خالد أبا الخيل
يقول الله ـ عز وجل ـ: {بَلِ الإنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14 - 15] .
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: «أي هو شهيدٌ على نفسه عالم بما فعله ولو اعتذر وأنكر» (?) .
وهذه الآية فيها دِلالة ـ أيضاً ـ على أنه لا أحد أعلم بخبايا النفس بعد الله ـ سبحانه وتعالى ـ إلا صاحبها. ولذا كان من المطالب الشرعية أن يسوس الإنسان نفسه، ويعاركها في الحياة معركة بعد أخرى حتى تنقاد ويسلس قيادها. وليس هذا بالأمر الهيِّن السهل حتى يستطيعه كل الناس، وإنما هو طريقٌ طويل محفوفٌ بالمكاره. ومصداق ذلك في كتاب الله ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] ، فاشترط ـ سبحانه ـ لهداية السبيل أمرين اثنين:
أولهما: أن تجاهد نفسك وتروضها على طاعة الله تعالى.
وثانيهما: أن يكون ذلك كله في ذات الله تعالى؛ لا تبتغي به عرضاً من الدنيا أو فُتاتاً من حطامها.
والسر في ذلك ـ والله أعلم ـ أن هداية السبيل ولزوم المحجة أمرٌ عزيز لا يمنحه الله ـ عز وجل ـ إلا من يُحِب، وظهرت منه الدلائل على صدق المحبة.
وفي هذه الوقفات أحاول جاهداً أن أبحث في العوامل التي بها ـ بعد توفيق الله للعبد ـ يبني الإنسان نفسه بناءً إيمانياً تستقيم معه حياته الدنيوية والأخروية.
ولمَّا كان من المقرر عند أرباب الفقه والسلوك أن التخلية قبل التحلية رأيت أن أبدأ بجوانب التخلية. والتي منها:
1 ـ المطامَنة من كبرياء النفس، وإيقافها على عثراتها المستورة، والعلم بأن من لطف الله ـ سبحانه ـ بالعبد أنه سترَ هذه العيوب عن الناس. وتشتد الحاجة إلى هذا المطلب حين ترنو النفس إلى الزهو والعُجْب، وخاصة حينما يسمع المرء ثناء الناس عليه.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ من ذلك أمراً لم أشاهده من غيره، وكان يقول كثيراً: ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا فيّ شيء. وكان كثيراً ما يتمثل بهذا البيت:
أنا المُكدِّي وابنُ المكدي وهكذا كان أبي وجدي
وكان إذا أُثني عليه في وجهه يقول: والله إني إلى الآن أجددُ إسلامي كل وقت، وما أسلمت بعدُ إسلاماً جيداً» (?) .
وتصور أخي الكريم حجم شخصية شيخ الإسلام، وتاريخه الجهادي، وما حصل له من مناظرات ومشاهد كثيرة، وكلها ينتصر فيها على أعدائه وكائديه، وأضف إلى ذلك ثناء الناس عليه في عصره من علماء وعامة، واحتفاءهم به، ثم تأمل قدر نفسِه عنده من خلال كلامه السابق لترى ترويضاً للنفس ومطامنة لكبريائها وزهوها، وعندها ستكتشف السر في القوة العلمية والعملية لهذا الأنموذج اللامع، والشخصية العظيمة.
ولمَّا كان من المعلوم بداهة أنك ـ أيها المسلم ـ أعلم بنفسك من غيرك، وجب أن تعي أن الناس قد يمدحونك في يومٍ من الأيام، بل قد يُفرطون في رفعك على ملأ من الناس، وفي المقابل قد ينتقصونك يوماً أو أياماً، ويخفِضون من قدرك، ولكن أعلم أن كل هذا لا يُثقِّل ميزانك يوم القيامة. وما تعلمه من جنوح نفسك، وعثراتها المستورة، وخبايا السوء فيها هو الذي سيحاسبك الله عليه يوم القيامة. فإذن لا تقْدُر نفسك كما يقدرها الآخرون، ولا تحسن الظن بها وإن تكاثر وتتابع مدح الناس لك.
ومن جميل ما يذكر في هذا الباب قول ابن حزم ـ رحمه الله ـ حينما أراد أن يُعدد عيوبه، وكيف تغلّب عليها، قال: ومنها ـ أي عيوبه ـ عُجبٌ شديد، فناظر عقلي نفسي بما يعرفه من عيوبها حتى ذهب كله، ولم يبق له والحمد لله أثر، بل كلّفت نفسي احتقار قدرها جملة واستعمال التواضع (?) .
وكان السلف ـ رحمهم الله ـ لغاية فقههم وتمام تدينهم ينفِرون من مجالس الشهرة ومشاهد الثناء، ويحذرون منها.
قال أيوب: ما صدقَ عبدٌ قط فأحب الشهرة (?) .
وقال ابن المبارك: قال لي سفيان: إياك والشهرة؛ فما أتيتُ أحداً إلا وقد نهى عن الشهرة (?) .
وقال بشر الحافي: ما اتقى الله من أحب الشهرة (?) .
ولهذا كان من المُهِم في حياة الداعية أن يعي خطر هذا المزلق، وأن يرقب القصد الصالح في دعوته؛ وذلك كل لحظة من عمره.
ومن أعظم الانحراف في القصد أن يبتغي الداعي في دعوته كسب الأتباع، وحصول المزايا لشخصه من الإجلال والتقدير، وهذا مدخلٌ عظيم من مداخل الشيطان.
2 ـ العزلة بالنفس عن فضول المخالطة، ودوام المجالسة.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «قسوة القلب من أربعة أشياء ـ إذا جاوزت قدر الحاجة ـ: الأكل، والنوم، والكلام، والمخالطة» (?) .
وصدق ـ رحمه الله ـ فليس أنفع للنفس، وأصفى للقلب من العزلة المعتدلة التي لا يُراد منها تنصلاً من تكليف، أو هروباً من ضغط الواقع وواجباته.
والعزلة ـ بالأوصاف السابقة ـ مهمة للداعية والمربي؛ فهي بالإضافة إلى كونها توقف الداعية على حقيقة نفسه، تهيئ له مناخاً صحياً لاختيار الرأي الصواب البعيد عن المؤثرات الخارجية من شغب الجماهير، ومحاكاة الأقران، وغير ذلك.
قال ـ تعالى ـ: {قُلْ إنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ} [سبأ: 46] .
وفي هذه الآية يأمر ـ سبحانه ـ كفار قريش ومن كابر عن الحق بأن ينفصل من مؤثرات الجماهير، ويخلو بنفسه أو مع صاحبه حتى يتبين له الحق؛ وذلك لأن من ألف المخالطة ـ في أيامه كلها ـ خمدت أدوات التفكير لديه، بل ويأسن عقله كما يأسن الماء، ويصبح ـ مع الزمن ـ خامل الفكر، تابعاً في رأيه، متردداً في اختيار قراراته، مراوغاً من تحمل تبعاتها.
فائدة: قال نعيم بن حماد: كان ابن المبارك يكثر الجلوس في بيته، فقيل له: ألا تستوحش؟ فقال: كيف أستوحش وأنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه (?) .
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: حدثني بعض أقارب شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ قال: كان في بداية أمره يخرج أحياناً إلى الصحراء يخلو عن الناس لقوة ما يرد عليه، فتبعته يوماً فلما أصحرَ تنفس الصعداء، ثم جعل يتمثل بقول الشاعر ـ وهو لمجنون ليلى ـ من قصيدته الطويلة:
وأخرجُ من بين البيوت لعلني أحدِّث عنك النفس بالسر خاليا» (?)
إنه مشهدٌ من البهاء كبير حينما يبلغ حب العبد لخالقه هذا المبلغ، فيخلو بربه، معترفاً بذنوبه بين يديه، آنساً بذكره، متبصراً في أدواء نفسه.
وإن هذه الخلوات بصفائها، ونقائها، وجمالها لتُخرجُ للأمة قادةً ربانيين، متجردين من حظوظ أنفسهم، وشهواتها، في سبيل النهوض بالأمة، والرفع من شأنها.
وهنا تتجلى لنا الحكمة في موقف المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، حينما كان يخلو بربه في غار حراء استعداداً لتلقي القول الثقيل، وتحمل التضحيات لأجله.
ولابن القيم ـ رحمه الله ـ كلام جميل في تقسيم المخالطة. قال (?) : الاجتماع بالإخوان، قسمان:
أحدهما: اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت؛ فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه أنه يفسد القلب، ويضيع الوقت.
الثاني: الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحق والصبر؛ فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها، ولكن فيه ثلاث آفات: إحداها: تزيُّن بعضهم لبعض. الثانية: الكلام والخلطة أكثر من الحاجة. الثالثة: أن يصير ذلك شهوة وعادةً ينقطع بها عن المقصود.
- جانب التحلية:
وهنا نذكر أربعة أمور تساهم بعدما سبق في بناء النفس بناء إيمانياً:
1 ـ الإكثار من عمل السر؛ وهذا من دلائل صدق المحبة لله تعالى، ومن أمارات الإخلاص التي يجب على المسلم أن يتلبس بهذه الصفة، ولا أشق على النفس من عمل السر؛ لأنها ليس لها حظٌّ منه، كما قال بعض السلف.
ولعمل السر ثمرات كثيرة، منها:
أ - أن من كان هذا شأنه في جل أعماله الصالحة فإنه يكسب رصيداً كبيراً من الثبات يكون ذخيرة له أيام النوائب والمصائب، ومن هنا نفهم سر ذلك التحول الكبير الذي يلحق ببعض المنتسبين إلى الخير والصلاح حينما يصابون بأزمة أو ضائقة؛ وذلك أنه ليس عندهم من العمل الصالح ما يتكئون عليه ـ بعد رحمة الله وتوفيقه ـ.
ب ـ أن عمل السر يعتبر ميزاناً يزن به العبد صواب طريقه أثناء سيره إلى الله تعالى؛ فإذا رأى المسلم من نفسه قوةً ونشاطاً في عمل الجهر، ويقابله ضعفٌ وفتورٌ في عمل السر فليتهم نفسه، وليعلم ـ حينها ـ أنه لم يسلم من بُنيَّات الطريق.
ج ـ حياة شجرة الإخلاص في القلب؛ وذلك أنه لا شيء يعدل عمل السر في إنماء هذه الشجرة، وسقيها وتقويتها.
2 ـ تعويد النفس على صدق اللجوء إلى الله ـ تعالى ـ والانطراح بين يديه؛ وذلك في كل ما نحتاجه من أمور الدين والدنيا، وقد يكون هذا أمراً بدهياً؛ إلا أنه ـ بكل أسف ـ مما يغفل عنه عامة الناس وخاصتهم، فترى حال الكثير منا ـ حينما تنتابه النوائب ـ يطرق كل باب إلا باب الله تعالى، وإن لجأ إلى الله؛ فعن غير يقين بزوال المكروب، ولا يحتقر الإنسان نفسه لكثرة تفريطه في حق الله تعالى؛ فإن الله ـ عز وجل ـ لا يتعاظمه سؤال سائل؛ فإذا صدق العبد في المسألة، ووصل إلى درجة المضطر، وأيقن أنه لا كاشف للبلوى إلا هو ـ سبحانه ـ جاء الفرج ممن بيده كل شيء، وله كل شيء.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: لا تسأم من الوقوف على الباب ولو طُردت، ولا تقطع الاعتذار ولو رُددت؛ فإن فُتح الباب للمقبولين دونك فاهجم هجوم الكذابين، وادخل دخول الطفيلية» (?) .
ومما يساعد في توثيق صلة العبد بخالقه ـ سبحانه ـ معرفة أسماء الله وصفاته، والتأمل في معانيها، وتقليب النظر في لوازمها وآثارها، وهذا له أثرٌ ظاهر في ربط القلب بالله، وقطع العلائق بالمخلوقين.
فائدة: قال ابن القيم: «ومن تجريبات السالكين التي جربوها فألْفَوْها صحيحة: أن من أدمن: «يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت» أورثه ذلك حياة القلب والعقل. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ شديد اللهج بها جداً. وقال لي يوماً: لهذين الاسمين ـ وهما الحي القيوم ـ تأثيرٌ عظيم في حياة القلب» (?) .
3 ـ استدامة الذكر في كل الأحوال حتى يكون للإنسان عادة يألفها ولا ينفك عنها. والذكر يجلب الطمأنينة إلى القلب، ويضخ فيه دم القوة والثبات، كما قال ـ تعالى ـ: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] ، بل هو من أعظم وسائل الثبات والتماسك في الأزمات والنكبات. قال ـ تعالى ـ: {إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الأنفال: 45] .
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «السابعة عشرة [من فوائد الذكر] : أنه قوة القلب والروح، فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته. وحضرتُ شيخ الاسلام ابن تيمية مرةً صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله ـ تعالى ـ إلى قريبٍ من انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ، وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغدَّ الغداء سقطت قوتي. أو كلاماً قريباً من هذا. وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لأستعد بتلك الراحة لذكرٍ آخر، أو كلاماً هذا معناه» (?) .
4 - تحديد الأهداف ورسمها على مدى العمر رسماً دقيقاً.
والقصد من هذا أن نتجنب السلبية والفوضوية لنتحول إلى الإيجابية والتنظيم، واستشعار قيمة الوقت.
ولنعلم أنه إذا اعتادت النفس على أن لا تتحرك في أي اتجاه إلا نحو هدفٍ مرسوم فإنها ـ والحالة هذه ـ ستبدأ باستشعار قيمة الوقت، وسترى منها تململاً حين ضياع الوقت الطويل من غير هدف، ونفرة من مجالس البطالة واللهو، وميلاً إلى مجالس الجد والخير. وهذه لذاتها منزلة رفيعة ينبغي أن نسعى إلى بلوغها.
ولذا فغياب الهدف عن حياة الناس (?) يمثل أزمة حقيقية في الوعي يحسن بالمربين وأهل التربية أن يعتنوا بهذا الجانب، ولا نجاوز الحقيقة إذا قلنا إن من ضمن المحاور التربوية التي لم تأخذ حقها من الدراسة والإثارة: كيف نصنع الهدف في حياة الناس؟
وهذا لا يمنع وجود الكثير ممن يبحث عن تحقيق هدف ما، لكنه لم يحقق ما يريد، فانتهى الزمن ولم يحصل الهدف!! وشاهد ذلك ما نراه من شتات الجهود، ورجوع الكثير من منتصف الطريق في كثير من المشاريع العلمية أو الدعوية، ونسي أولئك عامل الزمن في الوصول إلى الهدف.
وليس القصد هنا بحث موضوع الهدف، وإنما الإشارة إلى أهميته، وافتقارنا إلى صناعته ونشره بين عامة الناس وخاصتهم.
وبعد: فقد يتساءل بعضهم: لماذا كل هذه التقاسيم لبناء النفس وهي لم توجد في أدبيات السلف، وإنما غاية أمرهم أن يسمعوا آية من كتاب الله ـ تعالى ـ فتتحول حياتهم رأساً على عقب؟
والجواب أن يقال:
أولاً: لا شك أن هذه موجودة في تطبيقات السلف وإن لم يوجد كلام نظري تفصيلي يُمثِّلها.
وثانياً: لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أننا نعيش في عصرٍ يختلف عن عصر السلف؛ فنحن في زمانٍ صعب، صعبٍ بحياته الاجتماعية، صعب بنظمه وسلوكياته، صعب بتقلب معاييره، صعب بالانفتاح الذي يلف حياة الناس كلهم؛ ونتيجة لذلك كله أصبحنا نعاني من جفاف ماديٍ رهيب يحكم طوقه على مساحات واسعة من حياتنا.
ولذا لا بد من استعمال كل طريق مشروع في الوصول بهذه النفس إلى ما يرضي خالقها قبل أن تقدم عليه.
هذا؛ ونسأل الله ـ سبحانه تعالى ـ أن يأخذ بأيدينا إلى الخيرِ والسداد، وأن يثبتنا على قوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.