مجله البيان (صفحة 5141)

لنتعلم.. كيف نتكلم؟

أسامة علي متولي

ـ الصمتَ الصمتَ، فإنه من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، وكلُّ لفظٍ يخرج من فمك ستجده في كتابك مسجّلاً عليك {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] .

ـ تعلّمْ قولَ: لا أعلم؛ فلا تتكلمْ فيما لا علمَ لك به. يقول ـ سبحانه ـ: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: 36] . ومن هنا يلزم فقه بعض القواعد المهمة في هذا المجال ومنها:

- أولاً: قل خيرًا أو اصمت:

ليس عيباً إذا سئلت عن شيء لا تعلمُه أن تقولَ لا أدري. يقول ابن جماعة: «واعلم أن قولَ المسؤولِ: لا أدري، لا يضعُ من قدرِه كما يظنُّ بعضُ الجهلة بل يرفعُه؛ لأنه دليلٌ على عظمِ محلِّه، وقوة دينه، وتقوى ربه، وطهارة قلبه، وكمال رفعتِه، وحسن تثبتِه» .

- غلِّب الاستماعَ على القول؛ فلك أذنان ولسانٌ واحد، ومع ذلك لا تستهنْ بقدرِ الكلام؛ فهو بداية العمل، ومن أهم وسائلِ الدعوةِ.

- أحسِن الإنصاتَ للآخر، أعطِه الفرصةَ لإبداء رأيه وإفراغِ ما في نفسه، كما كان من حديث النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مع عتبةَ بنِ ربيعة، قال -صلى الله عليه وسلم- له: «قل يا أبا الوليد، أسمَع» ولما انتهى عتبةُ من حديثه، قال -صلى الله عليه وسلم-: «قد فرغت يا أبا الوليد؟» قال: نعم! قال: «فاسمع مني........» .

- وإذا تكلمتَ فلا تتكلمْ إلا بالخير، ادعُ إلى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، اتلُ آياتِ القرآن، سبِّح الربَّ الرحمن، أكثرْ من الدعاء {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77] ، «لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله عزّ وجلّ» (?) .

- اذكر الله في حديثك مع الناس، ابدأ باسم الله، ادعُ في ثنايا كلامك لمن يستمع لك: «بارك الله فيك.. جزاك الله خيراً.. حفظك الله....» .

- لا تلغُ في كلامك، لا تتحدث بلا فائدة {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] ، {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] ، يقول ابنُ مسعود: «والذي لا إله غيرُه ما على ظهر الأرض شيءٌ أحوجُ إلى طول سجنٍ من لسان» (?) .

- اجعل لكلامِك معنًى عميقاً، لا داعي للسطحيةِ غيرِ المجدية، كما في قول أحدهم:

الليلُ ليلٌ والنهارُ نهارُ والأرضُ فيها الماءُ والأشجارُ

- لا تشارك في المنتديات التافهة، والحوارات الجوفاء، والجدال العقيم؛ فوقتُك الثمينُ لا يسمحُ لك بذلك، ثم إن الجدالَ أحيانًا لا يأتي بخير. يقول ابن عباس: «ولا تمارِ حليماً ولا سفيهاً؛ فإن الحليمَ يقليك، وإن السفيهَ يُؤذيك» (?) ، إلا إذا كانت هناك حاجةٌ وفائدةٌ له. يقول ـ سبحانه ـ: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] .

- احرص على صحة كلامك:

- فلا تقل: مصادفة، ولكن قل: قدر الله.

- لا تقل: لولا الله وفلان، وقل: لولا الله ثم فلان.

- لا تقل: لا حول الله، وقل: لا حول ولا قوة إلا بالله.

ـ وكن دقيقاً في كلامك، ولتكن معلوماتُك صحيحةً واقعياً وتاريخياً.

- ولا تكن ممن يشارك في حواراتٍ عابثة مع ملحدين أو جاهلين أو فسقةٍ منحرفين. فتكون ممن:

- يغضب فيتلفظ بكلماتٍ لا ينظرُ عقباها.

جراحاتُ الطعان لها التئام ولا يلتام ما جرح اللسانُ

قال -صلى الله عليه وسلم-: «ليس المؤمن بالطعّان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيء» (?) .

- وقد يتعصّب لرأيه، فيتحدّث عن مُناظرِه متكبراً مغروراً بنفسه: «إنه جاهل.. سخيف.. متسرِّع.. فاسد النيّة.. عميل.. خبيث.. مبتدع.. فاسق.. ملعون.. مُلحِد.. كافر» .

وربما يعمّمُ في أحكامه تلك، لتكون المصيبةُ أعظم، فيسبُّ أسرةً.. عائلةً.. قبيلةً.. جماعةً.. بلداً.. شعباً.. جنساً..

- يرتكبُ كبيرةً بغِيبةِ إنسان، يأكلُ لحم أخيه ميتاً، مع أن ربَّه نهاه {وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات: 12] ، ويتتبع عوراتِ المسلمين ليفضحَه ربه.

يمشي بين الناسِِ بالنميمة.. فيوقع بينَهم ويُفرِّقُ بينَ قلوبِهم، ليُعذَّبَ في قبرِه قبلَ عذابِ يومِ الدين، ولتقفَ كلُّ تلك الجُموعِ الغفيرةِ التي سبَّها، واغتابَها، ومشى بينها بالنميمة لتأخذَ منه حقَّها من حسناتِه، أو تضع عليه من سيئاتِها، فما مصيرُ هذا التعيس؟

- لا يكتفي بأفٍّ لوالديه، بل إنه الزجر والنهر لهما، ليخسر دنياه وآخرته، مع أن الله ـ سبحانه ـ أمره {فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} [الإسراء: 23] .

بل نُهينا أن نكون مجرّد سببٍ في سبِّهما، يقول -صلى الله عليه وسلم-: «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه» قيل: يا رسول الله! كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: «يسبُّ أبا الرجل فيسبّ أباه، ويسبّ أمه فيسب أمه» (?) .

يَكتب شعراً أو نثرا، يتغزّل بألفاظٍ فاحشةٍ بذيئةٍ فاضحةٍ مخجلة، مقتدياً بامرئ القيس حاملِ لواءِ أمثالِه من الشعراء في النار، يدعو إلى الفحشاء، يثيرُ الغرائزَ المُحرَّمة.

- يهجو مسلماً، ويُقذِعُ في هجائه، كما كان الحطيئة وضابئ ابن الحارث، لقد سجن عمرُ الحطيئةَ لهجائه الزِّبرقان بن بدر:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

ـ يمدح فيبالغ كاذباً أو مشركاً:

لقد نهَى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مادحيه: «لا تُطروني كما أطْرَتِ النصارى ابنَ مريم؛ فإنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبد الله ورسولُه» (?) .

وأمرنا -صلى الله عليه وسلم- أن نحثوَ في وجوه المدّاحين التراب [في حديث لأبي هريرة في الترمذي] .

بل إن المبالغة في المدح تقلِبُه ذمّاً، وقد فعل ذلك المتنبي عامداً في مدائحه لكافور الذي لم يحقق أحلامه، يقول:

عدوُّك مذمومٌ بكلِّ لسانِ ولو كان من أعدائك القمرانِ

ويقول:

وللهِ سرٌّ في علاك وإنما كلام العدا ضربٌ من الهذيانِ

- ثانياً: الوضوح وعدم التكَلّف:

- لا تتكلمْ بسرعةٍ، تسردُ الحديث سرداً؛ فما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسردُ الحديث سرداً، وإنما يحدّثُ الحديثَ لو عدّه العادُّ لأحصاه.

ولكنَّ أحدَنا يتحدّث بسرعةِ سبعين كلمةً في الدقيقة، يستأثرُ بالحديث، يدمنُ الكلامَ ويعشقُه، يخرج من موضوع إلى آخر، وأنت لا تدري: ماذا يقول، ومتى سينتهي؟

- تكلم بهدوءٍ وأريحيّة على سجيّتك، لا تتكلّف، لا تتشدق؛ فلقد كره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الثرثارين والمتشدقين والمتفيهقين. يتكلم بكيفيةٍ تقول للناس: «انظروا كم أنا بليغٌ فصيح، أملك عنان الكلمة، وأعلم ما لا تعلمون» .

قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله ـ عز وجلّ ـ يبغضُ البليغَ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها» (?) .

وليكن كلامُك بلسانِ قومِك واضحاً مفهوماً، كما كان رسلُ الله الكرام {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}

[إبراهيم: 4] .

تقول عائشةُ ـ رضي الله عنها ـ: «كان كلامُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلاماً فاصلاً يفهمه كلُّ من يسمعه» (?) .

- اجعلْ كلامَك مبسَّطاً مألوفاً.. وابتعد عن الكلام الغريب المعقَّد، الذي عفا عليه الزمان ومات، تريد به أن تُظهر علمَك باللغة، وتتفاخرَ بنفسِك.

- لا تكنْ كذلك الأعرابي يبحثُ عن فرسه ومهره: (هل رأيتَ الخيفانةَ القبَّاء يتبعها الحاسنُ المسرهَف؟) .

- ثالثاً: الكلام المناسب:

- اختر الكلام المناسب للمقام وللمخاطَب، فأنت تكلم الأميرَ بغير ما تكلم به صديقك.

- فكيف ستكلّم ربّ العالمين؟

تكلمه ـ جلّ شأنه ـ بكلِّ تذلُّلٍ وخضوع، مُظهِراً بين يديه الضعفَ والفقرَ والحاجة.

هذا نبيُّ الله أيوبُ ـ عليه السلام ـ: {وَأَيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] .

وموسى ـ عليه السلام ـ: {رَبِّ إنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] .

وزكريا ـ عليه السلام ـ: {قَالَ رَبِّ إنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4] .

ومحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «اللهمَّ إني أشكو إليك ضعف قوتي وهواني على الناس، يا أرحمَ الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي..» .

وشاعرنا يناجي ربه:

أنا العبدُ الذي أضحى حزيناً على زلاته قلقاً كئيبا

أنا العبدُ الغريقُ بلُجِّ بحرٍ أَصيحُ لربما ألقى مجيبا

أنا المضطرُّ أرجو منك عفواً ومن يرجو رضاك فلن يخيبا

ـ وعندما تُكلِّمُ الخليفةَ أو الأميرَ أو القائد، فأنت دقيقٌ في كلامك، حريصٌ على انتقاء عباراتِك.

- أما عامة الناس فأنت تكلمهم على قدرهم، لا تعطيهم من العلم إلا ما يناسبهم.

قال -صلى الله عليه وسلم-: «كفى بالمرء إثماً أن يحدِّث بكل ما سمع» (?) .

وقال علي ـ رضي الله عنه ـ: «حدّثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يُكَذَّب اللهُ ورسولُه؟» (?) .

وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «ما أنت بمحدّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة» (?) .

ومن الحِكَم: (لا تعطوا الحكمة لغير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم) .

- وانتقاء الكلمةِ المناسبةِ يُظهِر عقلَك وثقافتك؛ فأنت تعلم أن الكلمة العربية لا تساوي مترادفاتِها، فـ «جلس» لا تؤدي معنى «قعد» .. تقول للنائم: اجلس، وتقول للواقف: اقعد.

وكذلك «قام» ليست كـ «وقف» .

- سمع ابن هَرمة رجلاً ينشد قصيدةً له:

بالله ربِّك إن دخلت فقل لها هذا ابن هَرمةَ قائماً بالبابِ

فقال ابن هرمة: لم أقل «قائماً» وإنما قلتُ «واقفاً» .. فما الفرق؟

إن القيام يقتضي الملازمة، وكأنما هو حاجبٌ على باب بيتِها، مقيم عليه ليلاً ونهاراً ينتظر الإذن بالدخول، بما يوحي بالمذلة والضّعة والصّغار، أما الوقوف فغير ذلك.

- انظر إلى قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: «طلبُ العلم فريضةٌ على كلِّ مسلم» (?) ؛ فما رأيك لو وضعت كلمة «تحصيل» مكان كلمة «يطلب» ؟

لا شكّ أنه سيأثم الكثير، فطلب العلم يستطيعه كل إنسان، أما تحصيله واستيعابه فهذه نتيجة للطلب، ولا يستطيعها كلُّ إنسان، فما أرحمَ دينَنا!

- وهذا حوارُ رجلٍ مع هشام القرطبيّ:

الرجل (يسأل هشاماً عن عمره) :

ـ كم تعدّ؟

هشام: من واحدٍ إلى ألفِ ألفٍ وأكثر.

ـ لم أُرِدْ هذا، كم تعدّ من السنّ؟

ـ اثنين وثلاثين: ستة عشر سناً من أعلى، وستةَ عشر من أسفل.

ـ لم أُرِد هذا، كم لك من السنين؟

ـ والله ليس لي منها شيء، والسنون كلها لله.

ـ يا هذا، ما سِنُّك؟

ـ عَظْم.

ـ ابن كم أنت؟

ـ ابن اثنين: رجل وامرأة.

ـ كم أتى عليك؟

ـ لو أتى عليّ شيء لقتلني.

ـ فكيف أقول؟

ـ تقول: كم مضى من عمرِك؟

- بل إن حروف الجرّ لا تؤدِّي معاني بعضِها بنفس الدقة.

فهذا قوله ـ سبحانه ـ: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ} [القصص: 4] فحرف الجرّ المناسب للعلوّ هو «على» ، ولكن عندما تسمع كلمة «علا» يتطاولُ عنقُك إلى السماء، تبحث عن هذا العالي، وإذا بك تفاجأ بأنه مهما علا وعلا فهو في الأرض.

وقوله ـ سبحانه ـ: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] أي: على جذوع النخل، ولكن «في» تدلّ في حقيقتها على أنهم داخل جذوع النخل، وكأنهم من شدة إيثاقهم وتعذيبهم أصبحوا داخل جذوع النخل.

وتأمّل رحمةَ الله ـ سبحانه ـ بأمّةِ محمّد -صلى الله عليه وسلم- في قوله ـ جلَّ شأنُه ـ: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4 - 5] ولو قال: في، بدل: عن؛ لهلَكْنا، لماذا؟

- وينبغي مراعاةُ مناسبةِ حديثِكَ للزمن المتاحِ لك؛ فلا تفتح مواضيعَ ربّما يطولُ لها الوقت.

- ولا مانعَ من إعداد النقاطِ الرئيسةِ لحديثِك ولو كان معَ فرد.

- ولو ارتجلتَ الحديثَ فكُن حاضرَ الذهن، دقيقاً في كلامِك، وبخاصّةٍ لو كنتَ رجلاً مسؤولاً؛ إذ تُحسَبُ كلُّ كلمةٍ لكَ أو عليك.

- لاحظ تعبيراتِ مستمِعِك؛ فإن لاحظتَ تجاوُبَه معكَ، وفهمَهُ لحديثِك، وإلا فأنْهِ حديثَكَ النهايةَ المناسبة.

- كما تراعي حالةَ المستمعِ نفسِه؛ فإن كان مريضاً؛ فهل يجوزُ أنْ تحكيَ له قصةَ مريضٍ بنفسِ مرضِه قد تُوُفِّي بسببِ هذا المرض؟!

- وإنْ أردت حديثاً قد يطولُ مع أحد أصدقائِك في الهاتف، فاسألْه سؤالاً صريحاً: هل عندك الاستعداد للحديث الآن؟ أم أنّ هناك وقتاً أنسبَ لك؟ متى؟ فأنتَ لا تراهُ، ولا تعلمُ ما ظروفُهُ الآن.

- رابعاً: الترتيب:

- ابدأ كلامك بالأهمِّ ثم المهم؛ فإذا أردت أن تدعو رجلاً لا يصلي، ويلبس ثوباً طويلاً، ويدخن، فبأي شيء ستبدأ؟

وإذا أرادت امرأةٌ أن تدعوَ كافرةً للحجاب، فكيف ستدعوها؟

- احرص على ترتيبِ كلماتك حتى في الجملة الواحدة.

- انظر إلى قوله ـ تعالى ـ: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95] .

هناك فرقٌ هائل بين ذلك وبين قولك: أأنتم تعبدون ما تنحتون؟

في الآيةِ الكريمة إنكارٌ لعبادة الأصنام، سواء أكانت من أولئك القوم أم من غيرهم. أما القول الآخر فهو إنكارٌ أن يكونوا هم عبدة الأصنام، أما غيرهم فلا مانع.

ما الفرقُ بين قولك لابنك منكراً: أتكذب؟ وبين قولك له: أأنت تكذب؟

- وإذا كان المجال فيه بشرى وسعادة؛ فابدأ البشرى.

فإذا أردت أن تخبر طالباً بنجاحه؛ فكيف سترتب كلامك؟

(يا زيد، لقد ذهبتُ إلى مدرستك، وكنتُ أعرف أحد العاملين بها، وسألته عن نتيجتك، وبعد طول بحث وو........ نجحت) .

أم تبدأ بتبشيره: (نجحت يا زيد......) ثم تقص القصة؟

- تأمل قوله ـ تعالى ـ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] .

يقول الشاعر:

سعدت بغرة وجهك الأيام وتزينت ببقائك الأعوام

ـ وتقديم ما حقّه التأخير قد يفيدُ معاني جديدة، كتقديم الجارّ والمجرور أو الظرف للاختصاص.

مثل: (الملك لله) لا تدل على نفس معنى (لله الملك) .

الجملة الثانية تدل على أن الملك لله وحده لا شريك له.

ما الفرق بين قولك: (هذه الهدية لخالد) وقولك: (لخالد هذه الهدية) ؟

- كما يحسُن أحياناً أن تبدأ بما يُشوِّق لتجعل مستمعَك متلهّفاً حريصاً على تكملة الكلام والانتباه له.

- يقول -صلى الله عليه وسلم-: «ثلاثُ دعواتٍ مستجابات لا شكَّ فيهنّ: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد» (?) .

تخيّل لو كان الترتيبُ طبيعيًّا هكذا: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد.. ثلاث دعوات مستجابات.

هل تجدُ فيها ذلك الجمالَ والرونق، وتلك الجاذبيةَ والبهاء؟

- تأمل: «منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال» .. «عينان لا تمسهما النار: عينٌ بكت من خشية الله، وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله» (?) .

- وأنت تعلن نتيجة إحدى المسابقات التي تقودُها، أتقول: (ثلاثة فازوا: زيد.. وخالد.. وعمرو) أم تقول: (زيد وخالد وعمرو: ثلاثة فازوا) ؟

- خامساً: الذوق:

- باسطْ جلساءك عند الحديث، تواضعْ لهم، لا تكلمْهم من علٍ، اسأل عن أحوالِ مَنْ تكلِّمُه، فإن معظمَ الناس لا يهتمون بما لديك من معرفة إلى أن يعرفوا قدر ما لديك من اهتمام بهم.

- اجعل في ثنايا كلامك، بعضَ ألفاظ الاحترام والتقدير لمحدثِك، كبيراً كان أم صغيرا، مثل: (من فضلك.. لو سمحت.. عن إذنك.. يا أُخيّ.. يا عمي.. يا شيخي.. يا مولانا.. يا بُنيّ....) وهذا هو الذوق، وتلك هي الكياسة.

- وأثناء حديثِك حافظْ على ابتسامتك اللطيفة المناسبة، يقول أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ: «ما رأيتُ أو سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يحدّث حديثاً إلا تبسّم» (?) .

إنّ للابتسامةِ وتعبيراتِ الوجه أثرَها في المستمع، فهي تدلُّ على كرمِ الأخلاق، وحسنِ السجيّة، وطيبِ الطويّة.

يقول زهير مادحاً:

تراهُ إذا ما جئته متهللاً كأنّك تعطيه الذي أنت سائلُهْ

- راعِ نبرةَ صوتِك أثناء حديثِك، ومدى مناسبتِها للموضوع وللمخاطَب، فلها أثرٌ عظيمٌ في معنى الكلام.

فإذا قلتَ: ما هذا؟.. أو نَعم.. أو من أنت؟.. بصوتٍ عالٍ.. أو بصوتٍ طبيعيٍّ.. أو بنبرةٍ ساخرة.. أو بلهجةٍ متكبرة.. (جرّب الآن، وانظر الفرق) .

ولكن، قد نحتاج إلى الصوت العالي في بعض الأحوال، ومنها:

الإهلال بالحج والعمرة.. الأذان.. التلبية في الحج.. التأمين في الصلاة الجهرية.. الخطبة وموعظة الناس.

عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال: «كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرّت عيناه، وعلا صوتُه، واشتدّ غضبُه، حتى كأنه منذرُ جيشٍ يقول صبّحكم ومسّاكم» (?) .

- وراعِ كذلك إشاراتِك ونظراتِك، فالإشارة تدلّ على الاحترام أو الاحتقار، وطريقة النظر تتكلم، وحركة الحواجب تنطق، وتقطيبة الجبين تقول، أمَّا لوي العنق وتصعير الخدّ فهو الكبْرُ عينه. يقول ـ سبحانه ـ: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: 1] ، والهمزة: هو الذي يعيب الناس، ويطعن عليهم بالإشارة والفعل.

- إياك والكلماتِ الفاضحةَ غيرَ المهذّبة؛ فهذه فحشاءُ لا يحب المؤمن إشاعتَها، وفي الكناياتِ مخرج، يغلِّف الكلامَ بغلافِ الأدبِ والحشمةِ والجمال.

انظر إلى تعبير قرآننا العظيمِ عن الجماع: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187] . {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187] . {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] . {فَإذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] . {وَإن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] .

- ومن كناياتِ العرب:

لسانه طويل (لبذيء اللسان) . نشر غسيله (لمن فضح نفسه) . نؤوم الضحى (للمُنعَّمَة المترَفة) . أوانيه نظيفة (للبخيل) . قلبه في جناحي طائر (للخائف) . نقية الثوب ـ (للعفيفة) .

ذهبت إحداهن تشكو فقرها للخليفة، فقالت: أشكو إليك قلّة الجرذان في بيتي.

- لا تكثر من قول: «أنا» .. «عندي» .. «في رأيي» حذرَ التكبُّر، كما حدث من إبليس اللعين: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ} [الأعراف: 12] ، وفرعونَ الهالك: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] . وقارونَ الخاسر: {قَالَ إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص: 78] .

- إذا نصحتَ فلا توجِّه الاتهام لمن تنصحه مباشرةً، ولكن هناك طرق عديدة لطيفة، منها: (ما بال أقوامٍ يفعلون كذا وكذا؟.. هناك مشكلة عند أحدهم أريد أن أستشيرك في حلّها.. قرأت هذا الكتاب الجميل، وهو لك، اقرأه وقل لي رأيك فيه.. استمع إلى هذا الشريط، سيعجبك.. نريد أن نقوم ببحث في موضوع كذا، فعليه جوائز قيمة) .

لا تحاصر من تستجوبه، فإذا أخطأ أحدٌ، وعرفتَ خطأه، وأخذتَ تعاتبه؛ فإنه سيحاول أن يبرّر لك فعلته، وهو نادمٌ عازمٌ على عدم العودة لمثله، فاتركْ له فرصةً للهرب، واستجِب لتبريره، واعفُ واصفحْ يغفرْ لك ربُّك.

- سادساً: تنويع الأساليب:

- تنقّل في حديثك بين مختلف الأساليب.

ـ فما بين أسلوبٍ خبريّ، مثل: {إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت: 45] . ومثل: «المسلمُ مَن سلِم المسلمون من لسانِه ويدِه» (?) . ومثل:

كلُّ الحوادثِ مبداها من النظرِ ومعظمُ النارِ من مُستصغَر الشررِ

ـ وأسلوبٍ إنشائيّ، مثل:

- الاستفهام: ما رأيُك في كذا؟ هل تصدِّق هذا؟

قال ـ سبحانه ـ: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} [الكهف: 103] .

- والأمر: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] . {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3] .

- والنهي: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء: 32] . {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] .

والنداء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] . {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] .

يقول -صلى الله عليه وسلم- مخاطِبًا الأنصار: «يا معشرَ الأنصار! ما مقالةٌ بلغتني عنكم وموجِدةٌ وجدتموها في أنفسكم؟» (?) .

والتمني: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ} [الأنعام: 27] . {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص: 79] . {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ: 40] .

- سابعاً: الإيجاز والإطناب:

- أوجز كلامك، لا تُطِل إلا لضرورة.

- انظر إلى هذا الإيجاز الرائع في قوله ـ تعالى ـ: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف: 71] . إنها كلمات موجَزة معدودة، تحمل أعظمَ المعاني، ففي الجنة نعيمٌ لا مُنتهى لحسنه، فكلُّ ما تشتهيه نفسُك من مطاعمَ ومشاربَ وملابسَ ومساكنَ ونساء و.... ستجده.

- وفي رسالة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى: «أسلِم تسلَم» (?) .

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «اعقلها وتوكّل» (?) .

أما الإطناب والزيادة في الكلام، فهو لفائدةٍ يقتضيها المقام.

- كالتلذُّذ بالكلام مع من تحب، كما في جواب موسى ـ عليه السلام ـ على رب العزة ـ جلّ شأنه ـ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 17 - 18] . ولم يكن الجواب على قدر السؤال: (عصا) . فهو ـ عليه السلام ـ لا يريد أن ينهيَ حديثه مع ربه سبحانه.

- أو للتهديد، كما في قوله ـ سبحانه ـ: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 3 - 4] .

- أو لبيان أهمية شيء خاص، كما في قوله ـ عز وجل ـ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] . مع أن الصلاة الوسطى من الصلوات.

وفي قوله ـ سبحانه ـ: {مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98] .

- أو للتأكيد، كما في قوله ـ سبحانه ـ: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9] .

وفي قوله ـ عزّ وجلّ ـ: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78 - 79] .

وكأن تشرح درساً أو تفصل موضوعاً أو توضح مبهماً، كما كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «إذا تكلَّم الكلمة أعادها ثلاثاً حتى يفهمَ أصحابُه عنه» (?) . المهم، لا تتكلمْ كلامًا زائدًا بلا فائدة.

- ثامناً: الصور البيانية:

وما أجملَ أن تُزيّن كلامك بصورٍ بيانيّة جميلة، تُبهج النفس، وتُنعشُ القلب.

- تأمل هذه التشبيهاتِ الرائعة:

يقول ـ سبحانه ـ: {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة: 22 - 23] .

ويقول ـ عز وجلّ ـ: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] .

وقال ـ سبحانه ـ: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45] .

ويقول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إيّاكم والحسد؛ فإن الحسدَ يأكلُ الحسنات كما تأكل النار الحطب» (?) .

ويقول البوصيري:

والنفسُ كالطفل إن تهملْه شبَّ على حُبِّ الرضاعِ وإن تفطمْه ينفطمِ

ويقول البحتري مادحاً:

دنوتَ تواضُعاً وعلوتَ قدراً فشأناك ارتفاعٌ وانخفاضُ

كذاك الشمسُ تبعدُ أن تُسامَى ويدنو الضوءُ منها والشعاعُ

ويقول بشّار بن بُرد يصفُ معركة:

كأنّ مُثارَ النَّقعِ فوقَ رؤوسِنا وأسيافَنا ليلٌ تهاوى كواكبُه

- وانظر تلك الاستعارات الجميلة:

يقول ـ سبحانه ـ: {وَالصُّبْحِ إذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18] .

وقال ـ تعالى ـ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] .

وقال -صلى الله عليه وسلم-: «بُنِي الإسلامُ على خمس....» (?) .

وفي الشعر: قال أبو ذؤيب الهذلي:

وإذا المنية أنشبت أظفارَها ألفيت كلَّ تميمةٍ لا تنفعُ

وقال التهامي يرثي ابنه:

يا كوكباً ما كان أقصرَ عمرِه وكذاك عمرُ كواكبِ الأسحارِ

ـ وهذا المجاز المرسل.

يقول ـ سبحانه ـ: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة: 19] . فهم يضعون أطراف أصابعهم فقط في آذانهم، لكن من شدة الخوف كأنهم يحاولون وضع كامل أصابعهم فيها.

ويقول ـ عز وجلّ ـ: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 17 - 18] . فهو لن يدعو النادي، وإنما سيدعو أصدقاءه من النادي، ولكن فليدع جميع الأصدقاء، وإن استطاع أن يأتي بالمبنى نفسِه فليأتِ به، وسوف يرى.

- تاسعاً: البديع:

- لا بأسَ في كلماتك بشيءٍ من البديع الجميل غيرِ المُتكلَّف، تشرئبُّ له أعناقُ المستمعين، ويترك للكلام وقعَه الأخّاذَ المبهرَ للنفوس، فالبديعُ في الكلام كالملحِ في الطعام، يعطيه طعماً لذيذاً.

ـ تأمّل هذه الفواصلَ البديعة في كتاب ربنا جل شأنه.

يقول ـ سبحانه ـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 - 4] .

ويقول ـ عز وجل ـ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 1 - 4] .

ـ وهذا السجع الجميل في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «.... اللهمّ أعطِ منفقاً خلفاً،.... اللهمّ أعطِ ممسكاً تلفاً» (?) .

ـ وهذا الجناس المبهِج في مثل قوله ـ سبحانه ـ: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55] .

ـ وهذا الطباق الأخّاذ في قوله ـ سبحانه ـ: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ} [فاطر: 19 - 22] .

ـ والتورية المشوّقة في قول أبي بكر عندما سأله رجل أثناء هجرته: من هذا؟ يعني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقال أبو بكر: هادٍ يهديني.

فلكلمة «هاد» معنيان: معنى قريب غير مقصود يفهمه المستمع، وهو «دليل» ومعنى بعيد مقصود، وهو من الهداية والإرشاد، وذلك لخوفه ـ رضي الله عنه ـ على حبيبه المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.

- عاشراً: الصدق:

- امزجْ كلماتِك بعاطفتِك الجيّاشة، وإحساسِك الصادق، فأنت منتبهٌ لما تقول، منفعلٌ به، متفاعلٌ معه.

تتحدّث عن الآخرة، وأمام ناظريك الجنة والنار كأنّك تراهما رأي العين، وعندما تصف معركةً، فإنك تستحضرها، وكأنك تخوض غمارها.

- وليخرجَ الكلام من القلب فأنت تمارس وتطبق وتعمل، لتتحدثَ عن قيام الليل تجعلُ لنفسك منه حظاً، ولتتكلمَ في صيام النفل فإن لك منه نصيباً، ولتلقي موعظةً في الموت فأنت من زوّار المقابر.

ساعتئذ سترى أثر كلماتك، وما خرج من القلب يصل إلى القلب.

ـ احذر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3] .

ـ ومن الكذِب حديثك في موضوعٍ تظهر فيه أنك عالمٌ به، ملمٌّ بأطرافه، وأنت لا تعلم عنه شيئاً.

ـ وأنت عندما تحاور أو تناظر أو تخاصم.. فإن هدفَك الأسمى هو الحقّ، فإن ظهر لك الحقُّ قبلتَه، وخضعتَ له. يقول الشافعيّ رحمه الله: «ما ناظرتُ أحداً قطّ إلا أحببتُ أن يُوفَّق ويُسدّد ويُعان، ويكونَ عليه رعايةٌ من الله وحفظ، وما ناظرتُ أحداً إلا ولم أبالِ: بيّن الله الحقَّ على لساني أو لسانِه» .

- والمؤمن لا يكذب أبداً، يقول -صلى الله عليه وسلم-: «يُطبَع المؤمن على الخلال كلها، إلا الخيانة والكذب» (?) .

الكذب على دين الله من أقبح المنكرات، قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن كذباً عليّ ليس ككذبٍ على أحد، فمن كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار» (?) .

بل ولا يكذب في المزاح، قال -صلى الله عليه وسلم-: «ويلٌ للذي يحدّث بالحديث ليضحك منه القوم فيكذب، ويلٌ له، ويلٌ له» (?) ، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: «إن العبدَ لَيقولُ الكلمة، لا يقولها إلا ليُضحكَ بها المجلس، يهوي بها أبعد ما بين السماء والأرض، وإن المرءَ ليزلُّ عن لسانه أشدّ مما يزلّ عن قدميه» (?) .

- لا تكثر من الأَيْمان في حديثك بغير داعٍ، فأنت صادقٌ لا تحتاج إلى اليمين إلا إذا أردت تأكيداً أو تحذيراً.

- حادي عشر: التضمين:

- ضمِّن كلامك آياتٍ كريمةً، وأحاديثَ شريفةً، وأشعاراً وحِكَماً وأمثالاً تزيّن الكلام وتجمّله وتدعّمُه، وتكسِبه تأثيراً وإقناعاً.

لا تكلم المتحدث فيما لا يعلمه: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] .

تقول للخائف على رزقه: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] .

تقول للمجاهر بفاحشته: «لو كان الحياء رجلاً لكان رجلاً صالحاً، ولو كان الفحشُ رجلاً لكان رجلاً سوءاً» (?) .

تُحدّث طالباً يريد النجاح ولا يذاكر:

ترجو النجاةَ ولم تسلكْ مسالكَها إن السفينةَ لا تجري على اليبسِ

تنظر أحوال أمتنا المسلمة:

من يهُنْ يسهلِ الهوانُ عليه ما لجرحٍ بميِّتٍ إيلامُ

ترى ازدحاماً على باب كريمٍ أو عالمٍ:

يزدحمُ الناسُ على بابِه والموردُ العذبُ كثيرُ الزحامِ

تُكلّم من يريدُ أن يبلغ أعلى مكانة:

تهون علينا في المعالي نفوسُنا ومن يخطبِ الحسناء لم يُغلها المهرَ

وإذا رأيت شخصاً يتبسّم لآخر، وأنت على يقينٍ أنه يُضمرُ له الشرّ:

إذا رأيت نيوبَ الليثِ بارزةً فلا تظنّنّ أنّ الليثَ يبتسمُ

ولو رأيت أحد الناجحين المجتهدين أخفق مرةً:

لكل جوادٍ كبوة، ولكل سيفٍ نبوة.

ولو جمع أحدُهم بين خصلتين رديئتين:

أحشَفاً وسوءَ كَيْلة؟

وإذا قصّر شخصٌ في أمرٍ طُلب منه، ولم يتقنه:

ما هكذا تُورَدُ يا سعدُ الإبلُ.

ولو سمعت من يعيبُ شعراً جميلاً أو عالماً جليلاً:

ومن يكُ ذا فمٍ مرٍّ مريضٍ يجدْ مُرا به الماءَ الزُّلالا

أو:

قدْ تُنكرُ العينُ ضوءَ الشمسِ من رمدٍ وينكرُ الفمُ طعمَ الماء من سقمِ

- ثاني عشر: وأخيراً:

هذه وصايا أخرى سريعة:

1 - كن واثقاً من نفسك عندما تتكلّم، لا تتلعثم مهما كان محدثُك، واحرص على عدم تكرار لفظ معيّن يدل على عدم تمكُّنك، مثل: آآ آ.. أم أم أم.

2 - تدرّب على الكلام الصحيح؛ فإنما العلمُ بالتعلُّم. قال أحد الحكماء: «اللسان عضوٌ؛ فإن مرّنته مرن، وإن تركته حرن» وقال آخر: «أخزى الله المساكتة، ما أفسدها على اللسان، وأجلبَها للعيّ» .

تمرّن وتمرَّس لترفعَ جوْدتَك؛ فإننا في حاجةٍ لتطوير أنفسِنا مدى الحياة.

شاركْ في البرامجِ والحوارات، والجرائدِ والمجلات فتنمو مهارتُك، وينتشر علمُك.

3 - نظّفْ قلبَك، فما في القلب يفضحُه اللسان، فاحذر الغشّ والحسد والحقد والكبر.

4 - لا تتكلمْ وأنت غضبان، فما يخرج عند الغضب لا تُحمد عقباه.

5 - أعطِ كلَّ موضوعٍ حقّه، فلا تكثرِ الكلام في موضوعٍ لا يستحقُّ على حساب الأهمّ.

6 - لا تخرج من موضوعٍ إلى آخر بدون نظام، فكثرةُ الكلام يُنسي بعضُه بعضاً.

7 - اجعل في كلامِك بعضَ الطُّرَف والمزح الجميلةِ الصادقة، يقول الشاعر:

والنفسُ تسأمُ إن تطاول جدُّها

فاكشف سآمةَ جدِّها بمزاحِ

8 - لا تفقدْ خلقَك مع من لا خُلُقَ لهم؛ فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما روت عائشة ـ رضي الله عنها ـ تقول: استأذن رجل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «بئس أخو العشيرة هو» فلما دخل انبسط إليه وألان له القول؛ فلما خرج قلت: يا رسول الله! حين سمعت الرجل قلت: كذا وكذا، ثم تطلَّقت في وجهه وانبسطت إليه، فقال: «يا عائشةُ! متى عهدتِني فاحشاً؟ إن من شر الناس عند الله ـ تعالى ـ منزلةً يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه» (?) .

9 - تعلّم قواعد لغتك، وأكثِر من القراءة في كتابِ ربِّك سبحانه، وحديثِ نبيِّك -صلى الله عليه وسلم-، واقرأ في كتب الأدباء شعرِهم ونثرِهم.. يستقمْ لسانُك.

10 - خالط الفصحاءَ والبلغاء، وعايشْهم، واسمعْ منهم، واحضرْ ندواتِهم ومحاضراتِهم ومحاوراتِهم.

11 - ربِّ ابنَك ومنْ تقومُ على تربيتِه، ربِّهم على مهارة الكلام، بتفهيمهم أهميةَ الكلام للإنسان، ثم بتدريبهم على القراءةِ أمامَ الآخرين، والخطابةِ، والمشاركةِ في إذاعةِ المدرسة، ومتابعة حسن الإعداد.

واحذر إذا أردتَ أن تعلّمه الجرأة أن تفرح له إذا سمعتَه صغيراً يسبُّ ويلعن، متعلّماً من بيته، أو أنّ تربيةَ الشوارع قد ملأت كيانه، ولكن بادر بالعلاج بحزمٍ وحكمة.

12 - حدِّد الهدفَ دائماً من حديثِك: أهوَ للتحفيز، أمْ للتسليةِ، أمْ للدعوةِ، أم لأخرى؟ وبتحديدِ الهدف يتحدَّد مسارُ الحديثِ وكيفيَّتُه.

13 - حاسب نفسك بعد كلِّ حديثٍ أو حوار، وانظر السلبيات لتتلافاها، تعلَّمْ من نفسِك ومن الآخرين، قلِّد الناجحين والمبدعين، طبِّق ما تعلمتَه بعد تعديله بما يناسب.

أخي:

أمسكْ عليك لسانَك، اشغلْه بالخير، مرِّنْه على الذوق.. تسلمْ ويسلمْ دينُك

طور بواسطة نورين ميديا © 2015