(1 ـ 2)
خالد بن إبراهيم الدعيجي
جاء في التقرير السنوي لنشاط سوق الأسهم السعودية ما نصه:
«بلغت القيمة السوقية للأسهم المصدرة في نهاية عام 2003م (589.93) مليار ريال، وذلك بارتفاع نسبته (110.14%) مقارنة مع ما كانت عليه في نهاية العام السابق 2002م عندما بلغت (280.73) مليار ريال.
أما القيمة الإجمالية للأسهم المتداولة خلال عام 2003م فقد بلغت نحو (596.5) مليار ريال، مقابل (134) مليار ريال لنفس الفترة من العام السابق 2002م، محققة بذلك نسبة ارتفاع بلغت (346%) .
حكم تداول أسهم الشركات التي تقترض أو تودع بالربا
جاء في التقرير السنوي لنشاط سوق الأسهم السعودية ما نصه:
«بلغت القيمة السوقية للأسهم المصدرة في نهاية عام 2003م (589.93) مليار ريال، وذلك بارتفاع نسبته (110.14%) مقارنة مع ما كانت عليه في نهاية العام السابق 2002م عندما بلغت (280.73) مليار ريال.
أما القيمة الإجمالية للأسهم المتداولة خلال عام 2003م فقد بلغت نحو (596.5) مليار ريال، مقابل (134) مليار ريال لنفس الفترة من العام السابق 2002م، محققة بذلك نسبة ارتفاع بلغت (346%) .
أما إجمالي عدد الأسهم المتداولة خلال عام 2003م فقد بلغت نحو (5.6) مليار سهم مقابل (1.7) مليار سهم لنفس الفترة من العام السابق 2002م، محققة بذلك نسبة ارتفاع مقدارها (221%) .
أما إجمالي عدد الصفقات المنفذة خلال عام 2003م، فقد بلغ نحو (3.76) مليون صفقة مقابل (1.03) مليون صفقة لنفس الفترة من عام 2002م محققة بذلك نسبة ارتفاع مقدارها (246%) » (?) .
تأمل معي أخي القارئ هذه الأرقام الخيالية، والقفزات الهائلة في نسب القيم السوقية وعدد الأسهم المتداولة والصفقات المبرمة، إنها لتدل على أن السوق المالية السعودية مقبلة على مزيد من الاستثمار في الأوراق المالية، وما زال الأمر في بداية الطريق، ومن المتوقع أن يتم افتتاح سوق «بورصة» سعودية يتم فيها إجراء عدد من العقود المالية المتنوعة، كما هو الحال في الأسواق العالمية.
إن هذه الأرقام الناطقة في التقرير السابق تدعونا لقراءة قوائم المراكز المالية لهذه الشركات المتداولة أسهمها في السوق لمعرفة هل هذه الشركات قائمة على معاملات مباحة خالصة من المحرم، أما أنها تزاول المحرم في معاملاتها؟
وإن كانت الثانية فهل نسبة المحرم كثيرة أم قليلة؟ وما هو المحرم الذي تمارسه: هل هو الإيداع بفوائد، أم أنها تقترض بفوائد، أم أنها تستثمر جزءاً من أموالها في شركات محرمة؟
ومما يدعونا أيضاً لقراءة قوائم هذه الشركات الأسئلة الكثيرة التي ترد إلى طلبة العلم من قِبَل المساهمين مثل:
- ما هي الشركات التي يباح المساهمة فيها؟
- كيف يمكن أن أتخلص من المحرم إذا كانت الشركة تتعامل بالمحرم؟
- أنا لا أستثمر بل أتاجر؛ فكيف أتخلص من المحرم؟
هذه الأسئلة وغيرها كثير تدل دلالة واضحة على أن نسبة عظمى ممن يساهم في هذه الشركات يتوق إلى الحلال، ولا يريد أن يطعم من يعول الحرام.
ولهذا قام الباحث بإجراء دراسة علمية لـ (16) شركة من شركات السوق السعودي، وكان الهدف من الدراسة معرفة المعاملات المالية المحرمة التي تجريها الشركات، وقد نشرت هذه الدراسة في موقع الإسلام اليوم، وقد خلص الباحث إلى ما يلي:
أن الشركات المساهمة تنقسم من حيث طبيعة عملها: هل هو مباح أو حرام؟ إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما كان عملها مباحاً بالكامل، أي لا تزاول أي عمل محرم، وهذا مثل البنوك الإسلامية الجادة في أسلمة معاملاتها، وبعض الشركات؛ إذ توفرت الشروط السابق ذكرها أثناء دراسة قوائم هذه الشركات.
القسم الثاني: ما كان عملها محرماً بالكامل أو بالأغلب، وهذه مثل البنوك الربوية.
القسم الثالث: ما كان عملها في الأصل مباحاً، ولكنها تتعامل بالمحرم من إيداع بفوائد أو تقترض وتقرض بفوائد، أو تستثمر أموالها بمعاملات محرمة قطعاً كالسندات، وهذا القسم يمثل أكثر شركات السوق، وهذه الشركات تتفاوت فيما بينها ما بين مقل ومكثر في تعاملها بالمحرم.
فما حكم هذه الأنواع الثلاثة من الشركات؟
أما النوع الأول فلا إشكال في إباحته.
والنوع الثاني كذلك لا إشكال في حرمته.
وأما النوع الثالث فقد اختلف فيه العلماء المعاصرون على أربعة أقوال:
القول الأول: الجواز بشروط.
القول الثاني: الجواز في شركات القطاع العام والتحريم في غيرها.
القول الثالث: أن ذلك يرجع إلى نية المساهم؛ فإن كان بقصد المتاجرة فإنه يجوز مطلقاً، وإن كان بقصد الاستثمار فيحرم.
القول الرابع: التحريم مطلقاً.
وقبل أن نذكر هذه الأقوال وأدلتها بالتفصيل يحسن بنا ذكر توطئة كمدخل لهذه المسألة النازلة:
ü توطئة:
نشاط الشركة ـ كما سبق بيانه ـ لا يخلو من ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن يكون جميع نشاط الشركة محرماً:
والمقصود بهذه الحال أن يكون جل نشاط الشركة المساهمة في أمور محرمة.
ويدخل في هذه الحال:
1 - الشركات التي تتاجر بالخمور أو المخدرات أو القمار.
2 - المصارف الربوية بشتى أنواعها؛ لأن جل نشاطها في التمويل بفائدة.
3 - شركات التأمين التجاري.
4 - شركات الإعلام الهابط، أو الإعلام المحارب للعقائد والمبادئ الإسلامية.
«ولا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم كالتعامل بالربا أو إنتاج المحرمات أو المتاجرة بها» (?) ؛ لأن من شرط صحة البيع أن يكون المبيع مباحاً، وهذه الأسهم محرمة.
الحال الثانية: أن يكون جميع نشاط الشركة مباحاً:
وهي الشركات التي تقع كل عملياتها في دائرة الحلال؛ حيث يكون رأس المال حلالاً، وتتعامل في الأنشطة المباحة، وينص نظامها وعقدها التأسيسي على أنها تتعامل في حدود الحلال، ولا تتعامل بالربا إقراضاً أو اقتراضاً، ولا تتضمن امتيازاً خاصاً أو ضماناً مالياً لبعض دون بعض.
فهذا النوع من أسهم الشركات ـ مهما كانت تجارية أو صناعية أو زراعية ـ لا خلاف في جواز إنشائها والاكتتاب بها وبيعها وشرائها.
ويمكن أن نمثل لهذا النوع بالمصارف الإسلامية التي ثبتت جديتها في أسلمة أعمالها المصرفية كلها.
الحال الثالثة: أن يكون أصل نشاط الشركة مباحاً، ولكن تتعامل ببعض الأنشطة المحرمة:
ويقصد بها تلك الشركات التي لا يغلب على استثماراتها أنها في أمور محرمة، وإنما تنتج سلعاً وخدمات مشروعة، ولكن وجودها في بيئة رأسمالية قد يؤدي إلى أن تمول عملياتها عن طريق الاقتراض الربوي أو توظف سيولتها الفائضة توظيفاً ربوياً قصير الأجل.
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء المعاصرون اختلافاً كبيراً، وقبل أن نبدأ في ذكر الأقوال في هذا النوع من الشركات يحسن بنا أن نحرر محل النزاع في هذه المسألة:
ü تحرير محل النزاع:
لا خلاف بين العلماء المعاصرين على الأمور التالية:
1 - أن المساهمةَ في الشركات التي يغلب عليها المتاجرة بالأنشطة المحرمة محرمةٌ، ولا تجوز لما فيها من الإعانة على الإثم والعدوان.
2 - وأن من يباشر إجراء العقود المحرمة بالشركة ـ كأعضاء مجلس الإدارة الراضين بذلك ـ يكون عملهم محرماً، قلّت نسبة الحرام في الشركة أم كثرت.
3 - وأن الاشتراك في تأسيس شركات يكون من خطة عملها أن تتعامل في جملة معاملاتها بالعقود المحرمة، أو كان منصوصاً في نظامها على جواز ذلك؛ فإن هذا الاشتراك محرم.
4 - وأن المساهم لا يجوز له بأي حال من الأحوال أن يدخل في ماله كسب الجزء المحرم من السهم، بل يجب عليه إخراجه والتخلص منه، حتى على القول بجواز مساهمته.
واختلفوا في حكم المساهمة في الشركات المشروعة من حيث الأصل، لكنها تتعامل في بعض معاملاتها بالأنشطة المحرمة، أو تقترض أو تودع بالفوائد على أربعة أقوال:
القول الأول: الجواز.
وممن ذهب إلى هذا القول: الهيئة الشرعية لشركة الراجحي (?) ، والهيئة الشرعية للبنك الإسلامي الأردني (?) ، والمستشار الشرعي لدلة البركه (?) ، وندوة البركة السادسة (?) ، وعدد من العلماء المعاصرين (?) .
وقد اشترط أصحاب هذا القول شروطاً إذا توفرت جاز تداول أسهم هذا النوع من الشركات، وإذا تخلف منها شرط لم يجز، ومنها:
ما جاء في قرار الهيئة الشرعية لشركة الراجحي المصرفية رقم (485) :
«يجب أن يراعى في الاستثمار والمتاجرة في أسهم هذا النوع من الشركات المساهمة الضوابط الآتية:
1 - إن جواز التعامل بأسهم تلك الشركات مقيد بالحاجة، فإذا وجدت شركات مساهمة تلتزم اجتناب التعامل بالربا وتسد الحاجة فيجب الاكتفاء بها عن غيرها ممن لا يلتزم بذلك.
2 - ألا يتجاوز إجمالي المبلغ المقترض بالربا سواء أكان قرضاً طويل الأجل أم قرضاً قصير الأجل (25%) من إجمالي موجودات الشركة؛ علماً أن الاقتراض بالربا حرام مهما كان مبلغه.
3 - ألا يتجاوز مقدار الإيراد الناتج من عنصر محرم (5%) من إجمالي إيراد الشركة سواء أكان هذا الإيراد ناتجاً عن الاستثمار بفائدة ربوية، أم عن ممارسة نشاط محرم، أم عن تملك المحرم أم عن غير ذلك. وإذا لم يتم الإفصاح عن بعض الإيرادات فيجتهد في معرفتها، ويراعى في ذلك جانب الاحتياط.
4 - ألا يتجاوز إجمالي حجم العنصر المحرم ـ استثماراً كان أو تملكاً لمحرم ـ نسبة (15%) من إجمالي موجودات الشركة.
والهيئة توضح أن ما ورد من تحديد للنسب في هذا القرار مبني على الاجتهاد، وهو قابل لإعادة النظر حسب الاقتضاء» .
وذهبت الهيئة الشرعية لدلة البركة إلى التفريق بين الأنشطة المحرمة التي تزاولها الشركة:
فإن كان أصل نشاطها مباحاً، ولكنها تتعامل بجزء من رأس مالها مثلاً بتجارة الخمور، أو إدارة صالات القمار، ونحوها من الأنشطة المحرمة، فلا يجوز تملك أسهمها ولا تداولها ببيع أو شراء.
أما إن كانت تودع أموالها في البنوك الربوية، وتأخذ على ذلك فوائد، أو أنها تقترض من البنوك الربوية، مهما كان الدافع للاقتراض؛ فإنه في هذه الحالة يجوز تملك أسهمها بشرط احتساب النسبة الربوية وصرفها في أوجه الخير (?) .
واتفق المجيزون على أنه يجب على المساهم في هذه الحال أن يتحرى مقدار ما دخل على عائدات أسهمه من الإيرادات المحرمة، وذلك من واقع القوائم المالية للشركة، فيتخلص منها بتوزيعها على أوجه البر، دون أن ينتفع بها أي منفعة، ولا أن يحتسبها من زكاته، ولا يعتبرها صدقة من حُرّ ماله، ولا أن يدفع بها ضريبة حكومية، ولو كانت من الضرائب الظالمة؛ لأن كل ذلك انتفاع بذلك العنصر الحرام من عائدات أسهمه (?) .
ويمكن أن يستدل لهم بالأدلة الآتية (?) :
الدليل الأول:
ما روى زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «رخص في العرايا: أن تباع بخرصها كيلاً» متفق عليه (?) .
وجه الدلالة منه:
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن المزابنة، كما جاء في حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المزابنة: أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلاً بتمر كيلاً، وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيب كيلاً، وإن كان زرعاً أن يبيعه بكيل طعاماً، نهى عن ذلك كله» متفق عليه (?) .
ثم إنه ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه رخص في العرايا يبتاعها أهلها بخَرْصها تمراً، فيجوز ابتياع الربوي هنا بخرصه، وأقام الخَرْصَ عند الحاجة مقام الكيل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «لما نهاهم عن المزابنة لما فيها من نوع ربا، أو مخاطرة فيها ضرر أباحها لهم في العرايا للحاجة؛ لأن ضرر المنع من ذلك أشد» (?) .
وقال أيضاً: «ويلحق بالعرايا ما كان في معناها؛ لعموم الحاجة إلى ذلك» (?) .
وقال أيضاً: «يجوز للحاجة ما لا يجوز بدونها، كما يجوز بيع العرايا خرصاً بالتمر» (?) .
وعليه: «فإن الشركات المساهمة التي ظهرت في العصور الحديثة نتيجة لتطور الحياة المعاصرة ومنجزاتها العلمية، وظروفها الاقتصادية، وتأمين المرافق الكبرى كالكهرباء وشبكات المياه والهاتف والنقل، واستثمار الثروات الطبيعية المختلفة على النطاق المجدي اقتصادياً، كل ذلك يجعل تأسيس الشركات المساهمة حاجة حيوية عامة. وهذا يستلزم جواز تأسيس هذا النوع من الشركات التي أصل نشاطها حلال لكن تتعامل بالربا للحاجة العامة، فيصبح امتلاك أسهمها للاستثمار وأخذ أرباحها حاجة عامة أيضاً، ولا سيما بالنسبة إلى صغار المدخرين وأموال الأيتام والأرامل وسائر العاجزين عن استثمار ما لديهم من وفر ولا يكفي ما لديهم لمشروع تجاري، أو شراء عقار واستغلاله» (?) .
وقال الشيخ ابن منيع ـ حفظه الله ـ: «إن حاجة الناس تقتضي الإسهام في هذه الشركات الاستثمارية لاستثمار مدخراتهم فيما لا يستطيعون الاستقلال بالاستثمار فيه، كما أن حاجة الدولة تقتضي توجيه الثروة الشعبية إلى استخدامها فيما يعود على البلاد والعباد بالرفاهية والرخاء» (?) .
وعليه تقاس مسألة الإسهام بشركات تتعامل بالربا بشرط أن يكون أصل تعاملها بالحلال، على مسألة العرايا، كما قال شيخ الإسلام: «ويلحق بالعرايا ما كان في معناها لعموم الحاجة إلى ذلك» (?) .
ولهذا يرى هؤلاء العلماء:
أن الإسهام في هذه الشركات يلبي حاجة عامة للأمة، دولة وأفراداً؛ فتنزل منزلة الضرورة الخاصة، فيجوز الإسهام فيها وإن كانت تتعامل بالربا إيداعاً واقتراضا (?) .
ويناقش هذا الاستدلال بما يلي:
أولاً: أن قياس هذه الشركات على مسألة العرايا قياس مع الفارق من وجهين:
الوجه الأول: أن الربا الذي تقوم به هذه الشركات هو من ربا الديون وهو ربا الجاهلية الذي نز ل القرآن بتحريمه؛ فهو محرم تحريم مقاصد؛ فلا يباح بحال إلا عند الضرورة المؤدية للهلاك كالمضطر لأكل الميتة، وأما الربا الذي في العرايا فهو من ربا الفضل، وهذا تحريمه تحريم وسائل، فيباح عند الحاجة (?) .
الوجه الثاني: أن أصل القياس على الرخص أمر مختلف فيه؛ فالحنابلة والحنفية وقول لدى المالكية لا يرون القياس على الرخص، ولهذا لم يقيسوا على ثمر النخل غيره، فاقتصروا على مورد النص، ولم يروا اطِّراد الحكم في الزبيب والزرع (?) .
ثانياً: وأما دعوى أن الإسهام في هذا النوع من الشركات يجوز من باب أنها من الحاجة العامة التي تنزل منزلة الضرورة الخاصة، فلا يسلم بذلك لما يلي:
1 - أنها لم تتعين طريقاً للكسب؛ إذ يوجد طرق أخرى من الكسب المشروع الحلال تغني عنها، ومن ادعى أن الحرام عم الأرض بحيث لا يوجد طريق للكسب المشروع يغني عن المشبوه فعليه الدليل (?) .
2 - وعلى فرض وجود الحاجة؛ فإن من شروطها التي توجب تدابير استثنائية من الأحكام العامة أن تكون عامة لجميع الأمة، وليست هناك حاجة لعموم الأمة لأسهم الشركات التي تتعامل بالربا، ونسبة المستثمرين في الأسهم من عامة الناس أقل بكثير من غير المستثمرين بها.
3 - وإن من شروط اعتبار الحاجة أن لا تصادم نصاً، وهذا الشرط منتفٍ هنا؛ إذ إن النصوص متوافرة على تحريم الربا قليله وكثيره (?) .
4 - وإن من شروط تنزيل الحاجة العامة منزلة الضرورة الخاصة أن يقطع بارتفاع الحاجة بارتكاب المحظور، وفي الاستثمار بالأسهم قد يسهم الفرد في شركة تتعامل بالربا فيخسر فتزداد حاجته، أو لا يربح فتبقى حاجته (?) .
5 - وإن من شروط تنزيل الحاجة العامة منزلة الضرورة الخاصة أن تقدر الحاجة بقدرها؛ فإذا كانت الضرورة تقدر بقدرها؛ فما بالك بالحاجة التي هي أدنى من الضرورة؟ فهل يسوغ القول بأن تتعدى قدرها إلى أن نجعلها تشريعاً عاماً؟ (?) .
6 - ولو صح العمل بمقتضى قاعدة الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة للزم من ذلك القول جواز الاستثمار في السندات دفعاً للضرورة (?) .
7 - وأيضاً للزم من ذلك فتح باب المحرمات بحجة الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة؛ فهذه القاعدة قد تصبح محل استغلال، بل حجة في الخروج من الحرمة إلى الإباحة لدى كثير من المتفقهين المسايرين للتيارات المعاصرة؛ فالاستناد إليها في تحليل المحرم دائماً مع وجود بدائل وحلول شرعية أخرى يمكن الأخذ بها ليس من قبيل الرجوع إلى التشريع المقرر، بل يكاد يكون نابعاً من اتباع الهوى وإرضاء النفوس المريضة، والانقياد مع نزوات النفس.
8 - وأخيراً: لو فرضنا أن الاستثمار في الأسهم يحقق حاجة ومصلحة للبلد؛ فما القول في الاستثمار في الأسهم العالمية؟ والتي أصبحت تفوق في نفوذها وسيطرتها سوق الأسهم المحلية؟
«ويكفي أن نعرف أن استثمارات الصناديق في الأسهم المحلية في عام 1998م لم تتجاوز (1,3) مليار ريال، وهي لا تشكل سوى نسبة ضئيلة من حجم السوق الذي بلغ في العام ذاته (24,38) مليار ريال، في حين بلغت استثمارات الصناديق في الأسواق العالمية (9,8) مليار ريال، ولغة الأرقام هذه تعطي دلالة واضحة على التدفقات الضخمة الخارجة من البلد والتي تنعم بها الشركات الأجنبية، وتصنع بها الرفاهية في بلادها، كل ذلك تسوِّق له الصناديق متذرعةً بأنها لا تساهم في شركات الخمور والقمار وغير ذلك؛ فهل يكفي ذلك لاستباحة الفوائد بحجة أنها تحقق حاجة ملحة للبلد؟» (?) .
الدليل الثاني:
ما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من ابتاع عبداً وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع» متفق عليه (?) .
وجه الاستدلال:
أن الحديث دل على جواز بيع العبد مع ماله بثمن نقدي دون مراعاة لشروط الصرف؛ لأن المال الذي مع العبد تابع لا مقصود.
وعلى ذلك: «فهذا النوع من الأسهم وإن كان فيه نسبة بسيطة من الحرام لكنها جاءت تبعاً، وليست أصلاً مقصوداً بالتملك والتصرف» (?) .
ومن هذا الحديث أخذ العلماء قاعدة عامة وهي: «يجوز تبعاً ما لا يجوز استقلالاً» .
ولهذه القاعدة تطبيقات متعددة منها: جواز بيع الحامل، والدار مع الجهل بأساسات الحيطان وغير ذلك (?) .
«فيمكن اعتبار بيع سهم ـ من هذا النوع ـ من جزئيات هذه القاعدة» (?) .
نوقش هذا الاستدلال من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن الحديث ورد في مسألة منصوص أو مجمع على حرمتها استقلالاً وجوازها تبعاً، وهذا بخلاف ما معنا؛ فإن المحتج بهذا الدليل يريد أنه إذا حرم استقلالاً يجوز الاجتهاد في حله تبعاً، وليس هذا الذي عناه الفقهاء من الحديث، لا سيما في باب الربا المقطوع بتحريمه وضرره (?) .
الوجه الثاني: بأن التبع الذي يغتفر مما كان أصله المنع يشترط فيه أن يكون غير مقصود، أما هنا فإن الإيداع أو الاقتراض بفوائد مقصود في عمل الشركة، ولذا تلحظ إصرار المجالس الإدارية للشركات على هذا العمل مع علمهم بتحريمه (?) .
الوجه الثالث: أن قياس تملك الأسهم على تملك العبد ونحوه قياس مع الفارق؛ فإن المحظور في تملك العبد هو في البيع نفسه لا في العبد، بينما في السهم يظل التحريم ملازماً لملكية السهم حتى بعد العقد، فتعاطي العقود المحرمة سيظل باقياً حتى بعد امتلاك السهم، ويد المساهم هي يد شريك؛ فكون الشركة أكثر أعمالها مباحة لا يبيح لها ممارسة قليل الحرام، ولهذا لم يجوِّز أهل العلم - القائلون بجواز بيع العبد بماله ـ أن يستثمر الشريك ماله بأمور محرمة ولو كانت يسيرة غير مقصودة (?) .
ونوقش استدلالهم بقاعدة (يجوز تبعاً ما لا يجوز استقلالاً) بما يلي:
أولاً: أن هذه القاعدة معارَضة بأدلة وقواعد قد تكون أقوى منها دلالة في هذا الباب؛ فمن ذلك:
1 - ما ثبت في مسلم من حديث فضالة بن عبيد ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر ديناراً، فيها ذهب وخرز، ففصلتها، فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً، فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «لا تباع حتى تُفَصَّلَ» (?) .
فلم يتساهل النبي -صلى الله عليه وسلم- في التابع الذي مع الربوي، مما يبين أن الربا قليله وكثيره حرام بخلاف غيره من المحظورات كالغرر ونحوه؛ فقد يتسامح في قليلها.
2 - قاعدة: «إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام» .
3 - قاعدة: «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» .
ثانياً: أن القواعد الفقهية ليست من الأدلة الشرعية المتفق عليها أو المختلف فيها التي نص عليها علماء الفقه والأصول، فلا يصح الاحتجاج بها (?) .
الدليل الثالث:
الاستدلال بقاعدة: «اختلاط الجزء المحرم بالكثير المباح لا يصيِّر المجموع حراماً» .
وقاعدة: «للأكثر حكم الكل» .
ومفاد هاتين القاعدتين أن اليسير المحرم إذا كان مغموراً في الكثير المباح فإنه لا يؤثر في صحة التصرفات الشرعية من بيع وشراء وإجارة وغير ذلك.
والأصل في ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعامل اليهود بيعاً وشراءً ورهناً وقرضاً مع أن الله وصفهم بأكل السحت والربا وأكل أموال الناس بالباطل.
وقد ذكر العلماء لهاتين القاعدتين تطبيقات متعددة في أبواب الطهارة، والعبادات، والمعاملات والصيد والأطعمة واللباس كالحرير، وغيرها (?) ؛ فمن ذلك:
ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: «الحرام إذا اختلط بالحلال فهذا نوعان:
أحدهما: أن يكون محرَّماً لعينه كالميتة، فإذا اشتبه المُذكّى بالميتة حُرِّما جميعاً.
الثاني: ما حرم لكونه غصباً، والمقبوض بعقود محرمة كالربا والميسر؛ فهذا إذا اشتبه واختلط بغيره لم يحرم الجميع، بل يميز قدر هذا من قدر هذا، فيصرف هذا إلى مستحقه وهذا إلى مستحقه» (?) .
وسئل عن معاملة من كان غالب أموالهم حراماً، فقال: «إذا كان الحلال هو الأغلب لم يحكم بتحريم المعاملة، وإن كان الحرام هو الأغلب، قيل بحل المعاملة، وقيل: بل هي محرمة. فأما المتعامل بالربا فالغالب على ماله الحلال، إلا أن يعرف الكره من وجه آخر، وذلك أنه إذا باع ألفاً بألف ومائتين فالزيادة هي المحرمة فقط» (?) .
وبناءً على ذلك فإن «جزءاً يسيراً من أسهم الشركات التي هي موضوع بحثنا من هذا النوع حرام، والباقي منها وهو الكثير مباح» (?) . أي فيكون الحكم للأكثر وهو المباح.
ونوقش هذا الاستدلال من خمسة أوجه:
الوجه الأول: لا يُسلّم بأن نسبة الربا في هذه الشركات قليلة جداً، لما يلي (?) :
1 - ما توصل إليه الباحث من خلال دراسته لبعض الشركات في السوق من أن نسبة التعامل بالمحرم وصلت إلى 52% (?) .
2 - أنه من الصعب إيجاد ضابط لذلك؛ فقد ترتفع نسبة الربا في سنة، وقد تهبط في أخرى، وما دامت الشركة لا تتورع عن الربا فإن نسبة تورطها فيه تخضع لمعايير تجارية ونظريات اقتصادية.
3 - أن الشركات حديثة التأسيس التي لم تزاول نشاطها بعد قد ثبت من خلال الرجوع إلى ميزانياتها أنها تستثمر رأس مالها في الربا حتى يحين وقت توظيفه في مشروعها الأساسي، بل إن بعض هذه الشركات قد توزع أرباحاً للمساهمين وهي لم تزاول نشاطها بعد، وهذا يدل على أنها استخدمت أكثر رأس مالها في الربا.
4 - أن نظام الشركات يفرض على الشركات المساهمة أن تخصص جزءاً من ربحها سنوياً ليكون احتياطياً لها، وهذه النسبة تختلف باختلاف الأنظمة؛ ففي نظام الشركات السعودي تنص (م 15) منه على ما يلي: «تجنيب مجلس الإدارة كل سنة 10% من الأرباح الصافية لتكوين احتياطي يسمى الاحتياطي النظامي، ويجوز أن تقرر الجمعية العامة العادية وقف هذا التجنيب متى بلغ الاحتياطي المذكور نصف رأس المال» .
وعلى هذا فإن هذه الشركات المساهمة التي لا تتورع عن الربا لو التزمت حرفية النظام فجنبت الاحتياطي لدى أحد المصارف، وأخذت عليه فائدة لأصبحت تستثمر ثلث مالها تقريباً في الربا وهي نسبة لا يستهان بها.
الوجه الثاني: أن قياس المشاركة في شركات تتعامل بالربا على معاملة من اختلط ماله الحرام بالحلال قياس مع الفارق (?) .
ويظهر الفرق في ثلاثة أمور:
1 - أن معاملة من اختلط ماله بالحرام تُحمل على الجزء المباح من ماله؛ حملاً لتصرفات المسلمين على الصحة. أما المشاركة في شركات تتعامل بالربا فلا يمكن تصحيح الجزء المحرم؛ لأن المال المستثمر بالربا هو عين مال الإنسان؛ فلو ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- - وحاشاه من ذلك ـ وضع أموالاً عند اليهود لاستثمارها بطريق المشاركة، أو أن أحداً من أهل العلم استعمل القاعدتين في باب المشاركة كما في البيع لكان حجة في ذلك، ولكن كل ذلك لم يكن، بل جاء عنهم ما يفيد المنع كما سيأتي.
2 - أنه لو صح هذا القياس ـ أي قياس الشركة على المعاوضة ـ لجاز للإنسان أن يستثمر أمواله في الشركات ذات الأغراض المحرمة، قياساً على جواز المعاملة معها بالبيع والشراء، وهو أمر ممنوع بالاتفاق.
3 - أن مشاركة من يتعامل بالربا فيها معنى الإعانة على الإثم، بخلاف التعامل معه بيعاً وشراءً واستئجاراً ونحو ذلك، فإن المشتري أو المستأجر يأخذ من المرابي ما يقابل عوضه المبذول.
الوجه الثالث: أن هاتين القاعدتين مردودتان بقاعدة: «إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام» ، وقاعدة «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» .
الوجه الرابع: أن إعطاء الكل حكم الأكثر ليس على إطلاقه؛ فالشراب المسكر محرم وإن كانت الخمرة التي فيه أقل من الماء، والنجاسة إذا غيرت لون الماء أو ريحه تنجس ولو كانت قليلة (?) .
الوجه الخامس: وما نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية من جواز معاملة من اختلط ماله بالحرام لا يصح الاستشهاد به هنا لأمور:
1 - أن هذه النقول هي في حالة الاشتباه، والحالة التي نناقشها ليس فيها اشتباه، وإنما فيها علم وإقدام على شراء أسهم فيها حرام (?) .
2 - ما ذكره شيخ الإسلام وغيره عن المحرم لكسبه إنما هو فيما إذا جاء الغاصب ونحوه بمال حرام فضمه إلى ماله الحلال وخلطه، فإن هذا الخلط لا يحرم ماله الحلال لا أن العقد الفاسد ـ كما في موضوعنا ـ يكون صحيحاً؛ فهو لم يحكم بتصحيح الغصب، ولا ذلك العقد الفاسد.
وحينئذٍ إذا أراد الخلاص من الحرام يميز كلاً منهما عن الآخر، فيصرف كلاً منهما إلى مستحقه؛ فالمغصوب إلى المغصوب منه، والحلال يبقى عنده.
وهذا الحكم متفق عليه؛ فلا يُحكم بحرمة جميع مال المساهم الذي اشترك في الشركة معتقداً أنها لا تودع ولا تقرض بفوائد ربوية، ثم يتبين له مستقبلاً أنها تفعل ذلك، وإنما يقدر نصيب أسهمه من الفوائد الربوية ويخرجها منه، أو من ربحها؛ لأنها محرمة عليه، والباقي حلال له، لكن نقول: إن المساهم الذي يعلم أن الشركة تأخذ وتعطي فوائد ربوية يحرم عليه البقاء فيها، كالغاصب أو المتعامل بعقد فاسد يحرم عليه الاستمرار فيه؛ فهذا هو مراد أهل العلم فيما نقل عنهم (?) .
3 - أن في معاملة من في ماله حلال وحرام لا يجزم المتعامل معه بالبيع والشراء والاستئجار ونحو ذلك أن نصيبه وقع في الحرام قطعاً، بخلاف المساهم في الشركات التي تتعامل بالربا؛ فإنه بتملكه أسهماً في الشركة سيسهم قطعاً مع الشركاء فيما سيستقبلونه من أعمال تالية لتملك السهم؛ فإذا كانت هذه الأعمال محرمة؛ فبأي وجه يمكن تجويزها، ومن المعلوم أن السهم حصة شائعة في الشركة بجميع ما تشتمل عليه من أصول ثابتة أو منقولة أو حقوق أو أرباح ملوثة أو غير ذلك، ولا يمكن تمييز حصته عما عداه من الشركاء (?) .
4 - على أنه قد ورد عن بعض السلف تحريم التعامل مع المرابي ونحوه، فقد سئل الإمام أحمد عن الذي يعامل بالربا، يؤكل عنده؟ قال: لا، «قد لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آكل الربا وموكله» (?) ، وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالوقوف عند الشبهة (?) ا. هـ.
وللمقال بقية في العدد القادم