د. يوسف بن صالح الصغير
حتى كتابة هذه الكلمات فإن الاشتباكات ما تزال مستمرة في الفلوجة التي إن كانت القوات الأمريكية نجحت في تدمير أجزاء كبيرة منها؛ فالأحياء مدمرة بنسبة تتراوح بين 30 و 70 بالمئة؛ فإنها لم تُفلح في السيطرة عليها.
ويبدو أن المقاومة تصر على أن تجعل من الفلوجة جرحاً مفتوحاً في خاصرة القوات الأمريكية وحلفائها في خطة استنزاف طويلة، يمنع الكبرياء والمكابرة لدى الأمريكان من الانسحاب والخروج من الفخ الذي وقعوا فيه للمرة الثانية، واضطروا للاستعانة بالقوات البريطانية التي منيت بخسائر كبيرة، تحرص الحكومة على التعتيم عليها. وأرى هنا أن أهل الفلوجة يصدق عليهم توجيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «لا تتمنوا لقاء العدو؛ فإذا لقيتموه فاثبتوا» . نعم! لقد ابتلي أهل الفلوجة وظلموا، وحاول المحتل الكافر إذلالهم فصبروا وانتصروا لدينهم، فحق لهم أن يُنصروا بإذنه تعالى.
ويبدو من تسلسل الأحداث أن مدينة الفلوجة كانت مستهدفة منذ بداية الحرب؛ حيث إن خضوعها والسيطرة عليها يعني السيطرة على كافة مناطق أهل السنة في العراق؛ حيث إن هذه المدينة بنيت في مكان مدينة الأنبار القديمة، وارتبط اسمها بالمقاومة والصمود؛ ففي ثورة العشرين ضد الاستعمار البريطاني كان للفلوجة دور ريادي، وتمكن أهلها من قتل قائد القوات البريطانية (لجمن) ، وقد مارس فيها الإنجليز من أعمال القتل والتدمير والسلب ما أثبته الشاعر العراقي (معروف الرصافي) في قصيدة منها قوله:
هو خطب أبكى العراقين والشام وركن البنية المحجوجهْ
حلها جيشكم يريد انتقاماً وهو مغر بالساكنين عُلوجهْ
ولِمَا عرف به أهل المدينة من التدين والمحافظة وحب الخير والنخوة فقد اصطدموا مع نظام البعث الذي اضطهد الفلوجة وقتل خيرة علمائها، وأغلق جلّ مدارسها الشرعية، ولكن في النهاية انتهج صدام حسين معهم سياسة خاصة تقوم على المجاملة ومحاولات الإرضاء، وأثناء تقدم القوات الأمريكية إلى بغداد، وبينما كان العراقيون يعيشون صدمة السقوط السريع لنظام البعث، ووقوع البلد تحت الاحتلال الأمريكي كان للفلوجة موقف ملفت: يتلخص في أنه تم الاتصال بالقوات الأمريكية وإبلاغهم أن المدينة لن تقاوم بشرط عدم دخول القوات إليها، وأنهم سيقومون بضمان الأمن فيها، وهذا ما تم حتى أسكر الأمريكان دخولُهم السهل والسريع لبغداد، فأرسلوا قوات أمريكية مدعومة بشرطة عراقية معينة من قِبَل الاحتلال، وكانت ممارسات هذه القوات سبباً رئيساً في تفجر الأوضاع؛ فالشرطة قامت بالتعدي على السكان، وكان رئيس الشرطة يتحدى أهل الفلوجة، ويتنقص منهم؛ مما أدى إلى قيام عدد كبير من المسلحين بمهاجمة مركز الشرطة الرئيس، وطرد من بقي حياً من رجال الشرطة. أما القوات الأمريكية فقد احتلت المدارس داخل الأحياء، وكان احتكاك الجنود بالنساء، بل حتى مراقبة البيوت بالمناظير المقربة مدعاة لسخط السكان الذين انتهزوا فرصة قرب بدء الدراسة، فقاموا بمظاهرات سلمية تطالب بإخلاء المدارس، وكانت ردة الفعل الأمريكية هي إطلاق النار على العزل، ومقتل حوالي سبعة عشر متظاهراً؛ ومن هنا بدأت عمليات إزعاج مسلحة حتى اضطرت القوات الأمريكية إلى الانسحاب والتمركز حول الفلوجة، ومع استمرار المواجهات ووقوع مجموعة من ضباط المخابرات الأمريكية في كمين، ونشر صور التنكيل بالجثث مما يدل على الكره الشديد للاحتلال، انكشف زيف الصورة الوردية المرسومة في أمريكا والتي تظهر الجندي الأمريكي يبتسم وهو يلعب الكرة مع الفتيان، أو يقوم بتوزيع الأدوات المدرسية والحلوى على أطفال العراق!
لقد كانت ردة الفعل الأمريكية المتشنجة بسبب نشر الصور أكثر منها بسبب حادثة يحصل مثلها يومياً، وكان الطلب الأمريكي تسليم جميع من ظهرت صورهم بالفلم وتسليم الجناة، ولم يتم تنفيذ الطلب لاستحالة الاستجابة له في مجتمع قبلي متماسك؛ ولذا قامت القوات الأمريكية بهجوم انتقامي وحشي قتل فيه آلاف الأشخاص في غارات جوية عنيفة، ودفن الناس قتلاهم في حدائق البيوت وملعب كرة القدم، وكان وجود وسائل الإعلام العربية في المدينة ونقلها وقائع الجريمة الأمريكية عاملاً في إحراج قوات الاحتلال وفضحها، وقد قامت القوات البرية بالدخول للمدينة، وكانت النتيجة أن القوات الأمريكية داخل الفلوجة تم حصارها وقطع الإمدادات عنها. أما القوات التي تحاصر الفلوجة فقد ضيق عليها الخناق، وكانت قوافل الإمدادات تتعرض لهجمات مستمرة؛ مما اضطر قوات الاحتلال لطلب الهدنة، وقامت بتوسيط (الحزب الإسلامي) ، وتم الاتفاق على السماح للقوات الأمريكية بالانسحاب ودخول قوات عراقية مكونة من أهل الفلوجة وما حولها، وتحمل العلم العراقي القديم.
لقد دفعت قوات الاحتلال ثمن استهتارها بقدرات أهل الفلوجة؛ ومن الطبعي أن السيطرة من جديد على الفلوجة أصبحت قضية كرامة للقيادة الأمريكية، وكانت الخطة الجديدة تقوم على حشد قوات كبيرة مدعومة بقوات عراقية؛ مع الحرص على منع جميع وسائل الإعلام الخارجة عن سيطرتهم من تغطية ما يجري.
وبقدر حرص الاحتلال على الانتقام كان حرص أهل الفلوجة على تجنب حدوث معركة جديدة يعلمون أن مدينتهم ستكون ضحية للهمجية والجبروت الأمريكي، وقام أهل الفلوجة بتشكيل وفد للتفاوض، ولكنهم صُدموا بالحقيقة المرة؛ فلم تكن المفاوضات إلا لتمديد الوقت حتى تنتهي الانتخابات الأمريكية، وكانت المطالب العلنية على لسان (علاوي) هي تسليم أبو مصعب الزرقاوي غير الموجود بالمدينة؛ بينما لم يتطرق لهذا الأمر مطلقاً أثناء التفاوض، وخلال ذلك كانت الطائرات الأمريكيه تُغِير يومياً على ما يُعتقد أنه أماكن يوجد فيها (الزرقاوي) أو معاونوه. وتستمر الغارات، ويستمر انتشال جثث النساء والأطفال؛ عفواً! إنها وسيلة مشروعة أمريكياً لإضعاف معنويات الخصم، وليحس بالعجز إزاء التفوق الأمريكي الكاسح.
ولنا أن نتساءل: ما هي الخيارات المطروحة أمام أهل الفلوجة؟
- الخيارات المطروحة:
1 - فتح المدينة أمام الغزاة وحلفائهم:
إن هذا الخيار تكتنفه كثير من المخاطر ليس أقلّها مدى حجم الخسائر الناجمة عن عمليات التفتيش، وما هي نسبة شباب ورجال المدينة الذين سيتم اعتقالهم؟ وهل لديهم استعداد لتحمل التعذيب والإذلال والخدمات الموجودة في أبو غريب؟
2 - فتح المدينة وانسحاب المقاتلين:
إن هذا يبدو أسلم من السابق، ولكن هناك احتمال الانتقام من أسر المقاتلين والتنكيل بهم. وبالطبع هذا الخيار يقتضي توفير أماكن آمنة للمقاتلين مع احتمال انهيار معنويات الكثير منهم.
3 - خروج أهالي الفلوجة من المدينة، وبقاء مفارز مقاومة؛ لإبداء مقاومة رمزية، ثم الانسحاب لتفويت فرصة تدمير المدينة: وهذا قد يؤدي إلى ارتفاع معنويات جيش الاحتلال، ويدفعهم إلى تكرار العملية في مدن سنية أخرى.
4 ـ خروج أهالي الفلوجة، والصمود أمام قوات الاحتلال، ودفعها لخوض حرب شوارع تؤدي إلى خسائر كبيرة في الجانبين، وتدمير كبير للمدينة يكون سبباً في خسارة دعائية كبيرة، وعاملاً في اتساع المقاومة وتجذرها لانكشاف طبيعة المحتل وسقوط دعاوى الإعمار والحرية والديمقراطية، وارتفاع أسهم أهل الفلوجة، وتأكيد ما اتصفوا به شجاعة وإقدام.
إن القرار الذي اتخذه مجاهدو الفلوجة، واختيارهم عدم الانسحاب إلا بعد مواجهة يطير ذكرها في الآفاق يتناسب مع طبيعة أهل المدينة التي امتزج فيها الانتماء لقبائل عربية أصيلة مع غلبة التدين، وإن الذي اتخذ قرار المواجهة هم وجهاء المدينة وزعماء عشائرها؛ لأنه تبين لهم من خلال وفود المفاوضات أن المدينة هدف للانتقام الأمريكي أياً كان موقفهم؛ ولذا اختاروا وقفة العز في زمن الذل.
- ماذا أعدوا للفلوجة؟
لقد كان إخفاق محاولة إخضاع الفلوجة في المرة الأولى دافعاً للقيادة الأمريكية لتحضير قوات كبيرة مدعومة بالطيران والمدفعية والدبابات، والحرص على مشاركة عراقية في المعركة، وإظهار المعركة أنها تمت بأمر (علاوي) ، وعدم تكرار الأخطاء السابقة في فتح جبهات مختلفة في وقت واحد؛ ولذا تم تحييد الصدر وأتباعه ومحاولة اقتحام الرمادي قبْل الهجوم على الفلوجة؛ مع استقدام قوات بريطانية لدعم الوضع الأمني ببغداد. وكان هناك حرص شديد على تحميس الجنود ودفعهم للقتال؛ وذلك برفع شعارات دينية مثل: الصلبان على الدبابات، وتعميد الجنود قبل المعركة، وقراءة مقاطع من الإنجيل والتوراة عليهم لحثهم على الثبات، ومرافقة مجموعة كبيرة من القسيسين والحاخامات لهذه القوات في أرض المعركة وفي المستشفيات.
ويبلغ عدد القوات البرية المشاركة ما يلي:
1 - عشرة آلاف من مشاة البحرية الأمريكية، منهم حوالي ألف يهودي كثير منهم يعملون قناصة. وقد تحدثت صحيفة (هآرتس) عن نحيب الحاخامات في مراسم الجنازات الخاصة بعدد من الجنود الصهاينة الذين صُرعوا في الفلوجة.
ونقلت الصحيفة قول (أرفيننج ألسون) وهو أحد حاخامات مدينة نيويورك الأمريكية: «نحن هنا لتوديع عدد من الجنود اليهود الذين لقوا حتفهم في الفلوجة، وهم المقدم (آندي شتيرن) بسلاح المدفعية، و (مارك أفين) قناص يهودي وهو حفيد أحد الحاخامات الكبار في أمريكا» .
وكشف الحاخام في كلمته عن وجود عدد كبير من الجنود اليهود في الجيش الأمريكي، معظمهم يعملون في القنص، ودعا الحاخام عائلات الشباب اليهودي الأمريكي إلى إرسال أبنائهم للعراق للحرب ضد من أسماهم بـ (أعداء) الدين اليهودي، واعتبر أن القتال ومساعدة الأمريكان في العراق أفضل كثيراً من العمل الديني في المعابد اليهودية.
واعتبر أن الجنود اليهود في العراق «شهداء» إذا ما سقطوا خلال القتال، وخاصة أن أغلبهم «متدينون» ويحافظون على قراءة الكتب الدينية اليهودية.
وبحسب (هآرتس) فإن عدد الجنود اليهود في العراق يتراوح بين 800 إلى 1000 جندي وضابط، على حين يبلغ عدد الحاخامات نحو 37 حاخاماً.
ويقول مراسل صحيفة (المونيتور) في تقرير له: إن جنود القوات يبدؤون حملتهم بقراءات من مزامير داود من العهد القديم، وقد بدأت «الكتيبة الحمراء» يومها بقراءة الإصحاح 91 من المزامير، وقد كتب العريف (دوستن باركر) من ولاية تكساس الأمريكية على خوذته أجزاءً من الإنجيل تقول: «لا تخشَ عدوك بالليل، ولا من الأسهم التي تتطاير بالنهار، ولا تخشَ من الأوبئة والطواعين التي تسير في الظلمة» .
2 ـ ألفين من قوات الحرس الوطني، ويبدو من الصور المنشورة أنهم من أتباع (السيستاني) لحملهم الصور الخاصة به على عادة القوم في حمل صور مراجعهم. ويبدي الجنود الأمريكيون تذمرهم من انخفاض أدائهم وروحهم المعنوية.
3 ـ ليس لديَّ معلومات عن مدى مشاركة الميليشيات الكردية (البشمركة) في الهجوم، ولكن ذُكر أن قائد قوة كردية اختفى بعد أن اطلع على خطط الهجوم، ولا يخفى أن الأكراد يحاولون الابتعاد عن التحالف الرافضي الأمريكي؛ بدليل انضمام الأحزاب الكردية للمطالبة بتأجيل الانتخابات، خلافاً لموقف بوش وعلاوي والسيستاني وإيران؛ حيث إن مشروعهم يقتصر على المنطقة الكردية في الشمال، ومحاولة توسيع تلك المنطقة لتضم الموصل، وكركوك.
- إنها حرب عصابات حقيقية:
تعاني القوات الغازية من أنها تجابه خصماً يجيد حرب العصابات؛ مما أعاد للأذهان عقدة حرب فيتنام. ويعاني الجنود من أنهم دائماً يسقطون، ولا تتاح لهم الفرصة غالباً للاشتباك مع الخصم؛ فهو دائماً يتوقع الموت في أي لحظة من رصاصة قناص، أو رشقة رشاش، أو قذيفة آر بي جي، أو عبوة ناسفة على جانب الطريق يُتحكم بها عن بُعد ولذا لا يستغرب القارئ أن كثيراً من الإصابات هي في حقيقتها نفسية وعقلية نتيجة حالة التوتر والخوف المتواصلة. وأنقل إليك أخي القارئ بعض مظاهر الانهيار النفسي الذي يعانيه جنود الاحتلال نتيجة الإجهاد وعدم القناعة بالحرب. يقول الوزير الأمريكي لشؤون المحاربين (أنطوني رنسيبي) : إن تكتيكات المقاومة العنيفة في العراق سوف تؤثر تأثيراً طويل المدى على الصحة النفسية للجنود؛ مما ينتج عنه تعويضات العجز مدى الحياة للكثيرين ممن رجعوا من الحرب. وحتى الآن فإن 20% من المحاربين العائدين من العراق يطلبون الرعاية الصحية العقلية، وفي حين أن الكلفة الحقيقية لأولئك المصابين من حرب العراق غير معروفة فإن الوزارة تتوقع حالياً أن تدفع 600 بليون دولار على مدى العقود الثلاثة القادمة كتعويضات للعجز النفسي للمحاربين في حروب سابقة.
ويقول (رينسيبي) : إن وزارة شؤون المحاربين تستعد لاستقبال دفقات من المحاربين المصابين بأمراض نفسية وعقلية واضطرابات من العراق. ويقول: «هذا النوع من الحرب - حرب العصابات - حيث لا تعرف إن كنت أنت الضحية التالية لسيارة مفخخة أو لغم شارع أو قنابل صاروخية. إنها مثل الحرب في فيتنام؛ حيث كنت في (دلتا ميكونج) فأنت لا تعرف متى تقع في كمين للمقاومة» .
صحيفة (الجارديان) البريطانية تابعت تطورات العراق من زاوية جديدة؛ حيث أجرت تحقيقاً مصوراً من مستشفى (لاندستهل) الألماني الذي يعالج فيه العسكريون الأمريكيون من إصاباتهم في العراق.
وينقل التحقيق كلمات العاملين ونزلاء في المستشفى، منها ما تقوله إحدى الممرضات من أن بعض الجرحى لا يستطيعون الكلام، وأن كل ما يفعلونه هو البكاء.
أما القس الملحق بالمستشفى فيقول: إن الأمر يبدو رهيباً، لكن هذه التضحيات لا بد منها.
اما صحيفة (الأوبزرفر) فقد كشفت أن الجيش البريطاني أخلى حوالي ثلاثة آلاف إصابة، كثير منها إصابات نفسية وعقلية وإعاقات جسدية، وأفادت إحدى الأمهات أن ابنها الذي كان اجتماعياً مرحاً أصبح لا يبتسم، وإذا ذكر العراق فإنه يبدأ بالصراخ.
ويقول العنصر الطبي (راميرز) البالغ من العمر ستاً وعشرين سنة من مدينة (سان أنطونيو) وضابط البحرية الملحق بفرقة (برافو) الجراحية: إنني اعتدت من قبل على رؤية أناس يقضون نحبهم على الطاولات في غرف العمليات الجراحية، غير أن ما شاهدته في الفلوجة كان مرعباً بحق. وبعد شهرين من ذلك وعند أول وصول للجرحى من الجنود الأمريكيين والعراقيين للمستشفى بعد اجتياح مدينة الفلوجة استعد (راميرز) للأسوأ من هذه المشاهد المخيفة، وقال (راميرز) إن عمله مع المرضى لم يكن يؤثر عليه، ولكن بعد مشاهدته المتكررة للدماء على الأرض أو لشخص يحمل قطعة من ذراع أو رِجل أدرك أن هذه المناظر ستبقى في ذاكرته طيلة حياته. وقال العاملون الطبيون في المستشفى الميداني لشركة (برافو) الجراحية والتي يتم نقل كافة قتلى وجرحى المعارك إليها: إن إصابات الجنود في قتال الفلوجة دائماً ما تكون مدمرة، وأن معظمهم أصيب في انفجارات قريبة منهم. وقال رئيس فريق معالجة الصدمات النفسية (دامون ساندرز) : إن اصابات الجنود مرعبة بحق؛ فقد شاهدنا أعداداً متزايدة من إصابات شظايا الانفجارات، وعادة ما يتعرض شخص أو شخصان إلى إصابات مباشرة من المتفجرات، بينما يتعرض الآخرون إلى شظايا تلك الانفجارات. وأضاف ساندرز «36 عاماً» من مدينة (تيميكولا) من ولاية كاليفورنيا قائلاً: إن الإصابات في الفلوجة تعتبر أكثر قسوة وفظاعة من تلك التي يتعرض لها في العادة الجنود في العراق. وعزا ذلك على نحو كبير لسيطرة عناصر المقاومة العراقية على المدينة طيلة الشهر واستعدادهم للقتال حتى الموت. وأوضح (راميرز) أن المستشفى الجراحي الميداني كان مستعداً لاستقبال أكثر عدد من الجنود الجرحى قبل بدء معركة مدينة الفلوجة، ولكنه قال: إنه وزملاءه لم يكونوا مستعدين لهذا العدد الكبير من الجرحى بما في ذلك الذين يمشون على أرجلهم؛ مما اضطر إدارة المستشفى لنصب خيمة إضافية كبيرة لمعالجة هؤلاء الجرحى الذين يتم إحضارهم على نقالات. وأضاف (راميرز) قائلاً: إنه عندما تم إبلاغهم بالتوجه إلى الفلوجة فقد كان الكثير منهم يعتقد أنه سيشاهد الكثير من جرحى إطلاق الرصاص، ولم يكونوا يتخيلون أنهم سيشاهدون أشخاصاً بأعضاء مبتورة بسبب الانفجارات. وقال (راميرز) إنه قضى وقتاً طويلاً في طمأنة الجنود المصابين بأنهم سيتلقون أفضل الرعاية الصحية، وقال متذكراً: إنه كان هناك أحد الجنود المصابين في حالة عصبية حادة للغاية. ومضى (راميرز) قائلاً: إن العاملين في المستشفى الجراحي الميداني كانوا يعملون على مدار الساعة خلال اشتداد حدة المعارك في الفلوجة، وبصفة خاصة أثناء تقدم قوات مشاة البحرية صوب الأحياء الجنوبية للمدينة؛ حيث واجهوا مقاومة عنيفة من عناصر مسلحة مدربة جيداً؛ مضيفاً أن تلك أيام لا يمكنه وزملاؤه نسيانها طيلة حياتهم. وصدق الله العظيم في تثبيته للمؤمنين؛ حيث قال: {إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء: 104] .
إن النجاح هو فيما إذا تمكنت المقاومة من الاستمرار في القيام بعمليات داخل وخارج الفلوجة، وجعل قوات الاحتلال في حالة استنفار دائم؛ مما يؤدي إلى إنهاكها مع العمل على قطع الإمدادات؛ فإن شح التموين عامل أساسي في تحطيم معنويات الخصم. ويبدو أن هذا هو ما يحدث؛ فبعد الخسائر الجسيمة في صفوف قوات الاحتلال يلاحظ أن حدة القتال خفت كثيراً، وغالباً ما تكون في الليل وبمبادرة من المقاومة. وكما صرح الشيخ (عبد السلام الكبيسي) رئيس قسم العلاقات العامة في هيئة علماء المسلمين في اتصال مع قناة الجزيرة: إنه إلى هذه اللحظة فإن أكثر من نصف الفلوجة بأيدي المقاومة الفلوجية، وأقول «الفلوجية» ؛ لأنه ليس هناك مقاتلون من غير الفلوجيين داخل الفلوجة - على حد قوله -.
وسخِر (الشيخ الكبيسي) من الادعاءات الأمريكية التي كانت تزعم أن الفلوجة ستُسحق خلال 48 ساعة، وشدد على أن القوات الأمريكية تعيش حالياً مأزقاً حقيقياً في الفلوجة، وأنها كانت بادئ الأمر تهاجم، لكنها الآن تدافع؛ فهي متخندقة في الفلوجة، ولا تستطيع أن تخرج إلى أي شارع أو أي زقاق في أكثر من نصف الفلوجة، سواء كان في أحياء الجولان أو الشهداء أو الصناعي، وفي حي نزال، وفي أماكن كثيرة.
ونختم هنا بأن أمريكا قد فضحت نفسها بنفسها؛ فبعد تدمير الفلوجة، وتدمير 32 مسجداً، وقتل الجرحى في المساجد، ونشر صورة الرجل الذي قُتل وهو يحمل أمه العجوز يخرج علينا السفير الأمريكي (نيغرو بونتي) وهو (حاكم العراق الفعلي) في تصريح لقناة العربية الإخبارية: إن الفلوجة لم تعد قاعدة لما وصفه بالإرهاب الأجنبي وعناصر النظام السابق. وأضاف: إن هذه القاعدة دُمرت الآن، وأعتقد أن هذا كان بمثابة درس لأولئك الذين يحاولون عرقلة الديمقراطية والحرية في هذه البلاد.
هذا شيء مما نشرته وسائل الإعلام الغربية، وتتحاشاه كثير من وسائل الإعلام العربية نضعه بين القارئ ليعرف حقيقة الحرية والديمقراطية التي جاء الأمريكيون ليبسطوها في أرض الرافدين، وهي درس لمن يفكر في خداع الرأي العام بها. تتهاوى وتسقط أمام كل ذي عينين. والله المستعان.