محمد بن عبد الكريم الشيخ
إنّ فاجعة الأسر شيء لا بدَّ منه في كثير من ملاحم المسلمين مع الكافرين، وهو من جملة ما يمحّص الله ـ تعالى ـ به عباده المجاهدين. قال ـ تعالى ـ: {وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] . والإثبات هو الحبس والأسر، وهو أشد المصائب على النفوس الأبيَّة، التي لا تقبل ضيماً ولا ذلة، بخلاف طرفي الأمر في جهاد الأعداء: النصر أو الشهادة فهما حُسنيان، كما قال الله ـ تعالى ـ: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إلاَّ إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: 52] .
وذلك كله من قدر الله بعباده الدعاة والمجاهدين، كما كان علي ـ رضي الله عنه ـ ينشد وهو يخوض المعارك:
أيَّ يوميَّ من الموت أفر يوم لا يقدر أم يوم قَدَر
يوم لا يقدر لا أحذره ومن المقدور لا ينجي الحَذر
إنّ الأسر إذا حاق بمسلم وجب على المسلمين السعي إلى تخليصه منه بكل سبيل شرعي، وشأنٌ كهذا أوضح من أن يحتاج إلى فتوى شرعية، أو يتوقف على دراسة فقهيَّة، ولكن لا بأس من التأكيد على هذه المسؤولية العظيمة، حتى ينهض جميع المسلمين بأعبائها، ويقدروها حق قدرها.
أولاً: الأدلة القرآنية والحديثية العامة التي ترمي إلى نصرة المسلم لإخوانه كقوله ـ تعالى ـ: {وَإنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72] ، وما هذه النصرة إلا واجب من واجبات آصرة الديانة كما قال ـ سبحانه ـ: {إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] ، فالمسلمون أمة واحدة دون الناس يسعى بذمتهم أدناهم، وتلك النصرة أيضاً من واجبات الأخوة الإيمانية. قال ـ تعالى ـ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ، وثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «المسلم أخو المسلم: لا يظلمه، ولا يخْذُلُه، ولا يحقره» (?) . قال أهل العلم: الخذل: ترك الإعانة والنصر، ومعناه إذا استنصر به في دفع السوء ونحوه لزمه إعانته إذا أمكن ولم يكن له عذر شرعي.
وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بمطلق نصرة المسلم، فقال: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. قيل: يا رسول الله! أنصره مظلوماً؛ فكيف أنصره ظالماً؟ قال: تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه» (?) .
وهل فينا من يملك الضمان ـ على الدهر المتقلب المملوء بالفواجع ـ من أن تخطفه يدٌ غيلةً؟ أو تنزل بساحته قارعة؟ إنّ المسلم إذا تخاذل عن نجدة إخوانه في الواقعة الواحدة، والحادثة الفذة فإنّ ربه له بالمرصاد يخذله في أحلك ما سيلقى، ويدعه إلى نفسه الضعيفة تستغيث ولات حين مغيث.
ثانياً: ثمة أدلة تتعلق بهذا الحكم خصوصاً ـ وهو وجوب فك أسرى المسلمين ـ ومن ذلك أنّ الله ـ تعالى ـ أمر بالقتال لتخليص ضعفة المسلمين، وأسارى المسلمين لهم في الحكم تبع، قال ـ تعالى ـ: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} [النساء: 75] . قال القرطبي: «وتخليص الأسارى واجب على جميع المسلمين إما بالقتال وإما بالأموال، وذلك أوجب لكونها دون النفوس؛ إذ هي أهون منها. قال مالك: واجب على الناس أن يُفْدوا الأسارى بجميع أموالهم، وهذا لا خلاف فيه» .
وعن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فكوا العاني ـ يعني الأسير ـ وأطعموا الجائع، وعودوا المريض» . وفي الصحيح أيضاً عن أبي حجيفة قال: قلت لعلي ـ رضي الله عنه ـ: «يا أمير المؤمنين! هل عندكم من الوحي شيء؟» قال: «لا؛ والذي فلق الحية وبرأ النسمة، إلا فهماً يعطيه الله ـ عز وجل ـ رجلاً، وما في هذه الصحيفة» ، قلت: «وما في هذه الصحيفة؟» قال: «العقل، وفكاك الأسير، ولا يُقتل مسلم بكافر» (?) .
وإنّ في السيرة العملية لعبراً تؤثَرُ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في فك الأسارى، ومن ذلك القيام بالفداء؛ فعن عمران بن حصين ـ رضي الله عنه ـ أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- فدى رجلاً برجلين، وكان من ديدنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ نصرة الأسرى بسهام الدعاء التي لا تخطئ أبداً، كما في الصحيح عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة يقول: «اللهم أَنْجِ عياش بن أبي ربيعة، اللهم أَنْجِ سلمة بن هشام، اللهم أَنْجِ الوليد بن الوليد، اللهم أَنْجِ المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدُدْ وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف» (?) .
قال ابن العربي المالكي: «إلا أن يكونوا أسراء مستضعفين: فإنّ الولاية معهم قائمة، والنصرة لهم واجبة بالبدن بألاّ يبقى منا عين تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عدواناًَ يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم، حتى لا يبقى لأحد درهم، كذلك قال مالك وجميع العلماء؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما حلَّ بالخلق في تركهم إخوانهم في أمر العدو، وبأيديهم خزائن الأموال، وفضول الأحوال، والعدة والعدد، والقوة والجلد» (?) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «فكاك الأسارى من أعظم الواجبات، وبذل المال الموقوف وغيره في ذلك من أعظم القربات» (?) .
إن الأسرى الفلسطينيين الأبطال الذين يخوضون معركة شجاعة بأمعائهم يواجهون كل يوم من أيام أسرهم إجراءات الاحتلال الظالمة من تعذيب وقهر وإذلال وحرمان ومن المعلوم. يقيناً أن قرار الإضراب عن الطعام ليس بألأمر الهيّن، فلا يلجأ له الأسرى إلاّ بعد استنفاد كافة أساليب الاحتجاج الأخرى، ولو لم تكن أوضاعهم أسوأ بكثير مما ستكون عليها بعد الإضراب عن الطعام، ونحسب أن هذا أمر يؤرق كل مسلم أبي غيور، ويقضُّ مضجعه، ولكن الحزن وحده لا يجدي، وإظهار الأسى لحالهم فحسب لا يكفي، بل لا بدّ من تحرك عملي لنجدتهم، وتخليصهم من أسر عدوهم.
فعلى التجار والميسورين أن يبذلوا أموالهم، ولا يجوز لهم أن يضنوا بها عليهم، وعلى ذوي الجاه والمناصب أن يسعوا بسلطانهم، وعلى أهل العلم والدعوة القيام تحريضاً وتبصيراً بحقوق الأسرى بلسانهم، وعلى أهل الإعلام والصحافة أن يناضلوا بمدادهم وأقلامهم؛ فإن لذويهم أيضاً دَيْناً في أعناقنا.