مجله البيان (صفحة 490)

في المنهج والاستدلال

ضرورة الاجتهاد

للمحافظة على مواصفات المجتمع الإسلامي

د. عابد السفياني

ينقسم الاجتهاد إلى واجب شرعاً وجوباً عينياً، وواجب كفائياً، وإلى مندوب، ومكروه، ومحرم [1] . وقد نقل العلماء الثقات عن الصحابة -رضوان الله

عليهم- الإجماع على العمل بالقياس وهو نوع من الاجتهاد.

فثبت بذلك وقوع الاجتهاد منهم -رضوان الله عليهم-، وأنهم مجمعون على

مشروعيته [2] .

وأما أقسام الاجتهاد من حيث الحكم التكليفي فهي كما يلى:

الأول: إذا تعين على المجتهد النظر في واقعة لم يجد من يفتي فيها غيره،

أو نزلت بالمجتهد نازلة وخاف فوات الحادثة فإنه يجب عليه وجوباً عينياً الاجتهاد

على الفور وإن لم يخف فواتها وجب عليه الاجتهاد على التراخي.

وأما الثاني: فهو واجب وجوباً كفائياً إذا قام به البعض سقط عن الباقين.

وأما الثالث: فهو المندوب وهو السؤال عن حادثة يمكن أن تقع ويحتاج إليها، مثاله في السنة: ما رواه المقداد بن الأسود أنه قال: «يا رسول الله أرأيت إن

لقيت رجلاً من الكفار فقاتلنى فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة

فقال: أسلمت لله أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال رسول الله - صلى الله عليه

وسلم -: لا تقتله..» الحديث، وفيه دلالة على جواز السؤال بلفظ «أرأيت»

عن المسائل التي يمكن أن تقع [3] .

وأما الرابع: فهو المكروه أو المحرم وهو الاشتغال بالمسائل الفرضية التي لا

يمكن أن ينبني عليها عمل أو لم تجر العادة بوقوعها [4] .

والإجماع المنعقد على وجوب الاجتهاد، ومنه وجوب العمل بالقياس وهو

نوع منه يتضمن الرد على من يقول بقفل باب الاجتهاد أو يدعو إليه، ذلك أن

الإجماع المنعقد لم يقصر الوجوب على عصر دون عصر، بل الوجوب على الأمة

وهي لا تنقطع في أي عصر إلى سقوط التكليف وذلك بفناء الدنيا، والإجماع على

وجوبه منقول عن الصحابة، فهو إجماع متقدم ولا عبرة بمخالفة من خالف بعد ذلك، والمخالف لفرضية الاجتهاد لم يخالف في جميع أنواعه، بل إن العلماء من

الأصوليين نصوا على أن تحقيق المناط، وهو نوع من الاجتهاد، لم يقل أحد

بانقطاعه.

وأما مخالفتهم في الأنواع الأخرى فهم محجوجون بإجماع الصحابة وأن

خلافهم ليس معتبراً، مع مصادمتهم للبديهيات، ذلك أن النص إما أن يعلم بدون

اجتهاد وذلك مستحيل، وإما أن يعلم باجتهاد وهو المطلوب، فالاجتهاد إذاً ضرورة

بهذا المعنى، كما أنه الطريق إلى معرفة عجائب القرآن التي لا تنقضي ... ولم

يدرك المجتهدون في العصور المتقدمة كل عجائبه ... ومن ثم كان الاجتهاد ضرورة

لفهم النص وتطبيقه، ولا يسد مسده شيء آخر في فهم أحكام هذه الشريعة.

ولقد أشار الإمام الشافعي إلى حكمة الاجتهاد فبين أنها هي الابتلاء، وذلك أن

الله -سبحانه وتعالى- أنزل القرآن على هذا النحو، وكذلك السنة لكي يبتلي عباده

فينظر أيجتهدون في طلب الحق مبتعدين عن تأثير الشبهات والشهوات أم يقصرون

في طلبه [5] .

ومن الحكمة أيضاً ما أشار إليه الدكتور الأفغاني في كتابه: «الاجتهاد» :

وذلك بالنسبة للرسول -صلى الله عليه وسلم- وبالنسبة لأصحابه.

أما وقوعه من الرسول -صلى الله عليه وسلم- فذلك تعليم للأمة من بعده،

وأما حكمة شرعية الاجتهاد بالنسبة للصحابة في عصره فذلك لتدريبهم وتعليمهم

كيفية الاجتهاد وحتى يكونوا مستعدين لحمل الأمانة الكبرى بعد وفاة الرسول -صلى

الله عليه وسلم- وهي الحكم بما أنزل الله، وإدخال الحوادث الجديدة تحت أحكام

هذه الشريعة حتى يعلم حكم الشرع في كل ما ينزل بالمسلمين وتدريب من بعدهم

على ذلك، ولولا الاجتهاد لزاد عدد الحوادث التي يتصرف فيها المسلمون بآرائهم

المحضة أو بقوانين وأعراف غير دينية، وذلك - مع طول الأمد - سبب من أكبر

الأسباب في الانحراف عن شريعة الإسلام [6] .

وأجمل هنا بعض الحكم التي تظهر لي من فرضية الاجتهاد وكونه طريقاً إلى

التجديد والنمو والحركة: إن هذا الدين أنزله الله على عباده مفرقاً ولم ينزله جملة

واحدة، قال تعالى: [وقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ونَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً]

[الإسراء: 106] .

ومعنى فرقناه أي أنزلناه جزءاً جزءاً ولم ننزله جملة واحدة [7] وذلك في

بضع وعشرين سنة تثبيتاً للرسول -صلى الله عليه وسلم-، حيث ينزل لكل حادثة

تقع ما يخصها من الأحكام ويتعلمه الناس في غير عجلة، ويتدرج بهم حتى يربيهم

ويفقههم فيقترن العلم بالعمل آية آية وسورة سورة، ويقع لكل حدث ما يخصه من

البيان والتوجيه. وهذا المعنى الذي تحقق في عصر النبوة مازال متحققاً في كل

عصر -بعد ذلك - يسير في الطريق نفسه ويسعى للغاية التي خلق العباد من أجلها

وهي عبادة الله وحده بلا شريك.

وبيان ذلك: أن المسلمين بعد عصر النبوة يحتاجون إلى بيان الأحكام التي

تخص الحوادث التي جاءت في عهدهم، وهذه الحوادث لم يكن فيها نص بعينها -

ولا بد من الرجوع إلى الوحي لمعرفة هذه الأحكام.

ثم تأتي حوادث أخرى تحتاج إلى أحكام فلابد من الرجوع إلى الوحي، وهكذا

في كل عصر وفي كل مكان.

وحين يرجعون في المرة الأولى إنما يستنبطون الحكم للحادثة الأولى ثم

يرجعون مرة أخرى وثالثة ورابعة وذلك حسب تجدد الحوادث فيجدون في الوحي

العلم والفقه والتربية - وهم يسيرون في الوقت نفسه في طريقهم لا يقفون لحظة

واحدة، تماماً كما كانوا في عصر النبوة: عمل وجهاد وتربية وتعليم، حتى توفي

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وهكذا يريد الله هذا الدين بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،

دين عمل وجهاد وتربية، وهذا الجهد في التعريف بالحق ونشره والتفقه فيه

وتطبيقه على الحوادث إنما يكون من طائفة من المسلمين بذلت نفسها لتعلم العلم

وتعليمه، كما قال تعالى: [ومَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ

مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ولِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]

[التوبة: 122] .

فهذا النفير والتفقه والنذارة إنما يصبر عليه طائفة من المسلمين وهؤلاء يبرز

منهم أئمة في الدين يهدون به وبه يعدلون، فينشرونه ويعلمونه للناس ويقيمون به

العدل في الأرض ومن العدل استنباط الأحكام لكل حادثة تعن وتطبيقها.

وعند تحقيق ذلك يرفعهم الله درجات، ويجعلهم منار هداية للناس لا تنقطع،

يتسلمها الناس جيلاً بعد جيل: [وجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وكَانُوا

بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ] [السجدة: 24] .

وهذا التفقه والنذارة والهداية وإقامة العدل في الأرض لا يكون إلا بالاجتهاد.

أما الذين آمنوا فهم مكلفون جميعاً بإقامة فروض الكفاية، وذلك بأن يقيموا لكل

فرض من فروض الكفاية طائفة منهم ويعينوهم على ذلك [8] ، فإذا سعى المؤمنون

في تجهيز طائفة منهم ليتفقهوا في الدين حتى يصلوا إلى درجة الاجتهاد كان ذلك

سبباً في رفع منزلتهم عند الله، وعن هذا الطريق تتحقق الهداية وإقامة العدل

الرباني في هذه الأرض، عن طريق سعي المؤمنين جميعاً، وتكامل جهودهم،

وتقديم المجتمع لخيارهم ليكونوا هم قادة الناس، والبناة لمنهج التربية الإسلامية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015