السياسة الشرعية
محمد بن شاكر الشريف
alsharef@albayan-magazine.com
«ليس دين زال سلطانه إلا بدلت أحكامه، وطمست أعلامه، وكان لكل
زعيم فيه بدعة، ولكل عصر في وَهْيِهِ أثر» [1] ، كلمة عظيمة قالها إمام من أئمة
عصره، لو كتبت على حد تعبير الأقدمين بماء الذهب، لم يوفها ذلك حقها، وهي
كلمة واضحة مفسرة لا تحتاج إلى مزيد شرح أو بيان، والتاريخ البعيد والقريب،
والواقع الحاضر المشاهد، شاهد على صدق ذلك؛ فمع التزام المسلمين في الصدر
الأول بالنظام السياسي الإسلامي [2] ، كان الدين قوياً وأحكامه محفوظة، وأعلامه
عالية مرفوعة، وبمرور الزمن بدأ معدل الصعود الإسلامي يتناقص لأسباب متعددة
من أهمها غياب سلطان الدين.
وسلطان الدين نوعان: نوع على القلوب، ونوع على الجوارج يمثله النظام
السياسي الإسلامي وكان ذلك الغياب على مستويين:
1 - المستوى العملي التطبيقي: إذ بدأ الحكم في الابتعاد شيئاًِ فشيئاً عن
الالتزام بالنظام السياسي الإسلامي، حتى آل الأمر إلى الانقلاب الكلي على ذلك
النظام وحلول النظام العلماني محله على تعدد صوره وأشكاله.
2 - المستوى العلمي النظري: حيث جُهل الكثير من أحكام هذا النظام
وحدوده وصلاحياته عند الساسة وصناع القرار؛ فضلاً عن العامة، فلم يعرفوا
أصوله ومعالمه الرئيسة، كما لم يعرفوا تفصيلاته وجزئياته أو هيئاته ومؤسساته.
وقد كان هذا الغياب على تلك المستويات مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه
وسلم: «لَتُنتقضنَّ عرى الإسلام عروة عروة؛ فكلما انتقضت عروة تشبث الناس
بالتي تليها؛ فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة» [3] .
والمسلمون اليوم مطالبون بإعادة النظام السياسي الإسلامي والعودة إليه؛
وذلك لا بد له من جهود قوية وعزمات ثابتة تتضافر على فعل ذلك، منها جهود
علمية ودعوية تشرح هذا النظام وتبين معالمه وأسسه كما تبين أحكامه التفصيلية،
ومنها جهود تطبيقية تقوم بالتمكين لهذا النظام وتطبيقه في الواقع، وهذا المقال هو
جهد دعوي يقدم في سبيل بيان عدد من الخصائص العامة، أو المعالم البارزة التي
يستند إليها هذا النظام الذي لم تعرف له الدنيا مثيلاً، ولن تعرف طالما بقيت بعيدة
عن هداية الوحي المعصوم المتمثل بالكتاب والسنة النبوية.
* الخصائص التي يتميز بها النظام السياسي الإسلامي:
- الأول: النظام السياسي نظام شرعي:
فهو ليس نظاماً وضعياً تواطأ على وضعه مجموعة من الناس أو فئة وفق
مقاييسسهم العقلية وتصوراتهم الشخصية أو خبراتهم التاريخية، ويترتب على هذا
الأصل عدة أمور منها:
1 - استمداد هذا النظام في أصوله وفروعه من الشرع: فأصول هذا النظام
وفروعه، أو قواعده وجزئياته، أو هيئاته ومؤسساته إنما ترجع إلى الشرع وتستند
إليه، ويستدل عليها بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة النبوية.
2 - الكلمة العليا في النظام السياسي الإسلامي للكتاب والسنة: الكلمة العليا
في هذا النظام وفي المجتمع وكل شيء إنما هي لله تبارك وتعالى، ومظهر ذلك
ودليله في الواقع: القبول والإقرار والتقيد بالشرع المنزل كتاباً وسنة، والانصياع
له، والدوران في فلكه، وعدم الخروج عليه. قال الله تعالى: [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] (الأحزاب:
36) . وفي الكتابات المعاصرة يختصر كثير من الكتاب تلك الجملة المطولة في
لفظ واحد للدلالة عليه ألا وهو لفظ «الحاكمية» وهذا اللفظ يناظر اصطلاح
«السيادة» الذي يستخدم في الدراسات القانونية الدستورية، ومضمونها: تلك
السلطة المطلقة المتفردة بتقرير الحق والإلزام به، والتي لها وحدها دون شريك الكلمة
العليا في أمر المجتمع والدولة؛ بحيث لا توجد سلطة أخرى تساويها أو تدانيها،
فضلاً أن تعلو عليها [4] .
3 - اشتمال الكتاب والسنة على أحكام النظام السياسي جميعها: فالكتاب
والسنة كافيان ومشتملان على جميع التشريعات والأحكام التفصيلية المحتاج إليها في
النظام السياسي الإسلامي، وليس هناك من حاجة إلى غيرهما في تقرير ذلك وبيانه؛
فالكتاب والسنة منفردان بذلك، ولا يقبلان المزاحمة من مصدر آخر.
4 - الحقوق والالتزامات تقررها النصوص الشرعية من الكتاب والسنة:
فتقرير الحقوق والالتزامات، وعلاقة الراعي بالرعية، وعلاقة الدولة المسلمة
بغيرها من الدول إنما تتم بواسطة الشريعة، وليس لجهةٍ سلطانٌ أو حقٌّ في تقرير
تلك الحقوق والالتزامات، أو تحديدها وتقييدها؛ فضلاً عن تحويرها أو تغييرها أو
إلغائها.
5 - السلطة في النظام السياسي الإسلامي مستمدة من الشرع: أساس السلطة
السياسية في الدولة الإسلامية وحق الطاعة الممنوح للولاة، إنما يرجع إلى الشرع،
ولا يرجع إلى الأمة أو الشعب كما هو الحال في الأنظمة العلمانية التي تجعل الأمة
أو الشعب أساس السلطة السياسية في الدولة.
- الثاني: وجوب طاعة الأئمة والولاة في غير معصية:
وهذا قد دل عليه أدلة كثيرة متنوعة من الكتاب والسنة؛ نذكر من ذلك على
سبيل المثال قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي
الأَمْرِ مِنكُمْ] (النساء: 59) . وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «السمع
والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية؛ فإذا أُمر
بمعصية فلا سمع ولا طاعة» [5] .
ويترتب على ذلك أمور منها:
1 - وجوب طاعة الإمام فيما أمر به ونهى عنه، وكذلك طاعة الولاة
المعينين من قِبَله.
2 - حرمة منازعة الإمام القائم بالشرع الأمرَ، أو الخروج عليه بالسيف
والسنان.
3 - منع كل وسيلة تذهب بهيبة الإمام أو الولاة، أو تفضي إلى توهين العمل
بطاعته واجتماع القلوب عليه.
لكن طاعة الإمام في النظام السياسي الإسلامي ليست طاعة مطلقة، بل هي
طاعة مقيدة بطاعة الإمام لله والرسول واتباع الشرع المنزل وتحكيمه بين الناس؛
ولذلك فإن الشريعة تقر بحق المسلمين في نصح الولاة وإرشادهم إلى الخير
وتحذيرهم من الشر، والإنكار عليهم وفق القواعد الشرعية التي قررها علماء
السياسة الشرعية، كما تقر بحق الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد منها في عزل
ولاتها متى استوجب الوالي ذلك على النحو المفصل في كتب الفقه، مثل أن يطرأ
على الوالي الكفر والعياذ بالله. قال القاضي عياض - رحمه الله - فيما نقله عنه
النووي: «أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه
الكفر أنعزل» [6] . وقال ابن حجر: «ينعزل بالكفر إجماعاً؛ فيجب عل كل
مسلم القيام في ذلك؛ فمن قوي على ذلك فله الثواب، ومن داهن فعليه الإثم، ومن
عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض» [7] .
- الثالث: التكامل بين الراعي والرعية أو بين الحكومة والشعب:
الحكومة ردف للشعب، والشعب ردف للحكومة في ظل النظام السياسي
الإسلامي «وذلك لأنهما متوازيان في الاتجاة نحو تحقيق المقاصد الشرعية، ولذلك
فهما معتبران سوياً من الأمة، ولا تقوم بينهما علاقة الترصد والتعارض التي تقوم
بين الشعب والحكومة في القانون الوضعي» [8] .
فالراعي والرعية، أو الحكومة والشعب يؤمنون بعقيدة واحدة، ويسعون
لتحقيق هدف واحد، من خلال شريعة واحدة، وهذا من شأنه أن يوجد قدراً كبيراً
من التوافق في الفكر والفهم، وفي طريقة علاج الأمور، وفي اختيار الوسائل
المفضية إلى ذلك، ولا يوجد بينهم من الخلاف في هذه الحالة إلا ما لا بد منه من
الاختلاف أو التباين بين الناس في القدرة على الفهم والاستيعاب.
كما أن الجميع مطالبون بتنفيذ الأحكام الشرعية، وتحقيق الأهداف التي دعت
إليها الشريعة، كل حسب وضعه والصلاحيات التي منحتها له الشريعة، وينشأ مما
تقدم بين الراعي والرعية علاقات الحب والمودة والرحمة، والسعي المشترك
والتعاون على تحقيق الأهداف، وهذا بعكس العلاقة بين الراعي والرعية في
الأنظمة الوضعية؛ فإنها علاقة قائمة على تقسيم المجتمع إلى فئات: حكومية
ومعارضة، وهمُّ كل فئة أن تترصد للفئة الأخرى وتبحث عن أخطائها ونشرها بين
الناس، وإطلاق الشائعات، أملاً في المحافظة على السلطة أو الوصول إليها.
وسائل تحقيق التكامل بين الراعي والرعية:
من دراسة النصوص الشرعية تظهر لنا ثلاث دوائر كبرى يتم من خلالها
تحقيق ذلك التكامل وهي:
الدائرة الأولى: الشورى:
ففي الشورى يتم عرض الآراء ودراستها ممن يحسنون ذلك في الأمور
المشكلة، واختبارها لمعرفة كنهها، واستخراج أفضلها وأنفعها وأيسرها وأقلها
مؤونة، فيستشير الراعي أهل العلم والفقه والخبرة من رعيته، وتبذل الرعية
المستشارة غاية جهدها في معاونة الراعي واستخراج أفضل ما تراه، والراعي
ينظر في كل تلك الأقوال لا يغلِّب رأياً على رأي إلا لرجحانه عنده من جهة الشرع
والمصلحة، والرعية تقبل ذلك منه لعلمها بنصحه لهم وإرادة الخير للمسلمين. قال
الله تعالى في وصف المؤمنين: [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] (الشورى: 38) .
وفي الشورى تنصهر الرعية والراعي في بوتقة واحدة، ولا يكون الجميع إلا جسداً
واحداً همه الوصول بالأمة في المسائل المعروضة إلى بر الأمان، وتحقيق أعلى
المصالح.
الدائرة الثانية: النصيحة:
والنصيحة هي إرادة الخير للمنصوح إما بدلالته على ما ينبغي فعله وحضه
عليه، وتيسير أسبابه والإعانة عليه، وإما بدلالته على ما ينبغي تركه واجتنابه،
وحثه على الابتعاد عن ذلك، ومعاونته فيه.
والنصيحة تبذلها عامة الرعية لولاتهم، كما يبذلها الولاة للرعية؛ فالرعية
تنصح الراعي، والراعي ينصح الرعية، وهو واجب على الجميع؛ ففي نصح
الراعي للرعية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أمير يلي أمر
المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة» [9] . قال النووي
- رحمه الله -: «وفي هذه الأحاديث وجوب النصيحة على الوالي لرعيته،
والاجتهاد في مصالحهم، والنصيحة لهم في دينهم ودنياهم» [10] . وفي نصح
الرعية للراعي يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة. قلنا: لمن؟
قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» [11] ، قال ابن حجر
- رحمه الله -: «والنصيحة لأئمة المسلمين: إعانتهم على ما حُمِّلوا القيام به،
وتنبيههم عند الغفلة، وسد خَلَّتهم عند الهفوة، وجمع الكلمة عليهم، ورد القلوب
النافرة إليهم، ومن أعظم نصيحتهم دفعهم عن الظلم بالتي هي أحسن» [12] .
الدائرة الثالثة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وهو الأمر بما أرشد الشارع إليه من قول وفعل، والنهي عما حذر منه، وهو
يهدف إلى نشر الخير وإذاعته، وإشاعته، والتضييق على المنكر وحصره، ومن
ثم إزالته، وهو واجب يتكامل فيه الراعي والرعية لتحقيق الهدف المنشود من ذلك.
قال الله تعالى: [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ] (التوبة: 71) . وقال تعالى: [الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي
الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَر] (الحج:
41) . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في أمرِ الرعيةِ ولاةَ أمورهم بالمعروف
ونهيهم عن المنكر: «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون؛ فمن عرف برئ، ومن
أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا؛ ما صلوا»
[13] . وقد بوَّب النووي على هذا الحديث ونحوه «باب وجوب الإنكار على
الأمراء فيما يخالف الشرع، وترك قتالهم ما صلوا ونحو ذلك» [14] . فالجميع
يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر تكميلاً للخير وتقليلاً للشر في سعي دائب
نحو هدف مشترك يسعى الجميع لتحقيقه.
فهذه الدوائر الثلاث يعمل من خلالها ذلك الأصل، ويؤلف بينها في نسيج
واحد، وكل واحدة من هذه الدوائر لها أحكام تفصيلية كثيرة خاصة بها، ليس المقام
مقام بسطها والحديث عنها.
- الرابع: التوازن بين الحكومة والرعية:
الحكومة قوة بما تملكه من الجيوش والعتاد العسكري، وبما تملكه من حق
الطاعة على الرعية. والرعية قوة بما تملكه من الكثرة العددية والقدرة على التحرك
فيما بينها، وبعض هذه القوى أكبر من بعض وأضخم، ويختلف ذلك باختلاف
الزمان والمكان، والأحوال المحيطة، وقد يحدث تحت تأثير تلك القوة المتزايدة
لأحد الطرفين على الآخر، أن يطغى الطرف الأقوى على الطرف الأقل قوة؛ لذا
كان من خصائص هذا النظام الرباني إحداث التوازن بين القوى المكونة للأمة.
دلائل ومظاهر التوازن في النظام السياسي الإسلامي:
1 - ثبات التشريع الإسلامي:
الأحكام الشرعية في الإسلام ثابته ثبات الطود الأشم، لا تقبل التعديل أو
التحوير، أو التبديل أو الإلغاء من قِبَل آية فئة من الناس سواء أكانوا حكاماً أو
محكومين، أكثرية كانوا أو أقلية، مما يمنع أي قوة من قوى المجتمع من استخدام
نفوذها أو ثقلها في المجتمع في إحداث تشريعات جديدة أو تغييرات في التشريعات
الموجودة تدعم بها أوضاعها، وتضعف الآخرين أمامها، بعكس النظم الوضعية
(الديمقراطية) حيث التشريع فيها للبشر، فيملك الحزب الحائز على الأغلبية في
المجلس النيابي (البرلماني) إحداث تشريعات جديدة، أو تغيير تشريعات قائمة
يدعم بها أوضاعه أو يضعف بها معارضيه.
2 - عدم جواز تعطيل الشريعة:
فالتشريع الإسلامي دائم لا يجوز تعطيله بصورة دائمة، أو تعليق العمل به
مدة من الزمن تحت أي ظرف من الظروف، أو مسمى من المسميات، مما يمنع
أي قوة من قوى المجتمع من التفلت من الأحكام الشرعية وعدم التقيد بها.
3 - كفالة شرعية النظم واللوائح:
قد يحدث في بعض الظروف أن تتمكن قوة من قوى الأمة من استحداث
تشريعات تخدم مصالحها، وتكرس بها من وضعها، مما يضعف قوة باقي القوى
في المجتمع؛ لذا فإن الشريعة قد كفلت شرعية جميع النظم واللوائح التي يجري
العمل بها بحيث يبطل كل نظام أو تشريع أو لائحة مخالفة للكتاب أو السنة أو
الإجماع، وذلك أن كل ما خالف الكتاب أو السنة أو الإجماع فهو منقوض، وعلى
القاضي نقض هذه التشريعات والنظم واللوائح إن وجدت؛ وقد دل على ذلك أدلة
كثيرة ذكر بعضاً منها الإمام البخاري في صحيحه، ثم بوب عليها بقوله: باب إذا
اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول -صلى الله عليه وسلم- من غير علم
فحكمه مردود « [15] . فنقض التشريعات أو الأنظمة التي قد تسنها الحكومات
مخالفة للأحكام الشرعية يمثل توازناً بين الحكومة والرعية.
4 - التحكيم بين الحكومة والرعية في مسائل النزاع:
قد ينشأ بين الأمة أو جزء منها وبين الحكومة أو السلطة نزاع، بحيث يظن
كل فريق من المتخاصمين أن الحق معه وأن الأدلة الشرعية تصوب موقفه، وقد
يتمسك كل فريق بموقفه ولا يسلم للآخر بموقفه، وهذه المشكلة يلجأ النظام السياسي
الإسلامي إلى حلها عن طريق التحكيم أولاً، فتتكون لذلك محكمة بين الطرفين
المتنازعين على وفق الكتاب والسنة، وعلى الطرفين أن يقبلا بما انتهت إليه
المحكمة، والأصل الشرعي لهذه المحكمة هو قول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ] (النساء: 59) . والرد إلى الله
سبحانه وتعالى يكون بالرجوع إلى كتابه والاحتكام إليه، والرد إلى الرسول صلى
الله عليه وسلم بعد موته - بأبي هو وأمي - يكون بالرجوع إلى سنته والاحتكام
إليها، ومن هذا الرد إلى الكتاب والسنة تنشأ تلك المحكمة المعنية بالفصل في
النزاع الذي قد ينشب بين الراعي والرعية.
والأصل التاريخي العملي من سير أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم
الذين هم القدوة والأسوة من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، تلك المحكمة التي
تكونت للفصل فيما نشب بين الحكومة ممثلة في علي بن أبي طالب الخليفة الراشد
- رضي الله عنه -، وبين بعض الأمة ممثلة في معاوية - رضي الله عنه - ومن
معه، فيما عرف بحادثة التحكيم المشهورة، وهذه المحكمة لا يشترط فيها أن تكون
ذات تشكيل ثابت دائم؛ فإن هذا مخالف للغرض من إنشائها، بل يتم تشكيلها فقط
عن الحاجة إليها؛ حيث يختار كل طرف من المتنازعين قضاة من قِبَله من أهل
العلم والدين، ثم تنفضُّ المحكمة بعد صدور الحكم؛ وذلك لانتهاء السبب الداعي
إلى تشكيلها؛ فلا يحكم أحد طرفي النزاع على الطرف الآخر في تلك الحالات؛
لأن ذلك سوف يخل بالتوازن بين قوى الأمة.
5 - كفالة حق المسلم في اختياراته الفقهية:
تكفل الشريعة الإسلامية للمسلم الحق في الاقتناع بأي من الأقوال الفقهية
السائغة؛ فله أن يسأل من يثق بعلمه ودينه، ويكوِّن قناعته الشخصية وأفكاره
الخاصة، فيما يعن له أو لمجتمعه من أمور أو مشكلات، طالما كان ذلك في إطار
النصوص الشرعية من الكتاب والسنة والأحكام المجمَع عليها؛ فأهل السنة لا
يلزمون بمسائل الاجتهاد، ولا يجبر المسلم على أن يرى ما تراه السلطة، طالما
كان الرأي الذي اختاره مما يسوغ القول به في الشرع، بل للمسلم الحق في إعلان
رأيه الذي اختاره وشرحه للناس والدعوة إليه والعمل على نشره، طالما أنه لم
يخرج بذلك على الجماعة ولم يشق عصا الطاعة، والأدلة على ذلك كثيرة، منها ما
أخرجه الدارمي بسنده من طريق الأوزاعي: حدثني أبو كثير وهو مالك بن مرثد
حدثني أبي قال:» أتيت أبا ذر، وهو جالس عند الجمرة الوسطى، وقد اجتمع
الناس عليه يستفتونه، فأتاه رجل فوقف عليه، ثم قال: ألم تُنْهَ عن الفتيا؟ فرفع
رأسه إليه، فقال: أرقيب أنت عليَّ؟ لو وضعتم الصَّمصامة على هذه وأشار إلى
قفاه ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من رسول صلى الله عليه وسلم قبل أن تجيزوا
عليَّ لأنفذتها « [16] . قال ابن حجر - رحمه الله -:» رويناه في الحلية من هذا
الوجه، وبين أن الرجل الذي خاطبه من قريش، وأن الذي نهاه عن الفتيا عثمان
- رضي الله عنه -، وكان سبب ذلك أنه كان بالشام فاختلف مع معاوية في تأويل
قوله تعالى: [وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة] (التوبة: 34) . فقال معاوية:
نزلت في أهل الكتاب خاصة، وقال أبو ذر: نزلت فيهم وفينا؛ فكتب معاوية إلى
عثمان، فأرسل إلى أبي ذر، فحصلت منازعة أدت إلى انتقال أبي ذر إلى الرَّبَذَة
- بفتح الراء والموحدة والذال المعجمة - إلى أن مات، رواه النسائي، وفيه دليل
على أن أبا ذر كان لا يرى طاعة الإمام إذا نهاه عن الفتيا؛ لأنه كان يرى أن ذلك
واجب عليه لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه كما تقدم، ولعله أيضاً
سمع الوعيد في حق من كتم علماً يعلمه « [17] .
ومنها ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر
- رضي الله عنهما - قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى
بني جذيمة، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فقالوا: صبأنا صبأنا، فجعل خالد
يقتل ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره، فأمر كل رجل منا أن يقتل أسيره،
فقلت: واللهِ! لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره. فذكرنا ذلك
للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:» اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد
مرتين « [18] . وبوب عليه البخاري بقوله: إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل
العلم فهو رد. قال ابن حجر: أي مردود، ثم قال: والغرض منه قوله صلى الله
عليه وسلم:» اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد «يعني من قتله الذين قالوا:
صبأنا قبل أن يستفسرهم عن مرادهم بذلك القول؛ فإن فيه إشارة إلى تصويب فعل
ابن عمر ومن تبعه في تركهم متابعة خالد على قتل من أمرهم بقتلهم من
المذكورين [19] .
ومنها ما أخرجه البخاري وغيره عن مروان بن الحكم قال: (شهدت عثمان
وعلياً - رضي الله عنهما - وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلما رأى
علي أهلَّ بهما لبيك بعمرة وحجة، قال: ما كنت لأدع سنة النبي صلى الله عليه
وسلم لقول أحد) [20] . قال ابن حجر - رحمه الله -: (وفي قصة عثمان وعلي
من الفوائد إشاعة العالِمِ ما عنده من العلم وإظهاره، ومناظرة ولاة الأمور وغيرهم
في تحقيقه لمن قوي على ذلك لقصد مناصحة المسلمين، والبيان بالفعل مع القول..
إلى أن قال: وفيه أن المجتهد لا يلزم مجتهداً آخر بتقليده، لعدم إنكار عثمان على
علي؛ ذلك مع كون عثمان الإمام إذ ذاك) [21] . وهذا الأمر لم يكن حالة فردية بل
كان مسلكاً عاماً عندهم، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك. وينبغي هنا التفريق بين حق
المسلم في اختياره الفقهي لأي من الأقوال الفقهية السائغة، وبين ما إذا أخذت
الحكومة الشرعية برأي أو قول آخر من الأقوال الفقهية السائغة أيضاً في مسألة
تنظيمية أو إدارية؛ فهنا يجب على المسلم الطاعة في تنفيذ العمل المنوط به
المترتب على تلك المسألة؛ فإن مصلحة الاجتماع والائتلاف مقدمة ها هنا، وإن
كان لا يجب عليه الاعتقاد بصواب ذلك القول أو الاعتقاد بصواب رأي السلطة في
تلك الحالة.
- الخامس: واحدية الأمة وواحدية القيادة العليا.
الأمة الإسلامية مهما تعددت أجناسها، واختلفت لغاتها، وتنوعت ألوانها،
وتناءت ديارها، وتتابعت أجيالها، هي أمة واحدة يربط بين أفرادها جميعاً رابط
العبودية الحقة الخاصة لله الواحد القهار. قال الله تعالى: [إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً
وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ] (الأنبياء: 92) . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في
تفسيرها: (دينكم دين واحد) [22] . وذلك أن الدين هو أعظم ما يوحد بين الناس
ويجعل منهم أمة واحدة متماسكة. قال تعالى: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ
تَفَرَّقُوا] (آل عمران: 103) . قال ابن كثير - رحمه الله - (أمرهم بالجماعة،
ونهاهم عن التفرقة، وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفريق، والأمر
بالاجتماع والائتلاف) [23] . وقال صلى الله عليه وسلم:» هذا كتاب من محمد
النبي رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش، وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق
بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس « [24] .
ويترتب على ذلك أمور منها:
1 - لا يجوز تفريق الأمة أو تمزيقها تحت أي من المسميات.
2 - مناصرة المسلمين في كل مكان.
3 - حرمة إعانة الكفار على المسلمين.
وأما واحدية القيادة العليا، فقد دل عليها كثير من النصوص الشرعية منها
قوله صلى الله عليه وسلم:» إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما « [25] . قال
النووي - رحمه الله -: (ومعنى هذا الحديث: إذا بويع لخليفة بعد خليفة؛ فبيعة
الأول صحيحة يجب الوفاء بها، وبيعة الثاني باطلة يحرم الوفاء بها، ويحرم عليه
طلبها؛ إلى أن قال: واتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يعقد لخليفتين في عصر
واحد) [26] . فالخليفة الصالح للخلافة الذي اختاره أهل الحل والعقد هو الشخص
الذي تناط به السلطة السياسية في ديار الإسلام.
ويترتب على ذلك أمور منها:
1 - منع ما يسمى بالقيادة الجماعية للدولة.
2 - منع توزيع السلطة على عدة هيئات أو مؤسسات؛ بحيث تستقل كل
واحدة منها بجزء من السلطة.
3 - بيان منزلة الهيئات والمؤسسات المعاونة للإمام ومكانتها في النظام
السياسي الإسلامي.
4 - عدم جواز تقسيم دار الإسلام إلى دويلات يستقل بحكم كل واحدة منها
وال من الولاة بحيث لا تكون هناك إمارة عامة يرتبط بها أولئك الولاة.
- السادس: غاية النظام السياسي الإسلامي صلاح الدنيا وفلاح الآخرة:
الحياة في عقيدة المسلم تنقسم إلى جزأين: جزء صغير في الدنيا، وجزء لا
نهاية له في الآخرة؛ من أجل ذلك؛ فإن عناية النظام السياسي الإسلامي بحياة
المسلم لا تقتصر على ذلك الجزء الصغير الذي هو في الدنيا، بل همه الأكبر تلك
الحياة التي لا تنتهي؛ فالغاية لا تقتصر على صلاح الدنيا وعمارتها وتحقيق رفاهية
المجتمع كما هو الحال عند الذين لم يعرفوا من الحياة إلا الجزء الصغير وهو الحياة
الدنيا، بل يضيف النظام السياسي الإسلامي إلى ذلك عمارة الآخرة، بل يجعل ذلك
نصب عينيه؛ إذ هو المقصود الأسمى من وجوده.
لذا فإن من أهم واجبات النظام السياسي الإسلامي:
1 - حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأئمة.
2 - حفظ الشريعة والعمل بها وتحكيمها.
3 - جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة [27] .
وبعد: فهذه جملة من الخصائص العامة والمعالم البارزة في نظامنا السياسي
الإسلامي تحقق بها الأولون ففازوا وسعدوا وسادوا الدنيا شرقاً وغرباً، ونحن الآن
في هذه المرحلة الحرجة التي تكالب فيها أعداؤنا علينا من عُبَّاد الصليب والبقر
والوثن، أحوج ما نكون للعودة السريعة إلى هذا النظام وإعادته لتحقيق الصلاح في
الدنيا والفوز في الآخرة، وما أصدق قول من قال: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما
صلح عليه أولها.