أمير سعيد
«الفَلَج» هو الظفر والفوز، و «التفليج» كالتقسيم (بين مرحلتين من تاريخ العراق) ، و «الفالج» الجمل الضخم ذو السنامين، وفي ذروة السنام يكمن السر وتتجلى الملحمة..، و «الفَلُّوجة» هي القرية بالسواد، والأرض المصلحة للزرع، كذا عند مجد الدين الفيروز أبادي، وعند الكماة المغاوير هي المصلحة للنضال.. فالجة الصبح وشارة النصر..
وبالفعل فقد كانت معركة الفلوجة الثانية فارقة بحق بين مرحلتين، وكانت نقطة تحول تستدعي وقفات عندها بكل شفافية واعتدال.. فربما كانت الفلوجة عند بعضهم محاولة انتحار.. ربما كانت لدى «المستنيرين» حاضنة للإرهاب ومعقل «الأجانب» .. ربما كانت لدى آخرين منطقة تمرد ضد حكومة «منتخبة جداً وبعناية.. لكنها من قبل ومن بعد حالة نضالية مستعصية على الجرَّاح الأمريكي، وتاريخ لا تمحوه الأكاذيب من ذاكرة الشباب العربي.
معركة الفلوجة.. أو الشبح الغاضب.. أو «يوم الرب الغاضب» (كما في رؤيا أشعياء 13: 9 ـ 16) أحد أبرز معالم حرب العراق الرابعة؛ الدائرة منذ التاسع من إبريل 2003 لما يمكن اعتباره نقاط تحول دراماتيكي في تلك الحرب من حيث التوقيت والمناخ والنتائج، وللتفصيل:
- التوقيت:
أعقبت حرب الفلوجة الانتخابات الأمريكية، وسبقت ما يتطلع إليه المحتلون من انتخابات عراقية، وترافقت مع شهر رمضان الفضيل. ومن خلال هذه المنظومة الزمانية كانت الحرب التي بات فيها جلياً تباطؤ الإدارة الأمريكية في شنها خشية أن تنسف آمال الرئيس الأمريكي في الترشح لفترة رئاسة ثانية، وقد عكس ذلك شعوراً لا يمكن تجاهله لدى صقور البنتاجون بحجم ما يقاسونه في الأراضي العراقية، وبإمكانية إخفاقهم في صناعة نصر مظفر في تلك المدينة الصغيرة.
وسبقت ما أعلن عنه من قبل عن انتخابات برلمانية في شهر يناير المقبل؛ إذ لا انتخابات بدون كسر شوكة المقاومة، وفي الذهن العسكري الأمريكي قبل حرب الفلوجة أن ذلك لن يحدث من دون غزوها.
وترافقت مع العشر الأواخر من رمضان الفضيل وليلة القدر وعيد الفطر المبارك، وهي أيام أرادها الأمريكيون أن تكون تحدياً مخزياً للمسلمين ـ كما أرادوا من قبل ذلك في العدوان على أفغانستان ـ وأرادها الله أن تكون أيام ظفر وانتصار، كما كانت في معارك المسلمين دوماً. والحق أن الولايات المتحدة الأمريكية ارتكبت أكبر حماقاتها بهذا التوقيت الذي ملأ قلوب المسلمين كلهم بغضاً وكراهيةً لها، وأشعل قلوب المقاومين في العراق كله حماساً ضدهم.. وبعيداً عن الإنشاء؛ فإن هذا التوقيت ساهم إلى حد بعيد في فرض أجندة المقاومة الاستراتيجية على ساحة المعركة (نعرض لها لاحقاً) وهيأ كل فصائل المقاومة الفلسطينية تلقائياً لتقبلها.
- المناخ:
بدا أن المعركة قد استعرت في ظل مناخ يخدمها أكثر مما يخدم المحتل؛ فالمعركة وقعت في أجواء مشحونة جداً ضد الوجود الأمريكي في العراق؛ إذ بدأت المعركة فيما كانت الأرض تمور من تحت أقدام المحتلين، وشهدت أكثر من جهة غربية سواء من الصحف أو مراكز الدراسات الأمريكية على أن معظم غرب العراق (الأنبار) وكثير من شماله خارج سيطرة قوات الاحتلال، وتصاعدت العمليات في مجمل العراق على نحو كبير بلغ نحو 120 عملية في اليوم الواحد وفقاً لمصادر المقاومة العراقية (70 حادثة يومياً وفقاً للطرف الأمريكي) ومن ثَمَّ؛ فإن هذه المعركة كانت تعد مصيرية للمحتلين حتى يتسنى لهم المضي قُدُماً في خطة إخضاع العراق وتنفيذ الاستحقاقات السياسية والدستورية في نظامه الموالي لهم، أو لنقلْ بشكل أكثر صراحة: حتى تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من البقاء بالأساس في العراق وإلا خارت قواها «الاستعمارية» في النهاية جراء حرب استنزاف تتضاءل أمامها حرب فيتنام. (صرح وزير «الدفاع» الأمريكي رونالد رامسفيلد في مطلع الحرب بأنه يتوقع لهذه الحرب ـ أي حرب الفلوجة ـ أن تكون «الأشرس منذ الحرب العالمية الثانية» متجاوزاً بذلك جميع معارك حرب فيتنام) .
مناخ المعركة كان مفعماً برغبة أمريكية في أن تواصل هروبها للأمام وبإلقاء كل ما في جعبتها للخروج من مآزقها المتعاقبة: نجاح بوش كان مؤشراً للرغبة الشعبية عند نصف الأمريكيين في أن يسفر المزيد من القتال عن حل لمعضلة الولايات المتحدة الأمريكية الأمنية والاقتصادية والسياسية، وتركيبة إدارة الرئيس الأمريكي الجديدة كانت علامة على هذا النهج الذي يريد أن يقطعه الصقور حتى النهاية، واغتيال الرئيس الفلسطيني كذلك كان مؤذناً بأن «العهد الجديد» لبوش سيكون أكثر شراسة من «العهد القديم» !.. مؤشرات كثيرة كلها أتت دالة على أن معركة الفلوجة هي معركة كسر الإرادة العراقية.. ولم تنكسر؛ أذن الله وقضت مشيئته.
الإدارة الجديدة أتت راغبة في قضم الأصابع عوض عضها، وكانت معركة الفلوجة فاتحة هذا العهد الدموي، ليس لأن الإدارة الجديدة/القديمة قوية، بل لأنها وضعت على مائدة الميسر ورقتها الأخيرة وإلا خسرت كل شيء، ومن ثم فليس إلا الفوز وليس إلا الانتصار، ولكنها كانت الهزيمة.. الهزيمة في ميدان الاستراتيجيا وليس في ميدان الفلوجة؛ إذ المعركة ليست معركة أرض كما يفهم ذلك ـ دون الكثير غيرهم ـ الحاملون الآر بي جي في أزقة الفلوجة.
النتائج والمستقبل:
حملت معركة الفلوجة أكثر من نتيجة وأكثر من دلالة، واعتبرت مرحلة جديدة فارقة عما قبلها، ويمكننا أن نجمل ذلك على عدة أصعدة:
الصعيد الأيديولوجي/السياسي: وفيه عدة محاور:
المحور الأول: عقيدة الحرب بالنسبة للطرفين: لم تكن هذه الحرب في الحرب كمثل الحرب العامة أول الغزو؛ فليس ثمة صدَّام ولا الكويت ولا الديمقراطية ولا حلبجة ولا غير ذلك، وإنما تجلى فيها الدين كمحرك للصراع بشكل مباشر، وهاكم الصورة حية كما نقلها موقع «دردوج» الأمريكي يوم 6 نوفمبر لبعض الجنود المارينز الأمريكيين الذين شرعوا بتعميد ذواتهم قبل بدء معركة الفلوجة، وأشار الموقع إلى أحد الجنود الأمريكيين شرع بالقراءة من الإنجيل الحديث عن نبي الله داود - عليه السلام- والذي هزم جالوت، وهو ما يعتبرونه نصرًا لليهود على الفلسطينيين؛ حيث قال جندي المارينز: «وهكذا هزم داود الفلسطينيين» ، فدفعت كلمته تلك بقية الجنود إلى الهتاف إعجابًا بما فعله نبي الله داود - عليه السلام -!! ومما يلفت النظر أن جنود المارينز هؤلاء هم من قاموا بعد ذلك بارتكاب جرائم الحرب «الدينية» ، ومنها الإجهاز على الجريح في أحد مساجد الفلوجة، وهذا غير مستغرب بالنظر إلى اعتقاد بعض هؤلاء بأن هذه هي «معركة بلا أسرى» مثلما نصت على ذلك الكتب القديمة؛ التي يتم فيها تدمير بابل بأمر «الرب في يوم احتدام سخطه عليها» !! فيما يواجه هؤلاء في المقابل ليس البعث القومي أو الجيش الوطني النظامي بل «مجلس شورى مجاهدي الفلوجة» وهو يحمل باسمه قبل أي شيء شارة هذا الصراع وعنوانه البارز، ولست أزعم أن هذه هي أول مظاهر دينية الصراع من الجانبين ـ فذاك الظن به سخف ـ وإنما أعني أن هذه هي أكبر تجليات هذا المشهد الديني (هل من مصادفة أن تبلغ حصيلة المساجد المتضررة في الفلوجة 120 مسجداً بينها 33 مسجداً سوِّيت بالأرض؟!) .
المحور الثاني: عقيدة الحرب بالنسبة إلى الطرف المقاوم والطرف الموالي للاحتلال: والأول سبق الإشارة إليه، غير أن الثاني كشف لأول مرة بهذا الوضوح عن وجهه القمئ، أعني بهم محازبي السيستاني أو جيش علاوي أو جيش لحد العراقي.. إلى غير ذلك من المسميات التي لا تغير من الواقع شيئاً.. في الواقع هذه المعركة تميزت بوجود فئتين تتقاتلان وجهاً لوجه: إحداهما: سنية، والأخرى: موالية لعلي السيستاني ـ أو الخيانة العظمى علي السيستاني كما يحلو للكاتب عبد الرحمن عبد الوهاب، (الحقائق اللندنية 11/9) أن يدعوه ـ وهنا أيضاً حرب دينية بين السنة وفئة حزبية طائفية موالية للرجل الذي انكشف تماماً في حرب الفلوجة إلى الحد الذي جعله محل سخرية واستهجان العلمانيين قبل الإسلاميين، وأوجد من فوره تمايزاً فريداً لا يمكن جبره مذ حشد جنده اللحديين ضد شركاء الوطن في الفلوجة. (للرجل موقفان اثنان لا يمكن للسنة غفرانهما له؛ وهما: موقفه من الاحتلال ابتداءً في مستهل الحرب حين كانت المدن الشيعية تبدي مقاومة ضارية ضد الغزو، فأصدر فتواه المشؤومة بحرمة قتال المحتلين، وموقفه من الانتخابات التي أصدر فيها فتوى «ثيوقراطية» عجيبة بالحكم بجهنم على من لا يشارك بالانتخابات التي يديرها الاحتلال، وموقف ثالث له مع التيار الصدري حين غادر النجف إلى بريطانيا تاركاً للأمريكيين العبث بـ «المقدسات الشيعية» ومن ثم عاد بالهدنة الجائرة بعد تركيع الصدر. وللمناسبة فبرغم العلاقة غير السيئة بين التيار الصدري ومقاتلي الفلوجة، وإرسال مقاتلي الفلوجة العشرات منهم للوقوف بجوار ميليشيا الصدر أثناء حصار النجف إلا أن رد التيار الصدري بتعليق مشاركته في الانتخابات القادمة دون إعلان المقاطعة كان دون الحد المقبول سنياً، كما أن تدخلاً بوقف صادرات النفط في الجنوب العراقي كان كفيلاً بالضغط على الأمريكيين لوقف الهجوم مثلماً كان في أحداث النجف، وهو ما لم يحدث حتى على صعيد التلويح.
المحور الثالث: هو البداية النوعية للتحرك السياسي لحركات المقاومة العراقية: ونستطيع القول كذلك بأن معركة الفلوجة كانت فارقة في هذا الخصوص؛ إذ حملت المعركة الفصائل المقاوِمة إلى النزوع باتجاه التوحد شيئاً فشيئاً، والسعي لبلورة مواقف سياسية موحدة، ومن ثم التقدم بخطوات نحو تكوين سقف سياسي للمقاومة، سواء ما جرى بين فصائل المقاومة أو ذاك التحرك الواعي لهيئة علماء المسلمين التي نجحت في استقطاب الكثير من الفعاليات السنية والشيعية الوطنية و «المسيحية» والتركمانية العلمانية.. إلخ لمشروعها السياسي الفاعل لإحباط الانتخابات المزمعة قريباً والتي بدورها تهدف إلى تكريس الاحتلال من جهة ومنح الشرعية لأذنابه العميلة.
- الصعيد العسكري:
المعركة هي أيضاً في هذا الصعيد نقطة فارقة في تاريخ الحرب على أرض الرافدين؛ ففيها تمكنت المقاومة من فرض أجندتها العسكرية المتمثلة في تحويل هذه المعركة من معركة الدفاع عن أرض ومدينة محدودة إلى معركة استنزاف وتوسيع رقعة ميدانها؛ هذا ما أراده المقاومون وهذا ما نجحوا فيه إلى حد بعيد (وهنا نلفت إلى عبارة هامة لأحد قادة المقاومة العراقية في الفلوجة حينما تراءى لهم الانحياز عنها في لحظة معينة من لحظات المعركة «ليس الفلوجة مدينة مقدسة ولا هي أغلى عندنا من بغداد والرمادي وبعقوبة» ، ومن هنا نستطيع قراءة الأحداث من زاوية لا ترى في رفع الأعلام انتصاراً بالضرورة، ولا في نزعها هزيمة في حرب استنزاف لا تقدس الأرض. والناظر إلى هذه المعركة من الناحية العسكرية البحتة يلحظ أن هذا التوسيع الذي عمدت إليه فصائل المقاومة، والتنسيق العالي والتناغم اللافت في هذه المعركة فيما بينهم؛ إنما دل على حرفية قتالية كبيرة، بل دل أيضاً على أن هذا التوسيع هو علامة بارزة على ازدياد أعداد المقاتلين ونجاح المقاومة في حشد الشعب العراقي خلفها زرافات ووحداناً، وأنهم بذي السبيل أرهقوا العدو وألجؤوه إلى بعثرة قواته وتغيير خطته أكثر من مرة، ونجحوا كذلك في مباغتته في العديد من المرات، وجعل زمام المعركة بأيديهم في معظم فترات المعركة، باستثناء هذه المرحلة التي نجح فيها الأمريكيون في اعتلاء أسطح المنازل ونثر القناصة فوقها. ولا نبالغ إن قلنا إن هذه المعركة كسرت كثيراً من شوكة الأمريكيين، وأسقطت من هيبتهم في كثير من الأنفس المزعزعة بما تسمعه عن أسلحة متطورة وصواريخ عابرة وأقمار الولايات المتحدة الاصطناعية التجسسية والتي لم تحرم المقاومة من أن تجوب البلاد يمنة ويسرة، وتتحرك إلى داخل وخارج الفلوجة حتى إن ذرائع الولايات المتحدة بشأن أبي مصعب الزرقاوي لضرب أكثر من مدينة بالزعم بأنه كان داخلها ثم هرب منها كانت أضحوكة المحللين؛ لأن ما قيل عن حصار الفلوجة بأكثر من 20 ألف جندي من النخبة المختارة الأمريكية ومتابعة أخطر رجل في العراق الذي وضعت الولايات المتحدة ـ عن طريق علاوي ـ شرطاً لأهالي الفلوجة بتسليمه لقاء العدول عن مهاجمة المدينة؛ لم يمنع من مغادرته المزعومة ولا أن يعود رفاقه ثانية بعد 6 أيام من المعركة إلى الفلوجة لمعاودة القتال.
ونردف قائلين بأن هذه المعركة قد أفادت المقاومة كثيراً ولم تضعفها، على الأقل لجهة ضرورة توحدها أو على الأقل زيادة أطر التنسيق فيما بينها والالتقاء على أسس وقواسم مشتركة سياسية وعسكرية وأيضا إعلامية.
- الصعيد الإعلامي:
كانت معركة الفلوجة فارقة إعلامياً كذلك لجهة كونها كانت تحمل تباشير تحرر الإعلام الإسلامي من ربقة الإعلام العالمي، وتحريكه لكثير من الفعاليات الوطنية وحتى غير الوطنية في الوطن العربي من أجل الخروج من شرنقة وكالات الأنباء الغربية ووسائلها المضلة.
قبل الفلوجة كان التحرك خجولاً باستثناء بعض المواقع الإسلامية التي لا تجاوز أعدادها أصابع اليد الواحدة، والآن تغير الأمر كثيراً مع الأمل باستمراره، وبدا أنه كلما حرص الإعلام الإسلامي على توسيع روافده تمتع بحصانة وفعالية وجرأة أوفر.
وتلك قضية ينبغي أن تكون محل دراسة الإعلاميين الإسلاميين الذين صار بإمكانهم أن يوجدوا لهم موضع قدم على الخارطة الإعلامية العربية شريطة العمل على قاعدة التناغم لا التنافس.
هذا من حيث الحديث عن الخارج، وأعني به الوسط العربي المحيط، بيد أن الداخل أيضاً ـ وهو فصائل المقاومة ـ كانت هذه المعركة أيضاً فاتحة خير لها في كيفية توسيع رقعة تلامسها مع الخارج الإعلامي.. تعيين ناطق رسمي باسم مقاومة الفلوجة، وإن اعترى ذلك بعض الأخطاء المحدودة لحداثة التجربة، توزيع البيانات وبسرعة، تصوير بعض المشاهد للمعركة من الداخل في أتون المعركة الضروس وبثها في الأسبوع الثاني من القتال، الإحصاء السريع والدقيق نوعاً ما، كل هذه كانت تمثل نقطة عبور إلى مرحلة النضج الإعلامي العسكري والسياسي.
وبعد الصعيد الإعلامي، نعود للقاموس المحيط ثانية؛ حيث يقول عن الفلوجة: «والجمع فلاليج» .. وهي تلك المدن العراقية الصامدة الأبية التي لا تعرف الركوع لغير الله، ولا تنحني إلا لباريها، وتسقط من قلوبها رهبة جرذان المارينز الذين شاهدناهم ـ في أفلامهم أنفسهم ـ يطلقون النار؛ فلما سمعوا تكبير أعزل ولَّوُا الأدبار، ثم لا ينصرون.