مجله البيان (صفحة 4992)

من أجل تربية أفضل

إبراهيم بن صالح الدحيم

_ بين يدي الحديث:

الحديث عن التربية حديث مهم تحتاج إليه جميع طبقات المجتمع بلا استثناء، فالتربية الإسلامية: جهد يقوم على تطبيق منهاج الله في الأرض وتحقيق الدينونة له، وهذا الأمر يجب على الجميع السعي فيه.

ولقد كان أنبياء الله ـ عليهم الصلاة والسلام ـ يقومون في أممهم بالدعوة إلى الله، وإلزامهم منهج الله ومعالجتهم على ذلك، كما قال موسى ـ عليه السلام ـ: «لقد عالجتُ بني إسرائيل أشد المعالجة» (?) . ثم كان لنبينا -صلى الله عليه وسلم- القِدْح المعلى في ذلك، وقد أخرج جيلاً فريداً صار معجزةً من معجزاته، كما قال القرافي ـ رحمه الله ـ: «لو لم يكن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- معجزة إلا أصحابه لكفوه في إثبات نبوته..» (?) .

لقد كان الرجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يسلم، فما يلبث إلا ويحسن إسلامه، ويعظم أمره؛ مما يلقى من حسن الرعاية وعظيم التربية.

ثم تتابع الناس بعد ذلك جيلاً بعد جيل يعنون بالتربية.. فالآباء على مر العصور يُلزمون أبناءهم مجالس العلماء وحلق الذكر، وربما طلبوا لهم مؤدباً ومربياً تُوكل إليه مهمة العناية بهم، ورعاية أدبهم، وتكميل جوانب النقص فيهم.

حتى إذا أقبل علينا هذا الزمن بما فيه، وفُتحت علينا فيه الثقافات، وغزتنا الأفكار من كل جانب، وهاجت أعاصير العولمة، واهتزت القيم والمبادئ، واضطربت الثوابت؛ صار الحديث عن التربية أشد إلحاحاً من ذي قبل؛ بغية تحصين المجتمع، وتثبيت ثوابته، وحفظ مبادئه وقيمه.

ولئن كان الناس يسعون دائماً إلى طلب الأفضل في مآكلهم ومشاربهم وملابسهم ومراكبهم ومساكنهم؛ فإن طلب الأفضل في جانب التربية أحق وأوْلى؛ إذ بها تجمُل الحياة وتزين، وتصلح وتستقيم، وبدونها تختفي قيمة المظاهر وتذبل، وتنقلب نقمة لا نعمة.. لأجل هذا كله كان الحديث: (من أجل تربية أفضل) ، أُثير فيه قضايا ملحّة، وألفت النظر فيه إلى جوانب مهمة.. ولا أزعم بهذا الحديث أني استوفيت جميع الجوانب، ولكن حسبي أنها مراجعات لبعض جوانب التربية في مجتمعنا، تُذكّر الناسي، وتنبه الغافل، وتُرشد الجاهل، وتدعو الراغب إلى زيادة البحث، وتعميق النظر والسعي إلى الأفضل.

_ أولاً: ما التربية؟

إن معرفتنا لمفهوم التربية على الوجه الصحيح سيساعدنا في القيام بها، وسيجنبنا تبعات تصرفات غير مسؤولة تُمارَس باسم التربية، وما هي من التربية بسبيل!

فما التربية؟ بالنظر إلى أهداف التربية الإسلامية وجوانبها يمكن أن نقول إن التربية هي: (تنمية الشخصية عبر مراحل العمر المختلفة؛ بهدف تكوين المسلم الحق الذي يعيش زمانه، ويحقق حياة طيبة في مجتمعه على ضوء العقيدة والمبادئ الإسلامية التي يؤمن بها) .

حول التعريف: حين نتأمل في تعريف التربية تتبين لنا أمور يجب العناية بها:

ـ فالتربية التي نريد؛ تكون بتنمية الشخصية بجميع جوانبها، العقلية منها والجسمية والروحية والنفسية والاجتماعية؛ بحيث نعطي كل جانب من هذه الجوانب حقه في الرعاية والتوجيه، فلا نشطط بجانب دون آخر.

دخل ثلاثة رهط على بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم-.. فكأنهم تقالُّوها، فقال أحدهم: «أما أنا فأصوم ولا أفطر. وقال الآخر: وأما أنا فأقوم ولا أرقد. وقال الثالث: وأما أنا فلا أتزوج النساء» . فرد عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، وأرشد إلى ضرورة العناية بجميع الجوانب، فقال: «ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (?) .

ـ والتربية التي نريد هي التي تستمر وتتطور، مراعيةً مراحل العمر المختلفة، لا تقف عند سن معيّنة، ولا تعمم لجميع المراحل أسلوباً تربوياً واحداً، بل تعرف لكل مرحلة خصائصها التي تميزها عن غيرها، والتي يجب مراعاتها من أجل تربية أفضل، وهذا يحتم علينا مزيداً من التعرف على خصائص المرحلة التي نريد توجيه التربية إليها، وهو الشيء الذي يجعل التربية أكثر سلاسة، وأسرع كسباً، وأنضج ثماراً. وأيضاً فإن معرفتنا بخصائص المرحلة سيجنبنا الصدام النكد مع الطباع والفطر الكامنة في النفوس مما قد يجعل خسائرنا في التربية أضعاف مكاسبنا.

ـ والتربية التي نريد هي التي يُرسم لها أهداف يتم العمل على تحقيقها؛ إذ إن العمل دون هدف محدد مدعاة إلى التخبط والاضطراب، وتحويل ميدان التربية إلى معمل تكثر فيه الضحايا وسط تجارب مرتجلة. ثم إن العمل دون أهداف إهدار لأنواعٍ من الثروات الدعوية دون عائد كبير، وقد قيل: «إذا خرجت من منزلك دون هدف؛ فكل الطرق توصلك إلى المكان الذي تريد..» ، والمعنى: إن أي مكان تذهب إليه فهو ما تريد؛ لأنك لم تقصد شيئاً بعينه تريد الذهاب إليه.

إننا حين نطالب بوضع أهداف للتربية؛ فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن تتحول التربية إلى آلة تجعل كل كلمة لا بد أن تصدر عن هدف وكل تصرف كذلك.. إنه أحياناً قد يكون من العقل والحكمة وحسن التدبير عمل شيء زائد عن هدف محدد مرسوم، حين يمر عليك مثلاً حدث يستدعي التنفير من العقوق، أو الرحمة بالمسكين، أو التذكير بحسن الخاتمة أو سوئها ... أَوَ ليس من العقل والحكمة استغلال الحدث في التأثير وإن لم يكن نوع الحدث من أهدافك المرحلية الحاضرة؟!

ـ والتربية التي نريد هي التي تساعد الفرد على أن يعيش في زمانه، لا خارج زمانه، ولا بعيداً عن مجتمعه معزولاً عن واقعه، يقبع في وادٍ والناس في وادٍ وشأن آخر.

لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعيش زمانه ويتعامل معه تعامل الخبير الفاحص، لم يكن يجهل تحركات الأعداء، أو تخفى عليه مكائدهم، ولذا كانت استعدادته -صلى الله عليه وسلم- مبكرة، وغزواته أكبر شاهد بذلك، وقد أكد النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك على الصحابة، ودعاهم إلى ضرورة مخالطة الناس والعيش معهم فقال -صلى الله عليه وسلم-: «المسلم إذا كان مخالطاً الناسَ ويصبر على أذاهم؛ خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» (?) .

ـ والتربية التي نريد هي التي نسعى من خلالها إلى تحقيق حياة طيبة في المجتمع، من خلال ترسيخ روح العمل الجماعي في الفرد، والقضاء على كل أنانية مقيتة، تجعل الشخص نفعياً يعيش لمصلحة نفسه فحسب، إنما نريد أن نعد المسلم الحق الذي ينفع أمته ومجتمعه، فيكون بذلك عضواً نافعاً يطيب بمثله المجتمع، لا أن يكون غصة على مجتمعه ونكالاً عليه، نريدها تربية تفاعلية، يتفاعل فيها الفرد مع من حوله، ويتفاعل من حوله معه.

ـ والتربية التي نريد هي التي تُصاغ على ضوء العقيدة الإسلامية والمبادئ التي يؤمن بها المسلم، فتكون بذلك تطبيقاً عملياً لاعتقاد المسلم ومبادئه.. وعلى هذا؛ فحين نستفيد من الدراسات الغربية وغيرها في هذا المجال؛ فلا بد أن نعرضها على عقيدتنا ومبادئنا، فما وافق منها العقيدة قبلناه، وما خالفها رددناه ولا كرامة.

تلك هي التربية ـ بالمعنى العام ـ التي نصبو إلى تحقيقها، وهذا ما نريده من المربين عموماً.

ـ لكن يبقى أن أشير إلى أمر مهم، هو: أننا حين نريد تنزيل هذه التربية على شخصٍ ما؛ فلا بد أن نراعي قدراته وإمكاناته وميوله الشخصية حتى نحقق بذلك تربية أفضل، وهذا ما يُعبّر عنه بمراعاة الفروق الفردية؛ إذ تجد بعض المربين يخطئ حين يريد أن يجعل من المتربي نسخة طبق الأصل منه، أو من قدوة يرتسمها، أو يريد أن يجعل الأشخاص الذين يقوم على تربيتهم نسخة واحدة متماثلة!! وحين يسير المربي على هذه الطريقة؛ فإنه سيحكم على المتربي بالإخفاق لمجرد أنه لم يصل إلى الحد الذي قدَّره له؟! مع أن المتربي قد يكون قد خطا خطوات كبيرة لكنها في عين المربي غير ملحوظة؛ ولذا يمكن أن نقول: إن التربية في حق الشخص المعيَّن هي: إيصال الفرد إلى كماله هو (لا إلى كمال غيره) .

_ ثانياً: الارتقاء المعرفي بالفرد:

الحقيقة أننا نعيش أزمة معرفية يشترك فيها عامة طبقات المجتمع بلا استثناء، حتى إنه جاء في إحصائية علمية أُجريت على خريجي جامعة عربية كان من نتائجها: «أن 72%من الخريجين لم يستعيروا كتاباً واحداً من مكتبة الجامعة طَوال حياتهم الجامعية» (?) ؛ فإذا كان هذا في الطبقة التي يُفترض أن تكون علاقتها مع الكِتَاب أكبر؛ فما الظن بغيرهم؟ لذا فإن من الضروري لرفع مستوى التربية تركيز العناية بهذا الجانب، فكم نحن بحاجة إلى رفع مستوى العلم والثقافة والمعرفة عند المربي، وكذا عند المتربي..

لا بد أن يكون عند المربي أرضية معرفية كافية يستطيع من خلالها إدارة التربية على شكل صحيح وبوضع صحيح، إن من المقررات البديهية أننا حين نريد أن نرتقي بإنسان إلى مستوى أرفع؛ فلا بد أن نكون نحن في موضع أرفع منه حتى نستطيع أن نناوله أيدينا فيرتقي.. وحين يكون المربي أقل معرفة من المستوى المطلوب فإنه لا يملك أن يعطي شيئاً؛ إذ فاقد الشيء لا يعطيه، إنه لا بد من مخزون معرفي كافٍ يمتلكه المربي، يكون به قادراً على تغذية التربية معرفياً ورعايتها.

ـ وهذا يدعونا إلى القول بأن من الأمانة حين يرى المربي أن المتربي لا يستفيد منه كثيراً، أو أنه قد نفد ما عنده ـ ليس في كل جوانب المعرفة فحسب ـ؛ فمن الأمانة أن يدفع بالمتربي ويوجهه إلى من قد يكون أكثر منه نفعاً وأقدر على العطاء.. وسيكون ذلك حسنة من حسنات المربي الأول، ودلالة على النصح والتجرد؛ مما سيكون له أعظم الأثر في نفس المتربي، بل إنه سيحس بمدى العناية التي تُقدَّم من أجله، وهو الشيء الذي سيدفع به إلى مزيد من الاجتهاد والتقدم والرقي.

أما العناية بالارتقاء المعرفي لدى الفرد فهي أيضاً مسؤولية عظيمة، يجب أن تُصرف العناية لها من سن مبكرة، تبدأ من سني العمر الأولى، وأن يستدرك ما فات بعد ذلك.

يقول أحد الباحثين: (إن تعليم القراءة للأطفال يبدأ من سن ستة أشهر..) (?) .

قد نحكم على هذا الكلام بأنه مجازفة، لكن حين يُنظر إلى أن الطفل يمكن أن تُوجَّه ميوله، وتقع عنده الرغبة والولع في القراءة من سن مبكرة جداً؛ فإن هذا الكلام قد يكون أكثر مصداقية.

ـ حين تهيأ للطفل فرصة المعرفة من الصغر، ويرى أدواتها معروضة بين عينيه، في صورة مكتبة منزلية، أو عن طريق اهتمام أفراد الأسرة بالكتاب؛ فإن ذلك سيوجه ميول الطفل ولا بد، وسيولد عنده الرغبة شيئاً فشيئاً..

وينشأ ناشئ الفتيان منّا

على ما كان عوَّده أبوه

لقد رأينا ونحن نطالع سِيَر العلماء أن بيوت العلم قد أثَّرت في الغالب في أبنائها، فأخرجت علماء أصحاب مخزونٍ معرفيٍ ضخم. إن هذا التوجه المعرفي في البيت، وتوافر أدواته فيه، سيساعد في اكتشاف موهوبي القراءة على أقل تقدير، فضلاً عن تولُّد الرغبة في نفسه، ( «مايكل فاراداي» عالم فيزيائي شهير، كان أبوه فقيراً، وكانت الأسرة من شدة الفقر تسكن فوق حظيرة لعربات الخيل؛ مما اضطر «مايكل» إلى الانقطاع عن الدراسة ليعمل بمحل لتجليد الكتب، ولعل هذه المهنة المرتبطة بالمعرفة كانت أحد أسباب عشقه للعلم؛ فقد كان ينكب على الكتب التي يراد تجليدها؛ مما كوَّن لديه حصيلة معرفية جيدة) (?) .

ـ ثم قد لا يكفي تهيئة الجو وإيجاد الرغبة، بل لا بد من تشجيع القراءة عند الأطفال من سن مبكرة؛ بأن تبذل لهم المكافآت وغيرها من الحوافز التي تدفعهم إلى المواصلة، وأن يُشجَّعوا مع ذلك على المشاركة أثناء القراءة (ونقصد بالمشاركة: التعليق على المقروء، وذكر شواهد مماثلة له من الواقع، ونقد المواقف..) ؛ فإن هذا يربي في نفس الطفل الشوق إلى القراءة والاستمتاع بها، ونستطيع من خلالها أن نوصل إليهم المبادئ والقيم المهمة التي يحتاجون إليها، وتلك هي المهمة الأولى للقراءة.

ـ وكذا من فاته قطار المعرفة في الصغر؛ فإنه يحتاج إلى تشجيعٍ أكبر وبعث للهمة، من أجل استدراك ما فات، ولن يكون الأمر صعباً حين توجد الرغبة وتنبعث العزيمة.

وإذا كانت النفوس كباراً

تعبت في مرادها الأجسامُ

ثم إن مما يبعث النفس إلى القراءة والمعرفة الاطلاع على سِيَر السلف وشدة شغفهم بالعلم والمعرفة (?) .

ولا بد مع التشجيع من توجيه قراءة المتربي، ومساعدته على اختيار الأنسب والأنفع، فلا يقرأ كل ما تدفع به أرحام المطابع دون تمييز؛ لأن قراءة ما هو نافع ـ فضلاً عما لا نفع فيه أو فيه ضرر ـ سيفوّت قراءة ما هو أنفع، وهذا التوجيه وهذه المساعدة للمتربي تؤكد ما سبق ذكره؛ من ضرورة وجود حظوة معرفية كافية لدى المربي ـ ولو للمرحلة العمرية التي يقوم عليها ـ.

ـ كما يلزم المربي وهو يوجه القراءة أن يكون لديه معرفةً بمستوى المتربي وقدراته وحاجاته المعرفية؛ لأن الكتاب الجيد كالدواء لا يفيد كل الناس، وإلى هذا المعنى أشار الغزالي ـ رحمه الله ـ بقوله: «أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه، فلا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله فينفره، أو يخبط عليه عقله.. ولذلك قيل: كِلْ لكُل عبدٍ بمعيار عقله، وزِنْ له بميزان فهمه؛ حتى تسلم منه وينتفع بك، وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار» (?) .

ـ ثم على المربي أن يُشعر المتربي أن الارتقاء المعرفي لا يأتي دون ثمن، بل يحتاج إلى جد واجتهاد وصبر ومثابرة؛ حتى تتهيأ النفس لذلك، وقديماً قال السلف: (لا يُنال العلم براحة الجسم) ، ولما سُئل (أديسون) عن العبقرية قال: (إنها 1% إلهام، و 99%عرق جبين) (?) ، ومما يحسن التنبيه عليه في هذا المقام هو توجه كثير من الناس إلى الكتب السهلة والقصص والحكايات، وعزوفهم عن الكتب الصعبة والكتابات الرفيعة، والتي من طبيعتها استنفار القوى العقلية لدى القارئ لمزيد الفهم والتأمل والتفكير. إن التوجه للكتب السهلة قد يكون مقبولاً لوقت معين، لكن لا يصح أبداً الاستمرار عليها؛ لأن ذلك يعوق عملية الارتقاء، ويسبب للذهن نوع تأسُّن أو ركودٍ في المعاني والمفهومات والمدارك.

_ ثالثاً: الرقابة الذاتية:

يهتم كثير من المربين بمتابعة سلوك المتربي وملاحظة التغير الذي يطرأ عليه، والارتقاء به ومعالجة الظواهر السيئة والسعي في وضع حمايات تقيه بعض المخاطر، وهذا الفعل حسن لا غبار عليه بل هو المطلوب، لكن حين يسير في وضعيته الصحيحة التي تُصلح ولا تُفسد. ولكننا أحياناً كثيرة نغفل عن غرس الرقابة الذاتية في نفس المتربي، والتي بدورها تساعد في تعميق التربية بشكل أقوى فتكون أدعى للثبات، وتمنحنا شيئاً من الوقت يمكن صرفه لآخرين ابتغاء توسيع العمل.

ـ لست أهوّن من المتابعة، بل هي جانب مهم في نجاح العملية التربوية، ولكني أقول إنه لا بد من بذل جهد قوي وكبير في سبيل تقوية الحصون الداخلية لدى المتربي؛ حتى يشعر دائماً برقابة الله له وقربه منه واطلاعه عليه، فيشعر بالمسؤولية تجاه نفسه، بضرورة لزوم الصدق مع الله ومع النفس؛ فكم نحن بحاجة إلى أن نعيد قراءة قصة يوسف مع امرأة العزيز يوم واجه الإغراء بقول (معاذ الله!!) ، وقصة الراعي مع ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ حين أعلنها الراعي مدوية تنساب في أودية مكة (فأين الله؟) ، وكذا قصة المرأة الأعرابية يوم صرخت بصوت جلجل في الأفق (فأين مُكَوْكِبُها؟) ، وغير ذلك كثير مما جاء عن السلف الصالح ومن بعدهم.

ـ لا بد أن يرسخ عند المتربي الشعور بالمسؤولية تجاه نفسه، وأنه هو المطالب بتزكيتها وتكميلها، وأن دور المربي معه ما هو إلا إعانة له على تزكيته هو لنفسه: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9 - 10] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18] ، {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 95] .

إن ضمور هذا المعنى في النفوس ـ الرقابة الذاتية ـ أحدث ضعفاً واضحاً في صفوف المتربين من خلال التقصير في بعض الواجبات ـ كالصلاة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام ـ أو الوقوع في شيء من المحرمات ـ كإطلاق البصر واللسان، وما يجري بعده من ويلات.. ـ كل ذلك يحصل نتاج ضعف المراقبة في النفوس.

ـ لقد فهم السلف هذا المعنى، ونادوا بإصلاح النفس ومحاسبتها والقيام عليها بالمتابعة والرقابة؛ فهذا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يقول: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوها قبل أن توزنوا..» (?) ، ويقول الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: «المؤمن قوَّام على نفسه يحاسبها لله» (?) ، وهذا ابن القيم ـ رحمه الله ـ يحذر من إهمال النفس وعدم القيام عليها فيقول: (أضر ما على المكلف الإهمال وترك المحاسبة والاسترسال وتسهيل الأمور وتمشيتها؛ فإن هذا يؤول إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور، يغمض عينيه عن العواقب ويمشّي الحال، ويتكل على العفو، وإذا فعل ذلك سَهُل عليه مواقعة الذنوب، وأنس بها، وعسر عليه فطامها.. إلخ) (?) .

إن تنمية الشعور بالمسؤولية تجاه النفس والرقابة الذاتية عليها ومحاسبتها؛ سيساعدنا كثيراً في التربية، ويجعلنا نجني نتائج أفضل، ونحس بنوع من الأمن تجاه المتربي.

ـ وعلى المربي وهو يغرس الرقابة الذاتية في نفس المتربي؛ أن يعلم أنها لا تنمو إلا على قسط من الحرية وترك الفرصة للاختيار، ولا بد من غرس نوع من الثقة في نفس المتربي، فالتنقيب عن أخطائه وتتبع عوراته والبحث عن سقطاته والسير معه بنظام الجاسوسية؛ كفيل بإفساد النتائج على عكس ما يراد لها من صلاح، وفي حديث معاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم» (?) .

إنه ليس من أحد إلا لديه عيوب ونقائص، وحين نتوجه للبحث عن الخبايا وكشف المستور؛ فإننا نساهم ـ شعرنا أو لم نشعر ـ في إعطاء الجرأة للمخطئ في التبجح بالخطأ وإظهاره دونما استحياء، حيث يحس أن أوراقه قد احترقت فلا يبالي بما صنع، بل يصل الحال أحياناً عند بعضهم إلى قصد المخالفة والعناد، وبهذا يخرج من حيز المعافاة ويعم الضرر به من بعد ما كان الأمر مقصوراً على المخطئ ذاته.. «كل أمتي معافى إلا المجاهرين» (?) .

إن أحداً منا لو سُلطت عليه الأضواء لنكشف منه ألف عيبٍ وعيبٍ؛ لذا ينبغي على المربي أن يعلم أنه يربي بشراً من عادته الخطأ والتقصير؛ فالمرء لا يولَد كاملاً بل يتطور ويرتقي ويكتسب الكمالات شيئاً فشيئاً، (إننا حين نرسم للناس صورة مثالية فسوف نحاسبهم على ضوئها، فنرى أن النقص عنها يُعَدُّ قصوراً في تربيتهم، فتأخذ مساحة الأخطاء أكثر من مداها الطبيعي الواقعي. وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أنهم لن يصلوا إلى منزلة لا يواقعون فيها ذنباً، فقال: «والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم» (?) (?) ، ولما أفشت حفصة ـ رضي الله عنها ـ ما أسرَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- لها أطلعه الله على ذلك فلم يُفِضَ في المناقشة أو يستقصي، بل كان -صلى الله عليه وسلم- كما قال ـ تعالى ـ: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم: 3] ، كل ذلك كرماً منه -صلى الله عليه وسلم- وحسن إدارة ورعاية، قال الحسن: «ما استقصى كريم قط» ، وقال سفيان الثوري: «ما زال التغافل من شيم الكرام» (?) .

ليس الغبي بسيدٍ في قومه

لكنَّ سيد قومه المتغابي

وحين ندعو إلى نوع من الإغضاء فلسنا نريد الإهمال، وترك الحبل على الغارب، والانقطاع عن المتابعة.. كلا.. بل إن «.. الشخص الذي لا يجد في نفسه الطاقة على المتابعة والتوجيه المستمر شخص لا يصلح للتربية ولو كان فيه كل جميلٍ من الخصال! ... » (?) .

_ رابعاً: إطلاق الإبداع:

(دماغ الإنسان مظهر من مظاهر قدرة الله وإتقانه ومننه وعظيم إحسانه؛ فالدماغ قادر على معالجة ما يصل إلى 30 بليون معلومة في الثانية، وفيه نحو ستة آلاف ميل من الأسلاك، ويحوي الجهاز العصبي للإنسان عادة حوالي 28 بليون عصبون، وكل عصبون من هذه العصبونات عبارة عن حاسب آلي ضئيل الحجم له استقلاله الذاتي، وهو قادر على معالجة حوالي مليون معلومة..» (?) ، {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] .

إذا علمنا هذا؛ فإن قدرات هائلة مما زوَّد الله بها بني آدم يقتلها الناس وهم لا يشعرون؛ من خلال ممارستهم السيئة تجاه الإبداع والمبدعين.

ـ لقد دلت بعض الدراسات أن الطفل يولد وهو على درجة عالية من القدرة على الإبداع، (إن الأطفال حين تكون أعمارهم بين سنتين وأربع سنوات يكون 95% منهم إبداعيين وإمكاناتهم في ارتقاء مستمر، في حين تقل النسبة تدريجياً كلما تقدم السن حتى لا يبقى سوى 2%) (?) ؛ فأي فرصة تضيع وأي إبداعات تهدر؟!

ـ إننا نخطئ كثيراً في التعرف على الإبداع، حين نحس أنه مرادف للذكاء والتفوق، وليس هذا بالضروري، بل إننا بهذه النظرة القاصرة نفقد صوراً من الإبداع لا تراها العيون.. فقد دلَّت الدراسات على أن لدى كل واحد منا جانباً إبداعياً في شخصيته، وسيظهر ذلك حين نحسن استخراج الإبداع ونفتح المجال له، وقد قيل: (العقل كمظلات الطيارين لا تنفع حتى تُفتح) ، وهكذا الإبداع لا يشرق حتى يُطلق.

- وحين لا نتعامل مع الإبداع بطريقة صحيحة؛ فإننا لسنا نخسر إبداعه فقط، بل إن مجرد إغفال الإبداع سيسبب للأمة أزمات ويخلق لها مشكلات هي عنها بغناء، (والغنم بلا راعٍ ليس له مرعى) ؛ يعني: أنها ستتجاوز مرعاها فتفسد زروع الآخرين أو تقع في فم الذئب الضاري! يقول أحد المشتغلين بقضايا الإبداع: إن عقل الطفل ابن الخامسة يشبه بركاناً له فوهتان: واحدة هدامة، والأخرى مبدعة، ونحن بقدر ما نوسّع مدى الفوهة المبدعة؛ نوقف الفوهة الهادمة. ا. هـ.

- وإذا فرض عدم وجود آثار سلبية لإهمال الإبداع؛ فإن الإبداع قد يتوجه ـ إن لم يوجه ـ إلى ما لا نفع فيه، فنقع في مشكلة (هدر الطاقات) دون أي عائد يذكر!! ذُكِرَ أن رجلاً جاء إلى أحد الخلفاء العباسيين فعرض عليه لعبة بارعة بأن يثبت إبرة في الأرض، ثم يرمي وهو واقف إبرة أخرى فتدخل في سُمِّها، ثم يرمي الثالثة والرابعة.. إلى المئة كل إبرة تدخل في سُمّ الأُخرى، فلما انتهى أَمَرَ له الخليفة بمئة دينار ومئة جلدة، فعجب الرجل!! فقال الخليفة: مئة دينار لبراعتك، ومئة جلدة لانشغالك فيما لا طائل من ورائه!

إن علينا مسؤولية عظيمة في توجيه الإبداع ورعايته، والسعي الجاد في تهيئة المواقع التي تنمّيه، والمحاضن التي تغذّيه وتحسن توجيهه، ومن ثم تنعم بالاستفادة منه.

وينبغي من أجل رعاية الإبداع التنبه إلى ما يلي:

- إن الإبداع من أجل أن ينمو ويزهر يحتاج إلى بيئة آمنة داخلية وخارجية تضمن له الاستمرار في الإبداع، وزيادة العطاء وروعة الإنتاج؛ فحين يسمع الابن في البيت عبارات الاستهزاء وألفاظ الازدراء والتنقُّص تنهال عليه من أبويه أحدهما أو كلاهما، أو من إخوته وأقاربه وجيرانه، فإن ذلك سيقيد حركته ويجعله يضرب أخماساً بأسداسٍ قبل أن يقدم على فعل شيء ـ ماذا تفعل.. هذا جنون.. دعنا من عبثك.. لا تكلف نفسك عناءً لا طائل منه ـ وغيرها من الكلمات التي نقولها نطفئ بها ثورة في نفوسنا دون أن نعرف عواقبها.. فهل سينمو الإبداع في مثل هذه الأرضية؟!

وحين يجد مثل هذا التندُّر والتنقيص في محيط مدرسته يوجَّه إليه من معلميه أو من زملائه؛ فإن ذلك سيؤدي إلى ضمور اهتماماته، وفتور عزيمته، وخبوّ ذهنه، ومن ثم التفاته عن إبصار كل نقطة تفوّق لديه.

- لا بد من أجل نمو الإبداع من التشجيع وتقديم الحوافز، وإعطاء نوع من الأمن الذي يجرئ المتربي على مزيد من الإبداعات، ولا بد أن تُثار في نفسه روح المغامرة والتحدي من أجل إثبات الذات دون غرور أو جنوح. كان ابن شهاب ـ رحمه الله ـ يشجع الأولاد الصغار ويقول لهم: (لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم؛ فإن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم، يتبع حِدَّة عقولهم) (?) ، (وفي مسابقة أجرتها مجلة إنجليزية شهيرة وجهت فيه سؤالاً للأدباء عن الأمر الذي يتوقف عليه نمو العلوم وازدهار الأدب، فكانت الإجابة الفائزة لكاتبة مشهورة قالت: «إنه التشجيع!!» ، وقالت: «إنها في تلك السن بعد تلك الشهرة والمكانة، تدفعها كلمة التشجيع حتى تمضي إلى الأمام، وتقعد بها كلمة التثبيط عن المسير!!» (?) .

ـ ثم إن مما يجعل بعض جوانب الإبداع تختفي لدى المتربي هو أن المربي قد يكون يعيش ميولاً معرفية محددة، وأنماطاً حياتية معينة تجعله لا يبصر الحياة إلا من جهة ميوله ورغباته الخاصة؛ فهو يبصر كل إبداع يتوافق مع ميوله، في حين تغيب عنه صور من الإبداع كثيرة تجري من بين يديه ومن خلفه دون أن يراها؟! لذا فإن على المربي أن يقيس الأعمال والتصرفات، لا من جهة توافقها مع أنماطه وميوله ورغباته الشخصية، بل يجب أن يقيسها بنظرة شمولية واسعة تجعله أقدر على اكتشاف صور أكثر من الإبداع المختفي حول حواجز الرؤية المحدودة والنظرة المحجمة الضيقة التي يعيش فيها المربي.

ـ وحين يخفق المبدع مرة؛ فإن من الواجب ألا يُعَيَّرَ بإخفاقه ويُحَمَّل مسؤولية ذلك وحده ويُتخلى عنه، على حد قول القائل: (يداك أوكتا وفوك نفخ) ، بل يجب أن يواسى ويُشد من أزره، ويثنى على مبادرته وخطوات العمل التي قام بها؛ إذ هي في حد ذاتها جهد يحتاج إلى شكر، ثم بعد ذلك يعلم أن في العالم ناجحين كُثراً أخفقوا في محاولات كثيرة؛ لكنهم لم يقنطوا ولم يرضوا أن يحكموا على أنفسهم بالإخفاق الدائم، بل إنهم رأوا أن كل حالة إخفاق فإنها لا بد ستدلهم على اكتشاف طريق مسدودٍ قد غاب عنهم، أو أسلوب غير صحيح يتم تلافيه في تجربة أخرى جديدة ... لا بد أن يقال له وبوضوح: (إنك لن تعدم الفائدة حتى في إخفاقاتك) .

إن علينا ـ معاشر المربين ـ ونحن نطلب مزيداً من إطلاق الإبداع؛ أن نمتلك حاسة شم قوية تنفذ إلى مواطن الإبداع في شخصية المتربي، وتجيد توظيفها والتعامل معها.

_ خامساً: الرسائل الخفية:

أو ما يُطلق عليها لغة الإيحاء، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88] (?) .

كم تصنع الرسائل الخفية من أثرٍ بالغٍ في شخصية المتربي دون أن نشعر؟! وهذا الأثر قد يكون إيجابياً نافعاً، وقد يكون سلبياً يهدم ما قد بني ويفسد ما تم إصلاحه؛ فحين تكون سيرة المربي حسنة، واستقامته جيدة، ومراقبته لنفسه مستمرة؛ فإن رسائل حسنةً منه ستظهر دون أن يشعر، تؤثر في المتربي، وتساهم في صياغة شخصيته دون كثير نصح أو توجيه مباشر. ذكر ابن حجر في ترجمة (الجُلندي ملك عُمان) عن ابن إسحاق: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث إليه عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ يدعوه إلى الإسلام، فقال: «لقد دلني على هذا النبي الأمي: أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له..» (?) ، وقال يونس بن عبيد ـ رحمه الله ـ: «كان الرجل إذا نظر إلى الحسن انتفع به وإن لم ير عمله ويسمع كلامه» (?) ، وقال عبد الواحد بن زيد: «ما بلغ الحسن إلى ما بلغ إلا لكونه إذا أمر الناس بشيء يكون أسبقهم إليه، وإذا نهاهم عن شيء يكون أبعدهم منه» . إن «الواو والراء والدال» لا يُشَمُّ منها رائحة الورد؛ فكن بالخير موصوفاً ولا تكن للخير وصّافاً.

إن في الناس أوجهاً لامعاتٍ تملأ العين زهرة ورواءَا

ويراها البصير صورة زهرٍ لم تهبها الحياة عطراً وماءَا

ولقد ترى الناس يتأثرون بسمت العالم والداعية وحسن دلّه وعظيم مواقفه؛ أبلغ مما يتأثرون بكلامه، بل ربما نسوا الكلام وبقيت المواقف والمُثل التي انطبعت في النفوس، وقد قيل: «من لا ينفعك لحظه لا ينفعك لفظه» .

إن القدوة الحسنة عملية تربوية مستمرة لا تعرف الملال ولا الانقطاع تساعد المتربي على الارتقاء، وبلوغ الكمالات، وتختصر الوقت، وتعطي قناعة تامة بإمكانية بلوغ الفضائل والكمالات. «إن الأسوة هي علم الحياة» ، كما قال مصطفى الرافعي (?) ـ رحمه الله ـ: (لو أقام الناس عشر سنين يتناظرون في معاني الفضائل ووسائلها، ووضعوا في ذلك مئة كتاب، ثم رأوا رجلاً فاضلاً بأصدق معاني الفضيلة، وخالطوه وصاحبوه؛ لكان الرجل وحده أكبر فائدة من تلك المناظرة، وأجدى على الناس منها، وأدل على الفضيلة من مئة كتاب ومن ألف كتاب.. إلخ) (?) . ذكر صاحب كتاب (من وحي الأسرة) (?) أن أحد علماء الشام قال له: «التقيت بسبعة إخوة حفظة كتاب الله، وكان أكبرهم على مشيخة القراء، فلما مات استلم المشيخة الثاني ثم الثالث وهكذا.. فقلت لأحدهم يوماً: كيف حفظتم بهذا الإتقان والإجادة وأبوكم يعمل في صبغ الثياب من الصباح إلى المساء؟! فقال: أُمُّنا حافظة لكتاب الله ... » ، لقد كانت أمهم أسوة تتردد في جنبات البيت، تبني قناعات في نفوس أبنائها، وترسل رسائل خفية حسنة مفادها: (أن بالإمكان فعل ما كان وأفضل مما كان..) .

ـ وعلى هذا؛ فحين يختلف الحال ويظهر التقصير من المربي ولو تكلف إظهار نفسه بالمظهر الحسن؛ فإن لغة الإيحاء أو الرسائل الخفية ستوصل غير ما يقال وتؤكد غير ما يُنفى، (كيف نطمع في دعوة الناس إذا كنا نحن ـ الدعاة ـ غير مطبقين له في ذواتنا؟ كيف ندعو الناس إلى أخلاقيات لا إله إلا الله إذا كنا نحن أنفسنا غير متخلقين بها؟ كيف ندعوهم إلى الثبات إذا كنا نحن لا نثبت؟ وكيف ندعوهم إلى الصدق إذا سوغنا لأنفسنا أن نكذب؟ كيف ندعوهم إلى التجرد لله إذا كانت ذواتنا هي محور تحركنا؟ ومصالحنا الذاتية هي التي تحدد مواقفنا وأعمالنا؟ ... {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3] . كبر مقتاً لأنه يكون صدّاً عن سبيل الله؛ بدلاً من أن يكون دعوة إلى الله! والشاعر يقول:

ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تُعلمِ!

نستطيع أن نخفي حقيقة أنفسنا في خطبة حماسية بليغة، أو موعظة مؤثرة، أو محاضرة قيمة، أو كتاب نؤلفه؛ ولكن الدعوة ليست خطباً ولا مواعظ ولا محاضرات ولا كتباً ـ وإن كانت كلها أدوات نافعة مطلوبة للدعوة ـ إنما الدعوة قدوة وصحبة وتربية.. هكذا علمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهكذا ينبغي أن يكون فهمنا لحقيقة الدعوة.

وفي الصحبة الطويلة التي تقتضيها عملية الدعوة ـ أي تقتضيها عملية التربية ـ يستحيل علينا أن نخفي حقيقة أنفسنا، ولا بد أن «ننكشف» أمام الذين يتلقون منا؛ فكيف إذا اكتشفوا ذات يوم أننا كنا «نخدعهم» ؟! أننا كنا نحدثهم بمعانٍ نفتقدها نحن، أو نشتمل على أضدادها؟! كيف تكون الصدمة؟! وكيف تكون النتيجة؟!) ونحن بهذا لسنا نشترط بلوغ الكمال في شخصية المربي ـ وإن كان الترقّي فيه مطلوب ـ بل نقصد الحث إلى مزيدٍ من الاجتهاد في متابعة النفس وإلزامها منهج الصدق والإخلاص والمراقبة.

_ سادسًا: لغة الحوار:

(الحوار المنهجي مفيد في إيصال الفكرة للآخرين، وحين نمارس الحوار على وجهه الصحيح؛ فإننا لا نفيد المتربي وحده بل نحن نستفيد منه أكثر؛ فمن خلال الحوار والنقاش تنضج أفكارنا ويرتقي تفكيرنا وتتزن نظرتنا. إننا حين نعرض أفكارنا للتشذيب والتهذيب والإضافة والنقد؛ نكون أكثر معرفةً للواقع وأقدر على التعامل معه.

ـ الحوار يزيد من قبول المتربي للمربي؛ حيث يشعر أن المربي لا يمارس معهم نوعاً من إلغاء الشخصية.

وحين نطالب بالحوار؛ فإننا نقصد القيام بدور المُحاور لا المناظِر؛ فهناك فرق كبير بينهما؛ فالمناظِر يبغي إقناع صاحبه برأيه ليتبناه، بينما المحاور يقوم بإضاءة نقطة مظلمة، وتوضيح قضية غامضة لا يراها المُحاور الآخر على الوجه الصحيح، وبهذا يكون الحوار هادئاً ومنتجاً؛ لأنه يستهدف النفع المتبادل وليس الاستحواذ والاستيلاء..) (?) .

ـ إن من المهم جداً أن نجعل الحوار أساساً في حياتنا، لا سيما في المجال التربوي، فلا نفرض الأمور فرضاً جازماً لا يقبل المناقشة. لقد كانت النساء من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يجدن حرجاً في مراجعته المرة تلو الأخرى في أي شأن من شؤونهن، فضلاً عن الرجال، {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1] ، إنه الشعور بالأمن بين المربي الرحيم -صلى الله عليه وسلم- وبين الأمة، والذي ينظر في سيرته -صلى الله عليه وسلم- يجد ما يشفي ويكفي في هذا الباب. هذا ضمام بن ثعلبة وافد بني سعد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يأتي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول له: «إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد عليّ في نفسك. فقال -صلى الله عليه وسلم-: سل عما بدا لك. فقال: يا محمد! أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك! قال: صدق. فلم يزل يسأل والنبي -صلى الله عليه وسلم- يجيبه على ما سأل حتى رجع ضمام إلى قومه مسلماً» (?) ، إنك لتعجب وأنت تطالع مثل هذا المثال؛ فمع الجفاف في أسلوب ضمام ـ زعم، وتزعم.. ـ إلا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقابل ذلك كله بهدوء نفس وحسن إجابة.

(وهذا حصين بن عبيد يأتي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ولَمَّا يسلم بعدُ، فيبدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- معه حواراً منطقياً: «كم تعبد يا حصين؟! قال: سبعة: واحداً في السماء وستة في الأرض. قال: يا حصين من تعد من هؤلاء السبعة لرغبتك ورهبتك؟! قال: الذي في السماء..» (?) ، وبمثل هذا الحوار تُزال الشبهة ويُصحح التصور!

ـ ويذكر الشيخ عمر الأشقر في كتابه (مواقف ذات عبر) (?) ما جرى في إحدى البلاد: أن فتاةً صغيرة جاءت من المدرسة يوماً وعلامات الحزن والهمّ بادية على نفسها، فلاحظت أمها ذلك فسألتها: ما السبب يا بنيتي؟

قالت الطفلة: إن مدرّستي هددتني بالطرد إن أنا عدت بهذه الملابس الطويلة غداً، قالت الأم المربية: ولكنها الملابس التي يريدها الله يا بنيتي! قالت الطفلة: نعم يا أماه! ولكن المدرّسة لا تريد ذلك. عندها قالت الأم بعبارة حانية وحوار هادئ: حسناً يا بنيتي! المدرّسة لا تريد والله يريد؛ فمن تطيعين؟! أفتطيعين الذي أوجدك وصوَّرك وأنعم عليك.. أم مخلوقة لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعا؟

فقالت الطفلة: بل أطيع الله. قالت الأم: أحسنت يا بنيتي وأصبت.

بهذه الطريقة، وبهذا الأسلوب المقنع الذي يؤكد الثوابت ويقيم القيم جرى الحوار الهادئ بين الأم والطفلة؛ فماذا كانت النتيجة؟

في اليوم التالي: جاءت البنت إلى المدرسة بالثوب الطويل، فانفجرت المعلمة غاضبة مؤنبة للفتاة أمام زميلاتها، حتى ثَقُلَ الأمر بالطفلة فهُرعت بالبكاء الذي لا ينقطع، وعندها هدأت المعلمة وخفّضت من صوتها، وقطعت صراخها، ثم توجهت إلى الطفلة قائلةً: لِمَ لا تستجيبين لما أمرتك به؟!

فنطقت الطفلة بكلمة الحق التي صارت كالقذيفة على هذه المعلمة: والله! ما أدري من أطيع: أنت، أم هو؟! قالت المعلمة: ومن هو؟ قالت الطفلة: الله.. أأطيعك فألبس ما تريدين، أم أطيعه وأغضبك؟! ثم قالت بكل ثبات: سأطيعه ـ سبحانه ـ وليكن ما يكون.. فسكتت المعلمة ... وفي اليوم التالي: دعت المعلمة الأم لتقول لها: لقد وعظتني ابنتك أعظم موعظة سمعتها في حياتي!

لقد كان هذا الثبات من هذه الطفلة نتاج القناعات التي رسخت في نفسها من جراء هذا الحوار المثير الذي قامت به الأم؛ فهل نحاور أبناءنا وطلابنا ومن نقوم على تربيتهم من أجل أن نبني في نفوسهم قناعات لا تتزعزع، وثوابت لا تتغير تكون أكثر صموداً في زمن المتغيرات والفتن؟

ـ ثم إن الحاجة تعظم إلى الحوار والمراجعة حال معالجة الأخطاء؛ إذ لا بد منه لأجل التعرف على ملابسات الخطأ وأسبابه قبل إصدار الأحكام؛ وذلك من أجل تجنب ردود الأفعال السريعة التي تفسد أكثر مما تصلح، وتزيد من اتساع الهوة بدلاً من تضييقها.

جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- شاب ممتلئ شباباً وقوةً وشهوةً يستأذن في الزنى؛ فهل رجمه النبي -صلى الله عليه وسلم- أو ضربه؟ لا؛ فالأمر يحتاج إلى نوع إقناع، وفتح لعين المخطئ إلى جوانب قد غفل عنها.. وهذا هو ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- مع هذا الشاب؛ حيث قال له: ادنُ مني. (إشعاراً له بالأمن) ، فلما دنا قال له: أترضاه لأمك..؟! لأختك..؟! لابنتك..؟! والشاب يقول: لا.. لا.. والنبي -صلى الله عليه وسلم- يرد عليه بقوله: (وكذلك الناس لا يرضونه..) (?) ، فيا له من حوار هادئ وإقناع منطقي آتى أكله وأعطى ثماره!

وكذا كان الأمر مع حاطب بن أبي بلتعة في القصة المشهورة في أحداث غزوة الفتح؛ فهل نحن نفتح حلقات للحوار عند معالجة أخطاء أبنائنا وطلابنا؟

حين تكتشف أن ابنك يدخن مثلاً، أو يسمع الغناء، أو يجلس مع رفقة سيئة؛ فإنك قد ترفع العصا عليه فتوجع يده أو تضرب هامته، وتتبع ذلك بصيحات الوعيد وزمجرات التهديد، وتظن أنك قد قضيت على المشكلة، لكنها في الحقيقة تزداد تجذراً في نفسه ورسوخاً قد يحمله على التحدي والعناد، بينما لو فتحت عينيه بالحوار الهادئ إلى شيء لم يدركه؛ فإنك على أقل تقدير إن لم تقض على المشكلة فستوقف مدها، أو تجعله يتعامل بحذر قد يسهم باستيقاظه فيما بعد، وتنبعث في نفسه أسئلة تحتاج إلى إجابة.. وحين نقول ذلك فلسنا نعارض العقوبة ونمنع منها؛ لكنّا نحاول حصرها في مكانها الصحيح الذي تفيد منه.

أما حين نفرض الأمور فرضاً جازماً ونلغي مساحة الحوار والنقاش المفيد؛ فإننا قد نوجه الظاهر من شخصية المتربي بحكم السلطة والنفوذ، لكننا سنكون بعيدين كل البعد عن الشعور الداخلي وتغيير القناعات؛ مما قد يسبب تمرداً ـ إن صح التعبير ـ في المستقبل القريب أو البعيد متى ما وجدت الفرصة مواتية لذلك، وكما في المثال الإنجليزي: (من السهل قيادة الحصان إلى نبع الماء، ولكن من الصعب إجباره على أن يشرب) (?) .

_ سابعاً: التدريب:

لقد كتب الله لأنبيائه رعي الغنم قبل البعثة كفرصةٍ للتدرب على سياسة الناس والصبر والجلد، إضافةً إلى ما تورثه برعيها من الرحمة واللين؛ فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم. قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: نعم! كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» (?) ، قال ابن حجر معلقاً: «قال العلماء: الحكمة في إلهام الأنبياء من رعي الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرن برعيتها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم، ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم من الحلم والشفقة؛ لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة، ألفوا من ذلك الصبر على الأمة، وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها ورفقوا بضعيفها وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك لأول وهلة، لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم.

وخُصّت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها، ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل والبقر؛ لإمكان ضبط الإبل والبقر بالرباط دونها ـ أي الغنم ـ في العادة المألوفة، ومع أكثريتها فهي أسرع انقياداً من غيرها..» (?) ، فإذا كان الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ يحتاجون إلى نوع تمرين وتدريب لأجل رعاية الخلق ومعالجتهم؛ فغيرهم ممن يسير على طريقتهم من باب أوْلى وأحرى.

والتدريب هو: «عبارة عن نشاط منظم يركز على الفرد لتحقيق تغير في معارفه ومهاراته وقدراته لمقابلة احتياجات محددة في الوضع الحاضر أو المستقبلي، في ضوء متطلبات العمل الذي يقوم به المرء، وفي ضوء تطلعاته المستقبلية للوظيفة التي يقوم بها في المجتمع» (?) .

ومن هنا نعلم أن التدريب ارتقاء دائم، وتطور مستمر، يسهم في تحسين الأداء وتصحيح الأفكار وزيادة البصيرة.

إن الدورات التربوية التدريبية تجمع إليك تجارب مركزةً لناجحين اختيرت بعناية، تجعل المربي يقوم بأداء أفضل ومن ثم ثمرات أفضل، فإذا كان هذا ما سنحصل عليه من خلال الدورات التدريبية التربوية، فلا ينبغي الاستنكاف عن الاستفادة منها حتى لو كلفنا ذلك بعض المال. إن رجال الإدارة والاقتصاد وغيرهم ليسوا أحق بهذه الدورات والبرامج التدريبية من رجال التربية والتعليم والدعوة الذين يقومون على بناء الأجيال ورعاية الناشئة وصياغة ألامة وصناعتها، إننا (بحاجة لمن يعلمنا فن الحوار، وفن الصمت، ومن يعلمنا الكف عن الإدمان على بعض الأشياء وبعض التصرفات، كما أننا بحاجة إلى من يدربنا على إدارة الوقت وإدارة أعمالنا عن طريق الهاتف وعن طريق الأهداف وطريق التفويض، ومن يدربنا على رسم الأهداف، وعلى التخلي عن النزعات العدوانية، ومن يدربنا على حل مشكلاتنا عن طريق التفاوض ومقايضة المصالح، ومن يدربنا على القراءة المثمرة والتفكير المبدع، وحين نحرز تقدماً على هذه الأصعدة؛ فإننا سنجد أن معالم حياتنا كلها قد تغيرت، وصارت فرص النجاح والارتقاء أفضل بكثير مما هي عليه اليوم) (?) .

وحيث إن الأمر هنا مجرد إثارة للموضوع لا غير؛ فإني أشير إلى بعض مواضيع الدورات التي يحتاج إليها المربي من أجل تربية أفضل فمن ذلك:

صياغة الأهداف ـ إدارة العمل ـ تحسين الأداء ـ أنماط الشخصية ـ فن التعامل والقدرة على التأثير ـ رعاية الإبداع ـ أدبيات الحوار ـ حل المشكلات وغيرها كثير.

وختاماً: فإن صياغة النفس البشرية على الفضائل، وتربيتها على الكمالات؛ عملية ضخمة كبيرة لا يصح أن تُصرف لها فضول الأوقات، إنها ليست عملية يوم أو شهرٍ أو سنة، بل هي جهد دائم وسعي مستمر، وكما قال الرافعي: (إننا لسنا على غارة نُغيرها.. بل على نفوس نُغيّرها) (?) ، فكم هي مهمة عظيمة جليلة!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015