د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائلُ: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل: «إن الله وملائكته، وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليُصَلّون على معلمي الناس الخير» رواه الترمذي بسند صحيح. أما بعد:
فهذا خطاب لجيل الأمة الصاعد، ونشئها الواعد ذوي الفطر السليمة والنفوس المستقيمة الذين تَعْقد عليهم الأمة آمالها بعد الله أن ينصروا الدين، ويرفعوا عن أمتهم خطة الذل التي وضعها أعداؤها. وما كان ذلك الفتح ليكون إلا وَفْق سنن الله الكونية والشرعية: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] . لقد سئمت الأمة الشعارات العاطفية، وتجرعت غصص الحركات الانفعالية، وآنَ لها أن تستفيد من أخطاء الماضي، وتستنير بنور الكتاب والسنة، وتسلك سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان؛ فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أَوَّلها.
إن الأمة الإسلامية بحاجة ماسة في هذه الظروف الحرجة إلى إعداد ناشئة قوية سوية ترضع لبان الإيمان، وتتضلع من العلم والعرفان، وتتحلى بالحكمة والشجاعة معاً، وتأخذ بأسباب القوة المعنوية والمادية، وتتخلص من شوائب الفرقة والشذوذ، وتجتمع على البر والتقوى، وإقامة الدين، ولزوم جماعة المسلمين.
وهذه المقاصد العظيمة والآمال العريضة لا تتحقق بمجرد الأماني: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] ، وإنما تتم من خلال مشروع فردي، وجماعي، ينتظم مناشط الحياة المتنوعة، ألا وهو: (التربية) .
` معنى التربية:
قال الجوهري: (رَبَا الشيء يَرْبو رَبْواً، أي: زاد ... وَربيته تَرْبيةً، وتَربيته: أي غَذوته. هذا لكل ما ينمي، كالولد والزرع ونحوه) الصحاح: 6/2350.
وقال الراغب: (الربُّ في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً، إلى حد التمام) المفردات: 189. وهذا المعنى اللغوي الدال على الترقي والنمو شيئاً فشيئاً هو الأساس للمعنى الشرعي للتربية، كما في قوله ـ تعالى ـ: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] ، (فروي عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: هم الذين يغذّون الناس بالحكمة، ويربونهم عليها، وقال ابن عباس، وابن جبير: هم الفقهاء المعلمون. وقال قتادة، وعطاء: هم الفقهاء العلماء الحكماء) انظر: زاد المسير: 1/413.
قال ابن الأثير: (الرب: بمعنى التربية؛ كانوا يربون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها) النهاية في غريب الحديث: 2/181.
` المعْلَم الأول: التربية دين وعبادة:
إن السعي نحو الكمال نزعة إنسانية تراود بعض النفوس القوية، وتحدوهم لتحقيق الأمجاد الشخصية، والعلو في الأرض. وفَصْلُ ما بين التربية الإسلامية والتفوق أنَّ الأُولى: دِين وقربة، وجهاد ونية، والثانية في أحسن أحوالها: قوة وعزيمة، وشهامة ومروءة. الأُولى يترتب عليها الثواب، وشرف الدنيا والآخرة، والثانية لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب بحد ذاتها، وهي شرف في الدنيا دون الآخرة. كما قيل:
نفسُ عصام سَوّدت عصاما
وعوَّدته الكَرَّ والإقداما
وكما قال طرفة بن العبد، وهو جاهلي:
إذا القوم قالوا: من فتى؟ خِلْتُ أنني
عُنِيتُ فلم أكسل ولم أتبلَّدِ
ولستُ بحلاّل التِّلاع مخافة
ولكن متى يسترفدِ القومُ أرفدِ
ونحن لا نغمط أهل الفضل فضلهم، ولا أصحاب المروءات والنجدات سابقتهم، ولكن ندعوهم إلى احتساب ما جبلهم الله عليه من مَكْرُمَات، أو ما حملوا أنفسهم عليه من مشقات، ديناً يدينون الله به، ويرجون غُنمه وبِرّه في الدار الآخرة. قال ـ تعالى ـ: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] . قال بريدة بن الحُصَيب ـ رضي الله عنه ـ: (شهدتُ خيبر، وكنت فيمن صعد الثلمة، فقاتلتُ حتى رُئي مكاني، وعليَّ ثوب أحمر؛ فما أعلم أني ركبت في الإسلام ذنباً أعظم عليَّ منه، أي الشهرة) سير أعلام النبلاء 2/470.
قد يدمن الناشئ، وربما طالب العلم، القراءة في سير أعلام النبلاء، والعلماء، والفاتحين، ويصغي للمدائح والمناقب، فتتشوَّف نفسه إلى الذكر والصيت، ويفارقه الإخلاص النقي. وقد يستنفر المربي همم تلاميذه بضرب الأمثال، وتمجيد الذوات الفاضلة في غير سياق منضبط، فيتمخض الجهد عن تنافس مشوب، وحظوظ دخيلة.
إن على المربين، كما هو على المتربين أن يتفطنوا لهذا المعنى، ويحرروا أمر النية من كافة الأغراض الشخصية، والدسائس النفسية التي تنافي إسلام الوجه لرب العالمين، فإن عُجِّل لهم من الثناء والذكر الحسن ما يستروحون له، دون أن يكون قصدهم الأصلي، فذلك من عاجل بشرى المؤمن.
` المعْلَم الثاني: التربية تأسّ ومتابعة:
قال ـ تعالى ـ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] . لقد كان شَخْص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثالاً واضحاً للاستقامة، ومعياراً دقيقاً تُقوّم به الأقوال والأفعال، وتردُّ إليه الأمور عند التنازع. فلا بد للمربي والمتربي من دراسة سيرته الشريفة، وإدمان النظر في أحواله المختلفة، والتبصر في دعوته وتربيته لأصحابه، وأسلوب معالجته للأمور. إن قوماً يحتفون بذكر فلان وعلان من رجالات الشرق والغرب، ويمجِّدون ذكرهم، ويزهدون برواية أحواله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يرفعون بها رأساً، قد استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير. لقد حفلت حياته بألوان المواقف التربوية التي ترسم الطريق للمربين والمتربين على مر العصور، فيستلهمون منها النَّفَس الشرعي، والمزاج الإيماني الذي تواجَه به الأمور، فيأتي بأفضل النتائج.
مثال: روى ابن عبد البر ـ رحمه الله ـ بسنده، من طريقين، عن أبي محذورة أوس بن معبر الجمحي ـ رضي الله عنه ـ قال: (خرجت في نفر عشرة، فكنا في بعض الطريق حين قفل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حُنين، فأذَّن مؤذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالصلاة، فسمعنا صوت المؤذن، ونحن متنكبون، فصرخنا نحكيه، ونستهزئ، فسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأرسل إلينا، إلى أن وقفنا بين يديه، فقال: أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع؟ فأشار القوم كلهم إليّ، وصدقوا، فأرسلهم وحبسني، ثم قال: قم فأذِّن بالصلاة، فقمت، ولا شيء إليَّ أكره من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا مما يأمرني به، فقمت بين يديه، فألقى عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التأذين هو بنفسه، فقال: قل: الله أكبر الله أكبر. فذكر الأذان، ثم دعاني حين قضيت التأذين، فأعطاني صرة فيها شيء من فضة، ثم وضع يده على ناصيتي، ثم مر بين ثدييَّ، ثم على كبدي، حتى بلغت يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرتي، ثم قال: بارك الله فيك، وبارك الله عليك. فقلت: يا رسول الله! مرني بالتأذين بمكة! قال: قد أمرتك به. وذهب كل شيء كان في نفسي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كراهة، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقدمت على عتَّاب بن أُسيد، عامل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة، فأذَّنت معه بالصلاة، عن أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) الاستيعاب، بحاشية الإصابة: 4/179. ورواه أبو داود والنسائي والشافعي والدارقطني والبيهقي. وهو حديث صحيح.
فمن الفوائد التربوية المستبطة من هذه الحادثة:
1 ـ طبيعة التجمعات الشبابية، وتشابهها قديماً وحديثاً.
2 ـ عدم تجاوز المواقف السلوكية الشاذة.
3 ـ التثبت والتبين، وعدم أخذ البريء بجريرة المذنب.
4 ـ الأدب الرفيع، وعدم الإسفاف في الخطاب عند الإنكار.
5 ـ تحويل الخطأ إلى صواب، والانحراف إلى سداد.
6 ـ تواضع المربي.
7 ـ الإحسان إلى المتربي، وسَلُّ سخيمة صدره.
8 ـ التودد والتحبب إلى المتربي بالمباشرة باليد.
9 ـ إظهار صدق الود، والرغبة في الهداية بالدعاء.
10 ـ منح الثقة، واستغلال الموهبة.
إن السنة النبوية غنية بالكنوز التربوية التي ينبغي أن يُفَتّش عنها المربون، ويستخلصوا منها الدروس والعبر، بل يؤسسوا منها (علم تربية) إسلامياً أصيلاً؛ ذلك أن علم التربية الحديث قائم على دراسات الغربيين، واصطلاحاتهم، وتقسيماتهم التي هي ناتج عقائدهم، وثقافاتهم، وممارساتهم المتراكمة بالإضافة إلى ما توصلوا إليه من تجارب إنسانية، وملاحظات بشرية قد تكون صحيحة. فلا بد لأهل الإسلام من تمييز ما هو من قَبِيل القضايا المشتركة بين بني آدم، وما هو من قَبِيل التحليل والاستنتاج القابل للخطأ والتأثر بالمكونات العقدية، والفكرية، والتاريخية، والاجتماعية لأمة ما، وتكوين قواعد مستمدة من النصوص الشرعية، والدراسات العلمية الصحيحة.
` المْعْلَم الثالث: التربية القرآنية منهج وسبيل:
قال ـ تعالى ـ: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}
[الإسراء: 9] .
القرآن العظيم عمدة التربية الإسلامية، لفظاً، ومضموناً، وترتيباً:
لفظاً: باعتماد الألفاظ والمصطلحات القرآنية، وعدم الاستعاضة عنها بالمصطلحات الحادثة، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87] ، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء: 122] ،
مضموناً: باستيعاب مقاصد القرآن ومضامينه كلها، وتجنب التبعيض والانتقاء والتجزئة التي توافق توجهاً خاصاً لجماعة أو طريقة أو مذهب، وهجر خلافه.
وترتيباً: بتقديم ما قدم الله، وتأخير ما أخر، وتعظيم ما عظم الله، وتهوين ما هوَّن، وزرع ذلك في قلوب المتربين بنفس الدرجة التي هي عليها في القرآن.
مثال: تعظيم أمر التوحيد، وتشنيع الشرك، كما في قوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا * إن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا *} [مريم: 88 - 93] . إن كثيراً من المربين والمتربين يمرون بمثل هذه القضايا الإيمانية دون أن تُحْدِث في نفوسهم الأثر المطلوب، والانفعال الإيماني المتناسب مع حجم هذه القضية التي تكاد السماوات أن تتفطر منها، وتنشق الأرض، وتَخِرُّ الجبال هدّاً!! فعلامَ يدل ذلك؟
لا بد للمربي والمتربي أن يتيقن هذه القضية يقيناً راسخاً، وأن يعتمد التربية القرآنية في برامجه ووسائله التأثيرية، وألا يجنح إلى إيثار مؤثرات أخرى ذات أثر وقتي سرعان ما تتقشَّع. ومن صور ذلك:
1 ـ الاعتماد على العلاقات الشخصية، والتجمعات الودية الخالية من المضمون.
2 ـ ممارسة المناشط الشكلية، والبرامج الترفيهية ذات العائد الزهيد.
3 ـ الإغراق في الشعارات العاطفية التي تستهلك الحماس دون مردود.
لقد كان قرن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ خير القرون، ولم يكن بين أيديهم متْن يتربون عليه سوى كتاب الله، يبينه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فَصَنع الله بهم ما صنع. إن التربية القرآنية القائمة على ترسيخ الإيمان بالله واليوم الآخر، والعمل الصالح، منهج واضح، وسبيل قاصد لا غنى للأمة في جميع أطوارها عن انتهاجه، ولن يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.
` المعْلَم الرابع: التربية تكامل وتوازن:
إن خطة البناء التربوي السليم لا بد أن تكون متضمنة لعموم مقاصد الدين؛ بحيث يظهر هذا التكامل في حياة الأفراد بنسب متفاوتة، كما يظهر في عموم الأمة ملبياً كافة المطالب. وبيان ذلك: أن الفرد المسلم بحاجة إلى:
1 ـ البناء الإيماني العقدي: الذي تحصل به البينة القلبية، والاطِّراد العقلي.
2 ـ البناء العملي الشرعي: الذي يحصل به معرفة الشريعة، وبيان الحلال والحرام.
3 ـ البناء العملي التعبدي: الذي يحصل به استفراغ الجهد في العمل الصالح.
4 ـ البناء الخلقي الاجتماعي: الذي يحصل به حسن معاشرة الخلق ونفعهم.
وهو مدعوٌّ إلى تمتين هذا البناء وتقويته، منهيٌّ عن الإخلال بالحد الأدنى منه، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم» متفق عليه. وحينئذ يجد المؤمن الجاد نفسه في مضمار فسيح لاستباق الخيرات، والتنافس في الطاعات، ويجد شُعَباً تربو على السبعين من شُعَب الإيمان تهتف به، وتستدعيه، فيعرضها على مواهبه ومقدراته فيجد نفسه بعد جملة من التجارب متوافقاً مع لون أو أكثر من ألوان البذل والعطاء:
ـ فهذا: وعاءٌ للعلم، آتاه الله حفظاً وفهماً وفقهاً.
ـ وذاك: عابد ناسك خاشع قانت.
ـ وثالث: منفق باذل يضرب في كل مكرمة بسهم.
ـ ورابع: داعية مصلح بين الناس.
ـ وخامس: أمَّار بالمعروف، نهّاء عن المنكر، محتسب.
ـ وسادس: مجاهد مرابط يحمي الثغور، ويصون حوزة المسلمين.
ـ وسابع: حُبِّبَ إليه السعي على الأرملة والمسكين، وملاطفة اليتيم ... وهكذا.
وكل فاضل من هؤلاء فُتِح له في باب من أبواب الخير، قد نال حظاً من بقية الأبواب، لكن قَصَّر عن غيره فيه، كما قَصَّر غيره عنه فيما فُتِحَ له فيه. قد علم كل أناس مشربهم. قال الذهبي ـ رحمه الله ـ: (كم من إمام في فن مقصِّر عن غيره؛ كسيبويه، مثلاً، إمام في النحو، ولا يدري ما الحديث. ووكيع إمام في الحديث، ولا يعرف العربية، وعبد الرحمن بن مهدي إمام في الحديث، لايدري ما الطب قط، وكمحمد بن الحسن، رأس في الفقه، ولا يدري ما القراءات، وكحفص إمام في القراءات، تالف في الحديث)
ومن تأمل في حال الصحابة الكرام رأى هذا التنوع، والتخصص جليّاً؛ فمَنْ كأبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ في بذله، وثباته، ورسوخ إيمانه؟ ومَنْ عبقريٌّ كعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يفري فرِيَّه، يسوس الناس، ويمصِّر الأمصار ويدون الدواوين؟ ومَنْ كعثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ في بذله وإنفاقه؟ ومَنْ كعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ في شجاعته وإقدامه؟ ومع ذلك فإن الفضل الخاص لا يقضي على الفضل العام. ولم تزل هذه الأمة ولوداً، تُنتِق أرحامُها الأمجاد الأفاضل من الرجال والنساء. فانظر ـ يا رعاك الله ـ أين موضعُك؟ فقد جاءت نوبتُك؛ فإن لك ثغراً لا يَسُدُّه أحدٌ سِواك، ففتِّش عن ثَغْرك، والْزمْه، فإن العمر قصير.
وبهذا يتبين أن التنوّع والتخصص بين الخلق سُنّة من سنن الله؛ فإن الله قَسم الأخلاق كما قسم الأرزاق، فسائغ شرعاً، واقع قدراً، أن يفتح على شخص في باب، ويُقَصّر في غيره، لكن مع الإتيان بالحد الأدنى من المأمور. أما بالنسبة لعموم الأمة فلا يسوغ ذلك، ولا يجوز أن تلغي أو تهمل باباً من أبوب الدين؛ فإن الله أمر بإقامة الدين، فقال: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيه} [الشورى: 13] .
ويتبين أيضاً أنه لا يجوز لطائفة، أو طريقة، أو مذهب، أو جماعة دعوية أن تدعو الكافة إلى مبادئ خاصة وأصولٍ منتقاة، من الدين، وتهجر الباقي، بل الواجب إقامة الدين كله، وتربية الناس على جميع مقاصده، ثم الله يصطفي من عباده ويختار من يقيمه ويستعمله في بعض هذه الشُّعب، ويفتح له فيه. أما الاجتزاء، والانتخاب وفق ترتيب لم يأذن به الله، وليس عليه أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنوع من العدوان والبدعة، وسبب لحصول الاختلاف والفُرْقة، كما قال ـ تعالى ـ عن النصارى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 14] ، والمراد بالنسيان هنا ترك العمل ببعض ما أمروا به. وبناءً عليه فلا يسُوغ تربية آحاد الأمة، أو جماعتها على ضَميمة من الأسس تُدعى تارة (المبادئ الستة) ، وتارة (الأصول العشرين) ، ويُعدل عما رتبه النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث جبريل المشهور الذي فيه (أركان الإسلام الخمسة) و (أركان الإيمان الستة) ، كما لا يجوز التزام «وِرْد الطريقة» سواءً بسواء.
` المعْلَم الخامس: التربية مشروع العمر:
قد يتحامل المرء على نفسه ليجتاز دورة مكثفة في علم ما أو فن، ثم يلتقط أنفاسه ويسترخي، وقد يسعى إلى تحقيق درجة عالمية يستنفر لها جهده ووقته، ثم ينال اللقب، ويستريح. إلا أن التربية عمل دائم لا ينقطع حتى تبلغ الروح الحلقوم. قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ: «أنا أطلب العلم إلى أن أدخل القبر» شرف أصحاب الحديث: 68.
ومن ثم فإن المؤمن يظل في جهاد مستمر، وتَرقٍّ مُطَّرد إلى أن يقف على شفير القبر، وقد بلغ في سُلَّم التربية ما قُدِّر له أن يَبْلُغ، وهو في تلك الأثناء عرضة للزلل والخطأ، بِحُكْم طبيعته البشرية، لكن مشروع التربية الإسلامية يتضمن عنصراً أصيلاً هو التوبة؛ فلا يأس، ولا قنوط، ولا إحباط. قال ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] .
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، وأحسن الأعمال، فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئ الأخلاق، وسيئ الأعمال فإنه لا يصرف سيئها إلا أنت.