مجله البيان (صفحة 4968)

أمريكا المريضة

أ. د. جعفر شيخ إدريس

الولايات المتحدة صاحبة أكبر قوة اقتصادية، وأكبر ترسانة حربية، وأوسع إمكانات إعلامية، لكنها مع ذلك مصابة بداء عُضال لا تجدي معه كل هذه القوى وغيرها من إنجاء الأمة مما يصيبها من الهلاك، داء يعلم به ويعترف به كثير من أهلها ويسمونه بالانتحار، وهو اسم مناسب؛ لأن قوة المنتحر لا تعصمه من الانتحار بل قد تعينه عليه. إنه الداء الذي فضحه سجن أبي غريب، داء التدهور الخلقي الجنسي المتسارع. لقد حاول المسؤولون الأمريكان ومن شايعهم من غيرهم أن يبرئوا الشعب الأمريكي مما حدث، وأن ينكروا أن يكون ذلك الاستمتاع الحيواني بتعذيب المسجونين تعذيباً مرتبطاً كله بالجنس معبراً عما أسموه بالقيم الأمريكية. لكن الحقيقة أن ما حدث لا يمكن أن ينفك عن ذلك الداء العضال الذي تعاني منه الحضارة الغربية كلها، والذي تعمل على نشره في أنحاء العالم كله بما في ذلك العالم الإسلامي.

من أين يا ترى أتى أولئك الفتيان والفتيات الذين ارتكبوا تلك الجرائم الفاحشة، وما نوع التربية التي تلقوها؟ يجب أن لا ننسى أنهم تخرجوا جميعاً في مدارس أمريكية لا ذكر فيها لدين ـ أياً كان ـ ولا خلق، ولا فصل فيها بين فتيان وفتيات، ولا إلزام فيها بلباس إلا منع العري الكامل؛ مدارس يتعلم فيها هؤلاء المساكين أن الزنا ليس فاحشة، والشذوذ ليس شذوذاً؛ وإنما هو ميل فطري، وأن الممارسات الجنسية أياً كانت ليس فيها ما يستحيى منه، بل إنما هي نوع من التحرر، وإنهم أبناء بيئة يكاد أمر الجنس يستغرق فيها حياتهم كلها؛ فهو الغالب على الأفلام التي يشاهدون، والقصص التي يقرؤون، والأحاديث التي بها يتلهون، والنكات التي منها يضحكون، والموسيقى والأغاني التي لها يطربون، ومواقع الشبكة التي فيها يصولون ويجولون، والدعايات التي لها في كل حين يتعرضون. ويجب أن لا ننسى كذلك أنه ليس فيما ارتكبه أولئك الفتية ما تنكره قيم بلادهم سوى أنهم أكرهوا المسجونين عليه. أعني انه ليس في قيم الحضارة الغربية ما ينكر أي نوع من الممارسات الجنسية بكل أنواعها حتى مع الأقارب إذا كان عن رضى، وإنما الجريمة أن يمارس بغير رضى حتى مع زوجة. ولعلكم تذكرون أنهم لم يجدوا شيئاً يأخذونه قانوناً على رئيسهم السابق فيما فعله مع تلك الفتاة سوى أنه كذب عليهم.

لكن الله ـ تعالى ـ لم يحرم ما حرم من الفواحش عبثاً، وإنما حرمها لما ينتج عنها من آثار ضارة بل ومدمرة لكل أمة تصر على الاستمرار فيها. وكثير من علماء الاجتماع الغربيين يعرفون بعض هذه الآثار ويحصونها، لكن الكثيرين منهم يظلون إزاءها حائرين بائرين لا يدرون ما يصنعون. وقد كنت كتبت في هذه المجلة المباركة مقالين لخصت فيهما كتاباً للمؤلف الأمريكي الشهير (فوكوياما) أرجع فيه أسباب التفكك الاجتماعي الذي تعاني منه الدول الصناعية كلها إلى تفكك الأسرة، وأرجع تفككها إلى الخيانات الزوجية التي أدت إليها أسباب ثلاثة:

1 - فكر شاع في الثمانينيات يشجع الممارسات الجنسية غير المقيدة باعتبارها نوعاً من الحرية.

2 - حبوب منع الحمل.

3 - اختلاط الرجال بالنساء في أماكن العمل.

لكنه نسي شيئاً أهم من هذا كله هو ضَعف الوازع الديني الذي أدى إليه تغلغل العلمانية. وإذا كان (فوكوياما) إنما يكتب باعتباره عالم اجتماع يسجل ولا يميل إلى النقد أو التوجيه؛ فإن بعض المتدينين والحادبين على الأخلاق يعبرون عن سخطهم الشديد لما آل إليه أمر بلادهم. فهذا هو أحدهم يقول: «إن معظم العالم اليوم يتأمرك بسرعة؛ لكن عبارة (تأمرك) صارت تعني يمارس الزنا واللواط ومنع الحمل والإجهاض والقتل الطبي» (?) . وإذا كان هذا الفيلسوف الكاثوليكي يعبر عن أسفه لما آل إليه أمر بلاده، فإن الطبيبة (مج ميكر) المختصة بالمراهقين تنادي أمتها بحقائق مقلقة؛ ولكن لا حياة ـ فيما يبدو ـ لمن تنادي. تعلن هذه الطبيبة على غلاف كتابها المسمى: (الوباء) (?) ، أن الأمراض المنتقلة عن طريق الممارسات الجنسية تصيب ثمانية آلاف مراهق في كل يوم (وهي تتحدث عن أمريكا وحدها) ، وتذكر من تفاصيل هذه الممارسات وسعة انتشارها وسيطرتها على حياة هؤلاء المساكين ما يثير الغثيان. وهي لا تقصر دراستها على الأمراض الجسدية، بل تتعرض لما تسببه من أمراض نفسية. وتخلُص من دراستها إلى أنه لا وقاية من هذه الأمراض إلا بالكف عن الممارسات الجنسية مع غير الزوجة. لكنها تشكو خلال كتابها من أنه مع ظهور ما ذكرت من حقائق علمية فإن الثقافة السائدة ـ بل وتوجيهات المسؤولين التربويين ـ تغري الشباب بهذه الممارسات غير المنضبطة. وتوافقها على هذه الشكوى امراة مشهورة هي الدكتورة (لورا اشلسنجر) إذ تقول في تقريظها لهذا الكتاب: «إن أولادنا يسمعون من شخصيات مرجعية مثل الأطباء والمعلمين ورجال الدين أن لهم الحق في تعبيراتهم وتجاربهم الجنسية. يقال لهم: إن أنواع السلوك هذه مفيدة لهم، وأنها لا تؤذيهم. لكن نفسياً وروحياً وطبياً فإن كل هذه أكاذيب» ثم تنصح الوالدين بقراءة هذا الكتاب لينقذوا أولادهم.

ويزداد فهمنا لخطر هذه الإباحية حين ندرك أن سنن الله الاجتماعية تربط بين كل أنواع الشرور؛ فكأنها كلها آخذ بعضها برقاب بعض كلما دُعِيَتْ واحدة منها أتت ومعها بعض أخواتها. ولهذا فإن ربنا يصف عباد الرحمن بأنهم: {لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] .

فطلاب المدارس والجامعات في أمريكا لا يمارسون تلك الأنواع من الانحرافات الجنسية فحسب، بل يتعاطون معها المخدرات، ولا يبالي كثير منهم بإلحاق الأذى الجسدي بزملائه ـ بل وأساتذته ـ من الذكور والإناث؛ حتى إن الأساتذة لا يدخلون الفصول في بعض المدارس إلا وهم مسلحون! وأنت لا تستغرب هذا حين تقرأ في كتاب ربك أن قوم لوط لم يكونوا يأتون في ناديهم المنكر فحسب، بل كانوا يقطعون السبيل، وكانوا يُخرِجون من قريتهم كل أناس يتطهرون.

قل لي بربك: أي الفريقين اوْلى ـ مع هذا ـ بإعادة النظر في مناهجه الدراسية وفلسفته التربوية؟

قد يحتج قائل بأن ما ذكرناه ليس قاصراً على أمريكا؛ بل إن بعضه يوجد في غيرها ولا سيما إسرائيل. ونقول: نعم! وقد يقولون: إن شيئاً منه يوجد حتى بين شباب المسلمين. ونقول أيضاً: نعم! بل نقول: إن هذه الانحرافات هي من نتائج الثقافة الجاهلية، وأن الشياطين توحي بها إلى أوليائها وحياً مباشراً، ولا تُحْوِجُهم إلى أن يقلدوا فيها غيرهم. ألم يقل الله ـ تعالى ـ محذراً عباده: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا} [الأعراف: 27] ؛ فهذا هو السبب الأساس للميل للتعري في كل الثقافات الجاهلية. لكن مشكلة الغرب أن شياطين الإنس فيه انضموا إلى شياطين الجن في دعوتهم الناس إلى هذه الفواحش وتصويرها على أنها من مقتضيات العصر التي لا يكتمل تحضر أمة إلا بها. لذلك قد تجد نساء عفيفات يُخدَعن بهذه الحجة فيكشفن شعورهن وصدورهن، وما علمن أنهن بهذا يبدأن الخطوة الأولى في الانحدار إلى نوع تلك الهاوية التي ينحدر إليها الغرب.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015