محمد الناصر
تمهيد:
للعادات والتقاليد عند العرب، أثر عظيم في تنظيم حياتهم الاجتماعية، ولها
سطوة لا يستطيع الفرد أن يتخلى عنها، وقد تقوم مقام الدين أو القانون.
لقد جاء الإسلام وفي العرب بعض المزايا الحميدة، التي لا يمكن إنكارها،
ولكن طابع الشر والظلم والفساد في التصورات والمعتقدات كان يطغى على ذلك
الخير فيهم ويغمره، وكانوا بحاجة شديدة إلى نور الوحي، فبعث الله فيهم رسوله
الكريم، وأمره أن يبشر وينذر، ويتحمل في سبيل ذلك ضروباً من المجادلة والتعب
والأذى.
ولعلنا لا نبعد عن الصواب إذا قلنا: إن تلك المحاسن والمناقب هي من بقايا
دين إبراهيم الخليل وولده إسماعيل -عليهما السلام-، بقيت بين العرب بشكل أو
بآخر [1] ، وهذا ما نجده في قوله - صلى الله عليه وسلم-: «إنما بعثت لأتمم
مكارم الأخلاق» [2] .
والواقع أن القيم الرفيعة والخلال الحميدة، انتشرت بين العرب في الجاهلية
انتشاراً واسعاً، عجت بها أشعارهم، وسارت فيها أخبارهم، وكان من هذه الخلال
ما اجتمعوا عليها أو كادوا، وكان منها ما تحلى بها الكثير منهم.
ومن أهم ما اجتمعوا عليه ثلاث: الكرم والشجاعة والغيرة. وأما التي تحلى
بها الكثير منهم فمنها: العفة والترفع عن الدنايا، ومنها الصدق والوفاء، ومنها
حفظ السر والترفع عن جليس السوء.. ومنها الحلم والرزانة وغير ذلك.
على أن القوم ساد بينهم بعض القيم الوضيعة والأخلاق الذميمة، فكما كان
منهم الأوفياء الصادقون، كان منهم الغدارون والكذابون، وكما كان منهم الأوفياء
وحفظة العهود؛ كان منهم الخونة واللصوص والبخلاء [3] .
وسوف أستعرض - بإذنه تعالى- هذه القيم كما صورها الشعر الجاهلي
موضحاً نماذج - تتسع لها صفحات المجلة - من الأخلاق السامية والذميمة. ثم
أستعرض مدى التغيير أو التعديل، أو التقويم الذي جاء به الإسلام مما ينسجم مع
هديه ومعتقداته، وأختم حديثي عن موقفنا من هذه الأخلاق، ومدى تطبيق
مجتمعاتنا المعاصرة لهذه القيم، بعد تجليتها في الجاهلية والإسلام.
1- الكرم:
بواعث الكرم في العصر الجاهلي:
لقد تميز العرب بإكرام الضيف، وتاهوا بهذه المكرمة، وافتخروا بها على
الأمم، ولم تكن خصلة عندهم تفوق خصلة الكرم، وقد بعثتها فيهم حياة الصحراء
القاسية، وما فيها من إجداب وإمحال، حيث «كان العرب يعيشون في بادية
شحيحة بالزاد وحياتهم ترحال وتجوال، وكل واحد منهم معرض لأن ينفذ زاده،
فهو يقري ضيفه اليوم لأنه سيضطر إلى أن يضيف عند غيره في يوم، فليس في
البادية ملجأ يلجأ الفرد إليه غير الخيام المضروبة هنا وهناك، ملاجئ ملاجئ تعتبر
قوارب النجاة.. والعرف أن الضيافة ثلاثة أيام، وثلاث ليال، فإذا انتهت المدة
سقط حق الضيافة إلا إذا جدد المضيف وزاد عليها» [4] .
على أن العرب كانوا يكرمون الضيف لكلفهم بحسن الأحدوثة وطيب الثناء،
ولأنهم ذوو أريحية تسعد نفوسهم بمساعدة المحتاج وإطعام الجائع.. وكان المال
وسيلة عندهم لا غاية، وسيلة إلى كسب المحامد.
كان الكرم وسيلة هامة من وسائل السيادة.. يقول حاتم الطائى:
يقولون لي أهلكت مالك فاقتصد ... وما كنت لولا ما تقولون سيدا [5]
والعربي ينكر البخل، لأنه مزر بأخلاق الرجال، وواضع من عوالي
الصفات.. فالشاعر عمرو بن الأهتم يدعو زوجته لأن تدع لومه لبذله المال، فهو
يشفق على الحسب الذي رفع بناءه، والكرام يتقون الذم ببذل القرى، ثم يتطرق
إلى ضيف طرقه ليلاً وكيف رحب به، ويصف لنا ذلك اللقاء:
ذريني فإن البخلَ يا أمَ هيثم ... لصالح أخلاق الرجال شروق
ذريني وحطي في هواي فإنني ... على الحسب الزاكي الرفيع شفيق
ومستنبحٍ بعد الهدوء دعوته ... وقد حل من نجم الشتاء خفوق
فقتلت له: أهلاً وسهلاً ومرحباً ... فهذا صبوح راهن وصديق
وكل كريم يتقي الذم بالقرى ... وللخير بين الصالحين طريق
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكن أخلاق الرجال تضيق [6]
صورة رائعة من صور الكرم عند العربي، يستقبل ضيفه بالترحاب والطعام، وهو يتقي الذم والقالة؛ بالإطعام والقِرى.
لقد أصبح الكرم عند كثير من العرب طبعاً وسجية، إذ ملك عليهم نفوسهم
حتى أن حاتم الطائي يخاطب زوجته ويوصيها إذا صنعت له الطعام، أن تطلب له
ضيفاً ليشاركه فيه، فهو لا يريد أن يأكل وحده مخافة أن يتحدث الناس عنه بالبخل
بعد موته. فهو يقول:
أيا ابنة عبد الله وابنةَ مالك ... ويا ابنةَ ذي البردين والفرس الورد
إذا ما صنعتِ الزاد فالتمسي له ... أكيلاً فإني لست آكله وحدي
أخاً طارقاً أو جارَ بيت فإنني ... أخاف مذماتِ الأحاديث من بعدي
وإني لعبد الضيف مادام ثاوياً ... وما فيَّ إلا تلك من شيمةِ العبد [7]
مظاهر الكرم عند العرب وصدق تطبيقهم لهذا الخلق [8] :
بالغ العرب في الحفاوة بالضيف والتعهد له، وتفننوا في إكرامه، وتلمس
الأسباب التي تدخل على نفسه السرور، ومن ذلك بسط الوجه له ومضاحكته
والترحيب به ساعة قدومه حتى يأنس وينزل وهو مطمئن. يقول عمرو بن الأهتم:
وضاحكته من قبل عرفاني اسمه ... ليأنس، إني للكسير رفيق [9]
بل كانوا يقدمون له أشهى ما يملكون، مع إيناسهم له. قالوا: " اتمام الضيافة: الطلاقة عند أول وهلة، وإطالة الحديث عند المؤاكلة ".
ولن يتلهى العربي عن ضيفه حتى ولا بالزوجة والولد. يقول عروة بن الورد:
فراشي فراش الضيف والبيت بيته ... ولم يلهني عنه غزال مقنع
أحادثه إن الحديث من القرى ... وتعلم نفسي أنه سوف يهجع [10]
وكانوا خير رفيق لصاحب الطريق، لا يختصون أنفسهم دونه بمال أو بظهر
أو بماء.
وعرف بعض الأجواد بكرمهم، ومن أجواد العرب أزواد الركب وهم ثلاثة
من قريش، وإنما قيل لهم أزواد الركب، لأنهم كانوا إذا سافروا لم يتزود معهم أحد، ولم يسم بذلك غير هؤلاء الثلاثة، وهم: مسافر بن أبي عمرو من بني عبد شمس، وأبو أمية المغيرة من بني مخزوم، وزمعة بن الأسود بن المطلب [11] .
ومن صدق تطبيقهم لهذا الخلق تعميم الدعوة إلى الطعام ليحضره كل من له
إليه حاجة، ومن شؤونهم التي تدعو إلى العجب والإكبار حبهم لكلابهم بسبب ما
كان يجلبه نباحها من الأضياف وضلال الطريق من المسافرين.
ومن مظاهر كرمهم العجيبة هداية الضيوف ليلاً بالنار التي يوقدونها لإنضاج
الطعام، أو للاستدفاء، وكانوا يوقدونها على المرتفعات لتكون أبين وأوضح. يقول
حاتم الطائي لغلامه في ليلة باردة الريح:
أوقد فإن الليل ليل قرُّ ... والريح يا غلام ريح صر
إن جلبت ضيفاً فأنت حر [12]
الإسلام والكرم:
جاء الإسلام فأقر هذا الخلق الكريم، وشجع على البذل والسخاء، وحث على
إكرام الضيف، إلا أنه جعل إخلاص النية لرب العالمين يرتفع بمنزلة العمل
الدنيوي البحت فيجعله عبادة متقبلة. قال تعالى: [إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ
مِنكُمْ جَزَاءً ولا شُكُوراً] [الإنسان: 9] .
وابتعد الإسلام في هديه عن المن والأذى والرياء، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَذِينَ
آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ والأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ ولا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
والْيَوْمِ الآخِرِ] [البقرة: 264] .
وحث الإسلام على البذل إلا أنه نهى عن الإسراف والتبذير [إنَّ المُبَذِّرِينَ
كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً] [الإسراء: 27] .
ونفر من الشح وكنز الأموال، فقد روى البخاري في صحيحه: «ولا
صاحب كنز لا يفعل فيه حقه إلا جاء كنزه يوم القيامة شجاعاً أقرع يتبعه فاتحاً فاه،
فإذا فر منه سمع من يناديه: خذ كنزك الذي خبأت فأنا عنه غني، فإذا رأى أنه
لابد له منه سلك يده في فمه فيقضمها قضم الفحل» .
فهذه الأموال والكنوز المستخفية في الخزائن أشبه بالثعابين الكامنة في
جحورها كأنها رصيد الأذى لأصحابها، بل إنها تتحول إلى حيات فعلاً تطارد
صاحبها لتقضم يده التي غلبها الشح ومنع حق المسلمين فيها.
والمسلم كريم يؤثر إخوانه على نفسه، ويقدم من كسبه الحلال الطيب إلى
إخوته الأتقياء، ولا يغدق أمواله بسخاء على غيرهم ولا يرضى أن يكون بقرة
حلوباً لسفلة القوم من الملحدين الطغام اتقاء شرهم [13] .
وهذا ما يصوره الحديث الشريف إذ يقول -عليه الصلاة والسلام-: «لا
تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي» [14] .
الجود والعطاء عند الرعيل الأول من هذه الأمة:
إن الجود والسخاء يتمثلان فيمن اصطفي الله من عباده كالنبيين والصديقين،
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة، ولذا
فقد انتقل إلى الرفيق الأعلى «وما ترك ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا وليداً،
وترك درعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين صاعاً من شعير» [15] .
وقد حث رسول الله أصحابه على الإنفاق في سبيل الله ورغبهم في السخاء
فكانوا يصدرون عن طبع أصيل وسجية محبة للخير. قال تعالى: [لَن تَنَالُوا البِرَّ
حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ] [آل عمران: 92] .
وكان بذل الصحابة مضرب الأمثال، فقد أخرج الشيخان عن أنس -رضي
الله عنه-: وقد تصدق أبو طلحة -رضي الله عنه- بعين بيرحاء وكانت مستقبلة
المسجد، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء
فيها طيب. قال أنس: فلما نزلت هذه الآية: [لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا
تُحِبُّونَ] قام أبو طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول
الله، وذكر الآية ثم قال: إن أحب أموالي إليّ بيرحاء وإنها صدقة لله، أرجو برها
وذخرها عند الله، فضعها يارسول الله حيث أراك الله. قال: فقال رسول
الله: «بخٍ! ذلك مال رابح! ذلك مال رابح» [16] .
ولما نزلت الآية الكريمة: [مَن ذَا الَذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً] ...
[البقرة: 245] قال أبو الدحداح -رضي الله عنه-: يارسول الله قد أقرضت ربي ... حائطي، وفيه ستمائة نخلة، فجاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه وعيالها، فنادى يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: اخرجي فقد أقرضته ربي « [17] . ...
وكان الجود والسخاء من أبرز صفات المؤمنين طوال القرون واشتهر أجواد
في الإسلام أنسوا الناس ذكر حاتم الطائي وابن سعدى وكعبة بن مامة [18] وغيرهم
مثل أجواد الحجاز الثلاثة: عبيد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر، وسعيد بن
العاص [19] .
تنفير الإسلام من ظاهرة الشح:
حذر الإسلام من البخل لأنه يقطع الأواصر، ويحبط الأعمال، ولا يورث إلا
التباعد والتحاسد.
عن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
» اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم « [20] .
وقال تعالى: [ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] .
ظاهرة الشح في الحضارة الحديثة:
مما سبق يتبين لنا أن العربي كريم في جاهليته، جواد سخي في إسلامه،
على اختلاف الدوافع والنوايا، أما أدعياء الحضارة الحديثة فلا يفهمون هذه القيم،
إذ لا يهتم المفتون منهم بحضارة الإفرنج إلا لمصلحته الخاصة، فإذا هو يعاني
خواء روحياً وجفافاً عاطفياً، نتج عنهما شعور عميق بالحرمان من الصداقة
والأصدقاء المخلصين..
لقد غاب عن الأذهان في حضارة هذا القرن، الإيثار والتضحية بين الأهل
والجيران وذلك بسبب لوثة هذه المدنية الحديثة ... فالأنانية طاغية، والتبرم سائد،
رغم كثرة الأموال، لكنه الهلع من شبح الفقر، والخوف على فوات الملذات.
إن النفس الشحيحة لن يصدر عنها خير، والنفس المجدبة لن تستطيع التأثير
والإفادة، ولو زعم صاحبها أنه من كبار الدعاة إلى الله.
الواجب على المربين أن يغرسوا خلق السخاء والكرم في نفوس الناشئة،
فالنفس التي تعود على البذل، ستكون بإذن الله نفساً خيرة معطاء، مجاهدة في
سبيل ربها، مرتفعة على شهوات الدنيا، وجواذب الأرض الهابطة. ستكون هذه
النفس مشاعل خير نيرة، تضىء الطريق أمام صحوة جادة على طريق الرعيل
الأول بإذن الله. والحمد لله رب العالمين.