مجله البيان (صفحة 4870)

دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب - حقائق وأوهام

قضايا دعوية

دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب

حقائق وأوهام

د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف [*]

شغب بعضهم على شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري - رحمه الله -

فاتهموه بالرفض والإلحاد، فقال بعض العلماء حينئذٍ: «والله! لو سُئل هؤلاء عن

الرفض والإلحاد ما عرفوه ولا فهموه!» .

والتاريخ يعيد نفسه، فإن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -

وأتباعه يُتهمون في هذه الأيام بالتكفير وإراقة الدماء؛ من قبل علمانيين منافقين

ومن تبعهم بسوء من تنويرين ومنهزمين، مع أن في أولئك القوم من لم يفقه الإيمان

فضلاً عن أن يعرف الكفر والتكفير وشروطه وموانعه، فهم أحوج ما يكونون إلى

الاستتابة والدخول في دين الله تعالى، وتعلم الأصول الثلاثة التي يُسئل عنها كل

مكلف في قبره ويوم بعثه ونشره.

وقد استغل كثير من هؤلاء القوم الحملة الأمريكية على الإسلام وأهله تحت

ستار الحملة على (الوهابية!) ، وراحوا يثيرون الشبهات، ولا يتوخون

الموضوعية والأمانة العلمية فيما يقولون.

ومنذ أن أشرقت شمس هذه الدعوة على جزيرة العرب، وصار لها من القبول

والظهور ما لها، وخصوم هذه الدعوة يحيكون المؤامرات، ويثيرون الشبهات

والاعتراضات.

وتتضمن هذه المقالة عدة حقائق عن هذه الدعوة، مع جملة من الأوهام

والإشكالات المثارة ضدها والجواب عنها:

- تميزت هذه الدعوة بالالتزام بمنهج راسخ وعقيدة ثابتة وأهداف جلية،

كالتلقي من نصوص الكتاب والسنة الصحيحة، ووجوب صرف جميع أنواع العبادة

لله تعالى وحده، والتحذير من الشرك ووسائله وذرائعه، فكثيراً ما كان الشيخ الإمام

محمد بن عبد الوهاب يقرر أن الله تعالى هو المعبود المقصود، فلا يُقصد إلا الله

تعالى، وأن الحنيفية ملة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - هي الإقبال على الله

تعالى والإعراض عما سواه، وظهر أثر هذه التربية والتقرير من خلال مواقف

عملية سطّرها المؤرخون كابن بشر وغيره، ومن ذلك أن «امرأة أتت إلى الشيخ

واعترفت عنده بالزنا بعدما ثبت عنده أنها محصنة، وتكرر منها الإقرار، واستخبر

عن عقلها فإذا هي صحيحة العقل، فقال: لعلك مغصوبة؟ فأقرت واعترفت بما

يوجب الرجم، فأمر بها فرُجمت» [1] .

إن التعلق بالله تعالى وخشيته عز وجل في السر والعلن جعل تلك المرأة تُقْدم

بكل طواعية على الاعتراف بفعلتها، وترغب في تطهيرها بتلك العقوبة الموجعة

خوفاً من الله تعالى ورغبة فيما عنده سبحانه.

يقول الأستاذ محمد جلال كشك معلقاً على تلك الحادثة: «فهذه المرأة التي

جاءت تتوب، أو تستشهد، بأقسى عقوبة فُرضت على الإنسان، تعكس حالة الوجد

الاستشهادي التي أطلقها محمد بن عبد الوهاب في البدو، والتي تفسر فتوحاتهم،

فحكاية المرأة الخاطئة هي مؤشر لإيمان الرجل المتطهر الذي صنعته دعوة الشيخ،

فانطلق يطوي الصحراء لإعادة الناس إلى الدين الحق، فلا يجوز أن تقف العين

العاجزة عند قسوة العقوبة، فالشيخ اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم استخدم

معها كل الدفوع لوقف التنفيذ، أو دفعها إلى سحب اعترافها، ولكن جذوة الإيمان

التي أطلقها في نفس الخاطئة؛ كانت أقوى حتى من رحمته الإسلامية» [2] .

وقد أثار بعضهم آنذاك شبهة أن الشيخ أقام الحدود بدون إذن الإمام، فكان من

جوابه - رحمه الله - عن تلك الشبهة: «لا يُعرف أن أحداً من العلماء ذكر أن

شيئاً من الأحكام لا يصح إلا بالإمام الأعظم.. ولكن أعداء الله يجعلون هذه الشبهة

حجة في ردّ ما لا يقدرون على جحده، كما أني لما أمرتُ برجم الزانية قالوا لا بد

من إذن الإمام، فإن صح كلامهم لم تصح ولايتهم القضاء ولا الإمامة ولا غيرها»

[3] .

- لما أظهر الشيخ دين الله تعالى، وحقق التوحيد في نفسه وأتباعه في جزيرة

العرب، وأقام شرع الله تعالى؛ استتب الأمن؛ وتحقق الاستقرار، وعم الرخاء،

وكثرت الخيرات.

وسيتضح للقارئ البون الشاسع بين حال الجزيرة العربية أمنياً واقتصادياً قبيل

ظهور الدعوة وبعدها من خلال أحداث واقعية، وهاك مثالاً عمّا قبل ظهور الدعوة،

ففي قرية صغيرة في نجد تُسمّى «التويم» عَمَد أحدهم إلى قتل أميرها وكان ابن

عمه، وما أن صار القاتل أميراً حتى قُتِل، ثم ولي الإمارة شخص ثالث فغُدِر به،

ثم وليها رابع فتمالأ عليه رجال فقتلوه، ثم تنازع «القَتَلة» في الإمارة، فقسّموا

تلك القرية الصغيرة أربعاً، وصار كل واحد أميراً على ربعها، وكلّ هذه الوقائع

حدثت في سنة واحدة.

قال المؤرخ ابن بشر معلِّقاً على تلك الحادثة: «وإنما ذكرتُ هذه الحكاية

ليعرف من وقع عليها وعلى غيرها من السوابق نعمة الإسلام والجماعة والسمع

والطاعة، ولا تُعرف الأشياء إلا بأضدادها، فإن هذه قرية ضعيفة الرجال والمال،

وصار فيها أربعة رجال كل واحد منهم يدعي الولاية على ما هو فيه!» [4] .

وأما بعد ظهور الدعوة؛ فقد كانت البلاد آمنة مطمئنة، «والشخص الواحد

يسافر بالأموال العظيمة أيّ وقت شاء، في نجد والحجاز واليمن وتهامة وعُمان

وغير ذلك، لا يخشى أحداً إلا الله، لا سارق ولا مكابر.. وكانت جميع بلدان نجد

في أيام الربيع يُسيّبون جميع مواشيهم في البراري ليس لها راع» [5] .

وقد تحدث ابن بشر عن الرخاء الاقتصادي في الدرعية مبعث الدعوة

الإصلاحية فقال: «لقد نظرتُ إلى موسمها يوماً وأنا في مكان مرتفع، فرأيت

موسم الرجال في جانب، وموسم النساء في جانب، وما فيه من الذهب والفضة

والسلاح والإبل والأغنام، وكثرة ما يتعاطونه من صفقة البيع والشراء والأخذ

والعطاء، وغير ذلك، وهو مدّ البصر، لا تسمع فيه إلا دوي النحل من النجناج

[6] ، وقول بعت واشتريت. والدكاكين على جانبيه الشرقي والغربي، وفيها من

الهُدم [7] والقماش والسلاح ما لا يوصف» [8] .

من الآثار المشرقة لهذه الدعوة المباركة ما أورثته من تسطير لتاريخ موطنها

وتدوين الحوادث والوقائع فيها كما هو ظاهر في تاريخ ابن غنام وابن بشر

ونحوهما، فلقد ظلت نجد نسياً منسياً طوال القرون الماضية، ولم يحفظ لنا التاريخ

عن تلك الحقبة المظلمة سوى نتف مبعثرة كما هو مذكور في سوابق ابن بشر،

ولعل الأمر كما قال ابن عقيل الحنبلي - رحمه الله -: «لما كان البلد مملوءاً

بالأخيار قيض الله لها من يحكيها، فلما عُدموا وبقي المؤذي والذميم العقل؛ أعدم

المؤرخ، وكان هذا ستر عورة» [9] .

ومن جملة تلك الآثار العلمية ما سطّره علماء الدعوة من رسائل وفتاوى

وتقريرات جُمعت في (مجموعة الرسائل والمسائل النجدية) ، وفي (الدرر السَّنية

في الأجوبة النجدية) ، فلقد حوت هذه الرسائل تراثاً نفيساً في مسائل الاعتقاد ولا

سيما توحيد العبادة وما يضاده وأحكام العبادات والمعاملات، وأحكام الجهاد،

والمرتد، والتفسير، والردود.

وانظر إلى هذا التراث المتميّز وما جمعه ابن منقور في كتابه (الفواكه العديدة

في المسائل المفيدة) لعلماء نجد قبيل الدعوة، فلا مقارنة بين الأمرين، فمجموع

ابن منقور مجرد جزأين في فتاوى ومسائل في فروع مذهب الإمام أحمد، بينما

تميزت الدرر بثراء في التأليف، وتنوّع العلوم الشرعية، وقوة الدليل، وصحة

الاستدلال، وتنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع والأحداث.

يقول الشيخ عبد الله البسام - رحمه الله -: «منذ عرفنا علماء نجد حتى قيام

الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -؛ فإن علمهم يكاد ينحصر في الفقه أي

في المسائل الفروعية الفقهية.. فعلم التفسير والحديث والتوحيد مشاركتهم فيها قليلة

جداً. فلما انتشرت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب تغيّر هذا الاتجاه وتنوعت

الثقافة وتعددت العلوم، فصارت العناية بالتوحيد لا سيما توحيد الألوهية، وصار

الاهتمام بكتب التفسير السلفية كابن جرير وابن كثير والبغوي ونحوها، وصار

الالتفات إلى الحديث وأمهات كتبه وشروحه، كما دُرّست أصول هذه العلوم وصار

الاهتمام بالفقه، وموضوع الدرس منه هو فقه الإمام أحمد بن حنبل مع الأخذ بالقول

الراجح الذي يعضده الدليل.

وإذا أردت المقارنة بين العهدين بتحقيق المسائل العلمية؛ فقارن بين فتاوى

علماء نجد التي نقل بعضها الشيخ أحمد المنقور في مجموعه، وبين فتاويهم التي

جُمعت في الدرر السَّنية؛ لترى أنهم في الأول يقتصرون على المشهور من المذهب،

ويحاولون تطبيق ما يفتون به على ما قاله فقهاء الحنابلة، عارية عن سوق الأدلة

من الكتاب والسنة.

أما في الدرر السَّنية فترى الفتاوى مستقاة من مذهب أحمد - رحمه الله - إلا

أنها مقرونة بأدلتها الشرعية، كما تجد أنها قد تخالف المشهور من المذهب حينما

يكون الدليل الصحيح خلاف المذهب.

وتجد بجانب الفتاوى الفقهية بعد قيام الدعوة علوم الشريعة الأخرى، فهذا علم

التوحيد الذي قامت الدعوة لتحقيقه، وهو الذي نال القسط الأوفر من العناية

والتحقيق، والتأليف، وكتابة الرسائل، والنصائح، لا سيما فيما يتعلق بتوحيد

العبادة، كذلك نجد الكتابة في التفسير والحديث. والقصد أنه تغير اتجاه الثقافة بين

العهد الأول والعهد الثاني، حيث تحررت الأفكار، واتسعت المدارك، وتعددت

جوانب العلوم» [10] .

وقد ادعى بعضهم أن في (الدرر السَّنية) غلواً وإفراطاً، وتكفيراً للمخالفين،

وتعطشاً للدماء، وهذه مجرد أوهام وظنون، وسبب ذلك الوهم جملة أمور منها:

1 - أن أولئك القوم لم ينظروا إلى الملابسات والظروف التي حُررت فيها

تلك الرسائل، فليس من الموضوعية أن يُجتزأ نص من الدرر السَّنية دون نظر إلى

سياقه ومناسبة تأليفه.

2 - أن الناظر إلى تقريرات وأجوبة أولئك الأعلام لَيدرك التزامهم بطريقة

أهل السنة، وبراءتهم من تكفير من لا يستحق التكفير، وإن كان ثمة إشكال؛ فإنما

هو في تحقيق المناط (التطبيقات) ، وتنزيل الأسماء والأحكام كالكفر مثلاً على

الدور والأشخاص، وهذا الاختلاف في تحقيق المناط واقع ووارد، فقد اختلف

السلف الأوائل في تكفير الخوارج مع ورود النصوص بمروقهم من الدين، ومع

ذلك فجمهور الصحابة - رضي الله عنهم - لا يرون تكفير الخوارج، لكنهم لم

يتهموا مخالفيهم القائلين بتكفير الخوارج بالتطرف والغلو!

3 - لم يقتصر علماء الدعوة على تحرير المسائل وتحقيقها، بل عمدوا إلى

تنزيل الأحكام الشرعية الملائمة على الوقائع والأحداث، فمثلاً عندما يحررون

مسائل الولاء والبراء يُتبعون ذلك بسلوك وتطبيق ومواقف عملية تجاه طوائف

ودول وأشخاص، كما هو مبسوط في مؤلفاتهم، لكن حصل في هذا الزمان الأخير

الاشتغال بالتنظير لتلك المسائل والتنصل من تطبيقها لجملة من المسوغات التي

ليس هذا موضع بحثها، فهؤلاء الغارقون في التنظير تعتريهم الدهشة عندما

يطالعون تراث علماء الدعوة وما تحويه من أحكام على واقعهم آنذاك، وربما أنكروا

على أئمة الدعوة كما هو حاصل الآن.

وها هو العلامة عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - والمعروف بعمق علمه،

وبرحابة صدره وسعة أُفقه حتى عند أولئك «الإصلاحيين» ؛ يقرر حسب فتاويه

معنى دار الكفر، ثم ينزِّل هذا الحكم على دول عربية كانت محكومة آنذاك

بالاستعمار البريطاني [11] .

4 - ينبغي أن يراعى أن أولئك الأعلام - رحمهم الله - عندما يحكمون بكفر

أشخاص وطوائف ومن خلال منظور شرعي؛ كانوا في ظل ولاية شرعية وزمن

قوة وغلبة شوكة، ومن ثم نجد أن الأمر ظاهر عندهم، فمن استبان كفره أقيمت

عليه الحجة واستتيب فإن تاب وإلا قتل؛ بخلاف زمن الضعف وبداية الدعوة،

حيث كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - في ابتداء دعوته إذا سمعهم

يدعون زيد بن الخطاب قال: «الله خير من زيد، تمريناً على نفي الشرك بلين

الكلام، نظراً إلى المصلحة وعدم النفرة» [12] ؛ بخلاف لما ظهرت الدعوة وقامت

الدولة.

ونلاحظ في الطرف المقابل لتلك القوة والعزة ما هو مشاهد في عصرنا من

هيمنة وتسلط أمريكا، وغياب الولاية الشرعية في أكثر الأمصار، وخور أهل

الإسلام، واستجابة كثير منهم لضغوط ومطالب أمريكا؛ مما جعل أولئك

المستسلمين ينفرون من هذه الدعوة التي تصادم ضعفهم واستكانتهم.

5 - لا يخفى أن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ذات نَفَس جهادي،

والناظر إلى كتاب الجهاد من (الدرر السَّنية) يلاحظ فتاوى مهمة وتقريرات علمية

في أحكام الجهاد ونوازله، كما يدرك ما حفل به تاريخ الدعوة من معارك

وغزوات.

لقد ذاقت بريطانيا في أوج تسلطها ضربات موجعة في بحر الخليج العربي

من أتباع الدعوة أو من تسميهم بـ «القراصنة الوهابيين» ، كما أن الحركات

الجهادية المعاصرة التي أقضّت مضاجع الغرب، ودوّخت الشرق تعدّ امتداداً لهذه

الروح الجهادية.

وقد غَلَب على معشر أهل الإسلام الركون إلى الدنيا وكراهية الموت، وإن

اضطر بعضهم إلى الحديث عن الجهاد؛ فيكون بانقباض شديد واختزال مخل، مع

تكلف في إيراد الشروط والقيود.. ومن ثم حصلتْ النفرة بين جملة من العلماء

والدعاة وبين أهل الجهاد.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «وسنام ذلك الجهاد في سبيل

الله، فإنه أعلى ما يحبه الله ورسوله، واللائمون عليه كثير؛ إذ كثير من الناس

الذين فيهم إيمان يكرهونه، وهم إما مخذِّلون مفتِّرون للهمة والإرادة فيه، وإما

مرجفون مضعِّفون للقوة والقدرة عليه، وإن كان ذلك من النفاق» [13] .

إن من يسعى إلى إسلام «وديع» يُرضي الأمريكان، ولا يسخط الرحمن؛

كمن يسعى إلى الجمع بين النقيضين، بين الحق والباطل.

أيها المنكح الثريا سهيلاً ... عمرك الله! كيف يلتقيانِ؟!

هي شامية إذا ما استقلت و ... سهيلٌ إذا استقل يمانِ

استطاع الشيخ محمد بن عبد الوهاب مع الإمام محمد بن سعود وابنه الإمام

عبد العزيز - رحمهم الله - أن يقيموا دولة إسلامية في جزيرة العرب، تُحكِّم شرع

الله تعالى، وتنشر العلم، وتقيم الحدود، وتحقق الأمن، وتُظهر الجهاد في سبيل

الله تعالى، وتجبي الأموال عن طريق الزكاة والغنائم ونحوهما.

يقول محمد جلال كشك: «إذا كان محمد بن عبد الوهاب من ناحية العقيدة

ليس بمبتدع، فهو من الناحية السياسية مجدد ومبدع، لقد استطاع أن يوقف حركة

التاريخ، ويلوي عنق الأحداث التي كانت تدفع العالم الإسلامي دفعاً إلى التغريب،

فمع الهزيمة الشاملة التي أصابت العالم الإسلامي أمام الغزو الأوروبي؛ كان الظن

أو اتجاه الأحداث هو خضوع العالم الإسلامي للقانون الحضاري العام، وهو فناء

المهزوم بالاندماج في حضارة المنتصر» [14] .

وإذا تقرر أن هذه الدعوة المباركة سبب في وجود الدولة السعودية الأولى؛

أفيسوغ ما تفوّه به بعضهم بأن المذهب الوهابي سبب سقوط الدولة السعودية الأولى؟

أفيصح أن يكون سبب وجودها هو سبب عدمها؟ اللهم إلا أن يكون مقصودهم أن

تمسُّك هذه الدولة بالدين الصحيح، وقيامها بشعيرة الجهاد تجاه البريطانيين؛ كان

سبباً في تسلط أولئك الصليبيين وأذنابهم (محمد علي باشا، وابنه طوسون،

وإبراهيم) ، فهل يريد أولئك التفلت من دين الله تعالى من أجل السلامة من الغرب

وعملائه؟!

لقد اتُّخذ القرار بتدمير الدولة السعودية الأولى حماية للمصالح البريطانية،

حيث أصبحت الحملات الجهادية في بحر الخليج العربي خطراً مباشراً على

بريطانيا، فلقد أقلقت بريطانيا تلك القوة البحرية ذات الأسطول الهائل، «بل

أرهبتها، وأشدّ جوانبها خطورة هو أنها ترفع لواء الإسلام، فأي حرب مكشوفة

ستكون بدون شك طويلة ومريرة، ولن تكون ناجحة إلا إذا قضي على الأصل، أي

على الدولة السعودية في قلب الجزيرة العربية، وإذا أقدمت بريطانيا على هذه

الحرب فإنها ستكون مغامرة محفوفة بالمخاطر طويلة الأمد، قد تتحول بفعل تفاعل

الظروف والأحداث إلى حرب صليبية» [15] .

ولذا تم تسخير العملاء المستغربين (محمد علي باشا، وابنه طوسون،

وإبراهيم) لسحق هذه الدولة المتميزة، وقتل حكامها وعلمائها، فمنهم من قُتل

صبراً بالبنادق، ومنهم من جُعل في فوهة المدفع، ثم رمي حتى سقط في الجو

قطعاً، ومنهم من كانت تُخلع جميع أسنانه قبل قتله كما هو مبسوط في تاريخ

الجبرتي وابن بشر! فأي الفريقين أحق بالإفساد وسفك الدماء؟! وكما قال المؤرخ

محمد البّسام في كتابه (الدرر المفاخر في أخبار العرب الأواخر) : «ولا والله

تغلب عليهم صاحب مصر عن ضعف منهم أو جبن، بل خيانة من العربان،

ورضا من ساكني البلدان» .

«ثم تَوَّج إبراهيم باشا هذه الأعمال، وهو رسول الحضارة الغربية بهدم

مدينة الدرعية التي سلّم الإمام عبد الرحمن بن سعود نفسه بشرط الإبقاء عليها،

وتركها أطلالاً ما زالت تقوم شاهداً حياً على عِظَم الجريمة النكراء» [16] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015