عبد الرحمن فرحانة
- من نحن؟ وماذا نريد؟
وفق مفهوم التربية الشامل ينبغي لأي أمة أن تجيب عن هذين السؤالين قبل التحرك بأي اتجاه؛ ومن باب أوْلى في حالة خوض الصراعات مع الآخر.
تأتي أهمية السؤالين من أن أحدهما: يُحَدِّدُ إطار الهوية وهي الجدار المتماسك الذي يحفظ الكينونة، وتشكل نقطة الاتفاق حول تصور الذات من قِبَل أفراد الأمة، ويأتي السؤال الآخر ليحدد ما الهدف الذي تسعى إليه الأمة، وما هي رسالتها؟ وغياب الإجابة عن هذين السؤالين تعني بالمفهوم التربوي سيولة في القيم، وفوضى فكرية مؤداهما التيه والضياع.
وبعيداً عن العاطفة الدينية أو القومية، وعلى صعيد الواقع المعاش: هل أهل القبلة من طنجة حتى جاكرتا، وأبناء العروبة من المحيط إلى المحيط يملكون الإجابة بوضوح عن هذين السؤالين في الوقت الراهن؟ بمعنى: هل أهل العروبة والإسلام يعرفون من هم حقيقةً، وما هو مشروعهم الحضاري، وماذا يريدون؟ لا أظن أن صورة المشهدين العربي والإسلامي يمكن أن تعطي النتيجة المبتغاة.
ولكن لماذا؟ هل لأن الأمة بلا هوية، أو لأن هويتها ضعيفة أصلاً؟
لا شك أن الأمة تمتلك مفردات هوية قوية قادرة على المواجهة، وهي أصلاً أُنْتِجَتْ لتحقيق مهمة الاستخلاف {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ، أي أن دور الأمة لا يقف عند دور المواجهة المُعبِّرة عن ردة الفعل، بل يعلوه إلى مستوى المبادرة والتبشير بالقيم الربانية في عالم يعاني من مجاعة روحية تقتل روح الإنسان.
وعلى صعيد مكونات الهوية تتميز الهوية الإسلامية بمفردات أساسية ومناخ يندر أن تتوافر لهوية أخرى وبالكثافة نفسها والتماسك الذي تتمتع به وهي:
- وحدة المُقدَّس الديني (العقيدة) .
- وحدة اللسان (اللغة العربية) مع تعددية لغوية لا تتعارض مع لغة القرآن.
- وحدة التاريخ.
- تواصل سكاني إنساني في مدى جغرافي متصل تقريباً.
ويستغرب من أمة تمتلك عوامل قوة حضارية بهذا المستوى من المتانة والتناغم أن تغدو مشاعاً للإمبريالية الغربية وحضارتها المنفلتة.
في بدايات القرن الماضي وعلى إثر سقوط الخلافة العثمانية تعرضت المنطقة لهجمة كولونيالية إمبريالية غربية؛ ونظراً لأن الحملة استخدمت شوكة القوة فقد استفزت مكامن القوة الكامنة لدى الأمة؛ تفجرت على إثرها حركات التحرر التي حققت الاستقلال الجغرافي ولكن على قاعدة التجزئة. وفي مناخ الأقلمة هذا تلاشت الجامعة الإسلامية، وتفتتت الهوية الإسلامية، وتكَرَّس مفهوم الدولة القطرية.
استعَرَ صراع مُحتدِم بُعيد سقوط الخلافة تلك بين تيارين: تيار الجامعة الإسلامية، والقومية العربية. ولعوامل مصلحية دعم الغرب التيار الأخير. وفي نهاية المطاف تَكَرَّس مفهوم الجامعة العربية وسط منظومة مهلهلة من الدول القطرية. حاول التيار القومي بأطيافه المتعددة أن يخلق مشروعاً حضارياً عربياً لكنه لم يفلح؛ لأنه من خلال خلطة «القومية والعلمنة المشوهة» لم يتمكن من إنتاج هوية متماسكة بسبب غياب المكون الديني وهو الغراء اللازم لتماسك الهوية في الثقافة العربية والإسلامية. وعلى صعيد ميداني لم ينجح التيار العروبي حتى في إدارة الأزمة، ووصلت المنطقة إلى ما هي عليه من فراغ أمني وسياسي غير مسبوقين.
المرحلة التاريخية نفسها شهدت صداماً غير مسوّغ بين التيار القومي والإسلامي؛ نظراً للهيمنة التي تلبست التيار الأول، وعدم قدرة التيار الأخير على احتواء الأزمة وتفكيك مكوناتها باتجاه إيجاد قاعدة توافق عوضاً عن الصدام الذي أنتج صيغة تناقضت في إطارها مفردات القوة بدلاً من تكاملها، وما استتبع ذلك من تبديد لطاقات الأمة. لم يتوقف التناقض عند هذا الحد من الصراع، بل ترافق معه جملة من إشكاليات الثنائيات المتناقضة توهماً مثل: التراث والمعاصرة، الإسلام والعروبة، وغيرها من ثنائيات أرهقت العقل العربي خاصة.
ومما زاد الطين بِلَّة غياب المرجعيات الدينية والنخبوية المختلفة، وتغوُّل الدولة واستبدادها، واحتكار طبقة سياسية ضيقة غير مؤهلة للقرار السياسي. أضف إلى ذلك تعدد المناهج والرؤى المطروحة في الأفق العربي والإسلامي مع انعدام المهارة اللازمة لإدارة هذا التنوع وتوظيفه.
وفي تشخيص الحالة الراهنة يلمس المراقب أن الموجة الجديدة الغازية التي تستهدف المنطقة المتمثلة بحداثة العولمة تتحرك بوتائر طاغية؛ لأنها تعتمد في انتشارها الأفقي على المعلومات عوضاً عن الخطاب الإنشائي القديم، وتتوغل أفقياً عبر وسائط الاتصال الفائقة السرعة التي أنتجتها ثورة المعلومات.
وتتأتى خطورة حداثة العولمة من أنها تستهدف بناء ثقافة التنميط؛ بإلغاء الخصوصيات الثقافية، وبث وتسييد مفاهيم الاستهلاك المادية والفردانية المفرطة، وتهشيم قاعدة المُقَدَّس بإحلال مفهوم النسبية في القيم؛ ومن ثم خلق الذهنية القابلة لتطور القيم وكسر الأمور المحرمة التي تحمي ثبات هذه القيم؛ باعتبارها النواة الصلبة والثابتة التي تتمحور حولها مفردات الهوية وعلى رأسها العقيدة. وربما يأتي ذلك في سياق المشروع الأنثروبولوجي (لجون هيك) حول الليبرالية الدينية الذي يُسوِّق لنظرية أنه لا دين يحتكر الحقيقة، وبضرورة تعدد الطرق للوصول إلى الله ـ تعالى ـ مما يصعب معه إثبات أرجحية دين على غيره.
الموجة الحديثة ليست كولونيالية عسكرية، كما أنها ليست غزواً ثقافياً بالمعنى التقليدي؛ إنما هي حملة استئصال ثقافي تستهدف المُقَدَّس خاصة في منطقتنا؛ لأنه مصدر قوة الهوية لدينا، ويقوم بها «الغرب المتصهين» بالرغم من مقولة تؤكد إخفاق حملتهم وهي للفيلسوف والمؤرخ الاجتماعي الشهير (شبنجلر) : «الحقيقة ليس بوسعها تغيير المعتقدات» .
ومجمل مفردات الحملة الأمريكية الصهيونية التي تتضمن الهجوم على المؤسسات الخيرية والدعوية التي تخدم القرآن الكريم وغيره من شؤون الدعوة الإسلامية، وكذلك حركات التحرر التي تجسد مفهوم الجهاد وهو من أكثر المفاهيم الإسلامية المستهدفة لدى حداثة العولمة. كل مفردات هذه الحملة تؤكد أن المكون الديني للهوية هو المستهدف الأساسي.
هذه الحملة الخطرة لا يمكن أن يقف في وجهها الخطاب الإنشائي الذي يعتمد البلاغة اللغوية وإثارة العاطفة الدينية. إنما يلزم لمواجهتها إنتاج برامج منتظمة وفق خطاب معرفي يعتمد المعلومات سلاحاً في المواجهة واستثمار وسائط الاتصال المعاصرة وسيلة ناجعة في إيصال الرسالة المبتغاة.
- ومن مستلزمات المواجهة ينبغي:
- تطوير مرجعية متفاعلة تبتدئ بالمستوى الفقهي، وتتطور باتجاه الثقافي وصولاً للمستوى السياسي لصناعة مرجعية سياسية مؤهلة لإنتاج قرار سياسي موحد.
- تأهيل ذهنية وخطاب قادرين على إدارة التنوع في كافة مناخات العمل الإسلامي والعربي بأطيافها المختلفة؛ بغية التوصل لبرامج الحد الأدنى المتفق عليه لتكتيل مفردات القوة في مشروع متماسك متفق عليه بدلاً من الصراعات الداخلية التي تنهك جسد الأمة، وتشكل مَعْبَراً ومدخلاً في كثير من الأحيان لنفاذ الأجنبي لبنيتنا الداخلية.
- العمل على إنتاج برنامج شامل للمقاومة بمفردات سياسية وثقافية واقتصادية لمواجهة ثقافة التنميط والإحلال التي تستهدف العولمة تسييدها في مناخنا الثقافي واعتبارها مرتكزاً أساسياً في البرنامج، كما ينبغي التركيز على نموذج المقاومة العسكرية باعتباره الصورة الإحيائية لفريضة الجهاد المُعبِّرة عن شوكة القوة اللازمة لبقاء الأمة وعزتها متى استكملت شروط الجهاد والمواجهة حتى لا يكون ذلك مواجهة غير متكافئة.