هيثم حداد
كتب فضيلة الشيخ الدكتور عبد العزيز كامل مقالاً أشبه ما يكون بورقة عمل تهدف إلى المساهمة في انتشال الأمة من حالتها الحالية إلى حالة أفضل في ظل الوضع الراهن المتمثل في خطط وأساليب جديدة في حرب الإسلام، وقد ذكر وأعاد دور العلماء القيادي، بل جعل شغور موقع القيادة الجماعية للأمة لب المشكلة وأساسها، ثم عرَّفه بأنه شغور مواقع القيادة عن العلماء الذين يستطيعون توجيه دفة الأمة من مواقعهم العلمية، وهو الأمر الذي قصر دور العلماء في جل الأوقات على علاج بعض مشكلات فردية، وحوادث جزئية.
لعل من أسباب هذه المشكلة الرئيسة عجز العلماء عن القيام بالدور المتوقع منهم، والنَّوْء بتلك المسؤولية التي حمّلهم الله إياها، ولا شك أن الزخم يكثر هذه الأيام مع كثرة المصائب التي تتساقط على الأمة، وغياب الرأي الشرعي في قضايا مفصلية يمر بها العالم الإسلامي مطالباً العلماء بدور ريادي يقودون من خلاله جموع الأمة، أو على الأقل يوجهونهم نحو الوجهة الشرعية المناسبة التي تتمحور حول السياسة الشرعية، تلك السياسة التي لا يحسنها إلا من يجمع بين علم واسع بالشريعة أصولاً، وفروعاً، نظراً واستدلالاً، وبين فقه للواقع المعقد الذي نعيشه في هذه الأيام.
وكثيراً ما يقلِّب المرء ناظريه حينما تنزل بالأمة دواهٍ، باحثاً أولاً عن نظرة شرعية لتلك الأحداث، ثم توجيه مناسب لما ينبغي عليه فعله، شافعاً ذلك بدعاء بالثبات على الحق، وتفاؤل بنصر الدين.
لكن أيها السادة القراء! ألا تظنون معي أن مطالبة العلماء بهذا الدور الضخم والنَّوْء بهذه المسؤولية التاريخية فيه نوع من تسويغ لإخفاق الأمة بشتى فعالياتها في إنشاء العلماء القادة الذين يمكن أن يقوموا بهذه الأحمال الثقال؟ ألا تتفقون معي أن ثمت خلطاً بين الدور الذي نتطلع إليه من قِبَل حَمَلة العلم الذين نتحدث عنهم وبين الدور المنوط بالعلماء القادة الحقيقيين للأمة؟ وبقدر ازدياد حجم هذا الخلط ينمو في المقابل وبالتوازي انفصام نكد بين منزلة من يحمل شيئاً من العلم وكفى، ومنزلة العالم القائد ودوره.
النبي -صلى الله عليه وسلم- كان عالماً قائداً، وأبو بكر كان قائداً عالماً، وعمر وعثمان وعلي كانوا كذلك، بل كثير من خلفاء بني أمية، وبني العباس كانوا قادة علماء، وفي عهدهم وجد علماء قادة أمثال الإمامين عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل، لكنّ الاستقرار السياسي والاجتماعي ـ إلى حد ما ـ في تلك العهود هو الذي لم يُحْوِج أكثر علماء الشريعة إلى لعب دور قيادي ريادي على مستوى الأمة، واقتصر نشاطهم على الجانب العلمي.
وكلما كان الالتحام بين العلم والقيادة أقوى كانت حالة العالم الإسلامي أقوى، والالتحام الذي نقصده هنا ليس الالتحام بين جهة تسمى العلماء، وجهة أخرى تسمى القادة، لا، ولكن المقصود أن يجتمع في العلماء مهارات القيادة ومتطلباتها، ويجتمع في القادة أصول العلم؛ فنجد العالم قائداً، كما نجد القائد عالماً أيضاً.
ولا نعني بالقيادة هنا الموقع أو الوظيفة السياسية؛ فقد يكون العالم قائداً، ولم يتبوأ أي منصب وزاري أو سياسي أو عسكري، لكنه يقود الأمة بأقواله من خلال آرائه الشرعية الجريئة الواعية، كما يقود الأمة بأفعاله التي يشارك فيها جمهور الأمة آلامهم، وأتعابهم، وأفراحهم، نصرهم، وهزيمتهم لا سيما تلك الأفعال الشاقة التي تنطوي على مخاطر وتضحيات لا يقوم بها إلا الصادقون من المؤمنين، ألا وهم العلماء القادة الربانيون.
وحتى نقرب إلى الأذهان تلك الشخصية التي نبحث عنها نمثل بشيخ الإسلام ابن تيمية؛ فقد كان شخصية علمية فذة، لكنه في نفس الوقت كان شخصية قيادية من الدرجة الأولى، عاش في عصر تجمعه مع عصرنا بعض أوجه الشبه من حيث انتشار الاضطرابات السياسية والعسكرية من ناحية؛ فالتتار نزلوا بالبلاد، والصليبيون يتململون، والدول الإسلامية تعيش حالة من عدم الاستقرار السياسي لعدم وجود خلافة إسلامية مركزية بيدها التوجيه السياسي والاستراتيجي، ومن ناحية أخرى انتشار شيء من الفوضى الفكرية العقدية؛ حيث رفع الروافض عقيرتهم، وبالغوا في نشر مذهبهم وشبهاتهم، وانتشر التصوف الفلسفي المقيت، ثم تُوِّجَت هذه القلاقل بانعدام الرؤية الشرعية السياسية تجاه كثير من القضايا المصيرية؛ فطوائف من التتر استولوا على نواح من البلاد، وحكموا باسم الإسلام في الوقت الذي لم يطبقوا من الإسلام شيئاً؛ فهل يعتبر حكمهم شرعياً؟ وما هو الموقف من اعتدائهم على المسلمين وهجومهم على الولايات المسْلِمة الأخرى؟
كل واحدة من تلك القضايا تحتاج إلى مجامع علمية لإبداء الرأي والمشورة فيها، كما هي الحاجة إلى ذلك في عصرنا، لكن مجامعنا العلمية لم تنهض بهذا الحمل على الوجه الذي يوجه دفة العالم الإسلامي، بل ربما تقوقعت أو حصرت نفسها للبحث في دوائر ضيقة من النوازل الفقهية.
لكن شيخ الإسلام العالم القائد أبلى بلاء حسناً، بل قاد الأمة في كل قضية من القضايا السابقة إلى ساحل الإيمان والأمان، وليس هذا مقام ذكر مآثره في ذلك.
في العصر الحديث تكررت أمثلة أخرى للقيادة العلمية بدءاً بالشيخ المجاهد محمد بن عبد الوهاب الذي قاد الأمة في وقته قيادة علمية وعملية، فجاهد بلسانه، ولم يقبع في حِلَق العلم، بل تحرك بطلابه وأتباعه نحو الإصلاح الشامل، حتى جاهد بسنانه، فكان من آثاره دولة إسلامية، وقيادات علمية وعملية في بقاع أخرى خارج تلك الجزيرة.
ويحمي الله هذه الأمة بإخراج هؤلاء المجددين بين فينة وأخرى، فخرجت قيادات علمية فكرية عملية أمثال ابن باديس، والبنا، والمودودي، وغيرهم، وإن كان ثمت اختلاف وتباين في مقدرتها العلمية أو العملية، لكن الجامع لها كلها: قيادة الأمة بعلم وعمل.
لِمَ برز هؤلاء وانتشرت دعواتهم، ولا زالت ذاكرة الأمة محفورة بأسمائهم، وأفعالهم، وآثارهم؟
هؤلاء لم يكونوا حَمَلة علم فقط، ولم يكونوا أمراء ساسة، بل كانوا قيادات علمية، وإن لم يصل بعضهم إلى درجة يمكن أن يطلق عليه عالم، وهو ما نريده الآن.
إذاً خلاصة هذا التشخيص: «قلة العلماء المؤهلين بصفات قيادية، وانحسار دورهم» .
قال الله ـ جل وعلا ـ: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] ، قال القرطبي تبعاً لجمع من المفسرين: (والرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره) ثم قال: (وكأنه يقتدي بالرب ـ سبحانه ـ في تيسير الأمور، وروى معناه عن ابن عباس) (1) ، ثم أورد في معنى الرباني نقولات وعبارات جامعة منها: (يدبرون أمور الناس ويصلحونها) ، (العالم بدين الرب الذي يعمل بعلمه؛ لأنه إذا لم يعمل بعلمه فليس بعالم) ، (الولاة والأحبار العلماء) ، (وقال مجاهد: الربانيون فوق الأحبار) ، (وقال النحاس: «وهو قول حسن؛ لأن الأحبار هم العلماء، والرباني الذي يجمع إلى العلم البصر بالسياسة مأخوذ من قول العرب: ربَّ أمر الناس يربُّه إذا أصلحه وقام به فهو رابٌّ ورباني) . وفي شرح صحيح البخاري لابن حجر: (وَقَالَ ابْن الأَعْرَابيّ: لا يُقَال لِلْعَالِمِ رَبَّاِنيّ حتَّى يَكُون عالماً مُعَلِّمًا عاملاً) .
فهؤلاء الذين تركوا بصماتهم على مسيرة الأمة ووجهوا الأمة وقادوها، و «أصلحوا» حالها تجمعهم خصائص مشتركة؛ فقد أخذوا بحظ وافر من علوم الشريعة، وخالطوا عدة أصناف من الناس، ولم يقتصروا على شرائح معينة من المجتمع، فعاشوا هموم الجميع، مرت بهم تجارب متنوعة وقاسية، من خلال الأسفار، والصراعات العسكرية والسياسية التي مرت ببلادهم، مزجوا علومهم بثقافات أخرى، سواء كانت ثقافات مستوردة من بلاد أخرى، أو معلومات مستقاة من تخصصات أخرى، كالتاريخ والأدب والسياسة والاقتصاد.
وضموا إلى ذلك كله مشاريع عملية قاموا بها أو شاركوا فيها بأيديهم، أو شجعوا على إقامتها، وعملوا مع أصحابها جنباً إلى جنب، أو بأقل الأحوال قدموا المشورة لأهلها. إنهم ليسوا حملةً للعلم فقط، بل حملةً للعلم عاملين بجميع جوانب علمهم دون الاقتصار على الجانب العبادي، إنهم علماء، قادة، ربانيون.
إن حامل العلم إذا قَصَر نفسه على حِلَق العلم، وحبس نفسه بين الكتب، وأسر نفسه لطلابه ومريديه، لم يكن من الربانيين الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره، فلن تكون لديه القدرة على تمييز مَن الأَوْلى بصغار العلم، ومن يحتمل كباره، وسيعجز عن نقل الأمة من مرحلة تلقي صغائر المسائل، إلى مرحلة تلقي كبارها.
` العجز من النقائص التي تسلب حَمَلة العلم صفة القيادة:
ويُخرج لنا انعدام أو فقد شيء من صفات القيادة وخصائصها، حَمَلة للعلم عجزة؛ نعم عجزة! عجزة عن الجهر بالحق؛ لأنهم درسوا علوماً أفرغت في عقولهم دون أن تجاوزها إلى قلوبهم وأخلاقهم وأعمالهم، فتمر بالأمة أزمات، فلا يقتصر عجزهم في مواجهتها على اتخاذ مواقف عملية جريئة، بل حتى في المواقف العلمية يقفون عاجزين حائرين عن الصدع بكلمة الحق، وينسون أن الله أخذ على أهل العلم الميثاق، {وَإذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187] ، فتتخبط الأمة، ولا تخرج من شفاههم كلمة حق تبرئهم أمام الله جل وعلا.
في الصحيحين عن عمرو بن أبي عمرو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وقهر الرجال» وعرَّف الإمام النووي ـ رحمه الله ـ الكسل والعجز بقوله: (الكسل عدم انبعاث النفس للخير وقلة الرغبة مع إمكانه، وأما العجز: فعدم القدرة عليه، وقيل: هو ترك ما يجب فعله والتسويف به) شرح مسلم: (7/28) ، وعلى هذا فهذان مرضا القعود؛ وذلك (لما فيهما ـ أي العجز والكسل ـ من التقصير عن أداء الواجبات والقيام بحقوق الله ـ تعالى ـ وإزالة المنكر والإغلاظ على العصاة؛ ولأنه بشجاعة النفس وقوتها المعتدلة تتم العبادات، ويقوم بنصر المظلوم والجهاد، وبالسلامة من البخل يقوم بحقوق المال، وينبعث للإنفاق والجود ولمكارم الأخلاق، ويمتنع من الطمع فيما ليس له) شرح مسلم: 7/30.
` العلماء والأمراض القلبية:
تلكم أمثلةٌ الجامعُ لها فَقْدُ الأهلية القيادية النابعة أولاً وقبل كل شيء من خلل في التنشئة والتربية؛ إذ حصرت تلك التنشئة على شحن العقول بمعلومات نظرية في حِلَق علمية افتقدت مساحات كبيرة من تربية الطلاب تربية قيادية شاملة، فخرَّجت لنا خدائج من حملة العلم، أو لنقل: أنصاف فقهاء.
وعليه فإن من الظلم أن نطالب هؤلاء بقيادة الأمة ولم يعرفوا أصلاً معنى القيادة، ولا يعوا ولا يملكوا كذلك شيئاً من مقوماتها.
الأمة معذورة في مطالبتهم، وربما لا يكونون هم معذورين في عجزهم، وكذلك الأمة قد لا تكون معذورة في إعادة صياغة حملة العلم، أو حلق العلم لتؤهل القادة بدل أن تقتصر على إخراج أنصاف الفقهاء.
أما كون الأمة معذورة في مطالبتهم فإن الأمة لا زالت ذاكرتها عبقة بسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ثم بتوجيهه حينما قال: «العلماء ورثة الأنبياء» ، تقرأ عن الرسول وهو معلمها الأول وقائدها كيف كان عالماً، عاملاً، مربياً، قائداً، أباً، مصلحاً اجتماعياً.
` الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصفات الربانية:
لقد وقفتُ كثيراً عند بعض الأحاديث النبوية مفكراً في مرماها. تصفه -صلى الله عليه وسلم- عائشة ـ رضي الله عنها ـ في بيته بأنه يَخيط ثَوْبه، ويَخْصف نَعْله، ويعْمل ما يعمل الرِّجال في بُيُوتهمْ (1) وفي رواية لابن حبان ذكرها في فتح الباري: «مَا كان إلا بشراً منْ الْبشر، كان يُفلِّي ثوْبه، ويحلُب شاته، وَيَخْدمُ نَفْسه» . تأخذه عجوز من عجائز المدينة فتكلمه في حاجتها حتى تقضي، سبحان الله! لِمَ لا نقول إن إلقاء محاضرة، أو تأليف كتاب أوْلى من هذا العمل؟ يصارع ركانة مرة، اثنتين، وثلاثة!
لا زالت الأمة تذكر من سار على نهج النبي -صلى الله عليه وسلم- من العلماء في هذا المنهج الشمولي؛ فلذا تطالب العلماء بدور قيادي كما اعتادته من العلماء.
لكن يبقى السؤال المحير، والمعضلة التي نريد لها حلاً: كيف نصنع القادة، أو كيف نجعل من العلماء قادة؟
هذا أمر طويل نحتاج فيه إلى ندوات، وحلقات علمية، ونقاشات يشارك فيها أهل العلم والخبرة، وعلماء الاجتماع، وخبراء التربية والتعليم، وغيرهم.
لكننا وبعد عرض المشكلة فيما تقدم ندرك بعض أهم أسباب القصور في تخريج العلماء القادة الذين نريد، والتي يمكن أن نرجعها إلى الطريقة التي تعلم بها أو تربى عليها حملة العلم أولئك، وهو موضوع مقالتنا.
وعليه فإن من المناسب أن يشار إلى بعض اللفتات ـ في حدود موضوع مقالتنا هذه ـ التي تسهم في وضع الحلول لهذه المشكلة، وأُسُّ الحل ورأسه أننا بحاجة إلى إعادة صياغة الأنشطة العلمية التقليدية: حِلَقاً، أو محاضرات، أو دراسات أكاديمية لتحويلها إلى برامج شمولية تخرج لنا علماء قادة ربانيين:
1 ـ لا بد من تحويل الحِلَق العلمية المتناثرة إلى برامج شمولية من الناحية العلمية أولاً، ومن النواحي التربوية الأخرى ثانياً. فأما من الناحية العلمية، فلا بد أن تراعى قضية التدرج، والتكامل؛ فالتدرج حتى لا يقفز الطالب إلى مرحلة أعلى قبل أن يهضم المرحلة التي تسبقها فينمو نمواً ذهنياً علمياً طبيعياً، أما التكامل فإنه لا يقتصر في تعليم الطالب على فن واحد، أو يضخم له جانباً من العلوم على حساب الجوانب الأخرى.
إنّ حلق العلم المنتشرة في كثير من البلاد الإسلامية حلق مباركة لا شك في ذلك، لكن الدراسة المنهجية تتفوق عليها بمراعاة هذا التكامل الضروري؛ فعلى الأقل أن يكون كبار العلماء على وعي من غياب التكامل الذي ينتج تلك النتائج السلبية، فإذا رأوا أن أكثر الطلاب مثلاً يقرؤون في العقيدة، مع إهمال غيرها من العلوم، وجهوهم لدراسة علوم أخرى كالتفسير، والفقه، والأصول، واللغة ونحو ذلك، بل إذا رأوا أن الطلاب أغرقوا في دراسة أبواب علم من العلوم، كما نشاهد من الكثير عند دراسة أبواب الإيمان من العقيدة، دون دراسة جميع مباحث العقيدة، أو كما نرى الطلاب يغرقون في دراسة أبواب الطهارة والصلاة دون أن يتمكنوا من دراسة جل أبواب الفقه من الجهاد، والبيوع، والنفقات، والقضاء، وغيرها.
إذا رأوا تلك المشكلات ـ بل يجب عليهم أن تكون لديهم القابلية على الرؤية، والمراجعة، والاهتمام بما يجري، على الأقل في مجالهم العلمي ـ إذا رأوا تلك المشكلات أن ينبهوا غيرهم من العلماء إلى التفطن إلى هذه القضية؛ كما أن عليهم أن يوجهوا الطلاب إلى ضرورة تلك الدراسة الشاملة.
أما من الناحية التربوية، فسيشار إلى نتف منها؛ إذ لا بد أن يضيف الشيخ إلى الدراسة النظرية بعض الجوانب التربوية مع تلاميذه بأن يربط لهم العلم النظري بالواقع وكيفية تطبيقه، ثم يمزج المسائل العلمية بالقلوب والإيمان، ويحرك بواعث الخُلُق الحسن من خلال الموضوعات العلمية التي يتناولها؛ ناهيك عن مزجها بالواجب تجاهها المتمثل في العمل على تطبيقها، والجهاد في الدفاع عنها مهتدياً بالمنهج الرباني؛ إذ يقول المولى: {وَالْعَصْرِ * إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3] ؛ فتلك مراحل أربع لا بد منها في تلك العملية النهضوية، والمشروع التغييري.
2 ـ لِمَ لا نفكر جدياً بالخروج عن النمط التقليدي في حِلَق العلم التي عليها المعوَّل الأكبر لإخراج العلماء القادة؛ حلقة فيها شيخ يتكلم، وتلاميذ يستمعون، وقد يتاح لهم الفرصة للسؤال في آخر تلك المحاضرة أو الدرس، فلِمَ لا نفكر بالانتقال إلى طريقة حديثة في التعليم بأن تتاح الفرصة للطلبة للتحضير ثم إلقاء الدرس، وإتاحة الفرصة للحضور أن يسألوا ويناقشوا في حضرة الشيخ والشيخ يصحح ويوجه، وكذلك من الخروج عن الطريقة التقليدية في التعليم استخدام الوسائل الحديثة التي ارتبط استخدامها بالعلوم الأخرى: إدارية أو هندسة أو غيرها.
إن فوائد هذه الطريقة كثيرة جداً، منها أنها تعوِّد الطالب على تحمل المسؤولية، كما ترسل له رسالة واضحة بأن دوراً ما سيأتي لتلقي وتشارك وتعطي بدل أن تأخذ، كما أنها تجعله أقدر على البذل والعطاء، إضافة إلى أنها تثبت المعلومات بصورة سريعة، بالإضافة إلى أن استمراريتها يمنح الطالب شيئاً من الروح القيادية مع بعض مهاراتها.
3 ـ من أكبر ما ينقص بعض حملة العلم تصورهم لكثير من مسائل واقعهم تصوراً دقيقاً، وهذا كما أسلفنا خلل يؤدي إلى عواقب سيئة؛ فكيف يخرجون بأحكام عن مسائل لا يتصورونها، والحكم على الشيء فرع عن تصوره، ومن أهم أسباب ذلك أن كثيراً منهم حبس نفسه بين الكتب العلمية دونما قراءة لأحداث تاريخه الذي يعيش فيه، وعاش رَدَحاً من الزمن بعيداً عن الفهم العميق لمشكلات أمته التي هو أحد أفرادها، بل هو أحد أهم أفرادها. وإذا شخَّصنا أسباب هذا الداء عرفنا العلاج المتمثل في جعل دراسة الواقع العقدي، والسياسي، والاقتصادي، جزءاً لا يتجزأ من البناء العلمي لعلماء المستقبل. لِمَ لا ندرّس في حلق العلم شيئاً من أصول السياسة، ونتفاً من تاريخ الصراع بين الغرب والإسلام، وموقف المذاهب الهدامة من الدعوات الإسلامية، وأطرافاً من الأساليب الحديثة في الحرب على الإسلام؟
وحتى في الحلق العلمية نفسها نحسُّ أن قصر الشيخ نفسه على الدرس دونما تعرض ولو بالذكر لشيء من المشكلات الرئيسة التي تمر بالمسلمين في تلك الأيام يرسل رسالة غير مباشرة قوية التأثير مفادها عدم الاكتراث بتلك المصائب، أو أن البحث عن حلولها ليس من شأننا، أو أن تخصصنا هو ما بين أيدينا، وغير ذلك من الرسائل السلبية المدمرة للبناء القيادي للشخصية العلمية.
فلو جعل الشيخ افتتاحية الدرس، أو ختامه للتعرض لبعض الأخبار ونقدها لكان في ذلك خير كبير؛ إنه يولد لدى الطالب ضرورة الحرص على الاهتمام بشأن المسلمين؛ ناهيك عن أنه يوسع آفاقه ومداركه، وأهم من ذلك كله أننا سنجد بعد برهة من الزمن، وشيء من الخبرة والحنكة في تطبيق هذا، سنجد في تلك الحلق العلمية التي يشرف عليها حملة للعلم كبار نقاشاً جاداً لمشكلات الأمة التي تمر بها بدل أن يُجعل نقاش تلك الأمور في السراديب التي تقود إلى أنفاق مظلمة، فلا حرية في نقاشها، ولا إشراف من العلماء أصحاب الخبرة العلمية والعملية عليها، والنتائج نراها بأعيننا.
كما أن من فوائد ذلك أننا نشيع جواً من الحرية الصحية التي يحتاج إليها أي مجتمع يريد بناء نفسه بناءً صحيحاً متحرراً من ضغوط القهر أو إملاءات السلطة، وفي نفس الوقت نقطع الطريق على الطامعين الذين يستغلون تلك الأجواء المتوترة للهجوم علينا، أو المطالبة بتغييرات ليس لها علاقة أصلاً بالحرية، أو المشاركة في تسيير دفة الأمة. إن أقَلَّ المجتمعات اضطراباً هي أكثر المجتمعات انفتاحاً، ومنحاً للحرية الفكرية، ومتى صودرت حرية الإنسان في التعبير عما يختلجه صودر عقله، وصودرت قدرته على الإبداع، وقتل فيه دافع الإنتاج، وهذا سبيل تلك المجتمعات البائسة التي تسمى بالعالم المتخلف أو النامي.
4 ـ ومن الأمور التي تعين على إزالة ظاهرة التقوقع التي أصابت كثيراً من طلبه العلم، فأصابتهم بالعجز عن فهم كثير مما يجري حولهم؛ فضلاً عن المقدرة على إيجاد حلول مناسبة لتلك المشكلات: الكف عن امتداح منهج التقوقع هذا بحجة أن فلاناً لم يعرف سوى العلم، وفلان العالم لا يحسن شراء زجاجة من طيب، والعَالِم الآخر كان في مرحلة الطلب يغلق الأبواب على نفسه ولا يخرج إلا إلى الصلاة، وآخر وضع نفسه قيد الإقامة الجبرية حتى يحفظ تقريب التهذيب، ونحو هذا.
قد تكون هذه التصرفات لائقة في أوقات عز الإسلام ونصره، أو لبعض الناس دون بعضهم، لكن أن تُمتدح وتُصور على أنها المنهج الذي ينبغي أن يسلكه طالب العلم، فيحلم بها الطلاب، ويقلدون هذه الأفعال دونما فقه ومراعاة لتغير الأحوال والظروف، بل دون مراعاة لواجب الوقت؛ فتلك مشكلة.
5 ـ من المتقرر في الأذهان والنفوس أن الطلبة يتطلعون إلى شيخهم على أنه قدوة لهم، قصدوا ذلك أو لم يقصدوه، أراد شيخهم ذلك أم أبى؛ فإذا كان الشيخ يدرس طلابه آيات وأحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن النكر، ويرونه قاعداً في أواخر صفوف المواجهة، لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر؛ فكيف ستكون ردود أفعالهم؟ بل قل لي ـ بربك ـ كيف سينشؤون، أو ينشّئون؟ سينشأ لدينا بعد مدة من الزمن جيل من حَمَلة العلم قاعد، بل مشلول جبان، ليس لديه القدرة على إنكار منكر، أو الأمر بمعروف، فضلاً عن أن يكون لديه القابلية لتغيير واقعه.
لكن قارن حال هؤلاء الطلاب حينما يرون شيخهم في المحافل العامة يجدُّ ويجتهد: يخاطب هذا، وينصح هذا، ويتحدث مع هذا، يراسل الرئيس والأمير، ويذهب إلى الملأ ينكر عليهم في مجامعهم، يرونه فعّالاً مبادراً كما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
6 ـ ومن أهم الصفات في الشخصية القيادية القدرة على الإدارة، والتنظيم والانطلاق نحو الهدف، والمبادرة، والتعامل مع الظروف الصعبة، وغيرها، وكل هذه مهارات نبوية، لكن علماء المسلمين أغفلوها في هذا الوقت، وأغفلوا إبراز جوانب السيرة التي عُنيت بها، في الوقت الذي تلقَّفها غير المسلمين وتفننوا في الحديث عنها، وتطبيقها، وتطويرها، وتقريبها للناس بلغة مناسبة.
فإذا كان الحال كذلك ـ أعني أن تلك مهارات نبوية، وأنها أساسيات مطلوبة في الشخصية القيادية ـ فلِمَ لا نوليها عنايتنا بأن نجعلها من صُلب اهتمامات المؤسسات التعليمية، وحِلَق العلم، وبرامج التربية، بل نقول: لِمَ لا نَصُوغ حِلَق العلم بطريقة توفر أو تهيئ اكتساب تلك المهارات وتعليمها لطلبة العلم؟
7 ـ وربما أحلم، أو أذهب بعيداً لو طالبت بتقديم شيء من تلك المهارات على شكل دورات إدارية في الإدارة والقيادة لحملة العلم وطلبته الذين يتصدون لتدريس الناس وتعليمهم، لقد قلت: إني أحلم؛ ذلك أن حملة العلم قد تربوا على نمط معين في التلقي، ونمط معين في المعلومات المتلقاة، فيصعب على مثل هؤلاء تغيير تلك الأنماط السلوكية في زمن قصير، لكن لا أقل من أن نحاول، ونسير ولو بشيء من التعثر والبطء.
8 ـ ولا بد للشيخ كذلك من أن يمزج درسه العلمي بجوانب تطبيقية تمس الواقع، كأن يتحدث عن بعض المشكلات التي تواجه المسلمين عموماً أو تمس أهل البلد أولئك، وحبذا أن يستشهد على صحة كلامه بتحليلات خبراء ذلك المجال، ولو ذكر مصادره في استقاء تلك المعلومات لكان مفيداً جداً ليرى الطلاب عملياً ضرورة الاهتمام بأمور المسلمين، وأهمية عدم العزلة والانفراد.
وبعد: فتلك لفتات أظن أنها قد تفيد، لكن الأمر من قَبْلُ ومن بَعْدُ ينتظر وقفة جريئة من حزم عدة من أطياف شتى من أهل العلم، والخبرة، والتربية: للبحث عن الحلول الفعالة، والمؤثرة، والعلمية من أجل إعادة صياغة طرق التلقي والتعليم في حِلَقنا العلمية، لعلها تكون شيئاً من تغيير الخطط الذي يسهم في مواجهة خطط التغيير، والله المستعان.