في المنهج والاستدلال
أثر الاجتهاد
في المحافظة على منهاج الأمة وعقيدتها
د. عابد السفياني
المحافظة على التزام هذه الأمة بعقيدتها ومنهجها:
إن المجتمع الإنساني لا بد له من الحركة والنمو، لأن هذه هي طبيعة الإنسان
الذي كلف بمهمة إقامة الخلافة على هذه الأرض ... ويشترك المجتمع الإسلامي مع
سائر المجتمعات التي تحكمها المِلل الأخرى في هذه الخاصية ويفترق عنها في أمور
منها:
أ-أن المجتمع الإسلامي يمثل الأمة الواحدة للبشرية جمعاء، فلا يعرف
القوميات، بل يعيش الناس فيه أمة واحدة ولو كانوا من شعوب وقبائل مختلفة.
ب -أن مهمته إقامة الخلافة على الأرض طبقاً للمنهج الرباني لا كما تصنع
المجتمعات الأخرى في إعراضها عن هذا المنهج.
ج -أن مهمته القوامة على البشرية: [وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطاً لِّتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس] [البقرة: 143] . [ولْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ
ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ] [آل عمران: 104] .
فهو مجتمع يشترك مع المجتمعات المخالفة له في خاصية الحركة والنمو
والتأثر والتأثير، ويفارقها في كونه مجتمع عقيدة ربانية ومنهجاً إسلامياً مهمته إقامة
الخلافة على الأرض والقوامة على البشرية ... ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بطريق
الاجتهاد.
فالاجتهاد وهو عنوان (الحركة والنمو) هو السبيل الوحيد لحفظ توازن
المجتمع الإسلامي، ولا يقوم إلا بعد عمل وتفقه ينتشر ليغطي أكبر مساحة من
المجتمع الإسلامي، وهذا طريق لحفظ رسالته، ومن هذا الجهد ينشأ عمل خر على
مستوى أكبر يتدرج حتى يسلمنا إلى مرحلة وجود المجتهدين ... وإلى هنا يتحقق لنا
أمران:
أ - قيام المجتمع بنشر الوعي الديني عن طريق تفقه الأمة في العلم.. وهذه
هي القاعدة التي ينبني عليها ما بعدها.
ب -ظهور صفوة من الفقهاء يمثلون أهل الاجتهاد.
وبهذا يحفظ توازن المجتمع الإسلامي فحركته ونموه الطبيعيان اتجها اتجاهاً
سليماً ونتج عن ذلك عمل إيجابي فهو من جانب حفظ جهد الأمة من أن يضيع
وينحرف، ومن جانب آخر حمل الأمة على أداء رسالتها الخاصة بإقامة مجتمعها
على المنهج الرباني.
ومجتمع كهذا لا بد وأن تنتشر رسالته لأنه قد مثلها في نفسه أحسن تمثيل،
وهي رسالة الدين الخاتم الذي يحقق العدل الرباني في الأرض فإذا حدثت مرحلة
التأثر والتأثير أو قل: زادت وقويت فإن المجتمع الإسلامي يحمل معه عدته
وسلاحه، ومن أعظم عدته وسلاحه (الاجتهاد) . إن المجتمع الإسلامي كما يريد
أن ينشر المنهج الرباني في الأرض - على الطريقة الربانية- فإن المجتمعات
المخالفة تريد أن تدس جاهلياتها وانحرافاتها في المجتمع الإسلامي أو تقذفها فيه ...
وهي لا تصنع ذلك إلا وهو محفوف بكثير من المغريات المادية التي تشتمل على
نفع محض بل وفيها حاجيات وضروريات، وقد يكون المجتمع الإسلامي في بعض
الأحيان لا يمتلكها ولم يقدر بعد على تصنيعها.. وهنا إن لم يكن المجتمع الإسلامي
يملك عدة (الاجتهاد) يضعف أمام هذه المغريات ثم يفقد توازنه ويبدأ تأثير الغزو
الفكري يعمل عمله فيه، وأما إن كان يملك هذه العدة فإن موقفه سيكون إيجابياً
ونذكر من آثار هذا الموقف ما يؤكد ضرورة الاجتهاد للمجتمع الإسلامي ومنها:
1- أثر الاجتهاد في رفع معنوية الأمة وزيادة إيمانها بمنهجها الرباني. بيان
ذلك: أن الأمة التي تبذل جهدها في بناء أفرادها على منهجها الخاص عن طريق
التربية والتعليم ونشر مفاهيم دينها نشراً صحيحاً وتعرف رسالتها حق المعرفة؛ أمة
ولاشك قوية معنوياً، وهذه هي القاعدة التي ينبثق عنها الاجتهاد كما سبق وأن قلنا.
وأما زيادة الإيمان بهذا المنهج الرباني فيكون بأن يعلم أبناء المجتمع الإسلامي
في كل حين -مع كل حادثة تجد في هذا المجتمع - أن منهجهم يشملها بحكمه
ورحمته وأنها لن تبقى معلقة بلا حكم ... ولن نذهب نبحث لها عن حكم في غير
هذا المنهج وهنا تزداد الأمة تمسكاً بمنهجها وتزداد عزة وقوة.
2 - أثر الاجتهاد في حفظ الأمة من أن تتسلل إليها آثار الغزو الفكري
الجاهلي ... وذلك يتحقق بأن يقوم المجتهدون بالنظر في جهد الأعداء المادي
والمعنوي، فينظرون في مجموعة ويفرقون بين الحق والباطل، والنافع والضار ثم
يختارون -ومنهجهم الرباني هو الحكم وعزتهم وقوتهم تجعلهم يحكمون هذا المنهج
ويختارون وهم في توازن كامل، فلا يقعون في متابعة أعدائهم ولا يرفضون كل
شيء ... بل يختارون وهم لا يزالون يمثلون الرسالة - الربانية والقوامة على
البشرية، ولا يضرهم ولا ينقصهم في شيء أن يأخذوا ويختاروا ما ينفعهم ... ولا
يضرهم ولا ينقصهم أن يرفضوا ما لا ينفعهم ... ولا يمكن أن نفرق بين الضار
والنافع وما يوافق المنهج الرباني وما يخالفه إلا عن طريق (الاجتهاد) .
3 - أثر الاجتهاد في هداية الأمم الأخرى - وذلك قبل الجهاد - إن موقف
المسلمين هذا لا شك سيكون له أكبر الأثر في أعدائهم فأول ما يعلمه الأعداء أنهم
أمام أمة لا يمكن أن تُستغفل وتُمتطى وهذا له تأثير نفسي عميق يجعل الأعداء في
موقف التأثر والإعجاب والانبهار أمام هذه الأمة القوية التي تحسن أن تختار لنفسها
حسب ما يرتضيه منهجها الرباني، والأثر الذي يتبعه مباشرة أن يعرف الأعداء-
بعد انكسارهم النفسي-أن في الأرض منهجاً متوازناً يفرق بين الحق والباطل والنافع
والضار ولا يهدر طاقات العقل البشري النافعة ... ويحول في الوقت نفسه بين
انحرافات البشرية وبين الفطرة الإنسانية ليقوم العدل في الأرض ... وهذا المنهج
هو (الإسلام) وهذه دعوة عملية لها من الإيجابية وحسن التأثير شيء عظيم.
هذه هي بعض آثار الاجتهاد في داخل الأمة وفى علاقاتها مع أعدائها، وهو
دليل قاطع على ضرورته وفرضيته وأنه لا تصلح هذه الأمة إلا به ولا تهتدي
البشرية إلا به، وإن لم يتحقق فإن تلك الآثار الإيجابية تنقلب لتكون آثاراً سلبية
والضد بالضد، وضد الحركة والنمو الجمود والتقليد.
ولنتصور نقيض تلك الآثار وضدها.. لكي ندرك الخسارة التي وقعت فيها
هذه الأمة لما أهملت مهمة الاجتهاد (1) وخاصة لما اجتمعت عليها الأمم كما تجتمع
الأكلة إلى قصعتها، كل أمة من أمم الكفر معها نافع وضار، نافع يتمثل في ماديات
ضرورية وحاجية، وضار يتمثل في مبادئ ومفاهيم جاهلية لا تحفظ ديناً ولا
عرضاً ولا عقلاً.. بل ترتكس في مجال العقائد والأخلاق إلى مستوى الكفر
والشرك والفتنة والإغراء ونتج عن ذلك أنظمة وضعية تعارفت عليها تلك الأمم
وانبثقت من عقائدها وأخلاقها....
وكانت عملية الاجتهاد كفيلة بالتفريق بين الضار والنافع ... وكفيلة أيضاً
بمراعاة الأحوال الجديدة التي نشأت من طبيعة المجتمع الصناعي واستنباط أحكامها
الخاصة بها ومراعاة الضوابط التي تحفظ الضرورات الخمس: الدين والعرض
والنفس والعقل والمال، فإن المجتمع الصناعي -وإن كان محتاجاً إلى عملية
الاجتهاد كما يحتاجها المجتمع الزراعي والرعوي- إلا أنه أشد حاجة لها، أضف
إلى ذلك أن السلبيات التي تنتج عن تعطيل مهمة الاجتهاد أو عدم القيام بها على
الوجه المطلوب تظهر آثاراً على نحو مخيف وخطير في المجتمع الصناعي أشد
بكثير من ظهورها في غيره من المجتمعات ذلك أنه مجتمع الحركة الفوارة والتجدد
المستمر فإن لم ينضبط بعملية الاجتهاد ازدادت تلك السلبيات واستمرت في الازدياد.
وهذه الحكمة التي تحدثت عنها هي أعظم حكمة لمهمة الاجتهاد لأنها سبيل
عظيم للمحافظة على التوحيد وأحكامه الذي تمثله هذه (الشريعة) والمحافظة على
المجتمع الإسلامي من آثار الشرك وأحكامه الذي يمثله الغزو الفكري الحديث
1- وقعت الأمة في ضد ذلك تماماً لما أهملت هذه الفريضة وزادت ردود
الفعل من داخلها الأمر سوءاً فقد اختلفت مواقف العلماء من آثار النهضة الأوربية
فمنهم من رفضها كلها ومنهم من قبلها بدون تمييز ... وهذان موقفان سلبيان ...
ومنهم من نادى بالتمييز بين الضار والنافع ... وهذا موقف إيجابي ولكنه لم يكن له
من القوة والانتشار ما يسمح له باكتساح التيار الذي نتج عن سلبية الموقفين السابقين، وقد كان قيام العلماء بعملية الاجتهاد - كما بينت وعدم اختلافهم عليها وتخلفهم
عنها- كفيلاً بأن يحول بين الأمة وما وقعت فيه من تلك السلبيات العظيمة وأعظمها
أنها أصبحت فريسة لآثار الغزو الفكري الحديث.