عبد الستار خليف
البرد القارص يلسع الأطراف اليابسة، ويغيِّر لون الأنوف. فاطمة! تمالكي نفسك وكوني قوية. حدثت نفسها بصوت مكتوم. عاودتها مرة ثانية نوبات الطلق في داخلها حادة، حامية كمسلة محمية على النيران تنغرس في ظهرها. ندت عنها صرخة مكتومة. الوليد قادم لا محالة يا فاطمة.. هاهي بلاد الهجرة والجنة والدفء والطعام، و.. والحنان!
«فاطمة يوسف» هاجرت إلى «نابولي» وهي تحمل في أحشائها جنينها، طفلها الإفريقي البرونزي اللون. تعرف مقدماً أن لونه مثل لون جلدها وجلد قومها. عملت وكدت وتعبت في البرد والصقيع، وتركت هناك.. خلفها في البلاد البعيدة زوجها وأولادها وأمها العجوز. وفي داخلها البذرة السمراء، وها قد جاءت لحظات المخاض. على الرصيف البارد الصخري حاولت الاستغاثة والتلويح للمركبات لمساعدتها ونقلها إلى أقرب مستشفى. لم يتوقف أحد، لم يهتم بهذه الهرة السوداء إنسان. صرخت تطلب المساعدة. نظروا إليها في بلادة ودون مبالاة. يا فاطمة! الطعام كثير. هكذا قالوا لك، والماء كثير وعذب، والعمل متوفر.. و.. الجفاف. جفاف القلوب ـ هنا ـ أكثر من جفاف الصحارى.
«فاطمة» عاشت طوال حياتها الماضية في قريتها الصغيرة المنسية قرب العاصمة «الصومالية» . سبعة وعشرون عاماً وهي تبحث في قريتها السمراء عن الدفء والحنان ولم تعثر على شيء منه. كل ما خرجت به من رحلة الشقاء والبحث في قريتها السمراء عن الدفء والحنان لم تعثر على شيء. كل ما خرجت به من رحلة الشقاء والبحث المضني وسنوات الحرب والضياع هو الجوع والعطش والجفاف واغتيال الأحلام بأصوات الرصاص ودوي المدافع الذي لا ينقطع ليل نهار.
قالوا لها، عندما سألت عن بلاد الثلج والبياض والوجوه الحمراء والعيون الزرق: هناك في الجانب الآخر من العالم يوجد الفردوس المفقود: المسكن والمأكل والمشرب والعمل والحياة الرغدة الناعمة التي نسمع عنها ولم نشاهدها يا فاطمة! لم ترَ فاطمة في بلادها سوى المتقاتلين يجوبون شوارع «مقديشيو» على عربات تحمل رشاشات خلفها وجوه تنطق وتنبئ عن رائحة الموت وانبثاق الدماء. يا فاطمةُ الطعام أصبح شحيحاً في الأسواق، والجثث المتعفنة على قارعة الطريق تفوح رائحتها وتزكم الأنوف. هيا.. اهربي. اتركي الموت والعفن ورائحة البارود واهربي إلى الفردوس الذي ينتظرك على الجانب الآخر من العالم.. هناك كل شيء بوفرة، والحياة.. وأي حياة.
«فاطمة يوسف» . العمر 27 عاماً. مهاجرة صومالية.. جاءها المخاض على رصيف إحدى الطرق الرئيسية في مدينة نابولي، لم يتقدم أحد لمساعدتها، رغم استغاثتها المتكررة. وظلت تعاني الآلام وحيدة.
كانوا يمرون بجوارها وآلام المخاض تدوي داخلها والطلق يقصم ظهرها، ينظرون نحوها، نظرة عابرة، كما لو كانوا يشاهدون هرة تلد على الرصيف بجوار أحد الجدران وهي تموء.
هيه.. يا فاطمة! الآن جاءت لحظات المخاض قوية، عنيفة ومدمرة. جاء على رصيف من صخر لا يلين. وأنت غريبة بين ديار موحشة قاسية لا ترحم. آه! يا بلاد الصقيع والبرد والوجوه الكالحة والعيون المنطفئة والأنوف الحمر والقلوب الميتة، اليابسة، الجافة.
في هذه اللحظات، ودت ـ فاطمة يوسف ـ في قرارة نفسها، لو كانت ـ الآن ـ في قريتها الفقيرة المجهولة، بين أناس تعرفهم ويعرفونها، وكوخ من القش وفروع الأشجار اليابسة، ووجوه تألفها ويألفونها، قلوبهم في بياض حليب النياق، وإن كانت جلودهم داكنة اللون!
الآن، يا فاطمة! الآن وأنت على جانب رصيف الغرباء؛ ما أحلى العودة إلى الديار، إلى الدفء والحب والحنان. هذه اللحظة يا فاطمة تساوي العمر بأكمله. سنوات كثيرة مضت وسنوات أكثر وأكثر ـ بعلم الله ـ قادمة.
آهِ! يا قارتي السمراء الجافة.. نوبات الطلق تزداد قوة وعتواً. ها قد جاءت اللحظات الأخيرة من المخاض. اضطرت إلى التمدد على الرصيف البارد. كل من شاهدها وسمعها تتوجع، حاذاها، ومر.. ولم يتوقف لحظة بجوارها. أحست برغبة عارمة في البكاء، في المناجاة بصوت مسموع، في الصراخ ليصل إلى آذان المارة الصماء، ليعم بلاد الثلج والصقيع. لم يعد في إمكاني أن أخجل من شيء. كل الوجوه والنظرات باردة.. آهِ! يا قريتي المنسية. ها قد جاءت النوبة الأخيرة لأضع طفلي ... وارتفع الصراخ الطفولي البريء.. وراحت في شبه غيبوبة.
من خلال غلالة رقيقة من الضباب، أحست بهيئة رجل برونزي، مارد أسمر، جاء إليها محلقاً من وراء الغيوم. قام بهدوء بتغطية المولود بالوشاح الصوفي الثقيل الذي يستر به بدنه الضاوي، ولف طرفي الغطاء حول رأسها وكتفيها..
ومضى في طريقه..
وما زال صراخ الوليد مستمراً.