قضايا دعوية
فهد بن محمد بن عبد الرحمن القرشي
falserhani@hotmail.com
إن الناظر والمتأمل في حال الأمة الإسلامية منذُ فجر الإسلام إلى عصرنا
الحاضر لَيرى في تاريخها سِجلاً حافلاً بالانتصارات، كما أنه يرى في أثناء ذلك
التاريخ وطياته كبوات وصفعات مُنيت بها الأمة الإسلامية كادت أن تأتي فيها على
الأخضر واليابس، كما حصل لها في سقوط بغداد على يدي التتار؛ كل ذلك
يحصل لها عندما تبتعد عن منهج ربها وخالقها، عندئذ تحتاج إلى من يردها إلى
الصراط المستقيم، سواء عن طريق المصلحين والدعاة والمجددين، أو عن طريق
الأعداء الذين لا يرقبون فيها إلاً ولا ذمة، ولكنهم يقدّمون لها معروفاً عندما
يُجبرونها بصفعاتهم الموجعة وضرباتهم المؤلمة على مراجعة وضعها وحساباتها
لتبدأ في التغيير، وهذه سنّة ربانية، كما قال تعالى: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم] (الرعد: 11) .
والأمة الإسلامية لديها منهج واضح في كيفية التعامل مع الأحداث، سواء
كانت انتصارات أو ضربات وصفعات، فإن كانت الأولى؛ فهو الشكر والخضوع
للمنعم المتفضل عليها، وهو الله سبحانه وتعالى الذي نصرها على عدوّها من غير
حول منها ولا قوة، قال تعالى: [وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ]
(آل عمران: 126) ، وقال تعالى: [إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ
فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ] (آل عمران:
160) ، وكما فعل صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة فاتحاً، فإنه دخلها خاشعاً
شاكراً، يقرأ سورة الفتح، يقول عبد الله بن مغفل: «رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح يُرجِّعُ» .
وإن كانت الأخرى فالثبات على المنهج، والالتزام به، والدعوة إليه، وعدم
تغييره ولا تبديله، وخاصة ما يتعلق بالقضايا العقدية كالولاء والبراء، وما يتعلق
بخصائص هذه الأمة الإسلامية، ومن أوليات ذلك مناهجها التعليمية، فالتمسك
بالإسلام والإيمان هو النصر الحقيقي؛ إذ ليس بالضرورة أن يكون النصر دائماً
نصراً عسكرياً، قال تعالى مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام
بعد غزوة أحد التي هُزم فيها المسلمون: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن
كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران: 139) ، وقال تعالى: [فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ
وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ] (محمد: 35) ، هذا من جهة،
ومن جهة أخرى وهي بيت القصيد أننا نرى كثيراً من المسلمين عندما تُصاب أمتهم
الإسلامية بنكبة أو هزيمة أو ما شابه ذلك؛ يُصاب بعضهم بنوع من اليأس،
والإحباط، والخمول، ويصبحون يرددون فصول تلك الهزيمة وأحداثها المريرة؛
معرضين عن العمل الجاد المثمر الذي يُساهم في إخراج الأمة من أزمتها ونكبتها
وهزيمتها. كما أن منهم من يكون مهيئاً لتلقف أي مذهب أو فكرة منحرفة يشعر أنها
سوف تخرجه من الأزمة أو مرارة الحدث.
والمتأمل في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يرى كيف تعامل مع مثل
هذه الأحداث، وكيف كان ينقل أصحابه - رضي الله تعالى عنهم - من وضع
الشدة والكرب إلى وضع الفتح والنصر، وعلى ذلك أمثلة كثيرة من سيرته صلى
الله عليه وسلم، منها:
أولاً: عن خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: «شكونا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسدٌ بردةً له في ظل الكعبة قلنا له: ألا تستنصر لنا،
ألا تدعو الله لنا؟ قال: كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فيُجعل فيه،
فيُجاء بالميشار - المنشار - فيوضعُ على رأسه فيُشق باثنتين، وما يصده ذلك عن
دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن
دينه. والله! لَيُتِمَّنَّ هذا الأمر حتى يَسير الراكب من صنعاءَ إلى حضرموت لا
يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» [1] .
وفي رواية عند البخاري أيضاً: عن خباب بن الأرت - رضي الله عنه -
قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردةً وهو في ظل الكعبة وقد
لقينا مِنَ المشركين شِدةً فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمر
وجهه، فقال: لقد كان مَنْ قبلكم ليُمشط بمشاط الحديد، ما دون عظامه من لحم أو
عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع الميشار - المنشار - على مفرق رأسه
فيُشق باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه. وليُتِمَّنَّ الله هذا الأمرَ حتى يَسير الراكب
من صنعاءَ إلى حضرموت ما يخاف إلا الله» زاد بياناً: «والذئب على غنمه»
[2] .
ولنا مع هذه الحديث وقفات:
أ - خباب - رضي الله عنه - لم يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أمراً
محرماً ولا مستحيلاً، بل طلب دعاءً واستنصاراً جرَّاء ما يلاقيه هو وبعض
الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - من أذى كفار قريش، ومع هذا نرى أن النبي
صلى الله عليه وسلم يغضب ويحمر وجهه، فلماذا غضب النبي صلى الله عليه
وسلم؟ الذي يظهر، والله تعالى أعلم، أن غضبه صلى الله عليه وسلم كان بسبب
ما لَمسه من نوع استعجال من خباب ومن معه - رضي الله تعالى عنهم - لنصر
الله تعالى أولاً؛ بدلالة قوله في آخر الحديث: «ولكنكم تستعجلون» ، ومن
الاعتماد على الخوارق التي تحصل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك
ثانياً.
ب - نلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم نقل خباب ومن معه - رضي الله
تعالى عنهم - من الوضع الذي يعيشونه تحت التعذيب والاضطهاد إلى وضع لا يُعد
شيئاً بالنسبة لما يلاقونه، حيث إن الواحد ممن كان قبلنا يُمشط بأمشاط الحديد ما
بين لحمه وعظمه لا يرده ذلك عن دينه، ويوضع في حفرة ثم يُنشر بالمنشار لا
يرده ذلك عن دينه.
وينقله نقلة أخرى، وهي انتصار هذا الدين، حتى يسير الراكب من صنعاءَ
إلى حضرموت وبينهما مسافة بعيدة لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه؛ ولكن
الأمر يحتاج إلى صبر وعمل، ولا شك أن طريق النصر والتمكين ليس مفروشاً
بالورود والرياحين.
- هَبْ أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على كفار قريش فهلكوا، وجاء
النصر سهلاً يسيراً لم يُبذل في الوصول إليه ما يستحقه ذلك النصر والتمكين! فإنه
سرعان ما يزول ويذهب، وحري بنصر يأتي بهذه السهولة واليسر وبخرق العادة
أن لا يُقدَّر حق قدره، ولا يُحافظ عليه، ولك أخي القارئ الكريم أن تتأمل قصة
بني إسرائيل وما حققه الله تعالى لهم من نصر عظيم، وهو هلاك ذلك الطاغية
الذي كان يسومهم سوء العذاب، كما قال تعالى: [إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ
وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ
المُفْسِدِينَ] (القصص: 4) ، ففلق الله تعالى لهم البحر وجعله فلقتين، كل فلقة
كالطود العظيم: [فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ البَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ
فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ] (الشعراء: 63) ، ونجَّى الله تعالى موسى ومن آمن معه،
وجعل لهم في البحر طريقاً يبساً يمشون عليه لا يخافون من أحد يتبعهم: [وَلَقَدْ
أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي البَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً
وَلاَ تَخْشَى] (طه: 77) ، وبعد أن خرجوا سالمين ناجين أهلك الله تعالى فرعون
وجنوده وهم ينظرون: [وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ البَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً
وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ
وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ] (يونس: 90) ، وبعد هذه المعجزة العظيمة، وهذا النصر
المبين، وقبل أن تجف أرجلهم من ماء البحر الذي كان طريقاً لنجاتهم، ومقبرة
لعدوهم، قالوا لموسى - عليه الصلاة والسلام - نبيهم: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة،
[وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ البَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا
مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ] (الأعراف: 138) ،
فانظر إلى عدم تقديرهم لذلك النصر العظيم، حتى طلبوا أن يأذن لهم موسى
- عليه الصلاة والسلام - بالشرك!
ثانياً: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل الطائف ليبلغ دين الله تعالى،
وعندما وصل إليهم قابلوه برفض الدعوة وأغروا به سفهاءهم، فأخذوا يرجمونه
بالحجارة حتى خرج مهموماً مغموماً، ولم يستفق صلى الله عليه وسلم إلا وهو بقرن
الثعالب، فقد سألته عائشة - رضي الله عنها -: «هل أتى عليك يوم كان أشد من
يوم أحد؟ قال: لقد لقيتُ من قومك، وكان أشدَّ ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ
عرضت نفسي على عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت،
وأنا مهموم، على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا
بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول
قومك لك وما ردُّوا عليك، وقد بعث الله إليك مَلك الجبال لِتأْمُرَهُ بما شئت فيهم،
فناداني مَلك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت
أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يُخرج الله
من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً» [3] .
فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش أسيراً لتلك اللحظة، واستغرق فيها؛
لطلب من مَلك الجبال وهو بين يديه أن يطبق عليهم الأخشبين، ولكنه صلى الله
عليه وسلم ضرب لنا بهذا أروع الأمثلة في الصبر والتفاؤل، وحذرنا من اليأس،
وفتح لنا أملاً مشرقاً، وصدق الشاعر عندما قال:
أعلِّل النفس بالآمال أرقبها ... ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
ثالثاً: في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق - رضي الله
عنه - وخروجهما من مكة إلى المدينة، بلغ ذلك كفار قريش، فجعلوا جائزةً لمن
يأتي به أو يدل عليه مائة من الإبل، وقدَّر الله تعالى أن يتبعه سراقة بن مالك وأن
يعرف طريقه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «كيف بك إذا لبست سواري
كسرى!» . يقول النبي صلى الله عليه وسلم هذا وهو خارجٌ من مكة مطاردٌ من
كفار قريش!!
ويَعِد سراقة بن مالك بسقوط مملكة من أعظم الممالك آنذاك وهي مثل أمريكا
في عصرنا الحاضر، فيقول له سراقة - رضي الله عنه -: كسرى بن هرمز!!
نعم كسرى بن هرمز الذي ربما لم يكن يخطر ببال سراقة - رضي الله عنه - أن
يراه فضلاً عن أن يلبس أسورته.
رابعاً: ما حصل في غزوة الأحزاب، ولعله أقرب مَثل ينطبق على أمتنا في
هذا العصر، عندما تحزب الكفار على المسلمين وأحاطوا بهم إحاطة السوار
بالمعصم، قاصدين قتل النبي صلى الله عليه وسلم واستئصال شأفة الإسلام
والمسلمين، وقد صوَّر القرآن حال أولئك الأحزاب، فقال تعالى: [إِذْ جَاءُوكُم مِّن
فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ
الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً] (الأحزاب: 10-11) ،
في هذا الظرف العصيب الرهيب الذي زاغت فيه الأبصار وبلغت القلوب فيه
الحناجر؛ نرى النبي صلى الله عليه وسلم يربّي أصحابه على الثقة بموعود الله،
وعلى التفاؤل، وعدم اليأس والاستكانة للكافرين والمنافقين والمتربصين بهم
الدوائر، ففي أثناء حفر الخندق تعترض الصحابةَ - رضي الله تعالى عنهم -
كديةٌ (صخرة) ، قال البراء بن عازب - رضي الله عنه -: «أمرنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق. قال: وعَرَضَ لنا صخرةٌ في مكان من
الخندق لا تأخذ فيها المعاول. قال: فَشَكوْها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عوف بن أبي جميلة: وأحسبه قال:
وضع ثوبه، ثم هبط إلى الصخرة، فأخذ المِعْوَلَ، فقال:» بسم الله «. فضرب
ضربة، فكسر ثُلُثَ الحجر، وقال:» الله أكبر، أُعطيتُ مفاتيح الشام، والله!
إني لأبصر قصورها الحمرَ من مكاني هذا «. ثم قال:» بسم الله «وضرب
أُخرى، فكسر ثُلُثَ الحجر، فقال:» الله أكبر، أُعطيت مفاتيح فارس، والله! إني
لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا «. ثم قال:» بسم
الله «وضرب ضربة أُخرى، فقلع بقية الحجر، فقال:» الله أكبر، أُعطيت
مفاتيح اليمن، والله! إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا « [4] .
فانظر كيف نقل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه - رضي الله تعالى
عنهم - من ذلك الوضع الشديد، والكرب العظيم، إلى وضع أوسع منه، ومجالٍ
أرحب منه، فأي درس أعظم في التفاؤل من هذا الدرس، وأي درس أعظم في
الثقة بموعود الله ونصره من هذا الدرس؟!
وفي قصة الخندق لما اشتد البلاء على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛
نافق بعض الناس وتكلموا بكلام قبيح، وجاءه صلى الله عليه وسلم خبر نقض بني
قريظة للعهد، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الناس فيه من كرب
وبلاء؛ جعل يبشرهم صلى الله عليه وسلم محاولاً أن يقلب هذه المحنة وهذا الكرب
إلى نصر، فقال صلى الله عليه وسلم:» والذي نفسي بيده! ليفرجن عنكم ما
ترون من الشدة والبلاء، فإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمناً!! ... وليهلكن
الله كسرى وقيصر، ولتُنفقن كنوزهما في سبيل الله «، فقال رجل ممن معه
لأصحابه: ألا تعجبون من محمد! يعدنا أن نطوف بالبيت العتيق، وأن نغنم كنوز
فارس والروم، ونحن هنا لا يأمن أحدنا أن يذهب إلى الغائط، والله! لمَا يعدنا إلا
غروراً..» .
فالمؤمنون الصادقون صدَّقوا بهذه البشارة لما في قلوبهم من الإيمان، وقالوا:
[هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً]
(الأحزاب: 22) ، أما المنافقون فقالوا: [مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً]
(الأحزاب: 12) .
وأخيراً لعلي أذكر بعض الإيجابيات التي جنيناها من تلك الحرب التي قادتها
أمريكا وبريطانيا وحلفاؤهما، والتي عشنا حرها وقرها، فمن تلك الإيجابيات:
أولاً: استشعار الأمة الإسلامية بالجسد الواحد، وغياب وتلاشي العصبيات
المقيتة، والنعرات القبلية المذمومة، وأنها أي الأمة الإسلامية جميعاً في خندق
واحد، وأن هذه الحرب الصليبية بقيادة أمريكا ليست حرباً على أسلحة دمار شامل
كما يزعمون؛ بقدر ما هي حرب على الإسلام والمسلمين، وظهر هذا جلياً كما
صرح به الرئيس الأمريكي عقب أحداث 11سبتمبر!! عندما قال هذه «حرب
صليبية» ، وهذا مصداق قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن
دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي
صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ] (آل عمران: 118) .
ثانياً: سقوط كل الشعارات التي صكت بها أمريكا أسماعنا؛ من حرية،
وديمقراطية، وعدالة، و ... ،... إلخ، كما سقطت معها كل العهود والمواثيق
الدولية بلا استثناء، وكذلك سقطت الشرعية الدولية والقانون الدولي، وكان أول
المسقطين لها أمريكا بمعول صلفها وغطرستها وكبرها.
ثالثاً: سقوط النموذج الغربي المتمثل في بلاد الحرية والديمقراطية والمساواة
أمريكا كما يزعمون!! الذي كان ينادي به المنافقون العلمانيون من بني جلدتنا؛
لنحذو حذوه، وهذا النموذج عند العارفين به لم يقم قياماً صحيحاً في أول نشأته
حتى يسقط، ولكنه بعد أحداث 11سبتمبر ظهر سقوطه للقاصي والداني.
رابعاً: سقوط أمريكا أخلاقياً، ودولياً، بسبب حربها على العراق، حيث
ضربت بالأمم المتحدة وقراراتها عُرض الحائط، كما ضربت بكل الاتفاقات التي
كانت هي نفسها إحدى الدول الموقعة عليها عُرض الحائط أيضاً؛ لأنها لم تعد تسير
في صالحها أو تعارضت مع مصالحها؛ لأن أمريكا همها الأول مصلحتها أولاً
وآخراً ولو كان ذلك على حساب العالم كله، كما هو الحال في هذه المرحلة مرحلة
العولمة التي هي الأمركة، حيث تريد أن تفرض قيمها وأعرافها وكل ما تستطيع
فرضه على العالم كله، فتصبح هي المهيمنة وحدها.
خامساً: ظهر جلياً خطر المنافقين الذين هم العدو، كما قال تعالى: [هُمُ
العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُون] (المنافقون: 4) ، ويكفي أن الله تعالى
أنزل في شأن هؤلاء أكثر من ثلاثمائة آية في كتابه العزيز، تحذر منهم، ومن
فعالهم، ومن السماع إليهم، ... إلخ، فضلاً عن سورة في القرآن العظيم سميت
باسمهم، وأستطيع أن أجزم بأن كل الحروب التي شنتها أمريكا على الإسلام
والمسلمين لو لم تجد من المنافقين من يمهد لها الطريق، ويفتح لها الأبواب أمامها،
ويسهل طريقها، ويقومون بالحرب وكالةً عنها في بعض الأحيان؛ لما استطاعت
أن تحقق نصراً؛ لأنهم أقل وأحقر من ذلك، فالمسلمون إلى الآن لم يخوضوا حرباً
مع أمريكا وجهاً لوجه.
سادساً: خذلان من توكل على غير الله تعالى، وأن الله سبحانه يكله إلى
نفسه وإلى من توكل عليه، هذا فضلاً عن أن من توكل عليه سيعود عليه، فيكون
حاله كحال الثور الأسود عندما قال: أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض!
فأمريكا بعد أن قضت مأربها من أفغانستان والعراق عادت على بعض الدول
بالتهديد والوعيد، فأرغت وأزبدت عليهم، وأصبحت تطالب بعضهم بتغيير
مناهجهم والتخلي عن خصوصياتهم، كما تطالب بعضهم بأن يُشهروا الحرب على
الإسلام ويحاربوا المنظمات الإسلامية ويضايقوها ويسدوا الطرق أمامها، وهذا
مصداق قوله تعالى: [وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزاًّ * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ
بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِداًّ] (مريم: 81-82) .
سابعاً: سقوط القناع عن ذلك الوجه القبيح للرافضة الذين هم دائماً مع كل
عدو على الإسلام والمسلمين، وهل نسي المسلمون ما فعله ابن العلقمي الرافضي
الخبيث عندما سقطت بغداد على يد التتار!! فلعل هذا يدفعنا لأن نقتنع بخطر أولئك
القوم، وماذا عسى (دعاة التقارب) أن يعللوا دورهم المشبوه هذا؟!
ثامناً: سقوط حزب البعث، والذي حكم العراق لأكثر من ثلاث وثلاثين سنة،
ولم يكن أحد يصدق أنه سيسقط قريباً أو بهذه السرعة.
تاسعاً: ظهور صدق الدعاة والعلماء والمصلحين والغيورين في تحذير أمتهم
المسلمة من كيد اليهود والنصارى والملحدين، وعدم اتخاذهم أولياء؛ لأن بعضهم
كما قال تعالى: [بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي
القَوْمَ الظَّالِمِينَ] (المائدة: 51) . وأن حربهم هذه ليست إلا على الإسلام
والمسلمين، وأن لا تغتر الأمة الإسلامية بمعسول كلامهم، ولطف عباراتهم،
وصَدَقَ الشاعر عندما قال:
إن الأفاعي وإن لانت ملامسها ... عند التقلب في أنيابها العطب
ولعل الأمة الإسلامية تأخذ درساً جيداً من هذه الأحداث، وتصغي لما يقوله
العلماء والدعاة من تحذير لها من أعداء الله، وتفتح آذانها لهم، فهم والله الذي لا إله
غيره! صمام الأمن لها.
وأخيراً: إن المتفائلين والواثقين بنصر الله تعالى لدينه وأوليائه هم وحدهم
الذين يستطيعون بإذن الله تعالى صياغة التاريخ، وإعادة أمجاد هذه الأمة التليدة،
وهم وحدهم الذين يستطيعون البقاء ومواجهة الأحداث العصيبة المتلاحقة
والمتلاطمة، أما من سواهم فهم بين طرفين؛ طرفٍ لا يرى إلا بعين السيئات
فيموت كمداً وقهراً، وآخر لا يرى إلا بعين الحسنات فيغرق وهماً وضياعاً،
والواجب أن يسير المسلم بكلتي عينيه.
وكم نحن بحاجة إلى مثل هذا المنهج الذي يفتح لنا مجالاً واسعاً في تعاملنا مع
الأحداث، نستطيع من خلاله مواجهة عدو - اليهود والنصارى (أمريكا) - هو
في الحقيقة من أشرس أعدائنا، وقد رأينا كيف كشر عن أنيابه في حربه علينا،
ولئن كان غير اليهود والنصارى أعداء ساعة لنا، فاليهود والنصارى (أمريكا)
أعداؤنا إلى قيام الساعة بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: «لا
تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق، أو بدابق - موضعان بالشام قرب حلب -،
فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافُّوا قالت
الروم: خلوا بيننا وبين الذين سُبوا منا نقاتلهم. فيقول المسلمون: لا، والله! لا
نخلي بينكم وبين إخواننا. فيقاتلونهم، فينهزم ثُلُثٌ لا يتوب الله عليهم أبداً، ويُقتل
ثُلُثُهم أفضل الشهداء عند الله، ويَفتتح الثلثُ لا يُفتنون أبداً....» [5] .
وعن عوف بن مالك - رضي الله عنه - قال: «أتيت النبي صلى الله عليه
وسلم في غزوة تبوك - وهو في قبة من أدم - فقال: اعدد ستاً بين يدي الساعة:
موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال
حتى يُعطى الرجل مائة دينار فيظلُّ ساخطاً، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا
دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانينَ
غايةً، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً» [6] .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«لا تقوم الساعة حتى يُقاتل المسلمون اليهود، فيقتُلُهم المسلمون، حتى يختبئ
اليهوديُّ من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله،
هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله. إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود» [7] .
وبناءً على ما سبق؛ فالذين يحاولون إبرام صداقات مع اليهود والنصارى في
ظل سلام دائم؛ فإنهم يطلبون مستحيلاً، ويلهثون خلف سراب بقيعة يحسبه الظمآن
ماءً، فضلاً عن أنه تقف أمامهم عقبة كؤود لا يستطيعون اقتحامها إلا إذا تخلوا عن
إسلامهم ودينهم، وهذه العقبة الكؤود نصَّان قطعيان؛ يقرر في أحدهما المولى
- عز في علاه - أن اليهود والنصارى أهل الكتاب عموماً مستمرين في قتالنا
حتى يردونا على أعقابنا كافرين، قال تعالى: [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ
عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ
حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]
(البقرة: 217) .
والنص الآخر يبين فيه المولى - عز في علاه - أن أهل الكتاب لن يرضوا
عنا نحن المسلمين حتى نتهوَّد أو نتنصر، قال تعالى: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ
وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم] (البقرة: 120) .
ولا أدري متى يقتنع المسلمون بأن شرفنا وعزنا - أمة الإسلام - في التمسك
بديننا، والمحافظة على ثوابتنا، وخصائصنا، ومهما ابتغينا العزة في غير الإسلام
أذلنا الله، ولعل في هذه الأحداث التي نعيش فصولها أكبر دليل على ذلك، ولعلها
توقظ نائمنا، وتنبه غافلنا، وتعلّم جاهلنا، وتردّ شاردنا، لنرجع إلى كتاب ربنا
وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ومنهج سلفنا؛ لنستعيد شيئاً من مجدنا وعزنا، والله
تعالى غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.