التحرير
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فمما لا شك فيه أن غزو العراق كان جزءاً من إستراتيجية للهيمنة التامة على المنطقة يشترك فيها أساساً كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وإسرائيل؛ مع محاولات بعض الدول الكبيرة مثل فرنسا وألمانيا عدم الغياب عن مسرح الأحداث، وأصبح ينطبق علينا قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها» . وإذا كانت البداية هي العراق؛ فإن السودان وسوريا وإيران على القائمة المستعجلة. أما مصر والسعودية وباكستان فهي على قائمة الانتظار.
لقد كان سقوط بغداد سهلاً وسريعاً وبثمن بخس جعل الإدارة الأمريكية تطمئن بادئ الأمر إلى نجاح المخطط، ومن ثم تخلت عن صفتي الحرص واللباقة في التعامل مع الآخرين، وجرى التنكر للدور الإيراني الحيوي في ضمان ولاء الأحزاب الشيعية العاملة من إيران وتحويل فيلق بدر وقوات حزب الدعوة من قوى تدعم ثورة إسلامية (رافضية) إلى طليعة للخونة والمرتزقة الذين يبذلون مهجهم في سبيل الدفاع عن الاحتلال، ولا يبعد عنه موقف المراجع الشيعية المهادن أحياناً والمتعاون أحياناً أخرى مع قوى الاحتلال. لم تشفع هذه المواقف لإيران، واستمر التحرش بها عن طريق التركيز على البرنامج النووي عن طريق الوكالة الدولية للطاقة النووية والاتحاد الأوروبي، وبأسلوب يذكِّر بأيام التفتيش على العراق، وبلغ الأمر بإيران وقد أحست بالخطر أن أعلنت أنها ستمارس حقها في تخصيب اليورانيوم، وأجرت تجارب على الصواريخ الذاتية الدفع، وقد تحول نتيجة لذلك الثقل الغربي ناحية الأهداف الأضعف، فتذكر العالم أن سوريا لها جيش في لبنان، وتناسى أن هناك جيشاً لليهود في الجولان السورية، وأصدر مجلس الأمن العتيد قراراً بسحب القوات السورية من لبنان، ولم تنفع احتجاجات الحكومة اللبنانية أنها لم تطلب ذلك، وأن إسرائيل تحتل جزءاً من لبنان.
وأين مجلس الأمن وبنده السابع من احتلال فلسطين، بل أين هو من الجدار الفاصل؟ كل هذا لا يهم، ولكن يجب على سوريا أن تعيد ترتيب أوراقها بسحب الغطاء السوري عن حزب الله في لبنان، وأن تركز جهودها لضبط الحدود مع العراق ومنع تسلل المجاهدين عبرها، وأن تتخلى عن المنظمات الفلسطينية بتقديم ما لديها من معلومات عن هياكل التنظيمات. وقد تمت تصفية أحد قيادات حماس في دمشق وسط تبجح إسرائيلي بالتنفيذ وشبه سكوت سوري عن انتهاك السيادة. تمر سوريا هذه الأيام بآخر مراحل الترويض، ويبدو أن النظام السوري يفقد أوراقه بسرعة، ولم يبق له إلا تهديد الأسد الأب بأن يطلق لحيته.
أما السودان فإن مشروع تقسيمه قديم؛ فالجنوب قد انتهى أمره، وغربه على وشك ذلك، أما الشرق فالحركات المسلحة للبجه أقدم وأقوى من دارفور، ولا نظن أن الأمر سينتهي بتكوين كيانات هزيلة تنهب خيراتها بلا ثمن، بل المقصود أمران مهمان هما: تكوين حاجز بين العرب ووسط أفريقيا، والثاني ـ وهو الأخطر ـ محاصرة مصر وإضعافها تمهيداً للمرحلة القادمة عندما تصبح في دائرة الضوء، وتعطى مهلة شهرين لحل مشكلة الأقباط ورفع الاضطهاد عنهم بعد سلسلة من الحوادث المفتعلة في الصعيد.
إن الأحداث قابلة للتكرار وبالتفاصيل نفسها أحياناً؛ لأن أمريكا لن تكلف نفسها كتابة نص مسرحي جديد، ولا نظن أن البلدان المستهدفة سيفيدها تقديم التنازلات؛ لأنها ستستمر كما حدث مع العراق، وليس هناك مفر لأي نظام يريد البقاء إلا تطبيق نظرية الأسد أي: إن كل بلد يجب أن يحافظ على وجود تيار شعبي إسلامي قوي، بل يدعمه مما يجعل البلد غير قابل للاحتلال ـ فكرياً وسياسياً ـ بسهولة وسيجعل البقاء فيه مستحيلاً.
إن هذا الوضع سيعطي الأنظمة قدرة على المناورة، ويمنحها الحرية والاستقلال الذي تم سلبه من الجميع.
إن العراق يعطي مثالاً حياً على أن الإسلام فقط هو القادر على الصمود، وأنه مهما حاول الاحتلال تجاوز أخطائه القاتلة وتغيير أساليبه الفجة؛ فإن المقاومة الإسلامية هي العامل المشترك لأي مقاومة لغاصب أو محتل؛ لأن ما يجري في العراق حالياً هو نتيجة التجربة الأولى لأمريكا في المنطقة والتي أسكرتها مظاهر النصر المبدئية، ولذا لم تبالِ، فجرى إذلالُ عامة الناس وخاصتهم علناً، وحلُّ الجيش العراقي وتسريح الضباط والجنود جماعياً، بل ألغوا وزارة الداخلية. ولم يبالوا بالسنَّة، وأبعدوا جزءاً من الشيعة؛ ولذا تشكلت مجاميع مقاومة كثيرة يجمعها كراهية المحتل وإن اختلفت الأسباب؛ فكثير من الجنود والضباط فقدوا لقمة العيش والوجاهة التي كانوا يتمتعون بها، وكان من المحتمل عدم انخراطهم في المقاومة لو استمر الحفاظ على تماسك الجيش، ومثل هذا ينطبق على رجال الأمن والحزبيين. أما تيار الصدر فإن الاحتلال هو الذي استفزه، وكان يمكن للاحتلال الوقوف على الحياد في الصراع الداخلي الشيعي؛ لأن جميع التيارات الشيعية لا تضع المقاومة من أولياتها وكلها متفقة إما على التعاون مع الاحتلال، أو المقاومة السياسية له، ولكن الأمريكيين حشروا أنفسهم في هذا الصراع، وقرروا تصفية الصدر حتى ولو أدى ذلك إلى انتهاك مقدسات الشيعة مما أفقدهم دعم العامة، وأحرج حلفاءهم من المراجع والسياسيين. وما زال الصدر موجوداً على الساحة ينتظر فرصة أخرى تجعل منه الزعيم الأوحد لشيعة العراق والخليج؛ سواء بقيت أمريكا في المنطقة أو انسحبت.
أما التيارات الدينية السنية فهي مُجمِعة على مقاومة الاحتلال وعدم التعامل معه، وما يقوم به الاحتلال حالياً هو محاولة الدخول من جديد في المدن السنية التي أُخرج منها، وبدأ بسامراء، ويتوقع الجيش الأمريكي ـ بضرباته الوحشية المتشنجة ـ أنه سيتمكن من تحقيق إنجازات تدعم فرص بوش بالفوز، وتجعل تمثيلية الانتخابات في العراق أكثر إتقاناً. إنها مغامرة جديدة سيسقط فيها كثير من الضحايا من النساء والأطفال، وستغرق فيها أمريكا، ولن تستطيع الخروج منها بسهولة؛ فمن توسط لهم وأخرجهم من ورطة الفلوجة لن يستطيع تكرار التجربة؛ لأن المفاصلة بين السنة والمحتل تتعمق وتتجذر، ولن تتوقف المقاومة إلا بخروج المحتل وأذنابه.
ونحن نؤكد هنا أن المقاومة الشعبية المستندة إلى المبادئ الصحيحة لا يمكن قهرها ولا إغراؤها؛ ولذا فإن جهاد أهل السنة هو الباقي في العراق، وهو ما سيقابل الغرب في أي مغامرة جديدة مهما استفادوا من أخطائهم، أو غيَّروا من أساليبهم؛ فهل نعقل ذلك شعوباً وحكومات؟ فقد قال - تعالى -: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] .