مجله البيان (صفحة 4938)

مشاريع المقاومة.. في مواجهة مشاريع الهيمنة

ملفات

مشاريع المقاومة..

في مواجهة مشاريع الهيمنة

د. عبد العزيز كامل

kamil@albayan-magazine.com

ما تواجهه الأمة اليوم، من مشاريع هيمنة متعددة الأصناف والأطياف

والأهداف في مناطق متعددة من العالم الإسلامي يستدعي وجود مشاريع مقاومة

مضادة على مستوى الأمة أيضاً يشارك فيها الجميع باعتبار أن مشاريع الهيمنة

تستهدف الجميع. وكما أن سِمة مشاريع الهيمنة العالمية اليوم وفي مقدمتها المشاريع

الأمريكية أنها مواجهة شاملة للأمة الإسلامية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً

وحضارياً؛ فكذلك ينبغي أن تكون مشاريع المقاومة شاملة سياسياًً وعسكرياً

واقتصادياً وحضارياً.

ولكن المشكلة أن المواجهة الصهيونية الشاملة - أمريكية وإسرائيلية - جاءت

للأمة على حين غِرة، وهي في أضعف حالاتها على المستويات الرسمية الجماعية،

ولكن هل يعني ذلك التسليمَ بالهزيمة والركوعَ تحت أرجل الطغيان؟! كلاَّ؛ فهذا

الأمر إن كان يناسب بعض الأمم كالألمان واليابان إبان الحرب العالمية الثانية؛

فإنه لا يتناسب مع هذه الأمة التي لا يزال الجهاد ماضياً فيها إلى يوم القيامة.

كثيراً ما يتساءل الناس عن دور يمكن أن يؤدى إبراءً للذمة في وجه الهجمة

التي تعصف بالأمة، مع أن الأدوار - في يقيني - من الكثرة بحيث تسع مئات

الملايين من أبناء هذه الأمة الذين يصيبهم شرر مشاريع الهيمنة شاؤوا أم أبوا، في

ذواتهم أو في أبنائهم وأحفادهم. فالأدوار موجودة، ولكن الهمم لتحملها هي الضعيفة

أو المفقودة. وإلاَّ؛ فإن الوجه الحضاري والثقافي من مشاريع الهيمنة يحتاج إلى

مئات المشاريع لملايين الأفراد لكي يتسنى التصدي للهجمة الثقافية الحضارية.

والوجه الاقتصادي من مشاريع الهيمنة يحتاج إلى دور لكل فرد في مقاومة

اقتصادية - سميناها حيناً (المقاطعة) ثم قاطعناها قبل أن تستكمل دورها.

والوجه السياسي لمشاريع الهيمنة يحتاج إلى جهود ورؤى ومقترحات

السياسيين والاستراتيجيين لتفعيل مقاومة سياسية على المستويات الرسمية وغير

الرسمية.

أما الوجه العسكري من مشاريع الهيمنة، فلن يكفَّ شرَّه، ويوقف شرره إلا

مقاومة عسكرية تقام بها الشِرعة الجهادية التي تمثل في حد ذاتها مشروعاً مستقلاً

للمقاومة، يكاد أن يغطي - إن أُحْسِن أداؤه - على بقية الوجوه المطلوبة للمقاومة،

ويكاد يقضي - إن استمر بقاؤه - على كل أشكال الهيمنة.

إننا نفهم الجهاد ذورة سنام الإسلام على أنه مشروع رباني متكامل للتغيير،

وأي عمل يأخذ شكل الجهاد وهو لا يحمل مشروعاً واضح المعالم راجح الخيارات،

محسوم الخلافات، مأمون العواقب على المسلمين من جهة رجحان المصلحة على

المضرة؛ فإن النفس تتردد في وصفه بالمشروعية. صحيح أن ظروفاً قد تُفرض

على المسلمين فرضاً، كما حدث في فلسطين وما حدث في غزو الروس الأول

لأفغانستان، ثم غزوهم للشيشان، ثم غزو الأمريكيين ثانياً لأفغانستان، ثم غزوهم

للعراق، بحيث تحتم هذه الظروف على المسلمين أن يتحركوا حتى لو لم يكتمل

اتضاح معالم الجهاد الشرعي المطلوب، ولكن تلك الظروف لها تكييف شرعي

مختلف باعتبارها جهاد دفع لا جهاد طلب [1] .

ليس المقصود هنا الخوض في فقه الجهاد ومسائله الشائكة التي لم تأخذ حقها

- للأسف - من جهود العلماء المعاصرين مع شدة حاجة الأمة إليها وتجدد النوازل

الفقهية فيها، ولكن المقصود أن نقرر أن خيار الجهاد والمقاومة الإسلامية في وجه

مشاريع الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية والروسية والهندوسية، لم يعد يحتمل القيل

والقال؛ فهو الآن قضيةُ: أن نكون أو لا نكون، أن نحيا مؤمنين أعزة أو نبقى

عصاة أذلة.

وهنا، لا يصلح أن تترك ساحات الجهاد الحادة والحرجة في العالم الإسلامي

لبضع مئات من الشرفاء المضحين بكل شيء، في مقابل مئات الملايين الذين قد لا

يقدمون أي شيء. إننا نلحظ تفاقم هذه الظاهرة كلما زاد الخطر وازدادت العداوة،

وهذا أمر محيِّر؛ إذ كيف تجتمع الأمة كلها منذ أكثر من ربع قرن وراء الجهاد ضد

الروس في أفغانستان، وتكاد تنفضُّ اليوم عن أخطار أكثر وساحات أكبر في

فلسطين والعراق والشيشان؟ وكذلك أفغانستان نفسها التي يكاد عموم المسلمين

اليوم أن يقولوا بلسان الحال لا المقال إن غزو الشيوعيين لها كان من المنكرات

المحرمات، ولكن غزو الأمريكيين لها - بعد ربع قرن - من الجائزات المباحات!!

قد يقال إن المعادلات الدولية، والأجواء السياسية الإقليمية وقتها كانت تسمح

بذلك، والجواب في سؤال مؤسف هو: إلى متى لا يتحرك عموم الإسلاميين إلا

بإذن من المعادلات الدولية والأجواء الإقليمية؛ بحيث يجتمعون مرة على دعم

المقاومة الأفغانية ثم ينصرفون، ويتداعون تارة لدعم الانتفاضة الفلسطينية ثم

ينفضون؟!! ويتحمسون أخرى لدعم القضية الشيشانية ثم يفتُرون! أين استقلال

الإسلاميين إذن في عصر اضمحلال الاستقلال؟

ونعود إلى مشروع المقاومة المشروعة: إن وجوب طرح رؤى جديدة وسديدة

لتقويم أداء المقاومة الإسلامية والجهاد المشروع في ساحات التحدي القائمة لا ينطلق

من خيالات وتوهمات، بل هو أمر دين، يقسِّم تكليفاته على كل مكلف.. نعم!

(على كل مكلف) بحيث يقوم الجميع بدورهم بحسب المشروع والمستطاع من

الأعمال.

ونحن على يقين - مع كل هذا - أن بركة الله تتنزل في الجهود القليلة، حتى

ولو خُذل المجاهدون والمقاومون من بقية المسلمين، ولكن هذه البقية ستدفع الثمن

ولا بد خذلاناً إذا استمر خذلانهم، وضعفاً بقدر ضعف تأييدهم ودعمهم، ولهذا فإن

العمل على إنهاض الشعوب لدعم مشاريع المقاومة، لمقاومة مشاريع الهيمنة هو

خدمة للأمة كلها؛ لأنها الآن.. والآن فقط ... مستهدفة كلها، كما لم يحدث في

التاريخ من قبل.

* بشارات ونذارات:

شاء الله تعالى أن يرينا ثمرات جهود الفئة القليلة التي تغالب اليوم الفئة

الكثيرة في ساحات متعددة؛ ففي أول منازلة إسلامية للأمريكيين على أرض العراق،

وفي أول صدام حضاري وعسكري أمريكي مباشر مع المسلمين على الأرض،

هُزم الأمريكيون عسكرياً، وانكشفوا حضارياً، كما فُضحوا إعلامياً على المستوى

الدولي والمحلي، ومُنُوا بانتكاسة لها ما بعدها في الجولة الأولى من الحرب العالمية

الأمريكية التي يرى بعضهم أنها قد تستمر لمدة أربعين عاماً.

نعم! .. هُزم الأمريكيون عسكرياً عندما أخفقت جحافلهم البرية في اقتحام

مدينة صغيرة هي الفلوجة بعد أن حاصروها شهراً، وأمطروها بمقذوفات الطائرات

العنقودية والانشطارية المحرمة دولياً، وانسحبوا منها مخذولين مدحورين دون أن

يدخلوها.

- وهزمت أمريكا حضارياً، عندما بان للعالم حقارة الحضارة التي تدعي

تكريم الإنسان، وظهرت سخافة الثقافة التي يبول جنود «التحرير» على الآدميين

المحبوسين ويسلطون الكلاب على العراة المقيدين في وضاعة وخسة لم تصل إليها

القرود في الغابات والخنازير في الزرائب.

- وهزمت أمريكا إعلامياً على المستوى الدولي عندما صرح ساستها وصرخ

قادتها، بضرورة كتم أنفاس الإعلام الحر ووضع حد لـ (الجرأة الإعلامية) التي

تميزت بها بعض المنابر العربية - كقناة الجزيرة - وهي تكشف بتغطيتها للأحداث

الأخيرة فضائح وفظائع الاحتلال الأمريكي للعراق.

- وهزمت أمريكا، عندما اكتشف الشعب الأمريكي أن قادته «الأحرار»

يكذبون عليه، ويسخرون منه، ويخفون عنه حقائق كبرى تتعلق بمصيره (المقدس)

ورفاهيته (المعبودة) ؛ وذلك عندما كُشف عن صور مئات الجيف لهلكى الحرب

الأمريكية المسعورة التي أصر مشعلوها - وعلى رأسهم وزير الدفاع دونالد

رامسفيلد - على عدم السماح بعرضها على الرأي العام العالمي والأمريكي، حتى لا

تصاب هيبة (النسر) الأمريكي بالاهتزاز، عندما يراه الناس وقد تحول إلى

خفاش ذليل منكس الرأس إلى أسفل والدماء الملوثه تسيل من أنفه.

كل هذا حدث في زمن قياسي، وفي وقت قريب قبل أن يكتمل العام الأول

على الجريمة الأمريكية في حق الشعب العراقي.

ولكن ما أصاب الأمريكيين على أرض العراق مؤخراً، وإن كان كبيراً

وخطيراً على المستوى الحضاري، فإنه على المستوى العسكري لا يزال مجرد

خموش وخدوش على وجه الطاغوت الأمريكي الأزرق؛ صحيح أنه يقض مضجعه

ويؤرق أحلامه، ولكنه لا يعطل مسيرته ولا يوقف أطماعه. فرغم حديثنا عن

هزيمة أمريكا في جولة الفلوجة من الناحية العسكرية التكتيكية، إلا أن الحديث لا

يزال مبكراً عن هزيمتها في العراق وما حولها استراتيجياً؛ فلا تزال مشاريع

الهيمنة الأمريكية تتقدم في اتجاة تحقيق الأهداف الاستراتيجية التي من أجلها كان

احتلال العراق حتمية أمريكية وضرورة إسرائيلية تم الفراغ من إقرارها منذ سنوات

عديدة، لتكون منطلقاً إلى مشروعات هيمنة أكبر وسيطرة أوسع على العالم

الإسلامي، بل على كل العالم.

* استراتيجية المقاومة في مواجهة استراتيجية الهيمنة:

هناك ثلاثة مشروعات استراتيجية كبرى مطروحة الآن من أطراف في

الإدارة الأمريكية الصهيونية للهيمنة على العالم الإسلامي، بل العالم أجمع وهذه

المشروعات هي:

أولاً: مشروع الإمبراطورية الأمريكية:

وقد طرحه الاتجاه الإنجيلي المسيطر على الحزب الجمهوري في الولايات

المتحدة، وقام على إعداده فريق من صقور ذلك الحزب، منذ إدارة بوش الأب،

وقد بدأ هذا الفريق ورشة عمل من مركز (جيمس بيكر) لدراسات البترول في

تكساس تحت رعاية جورج بوش الأب، الذي كان من المفترض أن يكمل

الخطوات الأساسية في هذا المشروع قبل خسارته للفترة الرئاسية الثانية عام

1989م، وقد استأنف بوش الأب العمل مع ذلك الفريق لاستكمال معالم هذا

المشروع، وقضوا نحو سنة كاملة من التداول حوله في بيت نفسه، إلى أن توصلوا

إلى تقرير نهائي وقع عليه وأصبح مسؤولاً عنه (ديك تشيني) النائب الحالي

لبوش الابن وزير الدفاع في حكومة بوش الأب وكانت أبرز نقاط ذلك التقرير:

1 - الحزب الجمهوري لا بد أن يمسك بزمام السلطة؛ لأنه الحزب صاحب

الرؤية الكاملة للقرن الجديد.

2 - الرئاسة بعد كلينتون ينبغي أن تستغل الفرصة التاريخية السانحة التي

تنفرد فيها أمريكا بموقع القطب الوحيد، لكي تمكِّن لسيطرة (القيم) الأمريكية على

العالم.

3 - ينبغي البناء على ما أنجزه الرئيسان: ريجان وبوش، لاستكمال بناء

الإمبراطورية التي وضعا أساسها.

4 - على الإدارة الجمهورية عندما تتسلم السلطة أن تمارس دورها في

التمكين لتنفيذ المشروع بلا أي قيود من أي جهة في العالم.

5 - الولايات المتحدة تحت حكم الجمهوريين، من واجبها أن تشاور حلفاءها،

ولكن من حقها أن تخالفهم وتتصرف بمفردها.

6 - الحرب ضد (الإرهاب) هي الدعوة التي يمكن توحيد العالم كله حولها

سواء القوى الكبرى أو الصغرى، وتلك الحرب هي أقدر الدعوات على حشد العالم

خلف أمريكا؛ لأن كل دولة في العالم يمكن أن تصبح معرضة للإرهاب، حقيقةً أو

ادعاءً، والولايات المتحدة من حقها قيادة تلك الحرب من باب الدفاع المشروع عن

النفس! [2] .

إن هذا التقرير وضع، ووقع عليه ديك تشيني قبل أن يصبح نائباً للرئيس،

وقبل أن يجيء هذا الرئيس (جورج بوش الابن) وقبل أن تقع أحداث سبتمبر!

ثانياً: (مشروع القرن الأمريكي الجديد) :

وهو المشروع الذي يقف وراءه شركاء الجمهوريين الإنجيليين في الإدارة

الأمريكية، وهم اليهود الأمريكيون المنضوون تحت لواء الحزب الجمهوري،

والمسمون بـ (المحافظين الجدد) وقد تأسس هذا المشروع عام 1997م، تحت

رعاية مؤسسة المواطنة، ومولته مؤسسة (برادلي) وقد ارتبط أيضاً بمؤسسة

(أمريكان انترابرايز) وهدفه المعلن هو: «تعزيز القيادة الأمريكية للعالم»

ويترأس المشروع (وليام كريستول) اليهودي المتزعم للمحافظين الجدد، وقد

صدر بيان بشأن المبادئ والغايات التي يهدف إليها المشروع في 3/6/1997م،

جاء في ديباجته: «لمواجهة السياستين الخارجية والدفاعية التائهتين خلال القرن

المتقدم، تظهر أهمية صوغ الظروف لمواجهة الأخطار قبل أن تستفحل؛ ولتحقيق

ذلك يطلب ما يلي:

1 - زيادة الإنفاق الدفاعي لكي تتحمل أمريكا مسؤولياتها حول العالم.

2 - تعزيز العلاقات من الحلفاء في العالم الديمقراطي لتحدي الأنظمة المعادية

لمصالح أمريكا وقيمها.

3 - تعزيز الحريات السياسية والاقتصادية في العالم، لنشر الليبرالية

واقتصاد السوق.

4 - فهم الدور الأمريكي المميز ومسؤوليته تجاه إنشاء نظام دولي جديد يفيد

أمن أمريكا ورفاهيتها في القرن الحادي والعشرين.

وقد وقَّع على هذا الإعلان 25 شخصية من رموز المحافظين اليهود الجدد،

إضافة إلى عدد من صقور المحافظين النصارى التقليديين الذين قفزوا جميعاً إلى

داخل الإدارة الأمريكية في عهد بوش الحالي.

وقد وصف الكاتب الأمريكي جون لوب مشروع (القرن الأمريكي الجديد)

بقوله:» هو آخر صيغة لجماعة متطرفة يسيطر عليها اليهود من المحافظين

الجدد «.

ثالثاً: مشروع الشرق الأوسط الكبير:

وهو مشروع تتعاون فيه قوى اليمين الإنجيلي في الحزب الجمهوري مع

القوى اليهودية من المحافظين الجدد في الإدارة الأمريكية، ويهدف إلى تغيير بنية

المجتمعات الإسلامية ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، ونصوص هذا المشروع من

المفترض أن تعرض على مؤتمر القمة للدول الصناعية الثماني في شهر يونيو /

حزيران 2004م.

والمقصود بالشرق الأوسط الكبير هو العالم الإسلامي؛ فقد جرى توسيع

منطقة الشرق الأوسط لتضم إيران وتركيا وباكستان وأفغانستان، إضافة إلى

دولة اليهود (إسرائيل) ، وقد عهد الرئيس جورج بوش الابن لمؤسسة (الوقف

الوطني الديمقراطي) بتنفيذ هذا المشروع [3] ، ولم تُستشر فيه أي دولة عربية أو

إسلامية قبل تسريب نصوصه، وكان بوش قد أطلق المبادرة المتعلقة بـ (الشرق

الأوسط الكبير) في خطاب ألقاه في 6/11/2003م في مقر تلك المؤسسة التي يضم

مجلس أمنائها عدداً من المنظِّرين الكبار لمشروعات الهيمنة الأمريكية، وعى رأسهم

(فرانسيس فوكوياما) صاحب نظرية» نهاية التاريخ « [4] .

وإلى جانب تلك المشاريع ذات الصبغة العالمية، هناك مشروعات للهيمنة

الإقليمية تتوزع على قوى أخرى معادية للمسلمين قبل الروس والهندوس وكذلك

مشروع اليهود في فلسطين، للهيمنة على منطقة الشرق الأوسط في ظل مشروع

(الشرق أوسطية) أو (إسرائيل الكبرى) ولكن يبقى أن المشروعات الثلاثة التي

هي الأكبر والأخطر لعالميتها، ولهذا فهي الأجدر باجتماع المسلمين ضدها،

وإصرارهم على إسقاطها مستحضرين قول الله تعالى: [إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ

أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران: 175) ، إن تلك

المشاريع الثلاثة يمكن أن تسقط بسقوط بوش وعصابته، والمقاومة الإسلامية في

كل من العراق وأفغانستان، يمكنها أن تؤدي هذه المهمة، لتقدم للبشرية كلها خدمة

عظيمة بعرقلة تلك المشاريع التسلطية.

ولكن لا بد لهذه المقاومة أن تنتهج استراتيجية شاملة واضحة المعالم، إسلامية

السمات حتى تؤدي غايتها وتؤتي ثمارها، فالجانب السياسي منها لا بد أن يشارك

فيه المختصون بالسياسة، والجانب العسكري منها لا بد أن يساهم فيه خبراء

العسكرية، والجانب الإعلامي هو واجب الإعلاميين، كما أن الجانب الثقافي

والحضاري لا بد أن يشهد حضور المثقفين والتعليميين، وقبل كل هؤلاء لا بد أن

يكون لأهل العلم والدعوة دورهم في وضع الضوابط العلمية وحل النوازل الفقهية

والمشكلات الفكرية التي تعترض طريق المقاومين والمجاهدين في كل حين.

كان من المفترض أن يطرح المسلمون مشروعات على المستوى الدولي

الحضاري تهدف للتمكين لدولة الإسلام العالمية؛ مقابل المشاريع الإمبراطورية

الصهيونية الأمريكية، ولكن واقعنا المؤسف، نزل بنا إلى موقع الدفاع من وراء،

بدلاً من الاندفاع للأمام؛ ومع ذلك فإن هذا الدفاع والمقاومة والمجاهدة هي واجب

الوقت، وفريضة العصر، ويرتبط بهذا الواجب وتلك الفريضة ألا نكرر أخطاء

الارتجال والفوضوية التي أحبطت مشاريع إقامة الدولة الإسلامية العالمية لأكثر من

قرن مضى.

لا يستطيع طرف بمفرده أن يدعي القدرة على وضع الاستراتيجية المصيرية

الشاملة لمواجهة مشاريع الهيمنة، ولكن استمرار الإلحاح على وضع هذه

الاستراتيجية هو في حد ذاته عمل، والمساهمة في إكمالها من كل ذي اختصاص

سيمثل إضافة إلى ذلك العمل، ولعل من المعالم المطلوب استحضارها عند رسم

خطوط عامة لاستراتيجية المقاومة ما يلي:

1 - أن تنطلق مشروعات المقاومة من منطلقات اعتقادية إسلامية، مثلما

تنطلق مشروعات الهيمنة الآن من منطلقات عقائدية» مسيحية «إنجيلية، أو

يهودية توراتية.

2 - أن تتصف بالعالمية؛ بمعنى أن توفر لكل مسلم دوراً في دعم قضايا

المسلمين، مع اهتمامه الخاص بقضايا التماسّ التي يعيش همها عن قرب، أو

يشارك فيها بفاعلية.

3 - أن تتسم بالشمولية، مثلما هو الحال الآن في الحرب العالمية الصليبية؛

فهي شاملة لكل الجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية.

4 - أن تراعي فعل العامل الزمني في التأثير؛ إذ إن النتائج قد تأتي بعد

سنوات، وبعضها لا يُنتظر إلا بعد عقود، كما هو الشأن في مشروعات الهيمنة

اليهودية والنصرانية. وأن تراعى أيضاً خصوصية العامل المكاني والبيئي؛ إذ ما

يصلح في مكان ما، قد لا يصلح لمكان آخر.

6 - ألا تخرج عن الواقعية بل تحصر دوائرها في إطار المستطاع والمشروع،

فلا تروم المستحيل وغير المستطاع في دنيا الناس، أو تتجرأ على الممنوع غير

المشروع في محكمات الدين.

إنني على يقين من أن المسلمين يستطيعون أن يضعوا مشاريع متكاملة للجهاد

والمقاومة لمواجهة تلك المشاريع المتكاملة للسيطرة والهيمنة، ورصد ما يحدث الآن

في العراق على الأرض بسبب استمرار المقاومة والجهاد ينبئ عن إمكانية إيقاع

المشروعات الأمريكية والصهيونية في مزيد من الورطات التي ستعرقلها أو تلغيها.

فالفرصة سانحة الآن من الناحية العسكرية بعد هزيمة الأمريكيين في الفلوجة،

أن تتكرر المقاومة في مدن عراقية أخرى، تُسقط هيبة الجيش الأمريكي، وتكسر

حاجز الخوف منه في أي مكان من العالم.

- وهناك فرصة سانحة من الناحية السياسية لإسقاط بوش، بانتهاج سياسة

تكثيف النعوش، وبسقوط بوش ستسقط أو تتأجل على الأقل، مشروعات الهيمنة

العالمية المتعجلة. وعقدة الدم التي يتعالى فيها الأمريكيون بالدماء الزرقاء للجنس

الساكسوني لا يحلها إلا عقدة الخوف من سيلان هذا الدم على يد الجهاد الإسلامي.

- وهناك فرصة سانحة من الناحية الاقتصادية لحرمان الأمريكيين من ثمرات

الغزو اليسير للعراق، والذي وإن كلفهم اقتصادياًِ إلا أنه لم يكلفهم بشرياً في مراحله

الأولى. وإيذاء أمريكا اقتصادياً في العراق سيحرمها من عائدات 112 مليار برميل

نفط يمثلها احتياطي العراق من البترول الذي يسرقه الأمريكيون الآن على مرأى

ومسمع من العالم.

- وهناك فرصة من الناحية الحضارية أن يُستدرَج الأمريكيون إلى المزيد من

كشف الوجه الآخر لحضارتهم العوراء، في شكلها الكالح وملمحها القبيح؛ وذلك

بالتركيز على إبراز» منجزات «الحضارة الغربية في سجن أبو غريب الذي

صار رمزاً لـ (القيم) الأمريكية؛ فمن خلال إبراز ما حدث من توحش وهمجية

سادية في ذلك السجن وغيره من السجون والمعتقلات؛ سيظهر للعالم أن مستقبلاً

مكفهراً بالظلام ينتظر كل شعب يقبل الانخداع بجنة أمريكا التي تخفي النار تحتها،

وقيمها» التدميرقراطية «التي تحمل الخراب في ثناياها.

إنها فرص سانحة بالفعل لتحقيق الأمل الماثل في الأفق - عن يقين لا ظنون -

بأن نهاية الجبروت الأمريكي ستكون على أيدي المؤمنين، كما كانت نهاية

الجبروت السوفييتي على أيدي المسلمين، تصديقاً للأحكام القدرية الكونية من سنن

الله الإلهية التي بينت أن إرادة الله قد مضت بأنه عندما يتمرد الباطل، فلا بد أن

تتجرد له فئة لا تستمد القوة إلا من الله، ولا تستعين إلا بالله تستنزل ذلك الباطل

من عليائه، وترث الأرض من تحت قدميه: [وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ

اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ] (القصص: 5) . تلك

السنن الإلهية التي أظهرت أن الإذن عندما يأتي من الله فإنه لا راد لقضاء الله مهما

كانت قوة الكافرين وضعف المؤمنين: [كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ

وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] (البقرة: 249) ، وهي السنة التي بشرت بأن دين الحق

منصور إذا قام به أهله، وجعلوه غايتهم ورايتهم: [كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي

إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] (المجادلة: 21) ، [وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ *

إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ] (الصافات: 171-173) .

وسنن الله الإلهية، هي التي أعلمتنا وملأتنا بالأمل في غدٍ مشرق للإسلام فوق كل

الأديان، فلا مستقبل لعالمية دينية صهيونية، أمريكية كانت أو إسرائيلية كما

يشتهي أصحاب الأحلام الإمبراطورية: [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ

الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] (التوبة: 33) .

إن هذه أحكام لا تقبل التغيير ولا التبديل، بشهادة الواقع وحكم التاريخ:

[سُنَّتَ اللَّهِ الَتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ] (غافر: 85) ،

[سُنَّةَ اللَّهِ الَتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً] (الفتح: 23) ،

[سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً] (الإسراء:

77) .

والطغيان الأمريكي المتعالي في الأرض اليوم لن يفلت من هذا القضاء الكوني

والحكم القدري؛ فوالله وبالله وتالله ... إن نهاية الحلف الصهيوني الأمريكي

الإسرائيلي لن يكون بمعجزة غيبية كزلزال ونحوه من أشكال عذاب الاستئصال،

ولكن يكون على أيدي كفار أو فجار؛ إنه لن يكون إلا على أيدي المجاهدين

المسلمين، وعذاب الله لهم لن يكون إلا بأيدي المستضعفين من المؤمنين، كما قال

سبحانه: [قَاتِلُوَهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ

مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]

(التوبة: 14-15) ؛ إنها قوانين لن تفهمها مراكز الأبحاث السياسية،

والدراسات الاستراتيجية؛ لأن أرباب تلك المراكز والمكاتب من غير المسلمين في

العالم: [يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ] (الروم:

7) .

إن أحداث هذه الدنيا تجري وفق خارطة علوية أخروية، يقسم الله عز وجل

فيها وقائع الدنيا بحسب مصائر الناس في الآخرة، فيملي لهؤلاء ويختبر هؤلاء،

ويمد لهؤلاء؛ فهناك قوم مقدَّر لهم أن ينالوا شرف الصبر على الابتلاء، وآخرون

مكتوب لهم أن ينالوا أجر الشهداء؛ بينما يريد الله لآخرين أن يكنزوا نصيباً وافراً

من الإجرام والطغيان، ليستوفوه في دركات النيران: [وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا

يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ

لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ] (إبراهيم: 42-43) ، [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ

كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ]

(آل عمران: 178) .

* فعل الله في أفعال البشر:

ثمة أمر آخر قد لا يدركه المحللون السياسيون والمخططون الاستراتيجيون في

الشرق والغرب، أولئك الذين يهللون اليوم ويبشرون بغدٍ أمريكي صهيوني سيمتد

إلى منتصف القرن الحادي والعشرين وربما إلى نهايته، استناداً إلى إمكانيات نجاح

مشروع الصهيونية المسيحية المسمى (الإمبراطورية الأمريكية) أو مشروع

المحافظين اليهود الجدد المسمى بـ (مشروع القرن الأمريكي الجديد) ، وهذا

الأمر الآخر الذي ربما لن يفهمه هؤلاء المحللون والمنظرون، هو أن الله تعالى قد

أجرى العادة في التاريخ، بأنه إذا أراد أن يمكن لحزب المؤمنين؛ فإنه يضعف

قوى المعسكر المناوئ لهم، بأن يسلط بعضهم على بعض حتى تخور أكثر قواهم

وتدول أكثر دولهم، ثم تتبقى قوىً أخيرة، تترنح تحت ضربات المؤمنين الصادقين،

بعد أن تكون قد مثلت أداة قدرية لتصفية بقية قوى المجرمين، فتنتصب تلك

القوى الأخيرة بما تبقى لها من جبروت وطغيان ظاهري منهك لتنازل أهل الايمان،

أو ينازلها أهل الأيمان بقوىً أقل مع تماسك أكثر.

تأمل مثلاً حقبة البعثه النبوية الشريفة، فقد سُبقت بأحداث جسام بين القوى

العظمى في الأرض في ذلك الوقت ممثلة في الفرس والروم الذين كان طواغيتهم

الكبار يستعينون بطواغيت صغار من الأذناب والأتباع الحارسين لمصالحهم

والمستندين إلى قوتهم. لقد سجل القرآن الكريم أنباء تلك الفترة المهمة، مثبتاً فيها

البشرى للمؤمنين بنصر الله الذي سيعقب انتصار الروم على الفرس: [الم *

غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لله

الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ] (الروم: 1-4) . لقد ضُرِبت

الروم بقوة الفرس الغاشمه سنه 615 للميلاد، وذلك حين غزاها الملك الفارسي

(خسرو بن هرمز) ، وكانت ساحة الصدام على أرض الشام الواقعة حينئذ تحت حكم

الرومان بقياده القيصر (هرقل) فنازل الفرسُ الرومانَ في إنطاكية ثم دمشق،

وكانت الهزيمة الكبرى في أطراف بلاد الشام بين بُصرى وأذرعات، (قريباً من

البحر الميت) وذلك المراد من قول الله تعالى: [فِي أَدْنَى الأَرْضِ] (الروم:

3) أي أدنى بلاد الروم إلى العرب.

ومن لطائف التفسير هنا أن بعض المفسرين قالوا إن التعريف في لفظة

(الأرض) هو للعهد؛ فالأرض عند الله هي هذه الشاملة للجزيرة العربية وما حولها

من أراض مقدسة في بيت المقدس وما حولها، وأرض حارسة في العراق ومصر

واليمن؛ فمعنى [فِي أَدْنَى الأَرْضِ] أي أدنى أرض الله [5] .

ثم إن الروم أديلوا على فارس فهزموهم هزيمة عظمى، مثلت آية من آيات

قدرة الله، عندما يريد أن يمن على الذين استُضعفوا في الأرض ويجعلهم أئمة

ويجعلهم الوارثين؛ فقد تمهد الأمر لأهل الإسلام بانكسار الوثنية الفارسية عندما عاد

المهزومون الروم إلى الانتصار في زمن قياسي قليل [فِي بِضْعِ سِنِين] (الروم:

4) أي سنوات لا تتجاوز العشر، وهي في غاية القلة قياساً إلى دولة عظمى

تنكسر ثم تنتصر، ومع أن الأمر القدري بنصر الروم على الفرس كان متوجهاً نحو

إضعاف الاثنين ببعضهما، إلا أنه لم يخلُ من بشارة وسلوى للمؤمنين بانتصار قوم

من أهل الكتاب على قوم من أهل الشرك والوثنية؛ فقد فرح المشركون الوثنيون

من قريش عندما هَزَمَ إخوانُهم من عباد الأوثان في فارس أهلَ الكتاب الذين يُعدون

أقرب للمؤمنين من الوثنيين المشركين [6] ، ولهذا قال الله تعالى: [وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ

المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ] (الروم: 4-5) ،

وقد ذُكر أن انتصار الروم وافق يوم بدر، وقد فرح المؤمنون يوم تنزل الآيات

استشعاراً بأن هذا النصر هو مقدمة لنصر الله لهم، أو هو بشارة بأن يوم انتصار

الروم سيوافق يوم انتصار للمسلمين. الشاهد هنا أن أمر الله القدري، قد جرى وفق

السنة الإلهية التي تقتضي أن يدفع الله الناس بعضهم ببعض، ويسوق الظالمين

بعضهم على بعض كما قال سبحانه: [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ

الأَرْض] (البقرة: 251) ، وبهذا يتهيأ لحَمَلَة المنهج الحق أن يحلوا مكانهم عند

زوالهم دون تضحيات باهظة كان سيتحتم تقديمها لو لم يهلك الظالمون بعضهم بعضاً

في جولات تمهيدية؛ ولهذا قال الله تعالى إشارة إلى هذه السنة الإلهية والأمر الكوني:

[لله الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ] (الروم: 4) أي أن الله

تعالى قدَّر وهيأ الأسباب للغَلَب الأول والثاني قبل أن يقعا، ليكون هذا تهيئة لأسباب

انتصار المسلمين على الفريقين إذا حاربوهم بعد ذلك لنصر دين الله ونشر كلمة الله

في بلاد الفرس والروم معاً، وهو ما كان بعد ذلك عندما غزا المسلمون بلاد فارس

سنة 14 للهجرة بعد هزيمتها على يد الروم. ثم قاتل المسلمون الرومان الخارجين

من انتصار مكلف على الفرس، فأخرجوهم من (أدنى الأرض) ليدَّخر الله شرف

تطهير تلك الأراضي من عبودية النيران والصلبان للطائفة المجاهدة من حزب الله

الموحدين. لقد كان هذا فعلاً من أفعال الله في أفعال البشر لا يدركه الذين:

[يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ] (الروم: 7) .

* أمثلة معاصرة:

في عصر القطبية الثنائية التي امتدت في معظم النصف الثاني من القرن

العشرين كان الروس والأمريكيون يماثلون الفرس والروم في العصور الماضية.

- وعندما توجهت إرادة الله نحو هدم كيان الإلحاد الروسي، المسمى بالاتحاد

السوفييتي، بعد صراع طويل مع الولايات المتحدة مثلته (الحرب الباردة) ؛ أذن

الله للمسلمين بأن يكونوا طرفاً في هذا الصراع، وذلك عندما اجتاح الروس

الشيوعيون أرض أفغانستان المسلمة، فوجد المسلمون الصادقون في العالم أنفسهم

أمام واجب النصرة لإخوانٍ لهم استنصروهم في الدين، وبالفعل تنادت الأمة في كل

مكان لنصرة الأفغان، فكان هذا إيقاعاً من الله للروس الملحدين في شَرَك جهاد

الموحدين المجاهدين من أنحاء العالم، ذلك الجهاد الذي أمده الله بأسباب القوة،

وسخَّر له القوة العالمية الأولى المنافسة للاتحاد السوفييتي (أمريكا) فأمدته بالأسلحة،

ثم سخر الله له مصادر التمويل وأسباب التيسير والمشروعية من جميع الأنظمة

الحريصة على إرضاء أمريكا والمتضررة في الوقت نفسه من أخطار المد الشيوعي

على بلادها، وحدث ما يشبه الاتفاق على مشروع جهادي تغييري عالمي في

أفغانستان شاركت فيه كثير من الشعوب والحكومات، وكان من قدر الله وتشريفه

للمسلمين ألاَّ يأتي انكسار فقار الدب الروسي إلا على أيدي المجاهدين المستضعفين،

بتشجيع ودعم من الأمريكيين أنفسهم، وتجلى هنا فعل الله في فعل البشر بهذا

الصنيع الإلهي الذي اختص فيه المولى الجليل أهل الإسلام بإسقاط هذا الكيان

الكفري الكبير.

- وبسقوط الاتحاد السوفييتي انهار الجدار الذي كانت تستند إليه العديد من

أنظمة» الخُشُب المسنَّدة «، وراح المنافقون والمرتدون من ذوي الاتجاه الماركسي

اليساري يبحثون عن جدار غير الجدار المنهار، ولم يكن لهم خيار إلا أن يرتموا

في أحضان الغرب النصراني بقيادة أمريكا، راضين بتبعية ذليلة للطاغوت الأزرق

الغربي، بعد هزيمة وسقوط الطاغوت الأحمر الشرقي، وبهذا توحد الجدار الذي

ترتكن إليه الخشب المسندة، وحدثت وحدة قسرية موالية للأمريكيين، جعلت

الأنظمة العلمانية مرتهنة لجدار واحد، هو الجدار الأمريكي.

- وبخصوص هذه الأنظمة العلمانية نرى من أفعال الله في شأنها عجباً؛ إذ

بعد خذلان الله للأنظمة الماركسية في البلاد العربية والإسلامية بسقوط اتحاد

الشيوعية الروسي، شاء الله تعالى أن يضعف بقيتها من الأنظمة الموالية لأمريكا

بتسليط بعضها على بعض، وأضرب على ذلك مثالاً بسلسلة واحدة من ضمن

سلاسل كثيرة، أن أكبر عميل للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط في حقبة

الستينيات والثمانينيات وهو شاه إيران، الملقب بـ (الطاووس) يسلط الله عليه

من ينتف ريشه، ويشوه منظره، وهو الخميني وجماعته من الآيات؛ فلما ظهر

الشر من هؤلاء، وقال قائلهم: إن الطريق إلى القدس يمر عبر مكة والمدينة،

مهددين بتصدير الثورة الرافضية إلى دول الجوار، سلط الله عليهم طاغية البعث

في ذلك الوقت صدام حسين ليوقف أطماعهم ويقزِّم ثورتهم بدعم من الأمريكيين،

ويظن صدام أن الجو خلا له ليرفع راية البعث الفاسدة في عواصم الجوار باسم

القومية العربية، عن طريق الغزو المسلح بدءاً من الكويت، فيسلط الله عليه من

هو أجبر منه وأفجر، وهم الأمريكان الذين يبدون الآن وكأنهم العصا الغليظة التي

تكسر هنا وهنا، ثم تجد من يفتتها هي بعد ذلك.

أمثلة كثيرة على إملاء الله للظالمين وتسليط بعضهم على بعض في عصرنا،

إذا بحثت عنها في دوائر أكبر فسترى نماذج أكثر، وعلى مستوى الدول الكبرى

التي تتربص بعضها ببعض، وينتظر بعضها هلاك بعض كما يحدث من أوروبا مع

أمريكا، ومن أمريكا مع الصين، ومن الصين والروس ... إلى آخره [ذَلِكُمْ وَأَنَّ

اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الكَافِرِينَ] (الأنفال: 18) .

ثم يجيء أكبر طاغوت، في شكل حوت كبير يريد التهام السمك المتنازع

الصغير، وسوف يسلط الله عليه من يصطاده بقوارب القدر المحتوم [وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ

بَعْدَ حِينٍ] (ص: 88) .

- فالآن يتكرر ما حدث مع الاتحاد السوفييتي السابق، ويتورط الأمريكيون

مع العالم الإسلامي بدءاً من أفغانستان أيضاً، وتسوق عصا الأقدار هؤلاء

الأمريكيين الأشرار من إنجيليين وتوراتيين، إلى ساحة نزال اختاروا هم بدايته،

ولا يعلمون نهايته، وقد بدأ الأمريكيون يجنُون الثمرات المُرة لـ (الورطة الكبرى)

التي اندفعوا إليها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ظانين أنهم يمكرون

بالمسلمين [وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ] (الأنعام: 123) ، وهنا

ينبغي أن نلاحظ أن كل مكر يمكره الأمريكيون لا ينقلب عليهم فقط، بل ينقلب

على كل من تعلق بأذيالهم، وفي مقدمتهم ذلك الكيان الكريه المبغوض، الجامع

لحثالة البشر من اليهود في فلسطين، أولئك الذين قضى الله تعالى عليهم بالذلة

والصغار، إلا في حال استنادهم كشأن الخُشُب المسنَّدة إلى كيان أقوى من الكفار

[ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا

بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّه] (آل عمران: 112) [7] ، وبهذا نعلم أن كيان المجرمين

المغتصبين في فلسطين لن يسقط إلا بانقطاع الحبل الذي يحمله وهو الولايات

الآمريكية، وهذا يضيف بُعداً آخر في غاية الأهمية في فهم وتوجيه صراع

المسلمين ضد الصهيونيتين، اليهودية والنصرانية.

- لكل هذا نقول: إن الظرف التاريخي الذي تمر به الأمة يحتم أن يأخذ

الجهاد المشروع فيها شكل مشروع عالمي، كذلك الذي أقيم على أرض أفغانستان

إبان الغزو الشيوعي؛ بحيث تجتمع عليه آراء المسلمين، وتتوحد جهودهم، ولا

تتشتت جهودهم وقلوبهم في الساحات والميادين المتفرقة المفرقة للصفوف. والخيار

الأمثل هنا هو دعم الجهاد المشروع في العراق، مع عدم إهمال الجهاد المشروع في

أفغانستان والشيشان وكشمير، وقبل ذلك الجهاد المشروع في فلسطين، ونقول:

إن العراق هو الخيار الأمثل لأسباب عديدة منها: أن الاحتلال الأمريكي له

مرفوض من أكثر دول العالم، ومدان قبل أن يبدأ وبعد أن بدأ، ومنها أن ذلك

الاحتلال ظاهر ومستعلن وواقع على الأرض، وليس خفياً في قواعد سرية أو

ثكنات عسكرية، ومنها أن ذلك الاحتلال سيطول؛ لأن الغرض من احتلال العراق

لم ينته بعد، وهو الانطلاق منه نحو بقية الدول المستهدفة في المنطقة مثل سوريا

وإيران ولبنان، ومنها: أن العراق الذي فكك الأمريكيون جيشه النظامي، وسرحوا

حرسه الحدودي، أصبح بلداً سهل التسلح، مفتوح الحدود، ومنها: أن هناك ما

يشبه الإجماع في الأمة الآن بكافة شرائحها وطوائفها وتياراتها على المطالبة بإخراج

الأمريكيين من العراق.

ومن حسن الحظ أن الجهاد على أرض العراق المحتل يكتسب» مشروعية «

قانونية دولية، إلى جانب مشروعيته الدينية الإسلامية، مما يفوِّت الفرصة على

المغرضين الذين يصرون على الربط بين الجهاد والإرهاب.

إن الفرصة سانحة لأن يعيد المسلمون صياغة نظام عالمي جديد، انطلاقاً من

العراق الذي يريد الأمريكيون أن يبدؤوا من أرضه مشروعاً لتحويل المسلمين بل

العالم أجمع إلى قطعان من العبيد، في إمبراطورية صهيونية عالمية في ظل

مشروع (الإمبراطورية الأمريكية) أو مشروع (القرن الأمريكي الجديد) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015