أ. د. سليمان بن حمد العودة
حدثٌ عظيم من أحداث السيرة النبوية نتوقف عنده، وكلُّ السيرة النبوية تستحق الوقفة والتأمل، حادثةٌ يحتاج كل مسلم أن يقرأها، ويحتاج العلماء والقادة والدعاة وطلبة العلم والمفكرون أن يتوقفوا عندها مليّاً يستلهمون عِبرها، ويعون فقهها ودلالتها.
إننا نحتاج إلى فقه السيرة في كل حين، ولكن حاجتنا إليها في وقت الأزمات والشدائد أشد، ونحتاج إلى (فقه الحديبية) في كل حين، ولكن حاجتنا إليها أشدّ في زمان تفوُّقِ الخصوم، وضعف المسلمين، وضرورة الخروج من المأزق بسلام، وتحقيق أكبر قدر من المكاسب بأدنى الخسائر بسياسة ووعي، وتحويل الهزيمة إلى نصر، والدنيَّة في الظاهر إلى فتح مبين على صعيد الواقع.
الحديث عن صلح الحديبية وإن شئت فقل (فتح الحديبية) وإن شئت فقل (الفتح المبين) أو (فتح الفتوح) يفتح لنا نوافذ في (فقه التعامل مع الآخرين) ويرشدنا إلى المبادرات الواعية والتخطيط العميق والتحوُّط للسلامة، والأخذ بالأسباب المشروعة، وإلى اتهام أنفسنا ومراجعة مواقفنا على ضوء هدي المرسلين.
صلح الحديبية (درسٌ في الأخلاق النبوية) و (فصْلٌ حكمٌ في العلاقات الدولية) و (فيصل في تحقيق وتطبيقات الولاء والبراء) و (نموذج رفيع في تحقيق المصالح العليا، وإنْ صاحَبَها شيءٌ من التنازلات الدنيا) .
والحديث عن (فقه الحديبية) لا يعني ترسيخ مفهوم (التنازل) عن مسلَّمات الدين، ولكنه درسٌ عملي في (فقه التنازلات أو الموازنات) متى وكيف تكون؟ ولا يعني قبول (الدنية في الدين) بل هو اختيارٌ واعٍ للسياسة الشرعية التي تحقق أعلى المكاسب للإسلام والمسلمين.
(فقه الحديبية) يحسم جدلاً بين نظرتين (جافية، وغالية) ويرسم منهجاً (وسطاً) لتحقيق (مفهوم الولاء والبراء) بين طرفي نقيض لا يُقيم أحدهما وزناً لأحكام الشريعة ومدلولات العقيدة في هذا الأمر المهم من الدين، ويُغالي طرفٌ أخر فيعتبر كلّ تصرفٍ وكلّ تعاملٍ مع الكفار هادماً لأسس الولاء نابذاً لمفهوم البراء.
ما أحوجنا إلى التوسط والاعتدال (وهي سمة أمتنا، وشعار ديننا) وإذا اختلفنا كان هديُ رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- حَكَماً بيننا.
تعالوا لنقرأ قراءة واعية متأملة شيئاً من أحداث قصة الحديبية عبر عددٍ من الوقفات والدروس حتى نضبط مواقفنا، ونقتدي بقدوتنا رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم-.
1 ـ المبادرة الواعية:
عجباً لك يا محمد! وأنت تباغِتُ قريشاً في عُقر دارها وتبادرها وتتجاوز تهديدها وتحزُّبَ أحزابها. أجل! لقد أطبق المشركون والأحزاب على المدينة في شوال من السنة الخامسة، وكانوا يرومون أن تكون وقعة الخندق نهايةً للإسلام والمسلمين، وقد بلغ الكربُ بالمسلمين إلى الحد الذي قال الله عنه: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا} [الأحزاب: 10 - 11] ، وردَّ الله الأحزاب عن المدينة بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال؛ لكن أن تكون هذه الغزوة آخر غزوة للمشركين على المدينة؛ فتلك آية، وأن يصدق فيهم حديثه -صلى الله عليه وسلم-: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا؛ نحن نسير إليهم» (?) ؛ فتلك من علامات النبوة.
ولكن الأمر أعجب حين يستعدُّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لمبادرة المشركين، ويخرج بالفعل في ذي القعدة من السنة السادسة متجهاً إلى مكة (عام الحديبية) .
نعم! إن (المبادرة) نهجٌ في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن تأمل، وهي تبدو واضحة المعالم فيما نحن بصدده من (صلح الحديبية) .
والمبادرة إجمالاً ليست خروجاً من المأزق فحسب، بل إرباكاً لسياسة العدو وإحباطاً لمخططاته. وحين ملك المسلمون زمام المبادرة ـ فيما مضى ـ كانوا سادة الدنيا، وعدوّهم يتخوفهم ويحسب لهم ألف حساب، وحين فاز بالمبادرة الأعداء باتوا يفاجئون المسلمين هنا وهناك، ويصيبونهم بالنازلة تلو الأخرى؛ فهل نعي ونقدر قيمة المبادرة؟ وكيف كانت سياسته -صلى الله عليه وسلم- للمباغتة؟
2 ـ التخطيط لمباغتة العدو:
استطاع رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- بقوة يقينه وتوكله على الله وحسن سياسته وعميق تخطيطه أن ينجح في مباغتة عدوه:
أـ فهو حين أراد الخروج للحديبية استنفر العرب كافةً للخروج، وجيّشهم للذهاب معه إلى مكة؛ حتى إذا أبطأ عليه المخلَّفون من الأعراب الذين تشاغلوا بالأهل والأموال، وظنوا ظن السوء أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً، لم يتأخر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن مشروعه، بل خرج بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب، كما قال ابن إسحاق (?) .
ب ـ وأعلن في خروجه أنه يريد تعظيم البيت والطواف به، ولذا أحرم بالعمرة من ذي الحليفة وقلّد هديه وأشعره، ومهما استكبرت قريشٌ في رفض حقِّ المسلمين في قصد البيت الحرام؛ فالعرب عامة تنكر الصدّ عن البيت لمن قصده؛ بل وفي بعض حلفاء قريش وأتباعها متألهون يستعظمون ردّ من أشعر الهدي وقلَّده، وفي قصة بعث قريشٍ (الحُلَيْس بن علقمة الكناني) سيد الأحابيش ما يشهد لذلك، وقد تأثر بمشهد الهدي المقلّدة حين رآها وقال لقريش: «ما أرى أن يُصَدوا عن البيت» (?) ، فردت عليه قريش بكبرياء وغطرسة: (اجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك) فغضب (الحُلَيْس) وقال: يا معشر قريش! والله ما على هذا حالفناكم! أيُصدُّ عن بيت الله من جاء معظِّماً له؟ والذي نفس الحليس بيده! لَتُخَلُّنَّ بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرنَّ بالأحابيش نفرةً رجلٍ واحد» ، قالوا: مَهْ، كُفّ عنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.
وهكذا نجح رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- في هذه المباغتة المخطط لها في خلق أجواء المنافرة والاختلاف بين (الخصوم) وتلك واحدةٌ من آليات التخطيط لإضعاف الخصوم.
ج ـ وفي سبيل التخطيط للمباغتة لم يتحرك رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- دون علم بواقع عدوِّه، بل كان الرصد واستنفار العيون لتكون المباغتة مدروسة، والخِطة متكاملة، والمعلومات دقيقة ومتوفرة، وقد كان؛ فمِن (ذي الحليفة) بعث (بشر بن سفيان الخزاعي) عيناً له إلى قريش ليأتيه بخبرهم (?) .
وعندما وصل المسلمون (الروحاء) (على بعد 73 كيلو متراً عن المدينة) جاءه نبأ عدوٍ بـ (غَيْقَة) فبعث إليهم بعض أصحابه، وعندما وصلوا (عُسفان) (على بعد 80 كيلو متراً من مكة) جاءهم سفيان بخبر قريش. وهكذا يعتمد النبي -صلى الله عليه وسلم- على المعلومة والرصد الدقيق للتعرف على عدوّه، وهذا سبقٌ للمسلمين في الرصد والتحري وقيمة المعلومة في كل حال لا سيما في التعامل مع الأعداء.
وفي الجملة فقد استطاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمبادرته وتخطيطه أن يُحطِّم كبرياء قريش، وأن يشعرهم بقوة المسلمين؛ إذ أضحت خيلهم على مقربة من مكة، وجُنّ جنون قريش وطار صوابها، ثم تنادوا وتواصوا ألا تسمع العرب أن محمداً دخل عليهم مكة عنوة، ورضوا راغمين أن يدخلها عليهم في عام قابل. وكانت مبادرة الحديبية ـ بحق ـ مسماراً يُدَقُّ في نعش الملأ من قريش، وبداية النهاية للمستكبرين، وكانت للمسلمين مقدمة للنصر، مؤذنة بالفتوح، كيف لا وقد سماها الله فتحاً مبيناً، ثم كانت بداية لفتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجاً، بل بوابة ومنطلقاً لفتوح أخرى.
3 ـ التحوّط للسلامة والأخذ بالأسباب المشروعة والحربُ ليست هدفاً بذاتها:
ومحمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مؤيَّدٌ من ربّه ولكنه مُعلِّمٌ لأمته، ولذا يحتاط في أموره ويأخذ بالأسباب المشروعة، وهو داعيةٌ للإسلام ويجنح للسلام، لا يتعطش للدماء بل يعظم ما حرم الله، ولذا نجده في صلح الحديبية يُصلي بأصحابه صلاة الخوف في عُسفان حين بلغه قرب خيل المشركين (?) .
وليتفادى الاشتباك مع المشركين سلك طريقاً وعرة عبر ثنية المرار (مهبط الحديبية) وعندما بركت ناقته القصواء في الحديبية وقال الناس: خَلأَت القصواء، قال: «ما خلأت، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألونني ـ يعني قريشاً ـ خُطة يعظِّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» (?) .
ورغم عدوان قريش وكبريائها فقد ظل -صلى الله عليه وسلم- حريصاً على إسلامهم، مفضلاً حقن الدماء بينه وبينهم، متحسراً على أكل الحرب لهم، وقد عبّر -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك كلّه بقوله: «يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب؛ ماذا عليهم لو خلُّوا بيني وبين سائر الناس؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وهم وافرون» (?) .
4 ـ التعامل مع الكفار، ومتى يُستعان بالمشرك؟
يحسب من لا فقه عنده أن أي تعامل مع المشركين هو في حساب التنازلات المرفوضة، وأن أي تعاونٍ مع نفر منهم هو مناقضٌ للبراءة منهم، وأن أي استجابة لمطالبهم تعد نقيصة في الدين، وضعفاً في التعامل معهم، ولكن سيرة محمد -صلى الله عليه وسلم- تصحح هذا المفهوم، وفي صلح الحديبية استعان رسول الله بالمشركين، وأعلن استجابته لمطالب الكافرين؛ فكيف وقع هذا وذاك؟
لقد كان (بشر الخزاعي) عينَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المشركين، وهو لم يُسلم بعدُ، بل كانت (خزاعة) عيبة نصح رسول الله (ü) (مسلمهم وكافرهم) لا يخفون عليه شيئاً كان بمكة (?) .
قال ابن القيم معلقاً: وفي قصة الحديبية من الفقه أن الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة؛ لأن بشر الخزاعي كان كافراً إذ ذاك، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو، وأخذه أخبارهم (?) .
وقال الحافظ ابن حجر معلقاً على قول (بُديل بن ورقاء الخزاعي) ناصحاً للنبي -صلى الله عليه وسلم- حين خرج عام الحديبية: لقد غزوت ولا سلاح معك، فقال: لم نجئ لقتال، فتكلم أبو بكر، فقال بُديل: أنا لا أُتَّهم ولا قومي» ، قال ابن حجر: والحديث فيه جواز استنصاح بعض المعاهَدين أهل الذمة إذا دلت القرائن على نصحهم، وشهدت التجربة بإيثارهم أهل الإسلام على غيرهم، ولو كانوا من أهل دينهم، ويستفاد منه: جواز استنصاح بعض ملوك العدوّ استظهاراً على غيرهم، ولا يعدُّ ذلك من موالاة الكفار ولا موادة أعداء الله، بل من قبيل استخدامهم وتقليل شوكة جمعهم، وإنكاء بعضهم ببعض، ولا يلزم من ذلك جواز الاستعانة بالمشركين على الإطلاق (?) .
أما استجابته -صلى الله عليه وسلم- لأي طلب من المشركين تُعظَّم فيه حرمات الله كما سبق فقد علق عليه ابن القيم ـ كذلك ـ بقوله: ومن الفوائد في صلح الحديبية أن المشركين وأهل البدع والفجور والبغاة والظلمة إذا طلبوا أمراً يعظمون فيه حرمةً من حرمات الله ـ تعالى ـ أجيبوا إليه وأُعطوه وأعينوا عليه، وإن منعوا غيره، فيُعانون على ما فيه تعظيم حرمات الله لا على كفرهم وبغيهم، ويُمنعون مما سوى ذلك؛ فكل من التمس المعاونة على محبوبٍ لله ـ تعالى ـ مُرْضٍ له أجيب إلى ذلك كائناً من كان ما لم يترتب على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه، وهذا من أدق المواضع وأصعبها وأشقها على النفوس، ولذلك ضاق عنه من الصحابة من ضاق، وقال عمر ما قال، حتى عمل له أعمالاً بعده (?) .
5 ـ فقه التنازلات، أم فقه الموازنات؟
ليس كل تنازل للأعداء مرفوضاً، وليست كل استجابة لمطالبهم أمراً منكَراً؛ والفقه في ذلك تحقيق أعلى المكاسب بأدنى التنازلات، والوصول إلى الخير المحبوب وإن مرّ ببوابة المبغَض المكروه، والموازنة بين المصالح والمفاسد. والمتأمل في شروط الحديبية يرى فيها الغبن والحيف ظاهرين على المسلمين من الكافرين في إملاء الشروط؛ ألم يمنعوا المسلمين من كتابة (بسم الله الرحمن الرحيم) وقالوا: لا نعرف إلا رحمان اليمامة، ولكن اكتب: باسمك اللهم، فرفض المسلمون وأقرها النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم رفضوا كتابة (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله) ، وقالوا: لو نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إني رسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله، وكانت هذه الاعتراضات منهم (حميةً جاهلية) كما أخبر الله عنهم في كتابه، وإلا فقد تحققوا صدقه -صلى الله عليه وسلم-، وأيقنوا صحة رسالته بالبراهين التي رأوها وسمعوا بها (?) ، حتى إذا وصلوا إلى شرط: على ألا يأتيك منا رجلٌ وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، قال المسلمون: سبحان الله! كيف يُرَدّ إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟ وفي تلك الأثناء قدم (أبو جندل بن سهيل) يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين، فقال أبوه (سهيل) : هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن تردّه إليّ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إنّا لم نقض الكتاب بعدُ، فقال سهيل: إذاً والله لا أصالحك على شيء أبداً، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: فأجزه لي! فرفض سهيل، ثم استصرخ أبو جندل (المسلمين) وحرّك عواطفهم قائلاً: يا معشر المسلمين! أُرَدُّ إلى المشركين وقد جئت مسلماً، ألا ترون ما لقيت؟ وكان قد عُذِّب في الله عذاباً شديداً، فتأثر المسلمون، وكان عمر من أشدهم تأثراً حتى أتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا رسول الله! ألستَ نبي الله حقاً؟ قال: بلى! قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى! فقلت: علامَ نعطي الدنية في ديننا إذاً، ونرجع ولم يحكم الله بيننا وبين أعدائنا؟ فقال: إني رسول الله وهو ناصري، ولست أعصيه.
قال ابن القيم: ومن فوائد قصة الحديبية: أن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزة للمصلحة الراجحة، ودفع ما هو شرٌّ منه، ففيه دفعُ أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما (?) .
وهكذا يكون الفقه في التنازلات تحقيق المصلحة الكبرى، وإن وقع مفسدة أقل. وما أحوجنا إلى هذا الفقه! وهو الذي قال عنه ابن القيم: وهذا من أدق المواضع وأصعبها، وأشقها على النفس (?) .
نعم! إن رفض الآخر سهلٌ، والقطع بعدم التفهم والتعاون مع المخالفين لا يحتاج مزيد فقه، ولكن هل يحقق الخير المطلوب، وهل ينكأ العدو، وماذا يترتب عليه من المفاسد؟
تلك قضايا لا بد من إعادة النظر فيها في تعاملنا مع أعدائنا وتحقيق المكاسب لإسلامنا على هدي السيرة النبوية.
أما رسول الله محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد استسهل ما استصعبه غيره من المسلمين، وكان ينظر بنور الله إلى ما وراءه من الفتح العظيم، وقد كان، فحصل له العزّ حين صدق وانكسر لله، وذلّ غيرُه وقُهِرَ حيث طغى واستكبر (?) .
6 - اتهام النفس والرأي:
كم نزكي أنفسنا والله يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} [النجم: 32] وكم نصحح مواقفنا ونُخطِّئ غيرنا؛ وأحد الصحابة (سهل ابن حنيف، رضي الله عنه) يقول حين قدم من (صِفِّين) : اتَّهِموا الرأي؛ فلقد رأيتُني يوم أبي جندل (الحديبية) ولو أستطيع أن أردّ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره لرددت، واللهُ ورسولُه أعلم (?) .
إن حق المسلم أن يجتهد في رأيه، ولكن مع تقدير آراء الآخرين، وليس بالضرورة أن يكون اجتهاده هو الحق، بل قد يكون الحقّ مع مخالفيه، ولذا ينبغي ألا يشتط المسلم على إخوانه المسلمين، إن خالفوه الرأي، بل ينبغي أن يعود إلى نفسه ويتهمها، وليست القوة بالمعارضة أبداً، ولا يعني أن المسلم الموافق لغيره ضعيفٌ جبانٌ.
وفي تباين موقف الشيخين أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ في شروط الصلح ما يؤكد هذا؛ فعمر تأثر للشروط وعارض، وأبو بكر سلّم ورضي، وكان أقوى من غيره إيماناً وتسليماً؛ حتى قال ابن القيم: والصّدِّيق تلقَّاه بالرضى والتسليم حتى كان قلبه على قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وذلك يدل على أنه أفضل الصحابة وأكملهم وأعرفهم بالله ـ تعالى ـ ورسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأعلمهم بدينه وأقومهم بمحابِّه وأشدهم موافقة له (?) .
أجل لقد انبلج الصبح، وأصبح الصلح فتحاً، والغبن في الظاهر نصراً مبيناً، وعاد عمر إلى نفسه يؤنبها حتى كان يصوم ويتصدق ليكفِّر عما سلف منه، وهل كانت منك إلا غيرة على الإسلام يا ابن الخطاب؟ لكنه فهم ـ بعدُ ـ وفهم غيره من الصحابة أن الغيرة ينبغي أن تكون في مكانها، وإن اتهام النفس وارد، وإن التنازل إذا حقق مكاسب عليا فهو السياسة الشرعية والسنة النبوية التي ينبغي أن تقتفى، بل لقد أكرم الله المؤمنين بالنصر العزيز والسكينة المطمئنة كما أخبر في سورة الفتح.
قال ابن القيم: وتأمل كيف وصف ـ سبحانه ـ النصر بأنه عزيزٌ في هذا الموطن، ثم ذكر إنزال السكينة في قلوب المؤمنين في هذا الموطن الذي اضطربت فيه القلوب وقلقت أشدّ القلق، في أحوج ما كانت إلى السكينة، فازدادوا بها إيماناً إلى إيمانهم (?) .
7 ـ استثمار الفرص وتحييد الأعداء:
تحيُّن الفرصة المناسبة نجاح، والنجاح الأكبر استثمار الفرص المتاحة لمصلحة الإسلام والمسلمين، والمتأمل في سياق (قصة الحديبية) يرى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بارعٌ ومتفوق في استثمار الفرص، فلم يكن نجاحه في (شروط الحديبية) ليقف عند حدود (اعتراف) المشركين بالمسلمين كقوة كبرى تستحق أن يُفاوض معها، وتُهادن بعد أن كانت قريش تَغيرُ عليها متى شاءت، والعهد قريب بغزوة (الأحزاب) ، بل تجاوزت نجاحات النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك إلى (تحييد) قريش في معترك الصراع القائم آنذاك، وكبّلت قريش نفسها بهذه (المعاهدة) فلا تفكرُ بحرب المسلمين على الأقل (عشر سنين) وكان هذا نجاحاً وعمقاً في سياسة محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ وربما خفي على بعض أصحابه.
والنجاح الأكبر والاستثمار الأعظم هو استثمار النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذه الفرصة (الهدنة) وذاك (التحييد) ؛ فثمة خصوم آخرون لا بد من الالتفات إليهم والخلاص منهم، وثمة فرصٌ للدعوة لدين الحق هذا أوانها وميدانها، وقد كان. ففي الجانب الحربي غزا النبي -صلى الله عليه وسلم- (اليهود) في (خيبر) وأدّبهم، وغنم أموالهم وعقد الصلح معهم، وفي الجانب السلمي تقدمت (الدعوة) خطواتٍ في أرض الحجاز وما حولها، ودخل في دين الله ـ زمن الهدنة ـ أضعاف ما دخل من قبل. وعن هذه المكاسب الدعوية يقول الزهري ـ رحمه الله ـ: «فما فُتح في الإسلام فتحٌ قبله (صلح الحديبية) كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس؛ فلما كانت الهدنة ووُضعت الحرب، وآمن الناسُ بعضهم بعضاً، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يُكلَّم أحدٌ بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر» ا. هـ.
قال ابن هشام: «والدليل على قول الزهري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة ـ في قول جابر ـ ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف» (?) .
قال ابن القيم: «ومن حكم الصلح أن هذه الهدنة كانت من أعظم الفتوح؛ فإن الناس أمن بعضهم بعضاً، واختلط المسلمون بالكفار وبادؤوهم بالدعوة، وأسمعوهم القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وظهر من كان مختلطاً بالإسلام (?) .
لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قادراً على استثمار الفرص؛ وفي صلح الحديبية درس عظيم للمسلمين للحوار والدعوة واستثمار الفرص، وتحييد الأعداء وإسماع صوت الإسلام لمن يسمع.
8 ـ المستضعفون الأقوياء:
لا ينبغي لأحد أن يغترَّ بقوته، ولا ينبغي لمستضعف حيناً أن يظنَّ أن استضعافه إلى الأبد، وفي قصة الحديبية استقوى الضعفاء، بل كانوا سبباً لتراجع قريشٍ عن شروطها، ولقد كان أبو بصير (عُتبة بن أسيد الثقفي) وأبو جندل (ابن سهيل بن عمرو) و (الوليد بن الوليد بن المغيرة) نفراً من هؤلاء المستضعفين بمكة (?) .
فماذا كان من خبر قائدهم (أبي بصير) ؟ لقد فرَّ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة بعد توقيع الصلح مع قريش، فأرسلت قريش في طلبه، وما كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- بدٌّ من إرجاعه وإن أبدى للنبي -صلى الله عليه وسلم- تخوُّفه من فتنة المشركين وعذابهم، واكتفى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالقول له: «اصبر واحتسب؛ فإن الله جاعلٌ لك فرجاً ومخرجاً» . وخرج أبو بصير مع صاحبيه ليعود إلى مكة؛ فما جاوز المدينة بقليل ـ قيل: عند ذي الحليفة ـ حتى قَتَلَ أحد الرجلين، وفرّ الآخر هائماً على وجهه مستصرخاً بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فزعاً؛ إلى حد أنه كان يعدو عاضّاً على أسفل ثوبه، وقد بدا طرف ذَكَرِه، والحصا يطير من تحت قدميه من شدة عَدْوِه، وأبو بصير يتبعه (?) .
وحينها قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بصير: «ويلَ أمه! مِسْعَرُ حرب لو كان له أحد» ففهم أبو بصير هذه الرسالة، وانطلق إلى الساحل حتى نزل إلى (العيص) (على طريق أهل مكة إذا قصدوا الشام) ثم انضمّ إليه كل من فرّ من قريش من مستضعفي المسلمين بمكة، وشكّلوا هناك قوةً وخطراً على تجارة قريش، وهم خارج إطار الصلح حتى ضاقت قريش بهم، وطلبت من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُلغي الشرط الخاص بمن قدم إليه من المسلمين وأن يستقبل هؤلاء. وهكذا تقوّى هؤلاء الضعفاء بصدقهم وتضحيتهم وصبرهم وجهادهم، حتى كتب الرسول -صلى الله عليه وسلم- لهم بالقدوم عليه في المدينة ففرحوا، ولكن قائد المجاهدين أبا بصير لم تكتمل فرحته ولم يُقَدَّر له أن يلتقي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن خرج من المدينة؛ إذ جاءه كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بصير يموت (كما تقول الرواية) فمات وكتاب رسول الله في يده، فدفنه أبو جندل في مكانه، وقدم أصحابه الآخرون إلى المدينة. وكذلك يقوى الضعفاء، ويضعف الأقوياء، والله غالب على أمره.
قال الزهري: فعلم الذين كانوا أشاروا بأن لا يسلَّم أبو جندل إلى أبيه أن طاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيرٌ مما كرهوا (?) .
قال ابن القيم: وفي هذا من الفوائد جواز صُلح الكفار على ردّ من جاء منهم إلى المسلمين، وأن لا يرد من ذهب من المسلمين إليهم، هذا في غير النساء، وأما النساء فلا يجوز اشتراط ردِّهن إلى الكفار، وهذا موضع النسخ خاصة في هذا العقد بنص القرآن، ولا سبيل إلى دعوى النسخ في غيره بغير موجب (?) .
9 ـ العزة والثقة بنصر الله لا تفارق المؤمنين:
المؤمن لا تفارقه العزّة وإن استكبر واستنكف منه المجرمون، وهو واثقٌ بنصر الله لدينه وإن كانت الغلبة في الظاهر لغير المسلمين، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن (صالح) المشركين و (هادنهم) و (لاينهم) لمصلحة وحكمة؛ فلم تفارقه (العزة) منذ خرج وحتى عاد إلى المدينة:
أـ فهو حين خرج أهدى في جُملةِ هَدْيِهِ جملاً لأبي جهل في أنفه بُرَّةٌ من فضّة يغيظ به المشركين (?) ، وفيه استحباب مغايظة أعداء الله مُستدلاً بقوله ـ تعالى ـ: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29] ، وقوله ـ تعالى ـ: {وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ} [التوبة: 120] .
ب ـ وهو حين بعث عثمان ـ رضي الله عنه ـ إلى قريش كان من جُملة مهامه التي أوصاه بها أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين، ونساءً مؤمنات ويبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله مظهر دينه بمكة حتى لا يُستخفى فيها بالإيمان، وأن الفرج قريب، فأعلمهم عثمان بذلك (?) .
ج ـ وحين أشيع أن عثمان ـ رضي الله عنه ـ قُتل دعا المؤمنين معه إلى (البيعة) وكانت (بيعة الرضوان) على الجهاد والصبر وعدم الفرار، بل ورد أنها على الموت، والجمعُ وارد بين هذه العبارات (?) ، وكانت هذه البيعة منه -صلى الله عليه وسلم- ومن المؤمنين نصرة وعزة وانتصاراً لكرامة المسلم المظلوم، وإذلالاً ومعاقبة للظالم المعتدي، وقد رضي الله عن البيعة والمبايعين بنص القرآن الكريم، وما أحوجنا في زمننا المعاصر إلى معرفةِ حق المسلمِ ونصرته إذا اعتُدي عليه.
د ـ ومن قبل الصلح وبعده لم يفارق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثقته بنصرة الله لدينه وإظهاره على الدين كله، وتلك مهمة لا بد أن تُستحضر في نفوس المفاوضين والمحاورين؛ فالحوار شيء والثقة بنصر الله شيء آخر، لا تعارض ولا تضاد بينهما.
أجل لقد أنزل الله فيما أنزل في سورة (الفتح) : {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الفتح: 28] ؛ فقد تكفّل الله لهذا الأمر بالتمام والإظهار على جميع أديان أهل الأرض، وفي هذا تقويةً لقلوب المؤمنين وبشارة لهم وتثبيت، وأن يكونوا على ثقة من هذا الوعد الذي لا بد أن يُنجزه، فلا تظن أن ما وقع من الإغماض والقهر (يوم الحديبية) نصرة لعدوه، ولا تخلٍّ عن رسوله ودينه، كيف وقد أرسله بدينه الحق، ووعده أن يُظهره على كل دين سواه؟ (?) .
10 ـ حبل الإسلام ومودته أقوى من مودة القربى:
ما عرفت الدنيا رابطةً أقوى من رابطة العقيدة، ولا نسباً أعظم من نسب الإسلام، والذين جمعهم الإسلام مع رسول الله محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- كانوا يمثلون قبائل شتى، ولكنهم في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد، وكانوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على التقدير والتضحية بما لم تبلغه بلاطات الملوك والأمراء والعظماء؛ ذلك الذي اعترف به (عروة بن مسعود) حين قدم في الحديبية على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصحح فهمه الخاطئ حين قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- ـ في البداية ـ: أيْ محمد! أرأيت لو استأصلتَ قومك! هل سمعت بأحدٍ من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى (يعني الهزيمة على النبي -صلى الله عليه وسلم-) فوالله! إني لأرى وجوهاً، وأرى أوشاباً من الناس خليقاً أن يفرُّوا ويدعوك.
وهنا احتملت الغيرة أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ إذ تولى الرد على عروة فقال: امْصُصْ بَظْرَ اللات، أنحن نفرُّ عنه وندعه؟ و (البَظْر) قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة، وكانت عادة العرب الشتم بها، لكن بلفظ (الأم) ، فأراد أبو بكر المبالغة في سبِّ (عروة) بإقامة من كان يعبد مقام أمه؛ وذلك أن عروة نسب المسلمين إلى الفرار.
قال ابن حجر: وفيه جواز النطق بما يُستبشع من الألفاظ لإرادة زجر من بدا منه ما يستحق. وقال ابن المنير: وفي ذلك تخسيسٌ للعدو، وتكذيبهم وتعريض بإلزامهم من قولهم: إن اللات بنتُ الله ـ تعالى الله عن ذلك ـ ا. هـ.
وكم أنت عظيم يا أبا بكر: إن تكلمت فأنت شجاع، وإن سكتَّ فأنت راضٍ مسلِّم لأمر الله.
وفقه القصة (إجمالاً) كما قال الحافظ ابن حجر: أن العادة جرت أن الجيوش المجمّعة لا يؤمَن عليها الفرار؛ بخلاف من كان من قبيلةٍ واحدة؛ فإنهم يأنفون الفرار عادة، وما درى عروة أن مودة الإسلام أعظم من مودة القرابة، وقد ظهر له ذلك من مبالغة المسلمين في تعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم- (?) .
وفي التنزيل: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ، {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ} [الفتح: 29] .
11 ـ مفهوم القوة والضعف والمسامحة والشدّة:
الحدَّة والشِّدة والعنف والتشنج ليست بلوازم للقوة، والمسامحة والمهادنة، والتعقّل والمداراة ليست مؤشراتٍ للضعف، والأمور تختلف بأحوالها، والناجح من وظّف الموقف المناسب في الوقت المناسب؛ فليس الشديد بالصّرعة، وإن من البيان لسِحراً، وإذا لم يكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها، والمداراة من أخلاق المؤمنين، والمداهنة سِيما المنافقين.
ومن تأمل هديه -صلى الله عليه وسلم- ومواقفه في (الحديبية) وجدها محققة للغرض، وإن غلب عليها المسامحة والمفاهمة، ولذا قال العلماء بجواز بعض المسامحة في أمر الدين واحتمال الضيم ما لم يكن قادحاً في أصله؛ إذ تعين ذلك طريقاً للسلامة في الحال والصلاح في المآل، سواء كان ذلك في حال ضعف المسلمين أو قوتهم، وأن التابع لا يليق به الاعتراض على المتبوع بمجرد ما يظهر في الحال، بل عليه التسليم؛ لأن المتبوع أعرفُ بمآل الأمور غالباً بكثرة التجربة، ولا سيما مع من هو مؤيدٌ بالوحي (?) .
كم نحتاج إلى هذه القاعدة التي فصّلها الحافظ ابن حجر، وحدد فيها هدف المسامحة في الدين، ووقتها، وضوابطها، وموقف التابع والمتبوع منها.
وكم نحتاج قبل ذلك إلى الوقوف على نصوص الوحيين لمعرفة مفهوم الحق للقوة وأثرها، والواقع يشهد أن قوةً أدبيةً ومرافعة منطقية قد يستجيب ويخضع لها الخصوم، ولجاجاً ومهارشة وحُمقاً قد يتنافر منه الأقربون.
وإذا كان في (الرمي) قوةٌ؛ ففي برهان (الحجة) قوةٌ أخرى، والقوة المثمرة في استخدام أي منها عند الحاجة إليها، كما تثمر المسامحة أو الشدة إذا وضعتا في موضعهما.
12 ـ روائع للثبات على الحق، ونموذج لخذلان الباطل:
إنهما نموذجان مختلفان: نموذج الثبات على الحق رغم المكاره، ونموذج السقوط للباطل رغم الكبرياء. يمثل النموذجَ الأولَ أولئك الصحابةُ الذين أوذوا وعُذبوا بمكة؛ فلما حانت فرصة (الحديبية) خرجوا ليتنفسوا الحرية مع المسلمين، ولكن شروط الحديبية حالت بينهم وبين ما يشتهون، ولو كان عندهم أدنى شك في الدين لقال قائلهم، ها قد فعلنا الأسباب وصبرنا حتى عجزنا عن العذاب، أفنُرَدُّ مرة أخرى إلى الفتنة والأذى؟ ولكن الثبات على الحق والعزيمة على الرشد جعلت أمثال (أبي جندل، وأبي بصير) يفكرون تفكيراً آخر لا يخلصهم مما هم في من محنة؛ لا، بل يجبر قريشاً على أن تعيد حساباتها ـ وقد كان كما في تفصيل قصتهما ـ.
أما النموذج المقابل فسيدته قريش ممثلة بزعيمها آنذاك (أبي سفيان) الذي هُرع إلى المدينة يستعطف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في استقدام أبي بصير والمؤمنين معه؛ حيث ألحقوا بتجارة قريش الأذى، وهزّوا اقتصادها، وأخافوا أتباعها. ألا إن في مسارعة قريش لنقض شرط ردّ من جاء إليه مسلماً من مكة عبرة لكل طاغية يقف في طريق الإسلام وهو يحسب أنه قادر على الصدِّ عن دين الله، ونور الله نافذ وشريعته ماضية إلى يوم القيامة.
إنهما نموذجان مختلفان كاختلاف الحق عن الباطل، وتباين المسلم عن الكافر. ورغم شجاعة العرب في الجاهلية؛ فما شهدت هذا اللون من الشجاعة إلا بعد أن شعَّ نورُ الإسلام؛ حيث تجاوز رابطة القبيلة وحدود الوطن إلى فضاء أرحب وقيم أعلى.
13 ـ ولتكون آية للمؤمنين:
لا شك أن الله كان يحوط المؤمنين ويدافع عنهم، وهو الذي نصرهم ومكّن لهم، وجعل لهم من (عقد الحديبية) فتحاً مبيناً، وإلا فقد تعرضوا لخطر الأعداء، وكانت آيةً من الله؛ إذ كفّ الناس عنهم كما قال ـ تعالى ـ: {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 20] .
فقيل: أيدي (أهل مكة) أن يقاتلوهم، وقيل أيدي اليهود حتى همُّوا بأن يغتالوا مَنْ (بالمدينة) بعد خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمن معه من الصحابة منها، وقيل: هم أهل (خيبر) وحلفاؤهم الذين أرادوا نصرهم من أسد وغطفان.
قال ابن القيم: «والصحيح تناول الآية للجميع» (?) .
وقوله: {وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 20] ، أي ولتكون هزيمتهم وسلامتكم آيةً للمؤمنين، فيعلموا أن الله يحرسهم في مشهدهم ومغيبهم ـ قاله القرطبي (?) .
وقال ابن القيم: قيل هذه الفعلة التي فعلها بكم وهي كفُّ أيدي أعدائكم عنكم مع كثرتهم؛ فإنهم كانوا ـ أهل مكة ومَنْ حولها، وأهل خيبر ومَنْ حولها، وأَسَدٌ وغطفان، وجمهور قبائل العرب ـ أعداءً لهم، وهم بينهم كالشّامة، فلم يصلوا إليهم بسوء؛ فمن آياته ـ سبحانه ـ كفُّ أيدي أعدائهم عنهم، وتولي حراستهم وحفظهم في مشهدهم ومغيبهم (?) .
وفي المقابل كانت آية؛ إذ كفّ الله المسلمين عن دخول مكة؛ إذ حبس الناقة حابس الفيل، ولو دخل الصحابة ـ حينها ـ مكة، ثم صدّتهم قريش عن ذلك لوقع بينهم قتال قد يفضي إلى سفك الدماء، ونهب الأموال، لكن سبق في علم الله أنه سيدخل في الإسلام خلقٌ منهم، ويستخرج من أصلابهم ناس يُسلمون ويجاهدون؛ هذا فضلاً عن أنهم لو دخلوا مكة حينها لما أُمن أن يُصاب أناسٌ من المؤمنين المستضعفين من الرجال والنساء والولدان بغير قصد، كما قال الله ـ تعالى ـ: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الفتح: 25] .
إنها حكم باهرات وآيات بينات، والله يحكم ما يشاء وهو العليم الحكيم، وكما يكون في القتال من حكم ومصالح يكون في السّلم أحياناً حكم ومصالح.
14 ـ الفأل والظن الحسن:
كان -صلى الله عليه وسلم- يعجبه الفأل ويكره الطيرة والتشاؤم، وكان كذلك يحسن الظنّ بمن لا يُعهد منه السوء، وكذلك ينبغي للمسلمين أن يقتدوا بنبيهم؛ إذ الفأل يدفع للأمام، ويشحذ الهمم، والظنّ الحسن يُريح الصدور، وهو مؤشر إلى سلامة القلب.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: ومن فوائد (قصة الحديبية) استحباب التفاؤل، وأنه ليس من الطِّيَرة المكروهة لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لما جاء (سهيل) : «سَهُل أمركم» (?) .
أما حسن الظن فيظهر في تعامله -صلى الله عليه وسلم- مع مقولة المسلمين للناقة: (خلأت القصواء) ، وقوله ـ دفاعاً عنها، وتبريراً لحالها ـ: «ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلُق، ولكن حبسها حابسُ الفيل» .
قال العلماء: وفي ذلك جواز الحكم على الشيء بما عُرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ عليه غيره، فإذ وقع من شخص هفوة لا يُعهد منه مثلها لا يُنسب إليها، ويرد على من نسبه إليها، ومعذرة من نسبه إليها ممن لا يعرف صورة حاله (?) .
ما أحوجنا إلى هذا الأدب في حسن الظن والتعامل مع الأخطاء مع البشر إنه لا يعني التغفيل لكنه حسن ظن، وإقالةٌ للعثرة، وتغلبٌ للخير والمحاسن على الشرِّ والقبائح، ولو أُسقط كلُّ أحدٍ بخطأ وقع فيه لما بقي أحدٌ صالحاً للاعتبار، فلنترفق بإخواننا وبأنفسنا، ولنحفظ حبل الودّ بيننا، وليكن حسن الظن أصلاً راسخاً في علاقاتنا وتعاملنا؛ فذاك يسهم في وحدتنا، ولا يدع مجالاً للشيطان للتحريش بيننا، ولا يعني ذلك بحال ترك المناصحة؛ فالمؤمن مرآة أخيه، والمؤمنون نَصَحة، لكن هذا شيءٌ، ومحاولة الإسقاط وتصيُّد الأخطاء شيء آخر.
15 ـ بشارات الحديبية:
صدق المؤمنون في الحديبية ـ مع ربِّهم ـ فتوالت عليهم نعمه، وتتابعت عليهم البشائر. أجل! لقد رضي الله عن المبايعين تحت الشجرة، وأخبر عن إنزال السكينة على رسوله وعلى المؤمنين، وأنهم أحق الناس بكلمة التقوى، وأنهم أهل لها، غُفر لأهل الحديبية بخبر الذي لا ينطق عن الهوى: «كلكم مغفورٌ له إلا صاحب الجمل الأحمر» (?) . قيل: إن صاحب الجمل الأحمر ـ الجدُّ بن قيس، وقيل رجل من بني ضُمرة (?) .
وشهد النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنهم «خير أهل الأرض» (?) ، وبشَّرهم بالنجاة من النار: «لا يدخل النار ـ إن شاء الله ـ من أصحاب الشجرة أحدُ الذين بايعوا تحتها» (?) .
ووعدهم الله مغانم كثيرةً يأخذونها، فعجّل لهم منها ما عجل، وكفّ أيدي المشركين عنهم، فُتِحَتْ خيبر، وخُضِدَتْ شوكة اليهود، وامتدت الدعوة في الجزيرة، وانتشر الإسلام، ووصل صوته عالياً إلى الأمم والملوك والرؤساء، ثم تحقق الوعد وجاءت قمة البشائر ودخل المسلمون مكة، واطَّوَّفوا ـ آمنين ـ في البيت الحرام {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 27] .
نعم لقد كان تأجيل دخولهم مكة لحكمة يعلمها الله (فعلم ما لم تعلموا) فلم يُرِد الله أن يدخل المسلمون مكة، وسيوفهم مصلتة على رؤوسهم، ولا يريد الله أن يدخلوا مكة وبعضهم يحمل السلاح وبعضهم يطوف. لا يريد الله ـ في هذه المرحلة ـ أن تقع معركة بين المسلمين وأهل مكة، بل اقتضت حكمته سبحانه {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} [الفتح: 27] ، ودخل المسلمون مكة في (عمرة القضاء) آمنين، وإن رغمت أنوف المشركين، واكتحلت عيونهم وقرَّت قلوبهم بالبيت الحرام بعد طول صد وغياب. وكذلك يفلح الصابرون، وينتصر الصادقون، وكلما صدق المسلمون مع ربّهم هيأ لهم من أسباب النصر ما لم يحتسبوا، وأثابهم من الرحمات والبركات فوق ما تصوروا، وفتح لهم من البشائر وأنواع النصر ما به يُسَرون ويفرحون؛ كيف لا؛ وربُّنا عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، وبيده بركات السماء والأرض، وخزائنه ملأى، وهو ذو الفضل العظيم. ألا إن الإيمان مفتاح الخيرات والبركات {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْض} [الأعراف: 96] ، وبالإيمان يتحقق الأمن والهدى ويسود الإخاء {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] ؛ فهل يا ترى يبحث المسلمون عن ضالتهم المنشودة، أم تراهم يتخبطون في الظلم والظلمات والضياع والشتات، وأنَّى لهم أن يُنصروا؟
16 ـ بين خوف الأخيار وتحكيم الآراء والأهواء:
المتأمل في قصة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وموقفه (يوم الحديبية) يرى نموذجاً لخوف الأخيار؛ فهو حين تأثر لظاهر شروط الصلح، وراجع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم راجع أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ إنما حملته الغيرة لدين الله ومحارمه، ومع ذلك وحين تبين له أن الخير فيما اختاره الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وكان هذا الصلح فتحاً مبيناً ـ كما أنزل القرآن ـ حينها تأثَّر عمر ـ مرة أخرى ـ وخاف أن يلحقه شيءٌ من الإثم، فعوّض عن ذلك بعمل الصالحات كما قال: «فما زلت أصوم وأتصدق، وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ، حتى رجوت أن يكون خيراً» (?) .
وهكذا يحاسب الأخيار أنفسهم ـ على الدوام ـ ويرون الخطأ اليسير كالجبل العظيم، ولا يزالون يستغفرون ويعملون من الطاعات ما يرونه مُكفِّراً لأخطائهم، أما أهل السوء والغفلة فقد يعملون كالجبال من السيئات، ثم لا يتوبون ولا هم يذَّكَّرون، وفرقٌ بين القلوب الحية ومن قست قلوبهم.
أما الدرس الآخر (في القصة نفسها) فينبِّه إلى أهمية طاعة الله ورسوله والانقياد للشرع وإن خالف الهوى. قال العلماء: لا يخفى ما في هذه القصة من وجوب طاعته والانقياد لأمره ولو خالف ظاهر ذلك مقتضى القياس، أو كرهته النفوس، فيجب على كل مكلفٍ أن يعتقد أن الخير فيما أمر به، وأنه عين الصلاح المتضمن لسعادة الدنيا والآخرة، وأنه جارٍ على أتم الوجوه وأكملها؛ غير أن أكثر العقول قصرت عن إدراك غايته وعاقبة أمره (?) . ولابن القيم ـ رحمه الله ـ كلامٌ نفيسٌ في آثار تحكيم العقول والآراء على الوحي، ومما قاله: «وكلُّ من له مُسكةٌ من عقلٍ يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ في تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه، وفي أمةٍ إلا فسد أمرها أتمَّ فساد؛ فلا إله إلا الله كم نُفي بهذه الآراء من حق وأثبت بها من باطل، وأُميت بها من هدى، وأحيي بها من ضلالة، وكم هُدم بها من مَعقِل الإيمان، وعُمر بها من دينِ الشيطان..» (?) .
17 ـ رُخص الحديبية:
الله ـ تعالى ـ أرحم بعباده من أنفسهم، ومن رحمته بالمسلمين تشريع أحكام فيها تخفيف ورحمة ورفع للحرج والمشقة عنهم، وفي الحديبية شرع كثيرٌ من الأحكام التي كانت رحمةً للمسلمين في الحديبية وللمسلمين من بعدهم عامة، ومن ذلك:
1 - صلاة الخوف: فقد ثبت صلاة المسلمين لها في (عُسفان) زمن الحديبية، بل جزم بعض أهل العلم ـ كابن القيم ـ أن أول صلاة للخوف كانت في (عُسفان) (?) .
2 - وشُرعت في الحديبية (الفدية) لمن ارتكب شيئاً من محظورات الإحرام، كما في قصة كعب بن عجرة رضي الله عنه، وأنزل الله الرخصة له وللمسلمين من بعده في قوله: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] ، وحديث كعب (متفق عليه) (?) .
3 - كما شرع فيها التحلُّل للمُحصَر، وأنه لا يلزمه القضاء.
4 - وفي الحديبية شُرعت رخصة الصلاة في الرحال في حال المطر. قال أبو المُليح: قال لي أبي (أسامة بن عمير الهذلي) ـ رضي الله عنه ـ: «لقد رأيتنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية، وأصابتنا سماء لم تبلَّ أسأفل نعالِنا، فنادى منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: صلُّوا في رحالكم» (?) .
5 - وفي الحديبية ـ وقيل تكرر في غيرها ـ شُرع قضاء الصلاة الفائتة بالنوم أو النسيان عند ذكرها؛ فعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: «أقبلنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زمن الحديبية، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من يكلؤنا (أي يحرسنا) فقال بلالٌ: أنا، فناموا حتى طلعت الشمس، فاستيقظ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: افعلوا كما كنتم تفعلون، قال: ففعلنا، قال: فكذلك فافعلوا لمن نام أو نسي» (?) .
وهذه الحادثة فيها رخصة لمن اجتهد واحتاط للصلاة، ثم غلبه النوم، أو أدركه النسيان، وليس فيها حُجة للكسالى والمفرطين والذين هم عن صلاتهم ساهون.
هذه بعض رخص الله للمسلمين في الحديبية، واستمرت من بعدهم، وهي سمةٌ من سمات هذا الدين العظيم كما قال ربنا ـ تبارك وتعالى ـ: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
18 ـ البيعة المرضية، وأعظم الفتوح، والثبات على الحق:
لقد أثنى الله على المؤمنين الذين بايعوا تحت الشجرة (يوم الحديبية) وسميت بيعتهم (بيعة الرضوان) {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] .
وكان الصحابة الذين شهدوها يعدونها (فتحاً) ؛ ففي صحيح البخاري من حديث البراء ـ رضي الله عنه ـ قال: «تعدُّون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعدُّ الفتح (بيعة الرضوان) يوم الحديبية» (?) .
قال ابن حجر: الفتح مترتب على الصلح حين وقع الأمن ورفع الحرب، وتمكن من يخشى الدخول في الإسلام والوصول إلى المدينة من ذلك كما وقع لخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص وغيرهما، ثم تبعت الأسباب بعضها بعضاً إلى أن كمُل الفتح (?) .
كما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون يعدُّون (صلح الحديبية) (أعظم الفتوح) جاء ذلك في رواية موسى بن عقبة عن الزهري، والبيهقي عن عروة، قال: «أقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- راجعاً، فقال رجل من أصحابه، ما هذا بفتح؛ لقد صدونا عن البيت وصُدَّ هَدْيُنا، وردّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلين من المؤمنين كانا خرجا إليه، فبلغه ذلك -صلى الله عليه وسلم- فقال: بئس الكلام، بل هو (أعظم الفتوح) قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألونكم القضية، ويرغبون إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا، وأظفركم الله عليهم، وردكم سالمين مأجورين؛ فهو (أعظم الفتوح) أنسيتم يوم (أُحُد) إذ تُصعِدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أُخراكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب؛ إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون؟ فقال المسلمون: صدق الله ورسوله هو (أعظم الفتوح) والله! يا نبي الله! ما فكرنا فيما فكرت فيه، ولأنت أعلم بالله وبأمره منا.
أما روائع (البيعة) وصدق (المبايعين) فهي قمم في الصدق والتضحية، وأحدُ المبايعين، بل أولهم (أبو سنان الأسدي رضي الله عنه) يُبايع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ما في نفسه -صلى الله عليه وسلم-: «الفتح، أو الشهادة» (?) ، ثم يتتابع المسلمون ويبايعون على بيعة (أبي سنان) (?) ، وآخر من المبايعين (سلمة بن الأكوع رضي الله عنه) بايع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث مرات في أول الناس ووسطهم وآخرهم (كما رواه مسلم) وهذا مؤشر آخر للصدق والتضحية والثبات.
وثمة مؤشر مُهم لهذه البيعة في الثبات على الحق حتى الممات، ويد الله فوق أيديهم، وأثرُ هذه البيعة ينبغي أن يمتد في لاحق الزمن (ثباتاً على الحق، وتضحيةً لهذا الدين) .
وبقي رجال الحديبية على العهد، ولم ينكث منهم أحد، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه وهم يقرؤون ما نزل بشأنهم من القرآن {إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10] .
ألا وإن في الحديبية درساً في الثبات على الحق يوازي الصدق في الجهاد والتضحية في سبيل الله (?) .
وبالجملة: كانت بيعة على الصبر والجهاد والثبات، وعدم الفرار، ويكفي المبايعين أن الله زكاهم ورضي عنهم، وعلم ما في قلوبهم فأنزل عليهم السكينة والفتح.
19 ـ المنافقون وصلح الحديبية:
هل كان مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديبية منافقون؟ وماذا عن موقف المنافقين الذين لم يخرجوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديبية؟
جاء في صحيح مسلم عن جابر ـ رضي الله عنه ـ: كنا (يوم الحديبية) أربع عشرة مائة، فبايعناه، غير جدِّ بن قيس الأنصاري اختبأ تحت بطن بعيره (?) . وعن جابر: لما دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس إلى البيعة وجد رجلاً منا يقال له الجدّ بن قيس مختبئاً تحت إبط بعيره (01) . وعند ابن إسحاق عن جابر قال: ولم يتخلف عنه -صلى الله عليه وسلم- أحدٌ من المسلمين حضرها (البيعة) إلا الجدّ ابن قيس (أخو بني سلمة) ، قال جابر: واللهِ لكأني انظر إليه لاصقاً بإبط ناقته، قد ضبأ إليها يستتر بها من الناس (?) . قال الغضبان: وقد أثنى الله ـ تعالى ـ على المؤمنين يوم بايعوا، وسجّل واقعُ هذا الصف مخالفةً واحدة للجد بن قيس الذي اختفى هارباً من البيعة، ومختبئاً في ظل بطن ناقته (?) .
قال ابن سعد: أظهر (الجد بن قيس) الإسلام، وغزا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غزوات وكان منافقاً (?) .
وقال ابن عبد البر (في ترجمة الجد بن قيس) : كان ممن يغمَصُ عليه النفاق من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وساق حديث جابر: بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية على ألا نفر كلنا إلا الجد بن قيس اختبأ تحت بطن ناقته، ثم قال (ابن عبد البر) : وفي حديث أبي قتادة عنه ما هو أسْمَج من هذا في الحديبية. ثم قال في آخر ترجمته: وقد قيل: إنه تاب فحسنت توبته. والله أعلم (?) .
وأياً ما كان الأمر؛ فقد أشارت سورة (الفتح) إلى (تعذيب) المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات، بعد سياق (فضله) على المؤمنين والمؤمنات، فقال ـ تعالى ـ: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح: 6 - 7] .
قال القرطبي: (ويعذب المنافقين والمنافقات) أي بإيصال الهموم إليهم بسبب علوِّ كلمة المسلمين. ثم أورد الرواية التالية: وقيل: لما جرى صلح الحديبية قال (ابن أُبَيّ) : أيظن محمدٌ أنه إذا صالح أهل مكة أو فتحها لا يبقى له عدوّ؟ فأين فارس والروم؟ فبين الله ـ عزّ وجل ـ أن جنود السموات والأرض أكثر من فارس والروم (?) .
إلا أن المنافقين شجى في حلوق المسلمين ـ في كل زمان ومكان ـ يغيظهم ما يسرُّ المؤمنين، ويُسَرون لمصاب المسلمين، ويبطئون إذا حزب الأمر، ويفرحون إذا انتصر الأعداء عليهم، قاتل الله المنافقين أنى يؤفكون، ألا فليُحذروا؛ فهم العدو كما أخبر الله، وإذا سُرَّ كلُّ أحد بنصر المسلمين على الكافرين بقي المنافقون وحدهم ـ داخل الصف الإسلامي ـ قلقين متحسرين {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران: 119] .
20 ـ مُعاهدة طائفة من المسلمين لا يلزم بها غيرهم:
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: ومن فوائد صلح الحديبية أن المُعاهَدين إذا عاهدوا الإمام فخرجت منهم طائفة فحاربتهم وغنمت أموالهم، ولم يتحيزوا إلى الإمام، لم يجب على الإمام دفعهم عنهم، ومنعهم منهم وسواءٌ دخلوا في عقد الإمام وعهده ودينه أو لم يدخلوا، والعهد الذي كان بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين المشركين لم يكن عهداً بين أبي بصير وأصحابه وبينهم، وعلى هذا فإذا كان بين بعض ملوك المسلمين وبعض أهل الذمة من النصارى وغيرهم عهدٌ جاز لملك آخر من ملوك المسلمين أن يغزوهم، ويغنم أموالهم إذا لم يكن بينه وبينهم عهد، كما أفتى شيخ الإسلام في نصارى مَلَطْية وسبيهم مستدلاً بقصة أبي بصير مع المشركين (?) .
21 ـ المشورة وتثمين رأي المرأة:
المسلمون أمرهم شورى بينهم، والسيرة النبوية وعاءٌ حافظ لمشورة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه، وفي الحديبية استشار النبي -صلى الله عليه وسلم- المسلمين أكثر من مرة، ولم تقف مشورته عند حدود الرجال، بل استشار النساء، وأخذ برأي (أمِّ سلمة) ـ رضي الله عنها ـ في المبادرة بحلْق نفسه حين أبطأ الناس عليه بالحلق؛ فلما رأوه فعل حلقوا وتحللوا، بل كاد بعضهم يقتل بعضاً غمّاً (?) ، وفي رواية ابن إسحاق قالت أم سلمة: يا رسول الله! لا تكلم؛ فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح ورجوعهم بغير فتح.
وعلَّق ابن حجر على ذلك بقوله: فيه فضل المشورة.. وجواز مشاورة المرأة الفاضلة، وفضل أم سلمة ووفور عقلها (?) .
كم نعتزّ بآرائنا ونقصر الأمور المهمة عن مشورة غيرنا. والمشورة تسديد للرأي واستفادة من عقول الآخرين، وفتح للمغلق وتبصير للمتردد، وإذا شاور المؤيد من السماء فغيره بالمشورة أوْلى، وكذلك تستشار المرأة وتشير في عظائم الأمور ـ في زمن النبوة ـ ثم تتغير الأحوال وتتقاصر الهمم (بشأن المرأة) حتى يستفتي الناس: هل تقود السيارة، أم لا؟ وكأنه لم يبق من قضايا المرأة إلا هذه؟
وخلاصة القول أن الحديبية بوقفاتها وفقهها تُعلمنا أن النصر مع الصبر، وأن العاقبة للتقوى والمتقين، وأن عروش الظالمين تتهاوى، وحمية الجاهلية تبطل وتخيب وأن المستضعفين يتقوون ـ إذا صبروا واتقوا ـ وأن الأقوياء يضعفون إذا طغوا وتجبروا.
تعلمنا الحديبية كيف نبادر ونغتنم الفرص وننشر دين الله، وتؤكد لنا أن جولة الباطل ساعة وجولة الحق إلى قيام الساعة، وتعلمنا الحديبية أن على المسلمين أن يوحدوا صفهم ويتشاوروا بينهم، وأن لا تكون المعركة بينهم؛ فتلك هي المصيبة والحالقة، والمستفيد الوحيد أعداؤهم. تعلمنا الحديبية ألا نيأس ونقنط، بل نتفاءل ونستبشر، وألا تحجبنا اللحظة الحاضرة عن المستقبل المشرق، وتعلمنا كيف ننقاد للشرع ونتهم الرأي، كما ترشدنا إلى الثبات على الحق، وكيف يكون خوف الأخيار. تعلمنا كيف نوازن بين المصالح والمفاسد، ومتى وكيف نتحمل وبأي ثمن ضِيم الأعداء، وكيف نُحيّدهم ونفرق جمعهم، ونستثمر الفرص، ونخطط ونحتاط ونستفيد من كل طاقة دون هدر واختراق.
تلك وقفات وقفتها حول (صلح الحديبية) أسأل الله أن ينفعني بها والمسلمين. وهكذا ينبغي أن تقرأ سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، ويستخرج منها الفقه والدروس والعبر، وألا تقطع الأمة عن ماضيها المشرق؛ فهو رصيدٌ ضخم لانطلاقتها وهو موجهٌ أمين لمسيرتها، اللهم هيئ للمسلمين من أمرهم رشداً، وانصرهم على عدوك وعدوهم، وأقر عيونهم بنصر الإسلام، وعزة المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.