محمد شلاّل الحناحنة
تتجدد الأعياد وتمضي، وما زال المسلمون في هذا العصر يعيشون أشجاناً بعد أشجان! وهل ترانا نحيا بهجة العيد وأفراحه الحقيقية في ظلّ حراب الأعداء وإذلالهم للأمّة الإسلامية في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، وغيرها؟ كيف نحياه والأمم الحاقدة الظالمة تتكالب على أمّتنا، كما تتكالب الأكلة على قصعتها؟ وكيف يقف شعراؤنا أمام هذه المواجع القاسية التي تدمي القلوب؟ وما رؤى شعرائنا لأعياد المسلمين هذه الأيّام؟ ومتى تعود أعيادنا، وقد تصالحت الأمّة مع نفسها وعقيدتها الصافية، واحتكمت إلى شريعة الله؛ لتحقق أمانيها بالرفعة والتقدّم والقوّة استجابة لوعد الله بنصرها وتمكينها؟
ولعلّ وقفتنا الأولى مع الشاعر عبد الرحمن العشماوي الذي يخاطب العيد بكلّ وجدانه المفعم بالعزّ والنّصر المبين للمسلمين، رغم هذا الأسى:
(اطلعْ علينا بالشذى
بالعزّ بالنصر المبين
اطلعْ علينا بالتئام الشمل
بين المسلمين
هذا هو العيد السعيد
وسواه ليس لنا بالعيد
غبْ يا هلالْ!
حتى ترى رايات أمّتنا
ترفرف في شممْ)
إنَّ العيد الذي يريده شاعرنا العشماوي يعبق بشذى النّصر؛ ولذلك يظلّ هلال العيد في ذاكرته الإسلامية رمزاً منيراً زاخراً بنضارة الحلم القادم، وهو يخاطبه أكثر من مرّة (اطلعْ علينا) بأسلوب طلبي مشحون بهموم الأمّة، حاملاً وهج الفرح الحقيقي: فرحٍ بالعزّ والنّصر، وفرحٍ بالتئام الشمل بين المسلمين، وفرح حين نرى رايات الأمّة ترفرف في شمم!!
أمّا الشاعر محمد ضياء الدين الصّابوني فقد أدمت عواطفه ذكرى فلسطين، وما يتعرّض له أهلنا من الأطفال والنّساء هناك من جرائم ومذابح مستمرة، وهو يبدأ قصيدته (تحية العيد) بمطلع فيه قدرة شعرية فائقة لملامسة نبض الجراح معنى وإيقاعاً:
العيد وافى وقلب الحرّ يلتهبُ
لا بهجة العيد تسليه ولا الطربُ
ذكرى «فلسطين» قد أدمت عواطفه
فالطفل يُذْبَحُ والعذراء تنتحبُ
من للشيوخ وللأطفال ينقذهم
مما اعتراهم ونار الحرب تلتهبُ
من للثكالى وللأيتام يرحمهم
ويمسحُ العار عن (قدسي) ويضطربُ
وقد وُفّقَ الشاعر ببداية قصيدتة بهذا المقطع: (العيد وافى وقلب الحرّ يلتهب) ؛ لما في ذلك من دلالات زاخرة حميمة، تلحّ في وجداننا من خلال الجمل الفعلِية الخبرية التي تشعل في أحاسيسنا نيران الأسى والغضب: (العيد وافى، وقلب الحرّ يلتهبُ، لا بهجة العيد تسليه ... ، ذكرى فلسطين قد أدمت عواطفه، الطفلُ يذبح، العذراء تنتحبُ) ، كما أجاد شاعرنا الصابوني بإضافة الذكرى إلى (فلسطين) في بيته الثاني، لنبقى معه على نافذة دامية، وأشجان مريرة من المذابح التي ترتكب كُلّ يوم ضدّ المسلمين في أرض الإسراء؛ فالأطفال والشيوخ والنّساء يشرّدون. ويذبّحون دون أنْ يتحرّك إخوتهم في العقيدة لإنقاذهم، ويتساءل الشاعر في ظلّ هذا العيد بكلّ مرارة: (من للشيوخ؟! من للثكالى وللأيتام ... ؟) . فأين المجيبون يا ترى؟!
وتنهض قصيدة الشاعر د. عدنان النحوي: (ما العيد إلاّ لحرّ لم يهن أبداً) من شموخ الهويّة الإسلامية حتى في عنوانها، لتحصر العيد الحقيقي المبهج بحُرّ شجاع شامخ أبداً، وتمتدّ القصيدة في خيوطها الفنية معتمدة على التكرار، ولعلّ هذا التكرار من جماليات الفنّ الشعري عموماً لدى النحوي؛ فقد كرر العيد: (ستّ مرات) ، والذكرى: (أربع مرّات) ، وما زال يتألّمَ ويتعذّب، ويزداد حزناً وسهراً لا سيّما في أيّام العيد!
كذلك نرى شاعرنا د. عدنان النحوي يضيء نفوسنا بهدي الإسلام، ويمضي بنا حزيناً إلى ذكريات العيد؛ فيسأل بألم وحرقة:
هل عدتَ بالأمل المحبوب يا عيدُ
عودٌ سعيد فهل في العيد تجديدُ
ما زلتُ أرجع للذكرى فتؤلمني
وفي التذكُّر تعذيبٌ وتسهيدُ
ما زلتُ أذكر أيّاماً مضت وخلت
والعزّ فيها على الأرجاء ممدودُ
قدْ كان يجمعنا دينٌ ويسعدنا
عيدٌ ويوم من الأيّام مشهودُ
لم يبق فيه حزين في ملمّته
ولا تشتت في البلدان منكودُُ
ما العيد إلاّ إذا قامت دعائمنا
وفوقها علم للدين معقودُ
ما العيد إلاّ لحرّ لمْ يهنْ أبداً
ولا بدا وهو في الأغلال مصفودُ
أيام هارون تدعوني فأندبها
وأشتكي كيف أنَّ الوصل محدودُ
حدائق الشام والفسطاط أنشدها
وأرض أندلس ذكرى وتمجيدُ
شاعرنا عدنان النحوي ينطلق دائماً من همّ الجماعة، ويحلم بحرّيتها وعزّتها، ونصرها على الأعداء، وانظر لاستخدامه للضمير: (نا) المتكلميّن: (يجمعنا، يسعدنا، دعائمنا) ، وفي ظلّ ذلك يعيدنا للمفارقات المترعة بالمواجع بين ماضٍ لعيدٍ سعيد، كان يأتي والأمّة موحدة تعيش في أمجادها وعزّها الممتدّ في أرجاء المعمورة، وقد عقدت لواء الدين خفّاقاً، وبين حاضرٍ لعيد حزين قد أتى وشعوبنا مشردة، وأمّتنا ضعيفة ممزّقة، ونحنُ نجترّ الذكريات المؤلمة مهزومين أمام الأعداء!
كما نجد أنَّ هذه القصيدة في لغتها ومعانيها تقتبس من معين القرآن الكريم، ولعلّ الكثير من قصائد شاعرنا النحوي تنهل دائماً من المعجم القرآني مضموناً وأسلوباً!!
وتأتي وقفتنا الأخيرة مع رؤى العيد في شعرنا الإسلاميّ أمام مشهد حزين يوقّعه الشاعر حفيظ الدوسريّ من خلال قصيدة له بعنوان: (في ليلة العيد) وهي قصيدة نونيّة، جاءت على مجزوء البحر الكامل الذي يتميّز بصفاء إيقاعه!
ما زلتُ أسمع يا هلالَ العيد صوت النائحينْ
ما زلتُ أسمع في الفضاء بكاء أمّتنا الحزينْ
ما زلتُ أنظر للثكالى واليتامى الضائعينْ
ما زال قلبي في الهموم مكبّلاً مثل السجينْ
أنا يا هلال بحسرتي أبكي ضياع المسلمينْ
أنا بين أمواج العذاب أغوص في نار الأنينْ
عبّر الشاعر في قافيته الحزينة عن أوجاع مُرّة يعيشها إخوانه المسلمون في أقطار شتّى؛ ففي هذه القافية أنين دفين ونزف متّصل، وصوتٌ يتكرّرُ مستمراً مُتحسّراً متألّماً: (ما زلتُ أسمع) ، (ما زلتُ أنظر) ، (ما زال قلبي) ، (أنا يا هلال بحسرتي ... ) ، (أنا بين أمواج العذاب ... ) ، ولعلّ تكرار عبارات التحسّر والحزن واستمراريتها يدلّ على أنّ شاعرنا الدوسري يعيش بكلّ وجدانه المرهف، ومشاعره الرقيقة الشفيفة هموم الأمّة، وانظر إلى دلالات ألفاظه الموجعة: (صوت النائحين، بكاء أمّتنا الحزين، للثكالى واليتامى والضائعين، أبكي ضياع المسلمين، أغوص في نار الأنين) .
أخيراً لقد دلّت رحلتنا مع هذه الرؤى أنَّ شعراءنا يعيشون آلام أمّتهم وآمالها بكلّ فكرهم ووجدانهم الحيّ، لكنّنا بحاجة إلى المزيد من القبسات الإيمانية التفاؤلية التي تشحذ الهمم لتغيير الواقع من خلال الفعل المقاوم!!