مجله البيان (صفحة 5074)

حكم تداول أسهم الشركات التي تقترض أو تودع بالربا

(2 - 2)

خالد الدعيجي

في المقال السابق بين الكاتب أنه قام بإجراء دراسة علمية لست عشرة شركة من شركات السوق السعودي، وذكر أن الشركات المساهمة تنقسم من ناحية طبيعة عملها من حيث الحلال والحرام إلى ثلاثة أقسام، وأن نشاط الشركة لا يخلو عن ثلاث حالات: أن يكون جميع نشاط الشركة محرماً، أو يكون جميع نشاط الشركة مباحاً، أو يكون أصل نشاط الشركة مباحاً ولكن تتعامل ببعض الأنشطة المحرمة. وقد بين الأقوال المختلفة حول ذلك وناقشها، وفي هذا المقال يتم موضوعه..ـ البيان ـ

[4 - على أنه قد ورد عن بعض السلف تحريم التعامل مع المرابي ونحوه، فقد سئل الإمام أحمد عن الذي يعامل بالربا، يؤكل عنده؟ قال: لا، «قد لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آكل الربا وموكله» (?) ، وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالوقوف عند الشبهة (?) ا. هـ] (*) .

الدليل الرابع:

الاستدلال بقاعدة «ما لا يمكن التحرز منه فهو عفو» .

ولهذه القاعدة تطبيقات متعددة ذكرها الفقهاء، منها: العفو عن يسير رذاذ البول، ويسير طين شارع تحققت نجاسته، ونحو ذلك.

ووجه الاستدلال بهذه القاعدة: أن أسهم الشركات التي تتعامل بشيء من الحرام لا يمكن الاحتراز منه، فهو معفو عنه (?) .

ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:

الأول: لا يسلَّم بذلك؛ لأنه غير شاق، والاحتراز عنه ممكن؛ وذلك بعدم الدخول في هذا النوع من الشركات، فهو لن يجد من يجبره على الاشتراك فيها، لا سيما مع توسع فرص الاستثمار المباح في المجالات المتعددة، ومع انتشار المصارف الإسلامية في هذا الوقت، بعد أن كان المجال المصرفي إلى وقت قريب مقتصراً على المصارف الربوية.

الثاني: وأما قولهم: (يعفى عما يعسر الاحتراز عنه) فإن هذا إذا كان بغير قصد؛ أما بقصد الدخول فإنه يعتمد على عدم التحرز عنه، فلا يعفى حينئذ (?) .

الدليل الخامس:

الاستدلال بالمصلحة.

ووجه ذلك: أن تملك الأسهم من قِبَل أهل الخير والصلاح المنكرين لهذه المعاملات فيه مصلحة شرعية بالقضاء على تلك المعاملات عن طريق الدخول في المجالس الإدارية (?) .

ونوقش من وجهين:

الوجه الأول: عدم التسليم بأن المشاركة في هذه الشركات من المصلحة، بل قد يكون المصلحة في عدم الاشتراك أكثر من مصلحة الاشتراك، ووجه ذلك:

أن منع الاشتراك في هذه الشركات مع بيان سبب المنع ـ وهو وقوع هذه الشركات في المعاملات المحرمة ـ من شأنه أن يجعل القائمين على هذه الشركات يبادرون مبادرة جادة إلى التخلص من هذه المعاملات المحرمة، وتوسيع التجارة المشروعة بأنواعها طلباً لاشتراك الناس ومساهماتهم (?) .

الوجه الثاني: ومع التسليم بوجود مصلحة في المشاركة؛ فهذه المصلحة غير معتبرة للأسباب الآتية:

1 - أن المصلحة إذا كانت مصادمة للنص فهي ملغاة، فلا عبرة بها (?) .

2 - أن هذه المصلحة مظنونة، والمفسدة المترتبة على المساهمة محققة، والمفسدة المحققة مقدمة في الاعتبار على المصلحة المظنونة، كما هو معلوم من قواعد الشرع (?) .

3 - أن هذا التعليل متوجه في حق كبار التجار، والشركات الإسلامية، الذين يرجى من مساهمتهم التغيير المباشر لنظام الشركة، أما آحاد الناس فإن هذا المقصد إن صدق في بعضهم فهو غير موجود عند كثير منهم (?) .

مناقشة دعوى إمكانية التخلص من الكسب الحرام (?) :

بقي أن يقال:

إن أصحاب القول الأول اشترطوا في جواز المشاركة بمثل هذه الشركات: أن يتخلص المساهم من الكسب المحرم.

ومما يؤكد أن هذا الاشتراط افتراضي وليس واقعياً، أنه يستحيل تحديد مقدار الكسب المحرم من عوائد السهم.

ونحن هنا في مقام لا يحتمل الظن والتخمين، بل لا بد من القطع واليقين.

وإيجاب بعضهم ـ عند الجهل بالحرام ـ إخراج نصف ربح السهم أو ثلثه؛ فهم قالوا به من باب الاحتياط، وهو نافع في حالة وجود أرباح حقيقية للشركة من النشاط المباح، وهو أيضاً غير شاق من الناحية العملية، إلا أنه غير عملي ولا يفي بالغرض في صورتين:

الأولى: عندما لا تحقق الشركة أرباحاً تذكر من مبيعاتها في بعض السنوات، فتبقى معتمدة في توزيعات الأرباح على فوائد الودائع، والسندات البنكية والأوراق قصيرة الأجل ذات الدخل الثابت.

الثانية: كما أن بعض الشركات تقوم بتوزيع الأرباح قبل البدء بتشغيل منشآتها، وهذه الأرباح تحصلت عليها من إيداع رأس المال في البنوك.

وعليه: إذا كان الأمر محتملاً فلا يكفي التقدير في هذه الحالة.

أما تحديد مقدار الكسب الحرام، كما تفعله بعض الهيئات الشرعية، من أجل دقة التخلص من الحرام فهو متعذر؛ لأمور، منها:

1 - أن جميع المجيزين يفترضون أن الشركة تودع وتأخذ فوائد، فيوجبون على المساهم إخراج ما يقابل نصيب الودائع من الأرباح.

فإذا كانت الشركة تقترض من البنوك لتمويل أعمالها، أو لإجراء توسعات رأسمالية ونحو ذلك؛ فما السبيل لتحديد ما يقابل هذه القروض من الأرباح؟

2 - أن أغلب المستثمرين يشترون الأسهم بقصد الحصول على الأرباح الرأسمالية، أي فرق السعر بين الشراء والبيع، ومن المتعذر في هذه الحالة تحديد مقدار الكسب الحرام، ولا سيما أن من العوامل المؤثرة على القيمة السوقية للسهم مدى قدرة الإدارة على الحصول على التسهيلات والقروض البنكية.

3 - إذا خسرت الشركة؛ فما هو نصيب الكسب الحرام من هذه الخسارة؟ إذا علمنا أن إيرادات الودائع والسندات ثابتة، فهذا يعني أن الخسارة على من يريد التخلص من الربا ستكون مضاعفة.

4 - ومن المعتاد أن الشركة تستثمر جزءاً من أموالها في شركات تابعة أو شركات زميلة أو في صناديق استثمارية بالأسهم أو السندات، وقد تكون تلك الأسهم لشركات ذات أنشطة محرمة أو ذات أنشطة مباحة وتتعامل بالفوائد، وهكذا تمتد السلسلة إلى ما لا نهاية، ويصبح تحديد الحرام في هذه السلسلة من الشركات أشبه بالمستحيل.

القول الثاني: التفريق بين شركات القطاع العام وغيرها، فيجوز في شركات القطاع العام، ويحرم في غيرها.

وممن ذهب إلى هذا القول الدكتور مصطفى الزرقا رحمه الله تعالى (?) .

والمقصود بشركات القطاع العام: هي الشركات التي تملكها الدولة، أو تملك معظم أصولها، وتهيمن على إدارتها، ويملك الأفراد بعضها الآخر، مثل شركات الماء والحديد والكهرباء والاتصالات (?) .

وأما شركات القطاع الخاص: فهي الشركات التي يملكها الأفراد، ولم تكن الدولة طرفاً فيها.

واستدل أصحاب هذا القول بأدلة القول الأول وقد سبق ذكرها ومناقشتها.

ويمكن أن يستدل لهم أيضاً بدليل خاص يؤيد ما ذهبوا إليه:

وهو دليل مركب من حديثين:

الحديث الأول: ما روى سمرة بن جندب «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة» (?) .

الحديث الثاني: ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يجهز جيشاً، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة. قال: فكنت آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة» (?) .

وجه الدلالة منهما:

أما الحديث الأول: ففيه نهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة مطلقاً.

أما الحديث الثاني: فإنه يدل على إباحة بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وذلك لمصلحة الجهاد؛ فالجهاد فيه مصلحة عامة للأمة من حفظ أمنها وتقوية جانبها.

فكل ما فيه مصلحة للأمة فإنه يجوز التعامل به وإن كان يلزم منه الوقوع في المحرم، كبيع الحيوان بالحيوان نسيئة لتجهيز جيش المسلمين.

ومثل ذلك شركات القطاع العام؛ فهي تمثل ضرورة قائمة، وتكاليف هذه المشروعات مرتفعة جداً، وتحتاج إلى رؤوس أموال كبيرة مما يعجز عنه كثير من الدول في عصرنا هذا لا سيما في الدول النامية، واليوم معظم الخدمات العامة في كثير من البلدان النامية تقوم على أساس الشركات المساهمة، وإذا قيل بمنع هذه الشركات لم تتحقق تلك الخدمات، ولا سبيل إلى الاستغناء عنها، وإلا بقي المجتمع متخلفاً في أهم المرافق الحيوية، بخلاف الشركات التجارية، فيمكن أن يستمر المجتمع بدونها.

وعليه: يجوز الإسهام في مثل هذا النوع من الشركات وإن كانت تودع أموالها بفوائد أو تقترض بفوائد؛ لأنه إذا لم نساهم فيها بقيت الأمة متخلفة في أهم المرافق الحيوية الضرورية للمجتمع.

ويناقش هذا الدليل بما يلي:

أولاً: أن حديث سمرة ـ رضي الله عنه ضعيف ـ كما هو مبين في تخريجه.

وعليه فلا يصح الاستدلال بحديث عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ على جواز الوقوع في المحرم من أجل المصلحة؛ لأن الحديث باق على أصل الإباحة في المعاملات.

ثانياً: أن النهي في حديث سمرة محمول على أن تكون النسيئة من الطرفين في الثمن والمثمن، وهذا محرم بالإجماع، ويدخل في بيع الكالئ بالكالئ (?) .

وأجيب (?) : أنه لا يحمل هذا على النسيئة من الجانبين من وجهين:

1 - لأن ذلك يستفاد بنهيه -صلى الله عليه وسلم- «عن بيع الكالئ بالكالئ» (?) .

2 - ولأنه إذا قيل: باع فلان عبده بالحيوان نسيئةً؛ فإنما يفهم منه النسيئة في البدل خاصة، ومطلق الكلام محمول على ما يتفاهمه الناس.

والذي يظهر للباحث أن حديث سمرة ـ رضي الله عنه ـ ضعيف؛ فلا يكون حجة في أصل المسألة؛ وعليه فيبقى حديث ابن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ على إطلاقه، وأنه يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، ولا يدخل ذلك في الربا، ومن ثَمَّ لا يكون فيه دليل لهم على جواز الإسهام في شركات القطاع العام إذا كانت تتعامل بالربا. وأما دعوى الحاجة فقد سبق الجواب عنها أثناء مناقشة القول الأول.

ومما يُضعِف هذا القول ـ أعني التفريق بين شركات القطاع العام والخاص ـ أنه توجد شركات في القطاع الخاص ولا تملك الدولة منها شيئاً إطلاقاً؛ ومع ذلك فهي مهمة جداً، بل قد توازن في أهميتها شركات القطاع العام، كشركات الإسمنت والصناعات الأساسية كالحديد والشركات الطبية كالدوائية وغيرها من الشركات؛ فهل أصحاب هذا القول يُدخِلون هذه الشركات ضمن شركات القطاع العام أم لا تدخل في ذلك؟

فالتفريق بين الشركات تفريق بين المتماثلات، ومن علامات صحة القول اطِّراده، والظاهر أن هذا القول غير مطَّرد.

فهل الضابط في ذلك كون الدولة تملك هذه الشركة؟ أم أن الشركة ضرورية للمجتمع؟

أما إن كان الضابط أن تكون الشركة ملكاً للدولة؛ فإن الدولة قد تمتلك شركات وهي ليست من الشركات الضرورية للمجتمع؛ فهل في هذه الحالة يجوز الإسهام فيها؟

وأما إن كان الضابط: أن الشركة تكون ضرورية للمجتمع فهذا غير مطَّرد، وتختلف أنظار الناس في كون هذه الشركة ضرورية أم لا، وما كان ضرورياً عند قوم قد لا يكون ضرورياً عند آخرين، والشريعة عامة للجميع لم تختص بقوم دون قوم.

القول الثالث: الرجوع إلى نية المساهم؛ فإن كان يقصد المتاجرة بأسهم هذا النوع من الشركات فيجوز تداولها، وإن كان يقصد الاستثمار فلا يجوز.

وممن ذهب إلى هذا القول الدكتور محمد المختار السلامي (?) .

واستدل الدكتور السلامي لقوله بما يلي:

الدليل الأول:

أن من يقصد نشاط الشركة وأرباحها، فإنه عندما يشتري السهم يصبح من الشركاء؛ فهو رضي عند الشراء بكل ما جاء في عقد التأسيس، ومنه عدم الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية في التعامل الذي هو قصده.

وأما من يقصد المتاجرة بالسهم فهو لم يقصد نشاط الشركة ولا عملها، بل يقصد فارق السعر من تقلبات السهم في الأسواق (?) .

ويناقَش هذا الدليل بما يلي:

أولاً: أن مشتري السهم بقصد المتاجرة أو الاستثمار كل منهما قد رضي عند الشراء بكل ما جاء في عقد التأسيس، ومنه عدم الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية، فلا وجه للتفريق بينهما.

ثانياً: أنه يلزم على هذا التفريق أن من يشتري أسهم البنوك الربوية أو السندات المحرمة بقصد المتاجرة بها فهو جائز، وهذا لم يقل به أحد من العلماء المعتبرين.

ثالثاً: ومما يضعف هذا التفريق: أنه لو حدث توزيع لبعض الأرباح أو خسارة للشركة، أثناء تربص حامل السهم لارتفاع قيمته، هل يكون هذا الربح حلالاً؟ فإن ألزمناه بالتخلص من نسبة المحرم فقد ساوى بذلك من قصد الاستثمار، وإن أبحنا له الربح كله، فهذا لم يقل به أحد من العلماء المجيزين للتعامل بمثل هذا النوع من الشركات، بل جميعهم متفقون على التخلص من نسبة المحرم في السهم.

الدليل الثاني:

أن مجمع الفقه الإسلامي تبعاً لذلك لم يسوِّ بينهما في الزكاة؛ فقد قرر أن الأسهم التي يقصد من تملكها الحصول على ربحها السنوي يزكي صاحبها الريع بعد دوران الحول من يوم قبضه. وأن الأسهم التي يقصد من تملكها التجارة تزكى زكاة عروض التجارة (?) .

ويناقَش من وجهين:

الأول: أن عدم تسوية المجمع بينهما في الزكاة نظراً لاختلاف حكم الزكاة بين عروض التجارة وأموال القنية لا لشيء آخر.

الثاني: أن هذا الأمر ليس مجمَعاً عليه، وإن من العلماء من طرد الحكم في جميع الأسهم وأوجب فيها زكاة العروض مطلقاً، فليست هذه المسألة محل وفاق حتى نلتزم بها (?) .

القول الرابع: عدم الجواز مطلقاً.

يرى جمهور العلماء المعاصرين، وعدد من الهيئات الشرعية تحريم المساهمة في الشركات التي يكون أصل نشاطها مباحاً، إذا كانت تتعامل ببعض المعاملات المحرمة كالإقراض والاقتراض بفائدة.

فيحرم الاكتتاب بها، وبيعها وشراؤها وامتلاكها.

وممن ذهب إلى هذا القول: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكه، وعلى رأسها سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله (?) ، والهيئة الشرعية لبيت التمويل الكويتي (?) ، والهيئة الشرعية لبنك دبي الإسلامي (?) ، وهيئة الرقابة الشرعية للبنك الإسلامي السوداني (?) ، وعدد من الفقهاء المعاصرين (?) .

وأصدر مجمعان فقهيان مشهوران قرارين يقضيان بتحريم هذا النوع من الشركات، وهذان المجمعان يحويان ثلة من علماء العصر المعتبرين؛ فأما المجمع الأول فهو:

المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، ونص قراره هو:

«ج: الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحياناً بالمحرمات، كالربا ونحوه، بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة» (?) .

وأما المجمع الثاني فهو: المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة، ونص قراره هو:

«لا يجوز لمسلم شراء أسهم الشركات والمصارف إذا كان في بعض معاملاتها ربا، وكان المشتري عالماً بذلك» (?) .

استدل أصحاب هذا القول بما يلي:

الدليل الأول:

قول الله ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275] ، وقوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «ألا وإن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع» (?) .

وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه» (?) .

ووجه الدلالة من هذه النصوص: أنها عامة في التحريم، فتشمل الربا قليله وكثيره.

ووجه العموم يظهر فيما يلي:

1 - كلمة «الربا» في الآيتين معرَّفة بأل التي تفيد استغراق الجنس، فتعم.

2 - كلمة «كل» في حديث جابر من صيغ العموم.

3 - «آكل الربا» و «موكله» نكرتان مضافتان إلى معرفة، فتعمان.

4 - «الربا» في الحديث الأخير معرَّفة بأل، وهي من صيغ العموم، فيشمل الحديث كل آكل للربا أو موكل له، قلَّ الربا أو كثر.

والربا الناتج عن اقتراض الشركات المساهمة أو إيداعها هو من ربا الجاهلية الذي جاء القرآن بتحريمه، وبينت حكمه هذه الأحاديث الشريفة؛ فكيف يسوغ لقائل بعد ذلك أن يقول: إن الربا إذا كان قليلاً ومغموساً في الحلال الكثير فهو جائز (?) .

* نوقش:

بأن المستثمر لا يأخذ الربا؛ إذ يجب عليه فوراً التخلص من مقدار الكسب الحرام، وصرفه في وجوه البر (?) .

وأجيب عنه من أربعة أوجه:

الوجه الأول: أنه وإن كان لا يأكل الربا فهو يؤكله؛ لأن الشركة تتمول بفوائد فتدفع الربا لجهات التمويل؛ فهو داخل في لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- (?) .

الوجه الثاني: أن تقدير الحرام وإخراجه لا يبيح شراء أسهم هذا النوع من الشركات لأمرين:

الأول: لأن محل العقد (وهو سهم الشركة التي تقترض بفوائد ربويه) مالٌ محرم بسبب ما اشتمل عليه من الربا.

وبناءً عليه؛ فهذا العقد باطل على مذهب جمهور الفقهاء، وفاسد عند الحنفية؛ لأن العقود التي يدخلها الربا تكون فاسدة عندهم كبيع الدينار بالدينارين، فإذا زال المفسد وهو الدينار صح العقد.

لكن الربا في الأسهم هذه لا يمكن فصله عن المبيع حتى يمكن إمضاء العقد في المباح ومنعه في الحرام، لاختلاط ذلك اختلاطاً يتعذر معه التمييز، ولأن الواقع أن بائع الأسهم يبيعها بجميع حقوقها، ولا يتم استثناء شيء من ذلك، ولذا فإن العقد باطل لم تترتب عليه آثاره، فمشتري السهم لم يمتلك السهم أصلاً حتى يتخلص من مكاسبه المحرمة (?) .

الثاني: ولأن هذا التقدير مبني على الحَزْر والتخمين، ولا يستطيع أي محاسب مهما بلغ من العلم أن يصل إلى حساب قطعي.

والتخمين لا يكفي في العقود الربوية؛ لأن التخمين لا يؤدي إلى التساوي يقيناً، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، بدليل تحريم المزابنة (?) ، والمحاقلة (?) ، وعلة تحريمهما عدم العلم بالتساوي لنشوفة أحدهما ورطوبة الآخر (?) .

الوجه الثالث: أن تقدير الحرام وإخراجه لا يكون توبة من الذنب الذي وقع فيه؛ لأن من شروط التوبة الإقلاع عن الذنب، والعزم على ألا يعود، والندم على ما عمل، والذي دأبه أخذ الحرام ثم إخراجه لا يعد نادماً ولا عازماً على الإقلاع (?) .

قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «تستحيل التوبة مع مباشرة الذنب» (?) .

الوجه الرابع: أن التخلص من الربا قد يكون ظاهراً فيمن يريد الاستثمار، لكن من كان يتاجر بالسهم، وينظر إلى تقلب الأسعار، ولا ينتظر الربح الذي يعطى في نهاية السنة حتى يطهره من الربا، كيف يمكن أن يصنع؟

إن قلتم: إنه يبيع السهم ولا يلزم بالتخلص من عوائد الربا فما الفرق بينه وبين السندات والأسهم الربوية إذا كان قصده المتاجرة بها فقط؟

وإن قلتم: يلزمه التخلص من عوائد الربا؛ فما هي القاعدة في ذلك وهو لم يحصل على أي ربح؟ ثم إن الشركة قد تخسر ولا توزع أرباحاً؛ فماذا يصنع؟

الدليل الثاني:

قول الله ـ تعالى ـ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2] .

وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- «لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه» .

ووجه الدلالة من هذين النصين: أن الذي يساهم في الشركات التي تتعامل بالمحرمات مُعِين لها على الإثم، فيشمله النهي.

الدليل الثالث:

قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «درهم ربا يأكله الرجل، وهو يعلم، أشد من ست وثلاثين زنية» (?) .

ووجه الدلالة منه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عد أكل درهم واحد من الموبقات، ورتب عليه هذا الوعيد الشديد؛ فكيف بمن يضع المئين والآلاف من أمواله في المصارف الربوية؟ وإخراج قدر الحرام تخمين؛ فمن غير المستبعد أن يدخل ماله شيء من الحرام (?) .

الدليل الرابع:

قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» . وفي رواية: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (?) .

وجه الدلالة من الحديث:

إن هذا الحديث حجة في إبطال جميع العقود المنهي عنها، وعدم وجود ثمرتها المترتبة عليها؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- حكم في هذا الحديث بالرد وعدم القبول على كل مخالف للشرع، ومن المخالف كل بيع يدخله الربا وشراء أسهم شركات يدخل الربا في نشاطها مردود؛ لأنه منهي عنه بنص الحديث؛ لاشتمال الأسهم على الربا؛ ولأنه ليس عليه أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-.

الدليل الخامس:

قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم منه فائتوا منه ما استطعتم» (?) .

وجه الدلالة منه:

أن المنهيات تجتنب على الإطلاق، ولهذا لم يتسامح الشرع في الإقدام على شيء منها، وخصوصاً الربا؛ لأنه من الكبائر. وأسهم الشركات التي يدخلها الربا من المنهيات، فتجتنب جميعها.

الدليل السادس:

أن شبهة الربا مفسدة للعقد ومحرمة له؛ كما في بيع المزابنة والمحاقلة؛ وذلك لاحتمال الربا، وقد أجمع الفقهاء على أنه يحرم بيع المحاقلة (?) . ويرى جمهور الفقهاء أن عقد المزابنة والمحاقلة باطل، ويرى الحنفية أنه فاسد (?) . وقد أجمع الفقهاء على تحريم بيع الثمر على النخل بالتمر في غير العرايا، وأجمعوا أيضاً على تحريم بيع العنب في الكرم بالزبيب (?) ، وإنما رخص الشارع من المزابنة فيما دون خمسة أوسق لحاجة الناس.

فإذا كانت شبهة الربا محرمة للعقد، ومفسدة له؛ فإن حقيقة الربا الموجودة في أسهم الشركات التي تودع، أو تقترض بفوائد ربوية أشد حرمة وأقوى بطلاناً.

الدليل السابع:

أن يد الشركة على المال هي نفس يد المساهم، فأي عمل تقوم به فهو عمله لا فرق بينهما؛ فكما يحرم على الإنسان أن يستثمر جزءاً من ماله - ولو يسيراً - في معاملات محرمة، فكذا يحرم عليه المشاركة في شركات تتعامل بالحرام؛ لأن المال المستثمر هو ماله عينه (?) .

ويتأيد هذا الدليل بأمرين:

الأمر الأول: أن الشركة فيها معنى الوكالة، والشريك وكيل عن صاحبه في التصرف؛ فتصرف الوكيل يقع للموكل نفسه.

وعلى هذا: فإن مجلس الإدارة يعتبر وكيلاً عن المساهم في التصرفات.

فإن قيل: إن المساهم لم يفوض مجلس الإدارة بذلك، ولم يرض بهذه التصرفات، وقد يكون في المجلس من لم يرشحه المساهم.

فالجواب: إن المساهم بقبوله المساهمة بالشركة قد فوض مجلس الإدارة، ووكلهم في التصرف بالمال؛ لأن هذا الأمر مشروط في لائحة الاكتتاب (?) .

الأمر الثاني: أن من المتفق عليه أن الشركة لو كانت بين اثنين، فيحرم عليهما المتاجرة بالربا ولو كان يسيراً، والبقاء في هذه الشركة يعتبر محرماً؛ فكذلك إذا زاد عدد الشركاء؛ إذ لا فرق بين أن يكون الشركاء اثنين أو مئاتٍ أو آلافاً.

* الترجيح:

من خلال استعراض أدلة الأقوال الأربعة يتبين للباحث ما يلي:

أن القول الأول والثاني يتوجه القول بهما بالشروط الآتية:

1- إذا لم توجد شركة مساهمة لا تتعامل بالربا إيداعاً واقتراضاً؛ حيث كانت جميع شركات السوق مما يتعامل بالربا.

وهذا الشرط منتفٍ في هذا العصر حيث أثبتت الدراسة التي أجراها الباحث (?) ، أنه توجد شركات مساهمة معاملاتها حلال بالكامل، ومما يؤيد هذا الشرط أن الهيئة الشرعية للراجحي ذكرت في قرارها رقم (485) : «إن جواز التعامل بأسهم تلك الشركات مقيد بالحاجة؛ فإذا وجدت شركات مساهمة تلتزم اجتناب التعامل بالربا وتسد الحاجة فيجب الاكتفاء بها عن غيرها ممن لا يلتزم بذلك» .

2 - إذا كان نظام الدولة يجبر الشركات أن تودع جزءاً من أموالها في البنوك الربوية ويجبرها أيضاً على أن تدخل الفوائد ضمن أرباح المساهمين.

وهذا الشرط حسب علمي غير موجود في هذا العصر، لانتشار البنوك الإسلامية، ومن ثم انتشار المعاملات الإسلامية المصرفية.

3 - أن لا تجد الشركة بُدّاً من إتمام عملياتها إلا عن طريق الاقتراض بالربا.

وهذا الشرط منتف في هذا العصر؛ إذ وجدت بنوك إسلامية تمول الشركات بالطرق المباحة: كالمرابحة، وعقود الاستصناع، والسلم، والمشاركة المنتهية بالتمليك، والإجارة المنتهية بالتمليك، وغير ذلك مما جاءت شريعتنا بإباحته.

ثم إن المتأمل في القول الأول والثاني يجد:

أن القول بهما كان في فترة فشا فيها الربا، والبنوك الإسلامية لم تقم بعدُ على ساقيها، أما في هذه المرحلة فالأمر عكس ذلك، فنحمد الله ـ عز وجل ـ على انتشار هذه البنوك الإسلامية في أنحاء الأرض؛ فأيهما أسهل: تحويل بنك ربوي إلى بنك إسلامي، أم تحويل شركة تتعامل بالربا إلى شركة خالية من ذلك؟ لا شك أنه الثاني.

فالذي يظهر للباحث رجحان القول الرابع، وهو حرمة المساهمة في الشركات التي يكون أصل نشاطها مباحاً، وتتعامل بالفوائد أو بغيرها من المعاملات المحرمة، لعموم الأدلة الشرعية في تحريم الربا قليله وكثيره، فلم تستثن تلك الأدلة ما كان تابعاً أو مغموراً أو يسيراً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015