مجله البيان (صفحة 5109)

قطوف تربوية حول قصة المجادلة

د. حمدي شعيب

- شاهدة على عصرها:

عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ قَالَتْ: وَاللَّهِ فِيَّ وَفِي أَوْسِ بْنِ صَامِتٍ أَنْزَلَ اللَّهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ صَدْرَ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ. قَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَهُ وَكَانَ شَيْخاً كَبِيراً قَدْ سَاءَ خُلُقُهُ وَضَجِرَ. قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيَّ يَوْماً فَرَاجَعْتُهُ بِشَيْءٍ فَغَضِبَ فَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجَ فَجَلَسَ فِي نَادِي قَوْمِهِ سَاعَةً، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ؛ فَإِذَا هُوَ يُرِيدُنِي عَلَى نَفْسِي. قَالَتْ: فَقُلْتُ: كَلا؛ وَالَّذِي نَفْسُ خُوَيْلَةَ بِيَدِهِ لا تَخْلُصُ إِلَيَّ وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِينَا بِحُكْمِهِ. قَالَتْ: فَوَاثَبَنِي، وَامْتَنَعْتُ مِنْهُ، فَغَلَبْتُهُ بِمَا تَغْلِبُ بِهِ الْمَرْأَةُ الشَّيْخَ الضَّعِيفَ، فَأَلْقَيْتُهُ عَنِّي. قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى بَعْضِ جَارَاتِي فَاسْتَعَرْتُ مِنْهَا ثِيَابَهَا، ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَذَكَرْتُ لَهُ مَا لَقِيتُ مِنْهُ، فَجَعَلْتُ أَشْكُو إِلَيْهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا أَلْقَى مِنْ سُوءِ خُلُقِهِ. قَالَتْ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: يَا خُوَيْلَةُ! ابْنُ عَمِّكِ شَيْخٌ كَبِيرٌ فَاتَّقِي اللَّهَ فِيهِ. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا بَرِحْتُ حَتَّى نَزَلَ فِيَّ الْقُرْآنُ فَتَغَشَّى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا كَانَ يَتَغَشَّاهُ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ. فَقَالَ لِي: يَا خُوَيْلَةُ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكِ وَفِي صَاحِبِكِ. ثُمَّ قَرَأَ عَلَيَّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] إِلَى قَوْلِهِ: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة: 4] فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: مُرِيهِ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً. قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَهُ مَا يُعْتِقُ. قَالَ: فَلْيَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ. قَالَ: فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِيناً وَسْقاً مِنْ تَمْرٍ. قَالَتْ: قُلْتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا ذَاكَ عِنْدَهُ. قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: فَإِنَّا سَنُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ. قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَأَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ. قَال: َ قَدْ أَصَبْتِ وَأَحْسَنْتِ، فَاذْهَبِي فَتَصَدَّقِي عَنْهُ، ثُمَّ اسْتَوْصِي بِابْنِ عَمِّكِ خَيْراً. قَالَتْ: فَفَعَلْتُ. قَالَ سَعْدٌ: الْعَرَقُ: الصَّنُّ» (?) .

وردت هذه القصة، في مطلع (سورة المجادلة) ، وهي أول سورة في الجزء الثامن والعشرين، من القرآن الكريم.

وسور هذا الجزء تركز على البعد الداخلي؛ والمشاكل الداخلية للمجتمع الوليد في المدينة، خاصة المشاكل الحياتية اليومية العادية، مع عدم إهمال البعد الخارجي للواقع المحيط وما يوجد به من أعداء للدعوة مثل اليهود والمنافقين.

وهو عبارة عن جولة (مع الجماعة المسلمة الناشئة؛ حيث تُربى وتُقوَّم، وتُعد للنهوض بدورها العالمي، بل بدورها الكوني، الذي قدّره الله لها في دورة هذا الكون ومقدّراته. وهو دور ضخم يبدأ من إنشاء تصور جديد كامل شامل للحياة، في نفوس هذه الجماعة، وإقامة حياة واقعية على أساس هذا التصور، ثم تحمله هذه الجماعة إلى العالم كله لتنشئ للبشرية حياة إنسانية قائمة على أساس هذا التصور كذلك … وهو دور ضخم إذن يقتضي إعداداً كاملاً.

وفي هذه السورة بصفة خاصة نشهد صورة موحية من رعاية الله للجماعة الناشئة؛ وهو يصنعها على عينه، ويربيها بمنهجه.

هذه الفترة الفريدة في تاريخ البشرية؛ فترة اتصال السماء بالأرض في صورة مباشرة محسوسة.

فنشهد السماء تتدخل في شأن يومي لأسرة صغيرة فقيرة مغمورة، لتقرر حكم الله في قضيتها) (?) .

وعندما نتأمل هذه السورة نجد أنها تدور حول عدة قضايا أو موضوعات رئيسة:

(أ) قصة المجادلة.

(ب) تهديد الذين يُحادّون، أي يخالفون ويعادون الله ورسوله.

(ج) التذكير بعلم الله ـ سبحانه ـ المحيط بكل نجوى، وتهديد من يتناجى بالإثم والعدوان والكيد والتآمر ضد المسلمين.

(د) التذكرة بأدب السماحة والطاعة للقيادة، وأدب مجالس العلم.

(هـ) كشف بعض كيد المنافقين الذين يتآمرون مع أعداء الدعوة من اليهود.

(و) بيان الصورة الربانية العظيمة لحزب الله؛ والممثل بالسابقين من المهاجرين والأنصار.

ولكن عندما نتدبر هذه القضايا المهمة والعظيمة، ونجد أن السورة قد بدأت بقضية المجادلة، بل إن اسم السورة التوقيفي نجده على نفس القضية، وهذا ما يُلقي في الروع؛ كيف أن الحق ـ سبحانه ـ يُولي أهمية خاصة بتلك القضية، وتكون في مقدمة سلم أولويات قضايا السورة بل والجزء كله.

وعندما نتأمل كيف أن التربية القرآنية الربانية ـ والممثلة في تلاوة وتدبر القرآن الكريم يومياً ـ تقوم بدور عظيم في عملية البناء الفكري والسلوكي لعقل الأمة الباطن، وتذكره بأهمية مثل تلك القضية.

لأن البداية في عملية التغيير الحضاري إنما تنبع من فكرة عظيمة في قلب رجل عظيم.

ثم تنشئ هذه الفكرة تحولاً نفسياً في نفوس البشر؛ وهذا التحول ينشئ دافعاً داخلياً؛ ثم يفرز هذا الدافع سلوكاً عملياً، فينتج تغييراً فردياً؛ ثم تحولاً حضارياً بأشكاله المنوعة؛ سواء الجانب الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي.

{إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] .

إذن: أي تغيير فردي أو جماعي أو أممي إنما ينطلق من تغيير فكري.

والتغيير الفكري هو الذي يحدد نوعية هذا التغيير الحضاري.

إذن: مقياس جودة أي تغيير فردي أو حضاري هو المنطلق الفكري لهذا التحول؛ أو القاعدة الفكرية لهذا التغيير.

فما أحوجنا لتأمل ذلك، وما أحوجنا لتدبر الأساليب التربوية القرآنية.

وكذلك ما أحوجنا لفقه دور القصة في تشكيل وإعادة صياغة عقل الأمة، في مواجهة التحديات الحضارية.

تلك التحديات التي تشمل صوراً منوعة من التدافعات؛ وأهمها التدافع الفكري والآرائي.

وبتدبر آيات هذه القصة، نجد أن لها بعدين:

الأول: وهو البعد الظاهر القريب؛ إذ تقص علينا أحداث خلاف حياتي عادي وملابساته، وقع في إحدى البيوتات الإسلامية، بين رجل وامرأته، فحدث بينهما ما يشبه الطلاق، ثم أراد الرجل أن يجامعها فأبت، وذهبت إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فشكت إليه، وحاورته، في رأيه في القضية، ولم تقتنع برأيه -صلى الله عليه وسلم-، حتى نزل الوحي بآيات الظهار، في مطلع سورة المجادلة؛ لتقدم الحل الرباني الشامل الكامل الخالد لهذه القضية.

الثاني: وهو البعد التربوي العظيم، والذي يمكننا استجلاؤه من خلال النظرة المنهجية الكلية الفاحصة لآيات القصة وملابساتها؛ حيث يقدم الرد الهادئ لقضية مهمة، طالما دار الجدال والتشكيك حولها؛ ألا وهي قضية مكانة المرأة ودورها في المجتمع الإسلامي.

وبتدبر آيات القصة ـ من خلال تلك النظرة ـ يمكننا أن نضع أيدينا على بعض السمات أو الركائز التي تجعل من خولة ـ رضي الله عنها ـ شاهدة صادقة وموثقة على عصرها؛ ولتكون خير دليل، وبرهان عملي على مكانة المرأة في هذا المجتمع الرباني:

- السمة الأولى: قدرتها على إدارة الأزمة:

لقد أوضحت خولة بنت ثعلبة ـ رضي الله عنها ـ أن سبب المشكلة، وبداية القضية؛ أنها راجعت زوجها أوس بن الصامت ـ وهو أخو عبادة بن الصامت رضي الله عنهما ـ في شيء مما أثار غضبه، فقال لها: أنت عليّ كظهر أمي؛ أي محرمة عليّ، وهو من الطلاق في الجاهلية.

ثم بعد ذلك أراد زوجها أوس بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ أن يباشرها فأبت، وخرجت قاصدة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في شكواها، ورفع القضية إليه.

وقد ورد أن أوساً كان (امرأً به لَمَمٌ، فكان إذا أخذه لممه واشتد به يظاهر من امرأته، وإذا ذهب لم يقل شيئاً) (?) .

وسنرى كيف تصرفت خولة ـ رضي الله عنها ـ تصرفاً راقياً حيال هذه المشكلة.

وسنرى كيف أن كل الروايات الصحيحة، أوردت أنها هي التي تحركت وجادلت، بل صممت على الحل العادل الذي يتوافق وظروف بيتها.

ويؤكد ذلك الروايات الصحيحة عن القصة، وكذلك اسم السورة.

وكل هذا يؤكد أنها كانت على قدر من المسؤولية على استيعاب أي خلاف عائلي، أو إدارة الأزمات العائلية بحكمة؛ خاصة إذا علمنا سلوك وطباع زوجها المذكورة.

- السمة الثانية: فقهها لأدب الاختلاف:

وعندما نورد هذا المثال إنما نورده، لنفتح باباً في التربية، وهو إذا كان هؤلاء بشر يخطئون، ويتشاحنون، ويختلفون، ولكن كان يظلل هذا الخلاف ضوابط معينة لم تك لتغيب عن امرأة من ذلك الجيل القرآني العظيم.

وهو باب عظيم في التربية، ومدخل يتوازى مع الخط الذي ينتهج دراسة الشخصيات المميزة، والقدوات من ناحية الفضائل، وننسى أنهم بشر، بل يجب دراسة أدب السلوك عند النقائص.

أو من باب فقه أن الإسلام من خصائصه العظيمة: الواقعية.

(وليس هذا من باب الطعن بالسلف بحالٍ من الأحوال، ونعلم أن الله ـ سبحانه ـ يزن المسلمين بميزان سورة الأحقاف: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 16] . نعم! إنه ليس الطعن، ولكنها دعوة إلى الواقعية في فهم تاريخنا) (?) .

وندرك أيضاً أن الاختلاف بين البشر سنة ثابتة ومطردة، من سنن الله ـ عز وجل ـ الإلهية {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118 - 119] .

إذن لا يحق لنا أن نذهل أمام المشاكل والخلافات التي تقع، سواء في محيط الأفراد، أو في محيط الأسرة الواحدة، أو في محيط المؤسسات.

ولكن الخطورة هي أن ينقلب هذا الخلاف الظاهري إلى خلاف باطني مذموم، بل محرم: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم» (?) .

ومن هذا الملمح التربوي المهم، نضع أيدينا على سمة مهمة من سمات المنهج الذي أفرز هذا العصر الناصع؛ وهو أن المنهج الذي أخرج هذه الأمة الرائدة القائدة، كان منهجاً واقعياً، منهجاً يرقى بالبشر إلى أفق وضيء، ولا ينسى أنهم بشر، يخطئون، ويتعاتبون ويغفرون، ويُعاقبون.

منهج لا يقوم على المثالية المجردة، التي لا تحدث ولا توجد إلا في الأحلام والخيالات، في أحلام (اليوتوبيا) أو مدينة أفلاطون الفاضلة. والأمثلة كثيرة، أكثر من أن تُحصى، ولك في الخلاف على الغنائم أثناء غزوة بدر، أبرز مثال نرى فيه كيف كان هذا القرآن هناك يعاتب ويصحح: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1] .

والعجيب أننا لا نعي ولا نستفيد مما وصل إليه الإداريون التربويون، في هذا الجانب؛ لقد وصلوا إلى خلاصة تعتبر قاعدة تربوية دعوية، نحن أحق بأن نعيها، وهو أن الخطأ يعتبر ظاهرة صحية في حق الجماعات، وليس الأفراد فقط؛ لأنه طريق التجربة والرصيد والمعرفة، ثم النماء إلى ما هو أفضل، (فالقائد يدرك أن للجماعة الحق في أن تُخطئ، وأنها لا تنمو إلا إذا تعلمت كيف تتحمل المسؤولية كاملة لِمَا تُصدره من قرارات وما تحسمه من أمور) (?) .

ومن هنا يتبين لنا أن لا نذهل، ولا يصيبنا الإحباط إذا رأينا بعض الخلافات الداخلية، وننظر إليها برؤية المنهج، الذي جاء ليرقى بالبشر، من حيث هم، ولم يعاملهم كملائكة مبرئين من النواقص، جاء ليصنع أمة من البشر العاديين، ولن يحمله إلى الإنسانية إلا بشر، يخطئون، فيُصححون، ويختلفون، فيُراجعون.

وسنرى كيف تصرفت خولة ـ رضي الله عنها ـ تصرفاً راقياً حيال هذه المشكلة.

حتى عندما نزل الوحي بالحل لقضيتها، نجد أنها جادلت وحاورت، وحصلت بحكمتها على أفضل الحلول، ثم كانت رفيقة بأسرتها، حتى بزوجها وهي في قمة غضبها منه ومن تصرفاته.

وهي بذلك تفتح لنا باباً عظيماً في التربية؛ وهو الباب الذي ننساه في خضم المشاكل الحياتية واليومية؛ ذلك الباب الذي نحن أحوج الناس إلى ممارسته؛ وهو الباب الذي لم يزل مفتقداً بين الدعاة، وانطمس أثره بين الناس عموماً؛ وهو أدب الاختلاف.

- السمة الثالثة: الورع والخوف منه سبحانه:

لقد كان موقف خولة ـ رضي الله عنها ـ عظيماً وفريداً، عندما حكت عن زوجها عندما خرج وعاد؛ فقالت: «ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ فَإِذَا هُوَ يُرِيدُنِي عَلَى نَفْسِي قَالَتْ: فَقُلْتُ: كَلاَّ وَالَّذِي نَفْسُ خُوَيْلَةَ بِيَدِهِ لا تَخْلُصُ إِلَيَّ وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِينَا بِحُكْمِهِ. قَالَتْ: فَوَاثَبَنِي وَامْتَنَعْتُ مِنْهُ فَغَلَبْتُهُ بِمَا تَغْلِبُ بِهِ الْمَرْأَةُ الشَّيْخَ الضَّعِيفَ، فَأَلْقَيْتُهُ عَنِّي. قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى بَعْضِ جَارَاتِي، فَاسْتَعَرْتُ مِنْهَا ثِيَابَهَا، ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-» .

فتدبر أحداث تلك الواقعة، والملابسات الداخلية التي حدثت بين زوجين داخل بيتهما، وقارن بين سلوك زوجها وسلوكها الراقي الورع الذي استوعب أخطاء الزوج، من أجل عدم الوقوع فيما يغضب الحق سبحانه.

وتذكر كيف فقهت أن طاعة الزوج لها حدود؛ وهي طاعة مبصرة في غير معصية لله عز وجل.

ثم سرعة تصرفها وحكمتها في وجوب الإسراع في حل تلك المشكلة العائلية، من أجل المحافظة على كيان الأسرة.

وهذا ما يشعرنا بالمستوى الراقي من الأخلاق والورع، الذي ربيت عليه المرأة في هذا المجتمع الرباني الفريد.

فالهدف العظيم الذي يرنو إليه أي زوجين؛ وهو حماية كيان الأسرة، لا يسوِّغ أن يكون ذلك على حساب طاعته سبحانه.

ولا يستوي بناء قام على طاعة الله ـ عز وجل ـ مع بناء قام على غير ذلك: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 109] .

- السمة الرابعة: فقهها للمرجعية:

لقد حملت خولة ـ رضي الله عنها ـ شكواها إلى الحبيب -صلى الله عليه وسلم-.

فلم تذهب لغيره -صلى الله عليه وسلم-، حتى وإن كانت عائشة رضوان الله عليها. وتدبر كيف أن خولة ـ رضي الله عنها ـ أتت إلى بيتها، وانفردت به -صلى الله عليه وسلم- ولم تشرك أحداً في حل قضيتها.

عَنْ عَائِشَةَ ـ رضي الله عنها ـ قَالَت: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأصْوَاتَ؛ لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- تُكَلِّمُهُ وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ مَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] إِلَى آخِرِ الآيَةِ» (?) . وهذا يضع أيدينا على سمة أخرى، نستشعرها من هذا التصرف.

لقد كانت ـ مثل أي فرد داخل هذا المجتمع ـ تقر وتعلم أن لها قيادة ومرجعية تنظيمية يرجع إليها.

وكان لهذه القيادة، المرجعية في كل المجالات، سواء في مجال الفقه والتعليم، أو في مجال الأمور الحياتية العادية، أو في المجال العسكري.

وكان لها أيضاً المرجعية لكل فرد من الأمة، وكأنهم جنود داخل معسكر، يأتمرون ويرجعون إلى قيادتهم، ولم يكن يجهل ذلك أي فرد سواء الرجل أو المرأة أو الطفل.

ففي مجال الفقه في الدين، كانوا جميعاً يعودون إلى قيادتهم، ولقد وردت كلمة (يسألونك) تسع مرات في القرآن الكريم. وذلك كما في قوله ـ سبحانه ـ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219] .

وفي المجال العسكري والفقهي أيضاً. كما في قوله ـ سبحانه ـ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ} [الأنفال: 1] .

ويوضح هذا الملمح أيضاً أهمية وجود روح الانضباط التنظيمي داخل الأمة، ووجوب تنميتها، خاصة بين أفراد كل جماعة تتبنى المشروع الحضاري الإسلامي، وركن ذلك أن يعي كل فرد أن له قيادة ومرجعية يعود إليها.

فإذا كنا على قناعة بواقعية البشر؛ وأن من حقهم الخطأ، فلا يحق أن ننسى الضابط الذي يحمي هذه الواقعية ويمنع انحرافاتها؛ ألا وهو ضابط المرجعية التي يرجع إليها عند حدوث الخلافات.

وإن كنا على قناعة في أن كل زوجين من حقهما الخطأ، وأن حدوث أي مشاكل زوجية؛ هو أمر طبيعي من سمات البشر، فإننا نتعلم من خولة ـ رضي الله عنها ـ أهمية معرفة من له الحق في إصلاح هذا الخلاف؛ فيحافظ على السر، ويحاول حل المشكلة.

- السمة الخامسة: شجاعتها الأدبية وقدرتها على الحوار:

لقد ورد عن خولة ـ رضي الله عنها ـ أنها كانت تتمتع بقدرة فائقة على الحوار؛ حيث عرضت قضيتها بشجاعة وثقة ولباقة.

وكيف أنها بهذه الصفة قد رفعت عن نفسها؛ بل عن أمة كاملة الحرج والظلم إلى يوم القيامة.

وتدبر كيف بدأت شكواها وهي تقول: (يا رسول الله! أكلَ مالي، وأفنى شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي، ظاهر مني! اللهم إني أشكو إليك) (?) .

ثم في حوارها وجدالها في رأي الحبيب -صلى الله عليه وسلم-:

(فسألت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لها: (حُرِّمْتِ عليه) فقالت: والله! ما ذكر طلاقاً، ثم قالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ووحشتي وفراق زوجي وابن عمي وقد نفضت له بطني، فقال: (حُرِمْتِ عليه) فما زالت تراجعه ويراجعها حتى نزلت عليه الآية. وروى الحسن: أنها قالت: يا رسول الله! قد نسخ الله سنن الجاهلية وإن زوجي ظاهَرَ مني، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما أُوحي إليَّ في هذا شيء) فقالت: يا رسول الله! أوحِيَ إليك في كل شيء وطوي عنك هذا؟ فقال: (هو ما قلت لك) فقالت: إلى الله أشكو لا إلى رسوله. فأنزل الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] (?) .

وكذلك في حوارها وجدالها في الحل الرباني الذي جاءت به الآيات.

وتدبر ما ورد عن موقفها.

(قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا بَرِحْتُ حَتَّى نَزَلَ فِيَّ الْقُرْآنُ، فَتَغَشَّى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا كَانَ يَتَغَشَّاهُ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ. فَقَالَ لِي: يَا خُوَيْلَةُ! قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكِ وَفِي صَاحِبِكِ. ثُمَّ قَرَأَ عَلَيَّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] إِلَى قَوْلِهِ {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة: 4] فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: مُرِيهِ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً. قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ! يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا عِنْدَهُ مَا يُعْتِقُ. قَالَ: فَلْيَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ! يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ. قَالَ: فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِيناً وَسْقاً مِنْ تَمْرٍ. قَالَتْ: قُلْتُ: وَاللَّهِ! يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا ذَاكَ عِنْدَهُ. قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: فَإِنَّا سَنُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ. قَالَتْ فَقُلْتُ: وَأَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ. قَال: َ قَدْ أَصَبْتِ وَأَحْسَنْتِ، فَاذْهَبِي فَتَصَدَّقِي عَنْهُ، ثُمَّ اسْتَوْصِي بِابْنِ عَمِّكِ خَيْراً» (?) .

بل إنها كانت طوال حياتها على هذه السمة المميزة لها.

فقد (مر بها عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في خلافته والناس معه على حمار، فاستوقفته طويلاً ووعظته، وقالت: يا عمر! قد كنت تدعى عُمَيْراً، ثم قيل لك: عمر، ثم قيل لك: أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر! فإنه من أيقن بالموت خاف الفَوْت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب؛ وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: يا أمير المؤمنين! أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟

فقال: واللهِ! لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هي خولة بنت ثعلبة سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟) (?) .

- السمة السادسة: اعتزازها بكرامتها وإنسانيتها:

لقد ورد في أمر خولة ـ رضي الله عنها ـ أن أمها (معاذة) التي أنزل الله فيها: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} [النور: 33] وهي الأَمَة التي كان عبد الله بن أُبَيّ بن سلول يُكرهها على البغاء والزنا والفجور، فأبت ذلك ونزلت فيها هذه الآية (?) .

قال السدي: أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أُبي بن سلول رأس المنافقين، وكانت له جارية تدعى (معاذة) وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الثواب منه والكرامة له، فأقبلت الجارية إلى أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ فشكت إليه فذكره أبو بكر للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فأمره بقبضها، فصاح عبد الله بن أُبي: من يعذرنا من محمد؟ يغلبنا على مملوكتنا. فأنزل الله فيه هذا) (?) .

ونستشعر من هذا الخبر ملمحاً تربوياً طيباً؛ وهو أن خولة ـ رضي الله عنها ـ قد نشأت متأثرة تأثراً بالغاً بأمها معاذة التي كانت مجرد أمة مملوكة؛ ولكنها لم تك إمعة أو سهلة أمام سيدها الذي أكرهها على الفسق، فرفضت وكان لها موقف زكاه الله ـ عز وجل ـ من فوق سبع سماوات، وخلده فكان سبباً في نزول آية سورة النور.

ولو تدبرنا محور الآيات التي نزلت في خولة وأمها ـ رضوان الله عليهما ـ لوجدناها تدور حول قوة الشخصية، والاعتزاز بالرأي طالما كان على الحق، حتى كان موقفهما سبباً في نزول آيات بينات يتعبد بتلاوتها، وأحكام ثابتة نزلت لتوجه أمة إلى قيام الساعة.

وهي السمة التي تبين مدى رفعة المنهج الذي كان سبباً في بث روح الكرامة والعزة والأنفة في روح حامليه، حتى وإن كُنَّ نساءً أرقاءً.

وكذلك أهمية التربية الأسرية؛ وكيف أن الأبناء يتأثرون بالآباء والأمهات؛ ويحملون الكثير من صفاتهم.

- السمة السابعة: احترام خصوصية الزوج:

وهناك ملمح تربوي عظيم نستشعره من الحديث الشريف الذي ورد (عن عَائِشَةَ ـ رضي الله عنها ـ قَالَت: ِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأصْوَاتَ؛ لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ تَشْكُو زَوْجَهَا، وَمَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] (?) .

فعائشة ـ رضي الله عنها وهي من هي ـ لم تشأ أن يدفعها الفضول لترى أو تتسمع ما يحدث في بيتها بين زوجها -صلى الله عليه وسلم-، وبين أحد الضيوف؛ خاصة عندما يكون امرأة.

وهو الملمح الذي يبين مدى سعة أفق هذا الجيل الرباني، ومدى السمو في العلاقات الزوجية، ومدى الثقة التي كانت بين الزوجين.

- السمة الثامنة: الثقة في القيادة الواعية:

عندما حملت خولة ـ رضي الله عنها ـ شكواها إلى الحبيب -صلى الله عليه وسلم- أخذ الأمر بجدية وحقق في الأمر.

وتصرفه -صلى الله عليه وسلم- إنما يدل على أمور عظيمة، تضع الضوابط المطلوب توافرها في كل قيادة راشدة.

تلك الصفات هي التي جعلت كل فرد يرجع إليها في كل شيء، حتى ولو كانت مشكلة داخلية عائلية، لا يدري بها أحد.

تلك الضوابط هي التي جعلت من الجميع حتى ولو كانت امرأة أن ترجع إليها بشكواها، وتطلعها على أسرارها الداخلية.

ومن هذه الصفات:

أ - الشعور بالمسؤولية: لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان على الرغم من مشاغله كحاكم مسؤول عن دولة عظيمة مترامية الأطراف، كان عنده الوقت ليفصل في الأمور الحياتية العادية بين الأفراد، دون قيود أو حواجز تحول بينه وبين كل فرد من أمته ليدخل عليه.

ب - التواضع: لأنه -صلى الله عليه وسلم- ـ وهو من هو ـ لم يدّع الدراية بكل شيء، بل قال رأيه، وسمح لخولة ـ رضي الله عنها ـ أن تحاوره، حتى نزل الوحي بالحل.

ج - الحيادية والتروي والعدل: وذلك عندما نرى أنه -صلى الله عليه وسلم- قد قال لخولة ـ رضي الله عنها ـ مذكراً إياها بحساسية القضية، فرد غيبة زوجها: «يَا خُوَيْلَةُ! ابْنُ عَمِّكِ شَيْخٌ كَبِيرٌ فَاتَّقِي اللَّهَ» .

وكم مَنْ أُخذ بجريرة الوشايات، ولم يُستمع إلى رأيه!

د - الرفق بالرعية: خاصة إذا كان المقصود فرداً غائباً؛ وتدبر نصيحته -صلى الله عليه وسلم-: «قَدْ أَصَبْتِ وَأَحْسَنْتِ، فَاذْهَبِي فَتَصَدَّقِي عَنْهُ، ثُمَّ اسْتَوْصِي بِابْنِ عَمِّكِ خَيْراً» .

هـ - الثقة المتبادلة بين الحاكم والمحكوم: وهذا هو حجر الزاوية؛ أو هي القاعدة التي تقوم عليها كل الصفات.

وهو ما يتضح من توجه خولة ـ رضي الله عنها ـ بشكواها لثقتها أنه سينصرها ويأتي لها بحقها؛ لأن الكل عنده سواسية.

وكذلك لعلمها أنه -صلى الله عليه وسلم- سيحافظ على سرها، وتدبر ما قالته عائشة ـ رضي الله عنها ـ من أنها لم تدر ما هي المشكلة وهي في غرفة مجاورة.

وفي هذا المقام لا يسعنا إلا أن نورد هذا الرأي لخطورة هذا الضابط. وذلك من باب أن الحكمة هي ضالتنا.

ولنأخذ العبرة من ذلك الحوار الذي دار حول السياسة، بين الفيلسوف الصيني (كونفوشيوس) وأحد أتباعه ويدعى (تسي كوغ) الذي كان يسأل أستاذه عن السلطة.

(أجاب الفيلسوف قائلاً: على السياسة أن تُؤمِّن أشياء ثلاثة:

1 - لقمة العيش الكافية لكل فرد.

2 - القدر الكافي من التجهيزات العسكرية.

3 - القدر الكافي من ثقة الناس بحكامهم.

سأل التلميذ: وإذا كان لا بد من الاستغناء عن أحد هذه الأشياء الثلاثة، فبأيها نضحي؟

أجاب الفيلسوف: بالتجهيزات العسكرية.

سأل التلميذ: وإذا كان لا بد أن نستغني عن أحد الشيئين الباقيين؛ فبأيها نضحي؟

أجاب الفيلسوف: في هذه الحالة نستغني عن القوت؛ لأن الموت كان دائماً هو مصير الناس، ولكنهم إذا فقدوا الثقة لم يبق أي أساس للدولة) (?) .

وتدبر تلك الثقة العظيمة؛ فيما ورد عن الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: «بينما رجلٌ يسوقُ بقرةً له قد حملَ عليها، فالتفتَتْ إليه البقرة، فقالت: إني لم أُخلق لهذا، ولكني إنما خُلِقْتُ للحرثِ» .

فقال الناسُ: سبحان الله! ـ تعجباً وفزعاً ـ أَبقرةٌ تكَلَّمُ؟!

فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فإني أُومن به، وأبو بكرٍ وعمر» (?) .

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015