعه في المشروع الغربي؛ فرق في المنطلقات والغايات، وفرق في الضوابط والآليات، وفرق في التوجيه والتطبيق.
فالمنطلقات والغايات عند المسلمين عبادية وإنسانية، تقوم على تنفيذ إرادة الله ـ تعالى ـ وأوامره في النظر في الكون والآفاق، من أجل الوصول إلى السنن أو القوانين التي تحكم الموجودات والمخلوقات.
وهذا يفيد من جهتين:
الأولى: تعميق الطاقة الإيمانية عند الإنسان المسلم؛ إذ تؤدي العلوم الطبيعية إلى مزيد من الخشية لله ـ تعالى ـ: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] .
والثانية: الانتفاع بالمعرفة السننية في التطبيقات العلمية (التقنية والصناعية) ، وهو الأمر الذي يؤدي إلى أن يكون المجتمع المسلم هو الأقوى سياسياً واقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً وتعليمياً وصحياً (1) ، وهذا شرط رئيس للقيام برسالة الإنسان؛ لأن التنمية الشاملة بكافة جوانبها ومكوناتها لن تتحقق إلا إذا جُعل الإنسان محور أهدافها.
- ثانياً: السنن التاريخية وعلاقتها بالمجتمع:
ولأهمية السنن، قدّم القرآن الكريم تلخيصاً وافياً ودقيقاً عنها؛ حيث نبّه المسلمين إلى أهمية التعرف على السنن التاريخية: بعرضه لقصص الأمم السابقة للإفادة منها في الاعتبار، وبناء الحضارة، وكيفية المحافظة عليها من السقوط.
إن هذا الكون ـ بما فيه الإنسان وفعله ـ هو خلق الله ـ تعالى ـ فلا بد إذن من الرجوع إلى الخالق لفهم هذا الخلق: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] . وإذا رجعنا إلى الوحي المنزل من الخالق ـ جل وعلا ـ لهداية البشرية نجد الاتجاهات محددة، وهي تدعو إلى الاهتداء بالسنن في ثباتها وصرامتها واطرادها، ومعرفة الأطوار التاريخية التي مرت بها الأمم والدول في تقلباتها ومصائرها، والسنن الربانية التي حاقت بها (2) .
فمن خلال السنن الإلهية في كتاب الله ـ تعالى ـ وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- نفهم التاريخ، ونفسر أحداثه تفسيراً ينفعنا في تقييم حاضرنا وبنائه، واستشراف المستقبل؛ إذ نعرف عوامل البناء والأمن والاستقرار والصحة والرفاهية، كما في قوله ـ تعالى ـ: {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا} [الجن: 16] ، فربطت الآية الكريمة ها هنا بين وفرة الإنتاج وعدالة التوزيع، وقوله ـ تعالى ـ: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 96] ؛ فالحفاظ على القيم العليا في المجتمع والحرص على تطبيقها لا بد أن يؤدي إلى عمارة الأرض، وترقية الحياة ونمائها، وهذه كلها مؤشرات الرخاء والازدهار التي وعد الله ـ تعالى ـ عباده المؤمنين المتقين.
كما نعرف عوامل الهدم والخوف والجوع والمرض، كما في قوله ـ تعالى ـ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال: 53] ؛ فتبدل الأحوال الذي يحدثه الله ـ عز وجل ـ في المجتمع من الصحة إلى السقم، ومن الغنى إلى الفقر، ومن الأمن إلى الخوف، ومن العزة إلى الذلة ... مرتبط بإرادة الناس وسلوكهم وأفعالهم السلبية المخالفة لما أمر الله ـ تعالى ـ به.
ونضع أيدينا على أسباب الاضمحلال والسقوط في مثل قوله ـ تعالى ـ: {وَإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16] ؛ إذ ربطت هذه السنة بين أمرين: بين تأمير الفساق والمترفين في المجتمع، ووضع آليات التوجيه ودواليب السلطة في أيديهم، وبين دمار ذلك المجتمع وانحلاله، فمتى وجد الشرك: وجد الجزاء، ومتى كانت المقدمة سيئة، كانت النتيجة بدورها مخيبة للآمال.
وعليه، فإن انتقال المجتمع من حال إلى حال لا يحصل عشوائياً؛ بل يحصل وفق سنن ربانية تحكم مساره وتضبط وجهته؛ حيث حدثنا القرآن الكريم عن مجتمعات مختلفة: منها من عاش حياة رغيدة آمنة، ومنها من ذاق لباس الجوع والخوف، ومنها من باد وهلك بعذاب الاستئصال.
ولقد كان البيان القرآني جليّاً حين قرّر أن ازدهار المجتمعات أو اضمحلالها رهين بتطبيق شريعة الله ـ تعالى ـ أو النأي عنها؛ ففي باب الوفرة وبسط النعم يقول ـ تعالى ـ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} [المائدة: 66] . وفي باب الشدة والجوع والوباء والعذاب يقول ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإذَا هُم مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 42 - 44] . إنها سنَّة ماضية في كل المجتمعات التي تحيد عن منهج الله ـ تعالى ـ وتأبى الخضوع لحكمه.
والقرآن الكريم حين لفت أنظار الناس إلى أحوال الأمم السابقة وعواقب الأمم البائدة، إنما أراد بذلك أن نستخلص العبر ونستجلي العظات لبناء مجتمعات مؤمنة سليمة، قوية وعادلة.
وللاعتبار ربط الكتاب العزيز بين ثبات السنَّة والسير في الأرض، كما في قوله ـ تعالى ـ: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137] .
ومن نافلة القول أن تفسير التاريخ الإنساني وفق قواعد منهجية كهذه وغيرها التي وجّه القرآن الكريم نظر الإنسان إليها، ووفق سنن صارمة مطردة تتحقق آثارها كلما تحققت أسبابها ـ بإذن الله تعالى ـ ويستطيع الناس ملاحظتها، وبناء تصورهم للمقدمات وسحب النتائج عليها، ومعرفة مراحلها وأطوارها. كان هذا التفكير السنني برمته في تفسير التاريخ شيئاً جديداً على العقل البشري؛ إذ كان قصارى ما يروى من التاريخ وما يدوّن من الأخبار، مجرد مشاهدات أو روايات عن الأحداث والعادات والناس، لا يربط بينها منهج تحليلي سببي يحدد نسق التسلسل بين الأحداث، كما يحدد نسق الترابط بين المقدمات والنتائج، وبين الأسباب والمسببات، وبين المراحل والأطوار، فجاء المنهج القرآني لينقل المجتمعات البشرية إلى الأفق الرحب، ويحدّد لها منهجاً للنظر والاستقراء والاستدلال في معالجة التاريخ الإنساني والفعل الاجتماعي عبر الماضي والحاضر والمستقبل.
- ثالثاً: السنن الاجتماعية وعلاقتها بالمجتمع:
بصدد الحديث عن السنن الاجتماعية وعلاقتها بالمجتمع سنعرض سُنَّتين؛ للأولى أثر كبير في إحداث التفاعل الاجتماعي والسير بعملية البناء الحضاري نحو الأحسن، وللثانية صلة بشدّ وظيفة المجتمع عندما يخرج أفراده عن النظام العام، ولا يحصل بينهم الانسجام والتكامل المطلوب، فينتهي المجتمع إلى الاضمحلال والزوال.
السُّنَّة الأولى: سُنَّة التغيير:
من المعلوم أن هذه السنَّة عظيمة القدر؛ لأن أهم شيء يحث عليه القرآن، ومن أجله أنزل الله ـ تعالى ـ الكتب وأرسل الرسل ـ عليهم السلام ـ: هو تغيير المجتمعات من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام.
ولهذا جاء الإلحاح في الكتاب العزيز لينظر الناس إلى العلاقة العضوية ما بين تغيير ما بداخل النفس وتغيير الواقع الاجتماعي في قوله ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] . فالآية توحي بقانون صارم ثابت يحكم العلاقة بين المحتوى الداخلي النفسي للناس، وتغيير حال المجتمع إيجاباً أو سلباً نحو الأحسن أو نحو الأسوأ.
ومن منطلق هذه السنَّة ترتفع وتنخفض المجتمعات، وعلى أساسها يكافئ الله ـ عز وجل ـ ويعاقب.
ولأنها سنة عامة، فسيتناول حديثي الجانب الإيجابي منها، وهو التغيير نحو الأحسن؛ حيث قضى الله ـ تعالى ـ أنه لا يغير واقع مجتمع حتى يبدأ أفراده بتغيير ما بداخل أنفسهم من مفاهيم وأفكار، ونظرة للكون والإنسان والحياة، ويصلحوا أحوالهم وأوضاعهم، فيغير الله ـ تعالى ـ آنذاك ما بهم ويأخذ بأيديهم إلى برّ الأمان.
ومن المعلوم أن التغيير لا بد أن يرتكز على ثلاثة مقومات أو تتوفر فيه ثلاثة شروط:
أولها: العقيدة: فالإيمان بالله ـ تعالى ـ يعد شرطاً أوّلياً لبسط النعمة، أو بالمصطلح المعاصر: «الحضارة» أو الرفاهية والرخاء، والعمل الصالح الذي يترجم هذا الإيمان إلى سلوك هو صِمَام الأمان للحفاظ على هذه النعمة أو الحضارة (1) .
وثانيها: الإنسان: وهو محور التغيير؛ لأنه اللبنة الأساسية في بناء المجتمع، فلا بد من تزكيته وتربيته وتهيئة إرادته للعمل والإبداع عن طريق شحذ قوته الداخلية: الروحية والعاطفية والنفسية والعقلية، ليمتلك رصيداً ضخماً في مجال المبادرات الحضارية.
ثالثها: الزمن: باعتباره عاملاً رئيساً لإنضاج عملية التغيير؛ ذلك أن التغيير النوعي في المجتمع يتطلب فترة زمنية كافية حتى يكتمل، ويؤتي ثماره يانعة سائغة.
وفي نطاق سنة التغيير: تبدأ الظواهر الاجتماعية ـ في العموم ـ بالمقررات الفكرية التي تولد الغايات، ثم الاتجاهات النفسية التي توجه الإرادات إلى أن تنتهي بالممارسات العملية التي تفرز الإنجازات المتقدمة أو المتخلفة في ميادين الحياة المختلفة (2) .
وحتى يكون التغيير مثمراً، ينبغي أن يبدأ في محتويات الأنفس بتربية المجتمع على «مَثَل أعلى» يضحّى من أجله، وبذا يكون المجتمع في أعلى درجات الصحة؛ حيث يكون الولاء «للمَثَل الأعلى» ، وهو المحور الذي يتمركز حوله فكر وإرادة وسلوك الأفراد وعلاقاتهم وسياسات المجتمع، وفي هذه الحالة يتسلم مركز القيادة الأذكياء المخلصون الذين يحسنون «فقه القيادة» واتخاذ القرارات المناسبة؛ لأن حالة القوة تولد حين يتزاوج عنصران هما: الإخلاص في الإرادة، والصواب في التفكير والعمل (3) .
أما عندما تتشكل شبكة العلاقات في المجتمع طبقاً لمحاور الولاء الفردي والعشائري والمذهبي والحزبي، وطبقاً للدوران في فلك «الأشخاص» و «الأشياء» فإن الإنسان يصبح أرخص شيء داخل المجتمع وخارجه، ويدور الصراع داخل المجتمع نفسه، ويمزقه إلى شيع وطوائف وأحزاب يذيق بعضها بأس بعض (4) ، ثم يكون من نتائج ذلك الفشل الذريع وذهاب الريح والسقوط الحضاري.
وخلاصة القول: إنه بتدبُّر هذه السنَّة، وتقصِّي أبعادها، وسبر آثارها في النفس والمجتمع ـ والتي لا يسع المقام الإحاطة بها ـ يمكن التوصل إلى إقامة قواعد لمنهج علم اجتماعي قرآني، يُتوصل به إلى تقنين سنن تحضر الأمم، وتحريك طاقاتها الإنسانية المتنوعة على المستوى النفسي ثم الاجتماعي ثم الحضاري.
السُّنَّة الثانية: سُنَّة الأجل الجماعي:
ينبغي العلم أن المجتمع الذي عبّر عنه القرآن الكريم بـ (أمة) له حياة، وله حركة، وله شيخوخة، وله احتضار، ثم له موت: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] .
ولا يمكن أن نفهم موت أمة أو مجتمع، ما لم نفهم ما هو المجتمع أصلاً؟ إن المجتمع ليس مجموعة أفراد، بل هو شبكة علاقات تنظم نشاط الأفراد، ولذا فإن وضع الشبكة المرتخي أو المشدود، حالها النشيط أو الخامل، يتعلق بالأفراد الذين يحفظون هذه العلاقات أو يدمرونها (1) .
ويتجلى المرض الاجتماعي في نوع العلاقات بين الأفراد، وأكبر دليل على ذلك ما يصيب (الأنا) عند الفرد من تضخم ينتهي إلى تحلل الجسد الاجتماعي مع مرور الوقت (2) .
وما ضربُ الأمثال في الكتاب العزيز للإنسان من عالم الطبيعة إلا لاستخلاص العبر والدروس، لمنحه القدرة على التكييف مع السنن الاجتماعية وتوظيفها على أكمل وجه لمصلحة المجتمع: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] .
المثال الأول: إن معدن الألماس اللامع الرائع الصلد مكون من ذرات الفحم الأسود (الكربون) المضغوط بشكل جبار، لكن الذي منح اللمعان واللألأة لتلك الذرات السوداء: هو التركيبة الداخلية لذرات الكربون بتماسكها القوي وتراصّها الشديد، وكذا المجتمع بدوره فهو (طبيعة تراص) بين أفراده، فإذا بقي ذرات أو عناصر لا رابط بينها كان سُخاماً أسود قاتماً عرضة للاندثار والموت، أما إذا تراصّت عناصره تحول إلى طاقة هائلة تصنع الأحداث، وتؤثر في مجرى التاريخ (3) .
المثال الثاني: من جسم الإنسان: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] ؛ حيث يترابط ما يزيد عن مائة مليار خلية عصبية (النورونات) في الدماغ من خلال نسيج عصبي كثيف، كل خلية، مزودة بحوالي ألف ارتباط، وتتعاون هذه (النورونات) من خلال نظام التحام كل خلية وأخرى، تسري فيها سُيَالة عصبية تعبر هذا النسيج من أقصاه إلى أقصاه، بحيث تحيل الدماغ في النهاية إلى وحدة عمل مركزية مبدعة. أما إذا شُدَّ خيط عصبي أو توتر بشكل زائد لمصلحة إحدى العُقد، نتج عن ذلك ما يطلق عليه (الظاهرة الورمية في الدماغ) (4) .
ولكي يبقى المجتمع نابضاً بالحياة، مستمراً في تفاعله وعطائه الثر، حثت النصوص الشرعية على التكافل والتعاون والتكامل، وتبادل المنافع بين الناس، وبناء مجتمع العدل والقوة من منطلقات فكرية وعملية قويمة، تحمل ميزاناً دقيقاً للحقوق والواجبات، حتى يبقى المجتمع المسلم متوازناً معطاءً ومتجدداً، فشبّه النبي -صلى الله عليه وسلم- المجتمع السليم بالبنيان المتراص في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» ، ثم شبك ـ عليه الصلاة والسلام ـ بين أصابعه (5) ، كما شبهه بالجسد الذي تتجاوب وتتفاعل أعضاؤه: «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضواً تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى» (6) .
- الخاتمة:
وفي الختام، يمكن القول بأن سنن الله ـ تعالى ـ تتسم بالثبات والشمول والصراحة؛ فلا تحابي فرداً على حساب فرد، ولا مجتمعاً على حساب مجتمع آخر؛ فالنتائج التي قد يتطلع إليها على وجه الأرض أكثر المؤمنين إيماناً وأشدهم ورعاً وتقوى سوف يجنيها أكثر الكافرين كفراً وأشدهم فسقاً وفجوراً وعتوّاً، إذا وافق المقدمات الصحيحة المؤدية إليها، وربط الأسباب بمسبباتها، بينما ينتظرها المسلمون في هذا العصر ارتكازاً على إيمانهم وحده، دون أن يطلبوها من مقدماتها التي خلقها الله ـ عز وجل ـ طريقاً إليها، فأنى يستجاب لهم؟! (7) .
ومرجع ذلك إلى أن السنن الربانية في الحياة البشرية دقيقة كل الدقة، صارمة منتظمة أشد الانتظام، لا تحيد ولا تميل، ولا تحابي ولا تجامل، ولا تتأثر بالأماني وإنما بالأعمال، وهي في دقتها وانتظامها وجدّيتها كالسنن الكونية الطبيعية سواء بسواء.
ومن ها هنا تأتي أهمية ربط بناء المعرفة ثم القوة والحضارة بالجهد والعمل، والتخطيط والنظام، والانضباط والإتقان: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الفتح: 23] .
(*) أستاذ التاريخ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة مولاي إسماعيل، مكناس، المغرب.
(1) السنن الإلهية، عبد الكريم زيدان، ص 16 ـ 17.
(2) تفسير المنار، رشيد رضا، ج 4، ص 139.
(3) أزمتنا الحضارية في ضوء سنن الله في الخلق، أحمد كنعان، ص 40.
(4) حتى يغيروا ما بأنفسهم، ص 173.
(5) أزمتنا الحضارية في ضوء سنن الله في الخلق، أحمد كنعان، ص 105.
(1) الإسلام والوعي الحضاري، أكرم العمري، ص 107.
(2) أزمتنا الحضارية في ضوء سنن الله في الخلق، أحمد كنعان، ص 35.
(3) المرجع السابق، ص 35. (4) المرجع السابق، ص 108.
(5) أزمتنا الحضارية في ضوء سنن الله في الخلق، أحمد محمد كنعان، ص 52.
(6) السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد، عبد الكريم زيدان، ص 12.
(1) المرجع السابق، ص 111 ـ 115.
(1) التنمية بين المشروع الحضاري الغربي والمشروع الحضاري الإسلامي، نبيل السمالوطي، ص 44.
(2) كيف نفسر التاريخ، محمد بن صامل السلمي، ص 95 ـ 96.
(1) أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق، أحمد كنعان، ص 153.
(2) هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ماجد الكيلاني، ص 21.
(3) المرجع السابق، ص 22، 23، 330، بتصرف.
(4) المرجع السابق، ص 23.
(1) هل يموت المجتمع؟ ص 55.
(2) المرجع السابق، ص 56.
(3) المرجع السابق، ص 56، بتصرف.
(4) المرجع السابق، ص 55.
(5) أخرجه البخاري في جامعه الصحيح، كتاب الأدب، ج 7، ص 80.
(6) المصدر نفسه، ج 7، ص 77.
(7) أهل السنة والجماعة: معالم الانطلاقة الكبرى، محمد عبد الهادي المصري، ص 202.