مجله البيان (صفحة 5103)

التضليل الإعلامي وانتخابات الرئاسة الأمريكية

الإعلام هو الوسيلة الأمثل والأكفأ لأي مرشح أمريكي لكي يصل إلى الناخبين. وينفق المرشح الأمريكي أكثر من 85% من ميزانية حملته الانتخابية على وسائل الإعلام. ومن المتوقع أن يصل حجم الإنفاق على الحملات الانتخابية لسباق الرئاسة الأمريكي إلى أكثر من مليار دولار. ولذلك فإن المكاسب التي يجنيها الإعلام الأمريكي من الانتخابات كثيرة ومتعددة، ولا تتوقف فقط على الربح المادي، وإنما تتجاوز ذلك أيضاً إلى التأثير على مسار الانتخابات.

يهدف هذا المقال إلى دراسة الأساليب التي يستخدمها الإعلام للتأثير في الانتخابات الرئاسية، والآليات التي تستخدم لتشويه الحقائق. كما يطرح المقال عدداً من الأمثلة التي تبين وسائل التضليل والخداع الإعلامي التي يستخدمها الإعلام الأمريكي من أجل التأثير على الرأي العام. وأخيراً يوضح المقال كيف يستخدم المرشحون وسائل الإعلام من أجل الفوز في سباق الرئاسة.

- الإعلام والسلطة:

نادراً ما يزعج الإعلام الأمريكي السلطة. فرغم أن العالم يتحدث أحياناً عن حرية الإعلام الأمريكي، وجرأته في انتقاد الإدارات الأمريكية، إلا أن الحقيقة تختلف عن ذلك. فالإعلام الأمريكي ينتقد بقوة، ولكن ضمن المساحة المقبولة من الاعتراض بين أروقة السلطة، وحزبيها الديمقراطي والجمهوري.

ويشرح هذه النقطة خبير الإعلام الأمريكي مايكل بارينتي قائلا: «إن التيار العام للإعلام الأمريكي الذي تتحكم فيه شركات الإعلام الكبرى نادراً ما ينحرف إلى المناطق والموضوعات التي تسبب عدم ارتياح لمن يملكون السلطة السياسية والاقتصادية، ويتضمن ذلك من يملكون وسائل الإعلام، ومن يعلنون فيها أيضاً» (?) .

لقد تشابكت المصالح ضمن آلة الرأسمالية الأمريكية بحيث أصبح الاستقلال والنزاهة الإعلامية مكلفة وغير مجدية في معظم الأحيان. فوسائل الإعلام شركات تبحث عن الربح المادي، وهي جزء من الاقتصاد الأمريكي. والسياسيون يملكون السلطة، ويحتاجون إلى الإعلام من أجل التعريف بسياساتهم وأفكارهم. وهم يدفعون الكثير من المال من أجل أن تصل رسائلهم إلى الرأي العام. والشركات الأمريكية الكبرى تدفع للجميع، ولها مصالح عند الطرفين.

فالشركات تتبرع للسياسيين من أجل الحفاظ على المناخ التشريعي الملائم لمصالحهم. كما تدفع الشركات مبالغ مالية ضخمة للمؤسسات الإعلامية من أجل الإعلان عن منتجاتها، والوصول إلى الشارع المستهلك. فإذا كانت الانتخابات الأمريكية قد يصل الإنفاق فيها إلى مليار دولار، فإن شركة تجارية واحدة - على سبيل المثال ـ وهي شركة الأحذية نايكي NIKصلى الله عليه وسلم تنفق في العام الواحد 1.4 مليار دولار على الإعلانات في وسائل الإعلام. إن قوة الشركات الأمريكية وتأثيرها على الإعلام والسلطة معاً لا يستهان به.

إن النظام الرأسمالي يجعل من مصلحة الجميع التوافق في آليات العمل، والسعي من أجل المصالح المشتركة للأطراف المؤثرة في هذا النظام (السياسيون ـ الشركات ـ الإعلام) . الهدف النهائي للإعلام الأمريكي اليوم ليس هو البحث عن الحقيقة، وإنما هو أفضل طريق لتوصيف الواقع والمستقبل بشكل يرضي أصحاب المصالح. لذا تنشأ علاقات صداقة تجارية بين الإعلام والسلطة، وتبادل للمصالح لا يسمح لأي من الطرفين بالاعتداء المباشر على الطرف الآخر. وتبقى مساحة مقبولة من الاختلاف، وتبادل المقاعد بين حزبي السلطة الجمهوري والديمقراطي، وهي المساحة التي اصطلح على تسميتها بالحرية الإعلامية.

الإعلام الأمريكي يخضع لقواعد التنافس بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، ولكنه لم يعد رقيباً عليهما. إنه آلة يستخدمها كل طرف بقدر ما أوتي من مهارة ومال لتحقيق الانتصار على الطرف الآخر. الإعلام جزء من اللعبة الديمقراطية الأمريكية، وليس رقيباً عليها. الإعلام الأمريكي هو اليوم أحد أدوات السلطة. وهو كذلك ـ إلى حد ما ـ أحد القوى الضاغطة عليها والمؤثرة فيها. وضمن هذا الإطار من تبادل مراكز القوى وانتفاع كل طرف من الآخر، يقوم الإعلام الأمريكي بأداء رسالته التي لا تمت لمصالح الشعب الأمريكي إلا بالقليل من الصلة.

- كيف يتحكم الإعلام في الانتخابات؟

أظهرت أحد استطلاعات الرأي التي أجراها مركز أبحاث «بيو» المعروف، أن 42% من الشعب الأمريكي يعتمد على القنوات التلفزيونية في الحصول على المعلومات حول سباق الرئاسة. ولذلك فالمشاهد بين خيارين هنا: الأول أن يستقي المعلومات من التغطية الإخبارية التي تقدمها هذه القنوات، أو من الإعلانات المدفوعة من قِبَل المرشحين.

مصلحة المشاهد ـ أو الناخب في هذه الحالة ـ أن تقدم له القنوات برامج إخبارية متوازنة تطرح الرأي والرأي الآخر، وتقدم مواقف الناخبين بحيدة وعدالة. أما مصلحة القنوات التلفزيونية المادية، فإنها تكمن في الإعلان أكثر من التغطية الإعلامية الإخبارية المكلفة. ومصالح المرشحين تركز على الإعلان السياسي بشكل أكثر من التغطية الإخبارية؛ لأن الإعلان السياسي يضمن وصول رسالة المرشح بالصورة التي يريدها، وفي الوقت الذي يريده.

المؤسف أن التغطية الإعلامية تتناقص باستمرار لتعطي مزيداً من الوقت للإعلان السياسي، ومن ثَمَّ زيادة الدخل المادي للقناة التلفزيونية. وكما عبر عن ذلك أحد المراقبين الإعلاميين قائلاً: «كلما قلَّت التغطية الإعلامية المعطاة لسباق الرئاسة، كلما احتاج المرشحون إلى الاعتماد الأكثر على الإعلانات» (?) ، وفي دراسة صادرة عن مركز الإعلام والشؤون العامة CMPصلى الله عليه وسلم وهي مؤسسة غير حزبية للبحوث والتعليم، فقد وجد أن التغطية الإعلامية لسباقات المرشحين للكونجرس الأمريكي قد تناقصت في عام 2002م بنسبة 78% مقارنة بانتخابات عام 1998م، وتناقصت مدة تغطية السباقات الأولية للرئاسة من خمس دقائق في كل ليلة في انتخابات عام 1998م إلى 39 ثانية فقط في انتخابات عام 2000م، وذلك طبقاً لدراسة أجراها مركز نورمان لير Norman Lear Center للدراسات الإعلامية.

- الخدع الإعلامية، وحرية الرأي:

يعمل الإعلام الأمريكي وفق مجموعة من القواعد الإعلامية التي تحكمها المصالح المادية والنفعية أكثر مما يحكمها البحث عن الحقيقة. لا يعني ذلك أن كل من يعملون في الإعلام الأمريكي هم من المخادعين أو أصحاب نوايا تهدف إلى خداع الشعب الأمريكي. لكن الآلة الإعلامية تتحرك وفق مصالح متعددة ومتباينة أحياناً، ومن يعملون في تغطية الأخبار لا يملكون القرار النهائي في نشرها. وهنا تتدخل مصالح السلطة والشركات أيضاً لتحدد ما ينشر، وكيف ينشر، وما هي الروح العامة التي يقدم بها خبر ما.

وقد نشرت كثير من الدراسات حول أساليب الخداع الإعلامي التي انتشرت في أروقة الإعلام الأمريكي. نعرض هنا بعض هذه الوسائل، وكيف تؤثر على سير الانتخابات الرئاسية. وقد لخص بعض هذه الوسائل الكاتب الأمريكي (مايكل باريني) نقلاً عن كتاب بعنوان: (عشرون عاماً من الرقابة على الأخبار) س لمؤلفه كارل جينسن.Carl Jensen.

- طمس الحقائق بالإخفاء:

إخفاء الحقائق أو الأخبار هو أسرع الوسائل للتخلص من الأخبار المزعجة. والكثير من الأخبار الهامة في العالم لا تصل أبداً إلى المشاهد أو القارئ الأمريكي بسبب تعمد إخفاء هذه الحقائق. وهذه الحقيقة أصبحت معروفة بعد انتشار الفضائيات، والإنترنت التي تتيح للباحث معرفة ما ينشر في العالم مقابل ما ينشر ويذاع في الولايات المتحدة الأمريكية.

المشاهد الأمريكي لا يرى الفظائع التي ترتكبها إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني. ولكنه في المقابل يشاهد بكثرة صور الجرحى والقتلى في أي عملية من عمليات مقاومة الاحتلال التي يقوم بها أبناء الشعب الفلسطيني. ولذا فلا غرابة أن تتكون صورة مشوهة عن القضية الفلسطينية لدى الشعب الأمريكي.

أما عن الانتخابات الأمريكية، فقد تعمدت الإدارة الأمريكية طوال الأشهر الماضية حجب الكثير من الصور المروعة لما يحدث في العراق من قتل للمدنيين باسم الحرية. ولا يعرف المشاهد الأمريكي عدد القتلى سواء من الشعب العراقي، أو حتى من الجنود الأمريكيين. ولا شك أن معرفة حقيقة ما يحدث في العراق يمكن أن يغير من قناعات الناخب الأمريكي، ولكن الإعلام والسلطة بطرفيها لا يرون مصلحة في ذلك. فحتى الحزب الديمقراطي لا يهتم بنشر حقيقة ما يحدث في العراق؛ لأنه في حالة فوزه في الانتخابات سيستمر في نفس السياسة العسكرية القمعية. ولذلك فليس من المصلحة أن تفضح سياسات يتفق الجميع على استمرارها.

وفي مثال آخر على حجب الأخبار الهامة المتعلقة بانتخابات الرئاسة، هو ما ذكره الكاتب الأمريكي (جريج بلاست (Greg Palast حول الانتخابات الرئاسية السابقة. فمن المعروف أن ولاية فلوريدا التي يحكمها جيب بوش ـ شقيق الرئيس الحالي ـ كانت هي الولاية التي حسمت نتيجة الانتخابات السابقة، وبفارق من الأصوات لا يزيد عن 1000 صوت. وقد نشرت وكالة الأنباء البريطانية رضي الله عنهرضي الله عنهC أن إدارة الانتخابات في ولاية فلوريدا قد قامت قبل الانتخابات بفترة قصيرة بشطب أسماء 64 ألف ناخب من القوائم الانتخابية بالولاية بدعوى أنهم من المجرمين الذين لا يعطيهم القانون حق التصويت في الانتخابات.

واتضح بعد الانتخابات أن أغلب الأسماء التي شطبت من القوائم الانتخابية كانت لغير مجرمين، وأن أغلبهم كانوا من الأمريكيين السود. ويعرف السود في الولايات الجنوبية الأمريكية أنهم يصوتون دائماً للحزب الديمقراطي. كان هذا الخبر من الأهمية لدرجة أن أهم الصحف البريطانية القومية قد وضعته على صفحاتها الأولى. ولكن هذا الخبر لم يصل إلى الولايات المتحدة، ولم تقبل أي من وسائل الإعلام الأمريكية الكبرى إذاعته، أو تحري حقيقته.

وقد حاول الكاتب جورج بلاست أن ينشر هذا الخبر في قناة Cرضي الله عنهS، ولكنه تلقى اعتذاراً من القناة لأنها ـ على حد قولها ـ قد اتصلت بمكتب حاكم الولاية جيب بوش الذي نفى صحة الخبر! (?) لقد نشر هذا الخبر فيما بعد في عدد من وسائل الإعلام الأمريكية الصغيرة. ولكنه كان دائماً يقدم بأن هذا ما نشره الإعلام البريطاني، وكأن الأمر لا أهمية له.

- الهجوم على مصدر الحقيقة:

من المعروف إعلامياً أنك إن لم تستطع أن تخفي خبراً، فيمكنك أن تهاجم من نقله، وتتهمه لإضعاف مصداقية الخبر المنقول. وتستخدم هذه الخدعة الإعلامية طوال الوقت لتشويه الحقائق وإخفائها أيضاً. فبعد أحداث سبتمبر قامت إحدى القنوات الفضائية العربية بتبني فضح الأكاذيب الأمريكية في المنطقة العربية، واستمرت هذه القناة في ذلك خلال الحرب الأمريكية على العراق. وبما أنه كان من الصعب أن يُطعن في الأخبار التي تنقلها القناة من داخل العراق وفلسطين وأفغانستان؛ فقد اختارت الحكومة الأمريكية ـ بعد قصف مقر القناة في كل من العراق وأفغانستان (تحت ذريعة: خطأ مكرر غير مقصود بالطبع!) ـ أن تهاجمها إعلامياً بكل وسيلة ممكنة.

وبدأ الإعلام الأمريكي ينشر باستمرار، وفي صدر نشراته الإخبارية رأي وزراء الدفاع والخارجية الأمريكيين في تلك القناة. كما حذرت مستشارة الأمن القومي وسائل الإعلام الأمريكية من نقل الأخبار التي تبثها هذا القناة للشعب الأمريكي. ولذلك ألغت قناة CNN تعاقدها في تلك الفترة مع القناة لبث الأخبار عنها. واجتمعت وسائل الإعلام الأمريكية على وصف القناة بالتعاطف مع الإرهاب، وتشويه الحقائق، والكذب على المشاهد، وغير ذلك. الغريب أن القناة لم تكن تبث باللغة الإنجليزية، ولذلك فإن تأثيرها على المشاهد الأمريكي في النهاية محدود للغاية؛ لكن الإعلام والسلطة لم يتركا أي مجال لذلك عن طريق الهجوم المتكرر والمستمر.

- الوصم بالصفات السلبية:

تستخدم الأوصاف السلبية التي تسبق التغطية الإعلامية وترافقها أيضاً لإقناع المشاهد باتخاذ موقف مضاد تبعاً لرغبة الإعلام؛ فالإعلام الأمريكي يصف شارون أنه «رجل السلام» ، بينما يوصف عرفات أنه «ممول الإرهاب وشريك حماس» . ويوصف مدبر أحداث أكلاهوما التي تسببت في مقتل أكثر من 170 شخصاً أمريكياً بأنه «المتهم بأحداث أكلاوهوما» رغم أنه كاثوليكي متدين متطرف، وتوصف أي شخصية إسلامية تُعتقل في أمريكا بأنها من «دعاة دعم الإرهاب» .

إن استخدام الأوصاف بحق الأشخاص والأحداث يقنع المشاهد الذي لا يعرف خلفية الأحداث أو الأشخاص باتخاذ موقف تجاههم تبعاً للعبارات التي تصفهم وتسبق أسماءهم. ويجيد الإعلام الأمريكي استخدام هذه الحيلة باستمرار. ولذلك يحرص دائماً (جون كيري) عندما يتحدث عن المملكة العربية السعودية، وهو يتبنى الهجوم عليها، أن يسبق ذكرها دائماً بعبارات من مثل «الدولة الداعمة للإرهاب» ، أو «الدولة التي جاء منها عدد من خاطفي الطائرات» ، أو ما شابه ذلك. بينما ينحو المعسكر الآخر، وهو يهتم بالعلاقة مع نفس الدولة إلى استخدام مصطلحات من مثل «الدولة الشريكة في الحرب على الإرهاب» ، أو «الصديق الاستراتيجي» وغير ذلك. وكل منهما يسعى إلى إقناع الناخب الأمريكي بتبني موقف معين بناء على الصفات التي تسبق الأسماء.

وتعرف الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي بوش أنها «أقذر الحملات الانتخابية» من ناحية الهجوم السلبي المتواصل على الخصوم. ففي انتخابات هذا العام يوصف المنافس (جون كيري) ، أنه من الطبقة المخملية، وأنه ضعيف قيادياً، كما أنه لا يملك الإرادة اللازمة لمواجهة الإرهاب. وفي دراسة أجرتها مؤسسة TNS للبحوث الإعلامية، وجدت أن 63% من الإعلانات التي يبثها القائمون على حملة الرئيس الانتخابية هي إعلانات سلبية عن الخصم، بدلاً من أن تكون إعلانات إيجابية عن مزايا المرشح نفسه، وليس عن عيوب خصمه. وبدأ جون كيري مؤخراً في استخدام الإعلانات السلبية أيضاً في الهجوم على منافسه بدلاً من توضيح المواقف الخاصة به، وأهدافه في خدمة الشعب الأمريكي.

- تشويه المصطلحات:

يعيد الإعلام الأمريكي تعريف المصطلحات أو تشويهها من أجل خدمة الرسالة الإعلامية التي تحتاج إليها السلطة. فالمرشحون في الانتخابات الأمريكية يجمعون على أهمية «الإصلاح» Reform في العالم العربي والإسلامي ليختفي تحت هذا المصطلح الهدف الرئيسي للسياسة الأمريكية، وهو التدخل في خصوصيات وحياة المجتمعات المسلمة. ويعاد تعريف مصطلح «الحرية» في العراق ليسوِّغ الاحتلال العسكري والقتل والقمع باسم الديمقراطية. ويوافق كلا المرشحين أن ما يحدث اليوم في العراق هو تحرير لها، وليس اغتصاباً لثرواتها.

- الكذب.. وتكرار الكذب:

استخدم تكرار الكذب منذ آلاف السنين لإخفاء الحقائق عن العامة. ففرعون كان يقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] ، ويكثر من تكرارها، ويصدقه الناس. ويكرر الإعلام العبارات الكاذبة نفسها حتى تتحول عند العامة إلى حقائق لا تقبل الجدل. ومن يتابع الحملة الإعلامية المنظمة والمستمرة بعد أحداث سبتمبر في الولايات المتحدة للربط بين الإسلام والإرهاب يرى كيف يمكن للكذب الإعلامي أن يحقق من نجاحات في التأثير على العامة.

فهذا هو المرشح الأمريكي (جون كيري) يخبر الشعب الأمريكي في إحدى المقالات التي نشرت في نيويورك في الأشهر الأخيرة قائلاً: «إن أمريكا ستواصل الضغط على الدول العربية لوقف الإساءة لليهود وإثارة الكراهية ضدهم» (?) ؛ فالعرب هم الذين يسيئون إلى إسرائيل. واستمراراً لنفس سياسة استمرار الكذب يقول جورج بوش في حملته الانتخابية للشعب الأمريكي: «أمريكا ليست آمنة ما دامت إسرائيل تواجه عمليات إرهابية لا تتوقف» . والحقيقة أنه لا علاقة إطلاقاً بين ما يحدث داخل فلسطين، وبين أمن الشعب الأمريكي. لم يحدث طوال الأعوام الماضية أن صدر أي تقرير أمني أو سياسي يفيد بذلك. لكن الرئيس الأمريكي يستخدم الكذب لإقناع الناخب الأمريكي بضرورة استمرار تأييد إسرائيل، وليرضي من خلال العبارات نفسها اللوبي الصهيوني الذي يريد دائماً مزيداً من التنازلات من قِبَل المرشحين.

وحتى عندما أثيرت قضية كثرة أعداد القتلى من الجنود الأمريكيين في العراق، وقف الناطق باسم البيت الأبيض (سكوت ماكميلان) ليؤكد أن تضحيات هؤلاء الجنود تُظهر ضرورة مواصلة الحرب ضد الإرهاب. وقال: «إن الطريقة الأفضل لتكريم كل الذين فقدوا حياتهم في الحرب ضد الإرهاب، هي مواصلة شن حرب مكثفة ونشر السلام في المناطق الخطرة في العالم» ! وبذلك يصبح احتلال العراق حرباً ضد الإرهاب.. ومقتل الجنود الأمريكيين مسوِّغاً لقتل المزيد منهم.

المحزن في هذا الأمر أن تكرار الكذب الإعلامي الأمريكي لا يتحول فقط إلى حقائق لدى الشعب الأمريكي الذي يتعرض بشكل مباشر لهذه الأكاذيب، ولكنه يستخدم أيضاً من قِبَل أنصار مشروعات أمريكا العلمانية في تصدير الأكاذيب لتتحول إلى حقائق أيضاً في عالمنا العربي والإسلامي. وشواهد ذلك كثيرة في موضوعات تحرير المرأة والتعليم الديني، وحق الأمة في مقاومة الاحتلال، واستعادة المقدسات. كل ذلك أصبح يسمى في مُعجم بعضهم إرهاباً وتخلفاً ورجعية أيضاً بسبب الكذب وتكرار الكذب الإعلامي.

- تعمد نقل المعلومة دون التثبت منها:

يستخف الإعلام الأمريكي بالمشاهدين في كثير من الأحيان بنقل معلومات كاذبة تم تسريبها عمداً من أحد أجهزة السلطة أو أحد أحزابها دون التثبت منها. والانتخابات الأمريكية تشهد استخدام هذه الحيلة الإعلامية كثيراً من قبل وسائل الإعلام التي تتعاطف مع مرشح ما.

فعندما أعلنت الإدارة الأمريكية أن لديها ما يثبت أن العراق تعد أسلحة نووية وكيميائية، واستخدم ذلك مسوِّغاً لغزو واحتلال العراق، كان العالم أجمع يشكك في صحة ما تقوله الإدارة الأمريكية. أما الإعلام الأمريكي فقد اكتفى بنشر ما ذكرته الإدارة دون أي محاولة للتثبت من صحة تلك الأنباء، رغم الشكوك الكثيرة التي كانت تحيط بها.

وتقوم وسائل الإعلام في الفترة الأخيرة التي تسبق الانتخابات الأمريكية بنقل آراء المرشحين الذين تتعاطف معهم دون تحقق من صحة المعلومة، أو صدق الوعود الانتخابية. ومن الغريب أن الرئيس الأمريكي قد استطاع أن يمضي في حملته الانتخابية حتى الآن دون أن يكون له سياسة اقتصادية معلنة للمرحلة القادمة، ودون أن تحاسبه وسائل الإعلام على ذلك. ومن المعروف أن من أهم القضايا الانتخابية في الحياة الأمريكية الملف الاقتصادي، وخطة المرشح لتحسين الاقتصاد الأمريكي.

- تغيير المضمون:

تشويه الحقائق وإعادة صياغتها من الحيل التي تستخدم في الحياة السياسية والإعلامية. ويتعمد الإعلام أحياناً نشر المعلومات المعروف أنها مزيفة إذا كانت تخدم توجهات الجهة الإعلامية. والفضيحة التي وقع فيها مؤخراً المذيع الأمريكي (دان راثر) من وكالة Cرضي الله عنهS خير شاهد على ذلك.

المرشح الأمريكي للرئاسة (جون كيري) يعيد توصيف العلاقة بين أمريكا والمملكة العربية السعودية في إطار حملته العدائية الموجهة للملكة فيقول: «أريد لأمريكا أن تعتمد على عبقريتها وإبداعها، وليس على العائلة المالكة السعودية» (?) ، وكأن أمريكا اليوم قد أصبحت تحت رحمة دولة بعينها.. رغم أن العالم اليوم بأكمله يعاني من التسلط الأمريكي. هكذا يتم التضليل الإعلامي ويمرر على الشعب الأمريكي بتجاهل الإعلام أو موافقته.

- هكذا يستخدم الإعلام:

التضليل الإعلامي في الانتخابات الأمريكية أصبح أحد الحقائق التي يتعامل الجميع معها، وكأنها قدر لا يغير. وقد ظهر الإعلام الإلكتروني ـ شبكة الإنترنت ـ في هذا العام بقوة على ساحة الانتخابات الأمريكية ليقدم نوعاً من التوازن في عرض مواقف المرشحين. فمعظم من يكتبون على شبكات الإنترنت لا يحتاجون إلى موافقة أحد لكي تنشر أفكارهم على مستوى العالم. وأدى ذلك أحياناً إلى فقدان المصداقية، وضعف المحتوى التحليلي لمواقف المرشحين. ولكن من المتوقع أن يكون لشبكة الإنترنت دور أفضل في مراقبة العملية الانتخابية لهذا العام من الإعلام المرئي والمكتوب في الولايات المتحدة.

إن الوظيفة الحقيقية والمثالية للإعلام أن يساعد الناخبين على فهم الأفكار السياسية، وليس الترويج لبرامج انتخابية معينة. الإعلام الصادق يبحث عن المعلومة، ويقيِّم قيمتها ومصداقيتها قبل أن تُبَث على العامة. وعندما يتخلى العاملون في وسائل الإعلام عن التثبت من الحقائق، والبحث عن أثر المعلومة على المجتمع، فإن الإعلام يفقد الكثير من قيمته.

إن الكليات الأمريكية المتخصصة في الإعلام تعد من أفضل كليات العالم في التقنيات، وتعليم قواعد وأسس العمل الإعلامي أيضاً. ولكن الواقع الرأسمالي للشركات الإعلامية لا يعطي للجادين في هذه الوسائل الإعلامية إمكانية نقل الحقيقة المجردة إلى عامة الناس. تحول الإعلام اليوم في الولايات المتحدة من رقيب على جرائم السلطة، إلى شريك فيها، وأصبح العلم والتقنيات المتطورة أدوات لخدمة السلطة، وليست وسائل لخدمة الجماهير.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015