دراسات في الشريعة
المخالفات الشرعية
في بطاقتي الخير والتيسير الائتمانيتين
خالد بن إبراهيم الدعيجي
aldoijy@awalnet.net.sa
* مقدمة:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد:
ففي ظل تنامي السوق المالية، وتطور شبكة الاتصالات الدولية، أدى ذلك
إلى تنافس المصارف التجارية بجلب أكبر عدد من العملاء؛ لتوفير قدر أعلى من
الربح: فقامت بتقديم خدمات مصرفية، وتسهيلات لعملائها، فأنشأت في ساحة
التعامل المصرفي مجموعة من: «عقود الائتمان» منها:
1 - بيع المرابحة للآمر بالشراء.
2 - بيع الأجل.
3 -الاستصناع.
4 - بطاقات الائتمان.
وأوسع هذه العقود انتشاراً هي بطاقات الائتمان؛ إذ يصدرها نحو:
«200» مائتي بنك في العالم في أكثر من «163» دولة، مستخدمة في أكثر
من (12.000000) محل تجاري في العالم، وللسحب والتمويل فيما يقرب من:
«50.000» مؤسسة مالية، وجهاز صرف إلكتروني، من خلال شبكات
الصرف الدولية [1] .
وهذه البطاقات نشأت وتطورت في دول لا تحكم شرع الله في معاملاتها،
وكانت في بنوك قائمة على الربا غير مراعية الشرعية الإسلامية، فداخل بعضها
من الأوصاف، والشروط، ما يعلم قطعاً بحرمة بعضها، ومن ثم تلقفها المسلمون
على ما فيها من مخالفات شرعية، وأعظمها القرض بفائدة المجمع على تحريمه [2] .
ولكن بتوفيق من الله، قامت جهود مخلصة في هيئات شرعية لدى البنوك
الإسلامية، بتنقيح وتهذيب هذا النوع من البطاقات، حتى صيرتها بطاقات إسلامية.
وتتالت الهيئات الشرعية في البنوك بدراسة هذا النوع من البطاقات، ومحاولة
أسلمتها، وتأصيلها، وتخريجها على ضوابط المعاملات وقواعدها؛ وذلك إما
بإضافة شروط أو إلغائها، أو بتركيبها بعقدين أو أكثر حتى لا تقع فيما حرمه الله
من الربا.
ومن ذلك ما قامت به الهيئتان الشرعيتان لدى البنكين الأهلي والسعودي
الأمريكي، فقد قامتا بإصدار قرار بشرعية بطاقتي الخير والتيسير الائتمانيتين
التابعتين للبنكين، وأنهما متوافقتان مع الشريعة الإسلامية.
ولكن بعد التأمل في كيفية عمل هاتين البطاقتين، تبين للباحث أنهما تتضمنان
مخالفات لا تتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية؛ لأسباب سوف أذكرها خلال البحث.
وهذه الورقات: هي بيان لبعض المخالفات الشرعية التي تضمنتها بطاقتا
الخير والتيسير الائتمانيتين، ينتظم عقدها في مبحثين:
المبحث الأول: تصوير عمل البطاقتين.
المبحث الثاني: المخالفات الشرعية في عمل البطاقتين.
علماً أني لن أتطرق في هذا البحث إلى بعض المسائل وهي:
أ- التورق المصرفي.
ب - البيع الفضولي.
ج - التوكيل بالبيع والشراء، أي أن يتولى الوكيل طرفي العقد.
للأسباب التالية:
1 - إن العمل الآن على جواز هذه المعاملات، وإن كان يوجد فيها خلاف
قوي.
2 - لعدم إطالة البحث، والخروج به عن مقصوده.
3 - إن مسألة التورق المصرفي مثلاً من المسائل الشائكة، ولهذا سوف
تُبحث في الدورة القادمة لمجمع الفقه التابع لرابطة العالم الإسلامي؛ فمن الأوْلى
عدم الاستعجال في بحثها؛ لأنه سيصدر فيها قرار من المجمع الفقهي.
* وأخيراً:
فقد بذلت في هذا البحث جهدي وهو جهد المقل؛ فما أصبت فيه فمن الله
تعالى وله الحمد والثناء، وما أخطأت فيه فمن نفسي وأستغفر الله.
وإني لأتوجه بالدعاء إلى الله قيوم السموات والأرض أن يأخذ بأيدينا إلى
سواء السبيل، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً
ويرزقنا اجتنابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
المبحث الأول: تصوير عمل البطاقتين:
قال الفقهاء: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وقبل أن نبدأ بالحكم على
البطاقتين لا بد من تصوير عملهما، ومن ثم بيان حكمهما.
- أولاً: تصوير عمل بطاقة تيسير الأهلي:
جاء في شروط وأحكام بطاقة تيسير الأهلي:
(ميعاد الاستحقاق: تستحق كافة الالتزامات المترتبة على حامل البطاقة
نتيجة إصدار البطاقة أو استعمالها في تاريخ إصدار البنك لكشف الحساب، وبحيث
يقوم حامل البطاقة بسداد قيمة الرصيد (كاملاً أو يلتزم بسداد الحد الأدنى الواجب
دفعه 5% من كامل المبلغ المستحق أو مبلغ 250 ريالاً أيهما أكثر) إلى البنك
خلال 20 يوماً من تاريخ إصدار كشف الحساب، ومن ثَمَّ تنشيط حد التيسير للمبلغ
المتبقي. وفي حالة عدم تسديد المبلغ كاملاً أو الحد الأدنى على الأقل يقوم البنك
ببيع سلعة معينة يملكها البنك قيمتها تقارب المديونية ويبيعها على العميل بيعاً
فضولياً، ويقسط الثمن على 24 قسطاً، وفي حالة عدم اعتراض العميل بعد إبلاغه
بهذا التصرف خلال عشرين يوماً من تاريخ الكشف اللاحق يعتبر هذا إجازة منه
بذلك) ا. هـ.
التوضيح:
مما لا يخفى أن هدف البطاقة الائتمانية هو إقراض حاملها، وذلك إما
بالسحب الفوري من مكائن الصرف، أو من خلال ضمانه لدى التجار؛ حيث إن
البنك يدفع عنه ما يستحق عليه لدى التجار، ومن ثم يطالبه فيما بعد بالسداد،
وتحدد المدة غالباً بشهر أو تزيد قليلاً. فإذا شغلت ذمة حامل البطاقة بالديْن نتيجة
استعمالها إما بالقرض أو الشراء، فإن مصدر البطاقة (البنك الأهلي) يتيح له
السداد من خلال طريقين:
الطريق الأول: إما بالتسديد النقدي لكامل المبلغ.
الطريق الثاني: إذا لم يسدد كامل المبلغ، وحل الأجل، فإن المصرف يقوم
بعملية التورق، وذلك ببيع سلعة معينة يمتلكها البنك.. إلخ. كما هو مبين سابقاً.
ولتوضيح الصورة أكثر، جاء في التعريفات في نفس الاتفاقية ما يلي:
التيسير: هو صيغة تمويل معتمدة من هيئة الرقابة الشرعية تتيح الحصول
على النقد على سبيل التورق.
حد التيسير الائتماني: هو مبلغ التمويل الشخصي الائتماني المعتمد من البنك
الأهلي التجاري (البنك) لحامل البطاقة بناء على طلبه ليكون الطريقة الثانية
(بجانب التسديد النقدي) لسداد حساب البطاقة الائتمانية الذي ينتج عن استخدام
البطاقة من قِبَل حاملها «حامل البطاقة» .
استعمالات حد التيسير الائتماني: يستخدم حد التيسير الائتماني لسداد حساب
البطاقة الائتمانية فقط، ويتم استخدامه لهذا الغرض بتفويض من حامل البطاقة.
استخدام حد التيسير الائتماني: هو أمر حامل البطاقة البنك بشراء
سلعة / سلع وإعادة بيعها لتسديد جزء أو كل دين البطاقة الائتمانية، ومن ثَمَّ سداد
ثمن تلك السلع على 24 قسطاً شهرياً.
- ثانياً: تصوير عمل بطاقة الخير التابعة للبنك السعودي الأمريكي:
جاء في اتفاقية بطاقة الخير الائتمانية التي يصدرها البنك السعودي الأمريكي:
(في حالة عدم دفع كامل المديونية المطلوبة من عضو البطاقة فسوف يقوم
سامبا بوقف البطاقة، وفي حالة استمرار عدم الدفع يقوم سامبا بإلغاء البطاقة، ولن
يتم إصدار بطاقة بديلة إلا بعد سداد كامل المبلغ؛ مع أن سامبا يتيح لعضو البطاقة
فرصة لسداد المديونية عن طريق دخوله مع سامبا في عملية تورق تجنباً لإلغاء
البطاقة) .
وجاء في نفس الاتفاقية:
(في حالة رغبة العميل في تغطية مديونية البطاقة عن طريق التورق تكون
مدة البيع بالتقسيط 15 شهراً بمعدل ربح 16.30% على كامل المدة، وإذا كان
المبلغ المتبقي على العميل أقل من خمسمائة ريال فلن يلبي البنك طلبه لتنفيذ عملية
التورق) .
وجاء في الاتفاقية:
(نموذج وكالة: أوكل السادة / مكتب عبد العزيز القاسم للاستشارات الشرعية
والنظامية في شراء سلع من إدارة الائتمان الشخصي لدى البنك السعودي الأمريكي
(سامبا) بالتقسيط بغرض تنفيذ عمليات التورق في حال وجود رصيد مدين على
بطاقة الخير الائتمانية في يوم الاستحقاق أو بعده من كل شهر وذلك حسب سجلات
البنك. كما أنني أوكل إدارة الائتمان الشخصي لدى سامبا ببيع السلع التي اشتريتها؛
وذلك لطرف آخر حسب السعر السائد وقت البيع مع حق توكيل إدارة الائتمان
الشخصي لدى سامبا لطرف آخر لإتمام عملية الوكالة واستخدام المبالغ المتحصلة
لتسوية الرصيد المدين على بطاقة الخير الائتمانية. ويعتبر هذا التوكيل غير قابل
للنقض طالما كانت اتفاقية بطاقة الخير الائتمانية سارية المفعول) .
وجاء في نشرة تعريفية لبطاقة الخير ما يلي:
(بطاقة الخير هي البطاقة الائتمانية الجديدة، الأولى والوحيدة المجازة من
هيئة الرقابة الشرعية لدى سامبا والتي تستخدم في أي مكان حول العالم. تتم عبر
تنفيذ عملية التورق والتي من خلالها يقوم العميل بشراء سلع مملوكة من قِبَل البنك
«معادن» بالأجل بسعر معين ويفوض البنك ببيع هذه السلع «معادن» حسب
سعر السوق إلى طرف ثالث. المبلغ الناتج من عملية بيع السلع «معادن» سوف
يتم استخدامه لتسوية الرصيد القائم على بطاقة الخير الائتمانية في يوم الاستحقاق
من كل شهر) .
وجاء فيها:
(متى يكون العميل مؤهلاً لتنفيذ عملية التورق؟ يجب على العميل على
الأقل أن يقوم بتسديد الحد الأدنى المستحق على بطاقته في يوم تاريخ الاستحقاق،
وفي حال عدم قيام العميل بسداد أي مبلغ فلن يتم تنفيذ عملية تورق. ويجب أن
يكون المبلغ المتبقي بعد سداد الحد الأدنى يساوي خمسمائة ريال سعودي أو أكثر) .
التوضيح:
من الشروط المتفق عليها بين البنك المصدر وحامل البطاقة: أنه متى حل
وقت السداد ولم يسدد حامل البطاقة فإنه تجرى عملية تورق بسلع مملوكة للبنك،
ومن ثم يسدد الدين المستحق على البطاقة، وينشأ دين آخر على حامل البطاقة
بسبب عملية التورق، ولكن يقوم بتسديده خلال (?) عشر شهراً.
أوجه الشبه والاختلاف بين بطاقتي الخير والتيسير:
أما وجه الشبه:
فإن كلاً من البطاقتين تتيح لحاملهما سداد الدين الذي استحق بسبب استعمالهما
عن طريق إجراء عملية تورق، وذلك ببيع سلع مملوكة للبنكين إلى حامل البطاقة،
ومن ثم يتولى البنكان بيع هذه السلع لمصلحة العميل إلى طرف ثالث، وتؤخذ
القيمة ويسدد بها الديْن الأول، وينشأ بعد ذلك ديْن جديد على حامل البطاقة يسدده
خلال مدة معينة.
أما أوجه الاختلاف فكما يلي:
أولاً: تختلفان في عملية إجراء التورق:
ففي بطاقة التيسير عن طريق البيع الفضولي؛ حيث يتولى البنك إجراء
عمليتي الشراء لحامل البطاقة، والبيع لطرف ثالث لأجل مصلحة حامل البطاقة،
ويعتبر التصرف نافذاً خلال عشرين يوماً إذا لم يعترض حامل البطاقة.
أما بطاقة الخير فعن طريق التوكيل لطرف ثالث بشراء السلع، ومن ثم
توكيل إدارة الائتمان الشخصي وهو تابع للبنك الأمريكي ببيعها لطرف آخر.
ثانياً: معدل الربح في بيع التورق:
ففي بطاقة الخير: معدل الربح 16.15% وهو أكثر بكثير من معدلات الربح
العالمية في بيع الأجل والمرابحة، بل إنه يشبه إلى حد ما معدلات الفائدة على
بطاقات الائتمان الربوية العالمية؛ حيث إنها تحتسب أكثر فائدة ربا على مستعمليها
مقارنة بمعدلات الفوائد الربوية الأخرى.
أما بطاقة الخير فلم يذكر بشأن معدلات الربح شيء.
ثالثاً: مدة الأجل في سداد عملية التورق:
ففي بطاقة التيسير (24) شهراً، أما في بطاقة الخير (?) شهراً.
المبحث الثاني: المخالفات الشرعية لعمل البطاقتين:
من خلال الوصف السابق لعمل البطاقتين، يتضح للباحث أن فيهما مخالفات
شرعية جلية، يمكن إيضاحها كالتالي:
- المخالفة الأولى: أنهما من قلب الديْن المجمع على تحريمه.
فسداد الديْن في هاتين البطاقتين يتم عن طريق قلب الديْن. وقلب الدين: هو
زيادة الديْن في ذمة المدين بأي طريق كان.
قال شيخ الإسلام: «وأما إذا حل الدين وكان الغريم معسراً: لم يجز بإجماع
المسلمين أن يقلب بالقلب لا بمعاملة ولا غيرها؛ بل يجب إنظاره، وإن كان موسراً
كان عليه الوفاء فلا حاجة إلى القلب لا مع يساره ولا مع إعساره» [3] .
وجاء في (مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى) [4] : (وحرم قلب ديْن)
مؤجل على معسر لأجل (آخر اتفاقاً) .
قال الشيخ تقي الدين: ويحرم على صاحب الدين أن يمتنع من إنظار المعسر
حتى يقلب عليه الدين، ومتى قال رب الديْن: إما أن تقلب الدين، وإما أن تقوم
معي إلى عند الحاكم، وخاف أن يحبسه الحاكم؛ لعدم ثبوت إعساره عنده، وهو
معسر، فقلب على هذا الوجه، كانت هذه المعاملة حراماً غير لازمة باتفاق
المسلمين؛ فإن الغريم مكره عليها بغير حق، ومن نسب جواز القلب على المعسر
بحيلة من الحيل إلى مذهب بعض الأئمة فقد أخطأ في ذلك وغلط.
وقال الشيخ السعدي - رحمه الله -: «أعظم أنواع الربا قلب الدين على
المدينين، سواء فعل ذلك صريحاً أو تحيلاً؛ فإنه لا يخفى على رب العالمين؛ فمن
حل دينه على غريمه، أُلزم بالوفاء، إن كان من المقتدرين، ووجب على صاحب
الحق إنظاره إن كان من المعسرين» [5] .
وقد اصطلح الحنابلة على تسمية هذه المعاملة بقلب الدين، بينما المالكية
يسمونها: فسخ الدين بالدين.
قال الإمام القيرواني: «ولا يجوز فسخ دين في دين، مثل أن يكون شيء
في ذمته، فتفسخه في شيء آخر لا تتعجله» [6] وقال: «وكان فسخ الديْن أشد
في الحرمة؛ لأنه من ربا الجاهلية» [7] . بل عده المالكية من أشد صور بيع
الكالئ بالكالئ الذي هو محرم بالإجماع [8] .
وقلب الديْن له طريقان:
الطريقة الأولى: قلب الديْن صراحة؛ وذلك بقول الدائن للمدين: إما أن
تقضي وإما أن تُرْبي، ويقول المدين: أنظرني أزدْك. وهذا هو ربا الجاهلية.
الطريقة الثانية: قلب الديْن بالحيلة، وهذا ما يتفنن به أَكَلَةُ الربا، فيعمدون
إلى معاملات ظاهرها الصحة؛ لأجل قلب الدين على المدين، ولهذه الطريقة عدة
صور:
1 - منها: أن يكون في ذمة شخص لآخر دراهم مؤجلة فيحل أجلها وليس
عنده ما يوفيه، فيقول له صاحب الدين: أدينك فتوفيني، فيدينه فيوفيه، وهذا من
الربا، بل هو مما قال الله فيه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً
مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (آل عمران: 130) وهذه الصورة من أعمال
الجاهلية؛ حيث كان يقول أحدهم للمدين إذا حل الدين: إما أن توفي؛ وإما أن
تُرْبي. إلا أنهم في الجاهلية يضيفون الربا إلى الديْن صراحة من غير عمل حيلة،
وهؤلاء يضيفون الربا إلى الديْن بالحيلة [9] .
2 - ومنها: أن يكون لشخص على آخر دين؛ فإذا حل قال له: إما أن
توفي دينك أو تذهب لفلان يدينك وتوفيني، ويكون بين الدائن الأول والثاني اتفاق
مسبق في أن كل واحد منهما يدين غريم صاحبه ليوفيه، ثم يعيد الدين عليه مرة
أخرى ليوفي الدائن الجديد. أو يقول: اذهب إلى فلان لتستقرض منه؛ ويكون بين
الدائن الأول والمقرض اتفاق أو شبه اتفاق على أن يقرض المدين. فإذا أوفى الدائن
الأول قلب عليه الدين، ثم أوفى المقرض ما أقترض منه، وهذه حيلة لقلب الدين
بطريق ثلاثية [10] .
3 - ومنها: إذا حل الدين على المدين مثلاً (مائة) ولا وفاء عنده، وأراد
أن يدينه أيضاً مائة، جعل فائدة المائة الجديدة مضاعفة، فإن كانت فائدة المائة
الأولى 2%، جعل فائدة المائة الثانية 4%، مراعاة للمائة الحالَّة، والمدين يلتزم
بذلك لاضطراره [11] .
4 - ومنها: أن يكون للرجل دين على آخر، فيحل أجل الدين، وليس عند
المدين ما يوفي به دينه، فيحتال الدائن ويعطي المدين المعسر نقوداً على أنها رأس
مال سَلَم، لمبيع موصوف مؤجل في الذمة، ثم إن الدائن يستوفي بهذه النقود عن
دينه السابق [12] . وجاء في الدرر السنية: ومنها - أي المعاملات الربوية -: قلب
الدين على المعسر، إذا حل الدين على الغريم، ولم يقدر على الوفاء أحضر طالب
الدين دراهم، وأسلمها إليه في طعام في ذمته، ثم أوفاه بها في مجلس العقد،
ويسمون هذا تصحيحاً، وهو فاسد ليس بصحيح، فإنه لم يسلم إليه دراهم، وإنما
قلب عليه الدين الذي في ذمته، لما عجز عن استيفائه؛ والمعسر لا يجوز قلب
الدين عليه [13] .
وقد حرر هذه المسألة الموفق - رحمه الله - وقال: إذا كان له في ذمة رجل
دينار، فجعله سَلَماً في طعام إلى أجل، لم يصح.
قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم، منهم مالك،
والأوزاعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي.
وعن ابن عمر أنه قال: لا يصلح ذلك؛ وذلك لأن المسلم فيه دين، فإذا جعل
الثمن ديناً كان بيع دين بدين، ولا يصح ذلك بالإجماع [14] .
5 - ومنها: من له دين على شخص قد حل أجله فطالبه به فوجده معسراً
بجميعه، ووجد عنده سلعة لا تفي به فأخذها منه في جميع الدين، ثم باعها له بأكثر
من الدين، فهذا لا يجوز أيضاً؛ لأن السلعة التي خرجت من اليد وعادت إليها تُعدُّ
لغواً، وكأنه فسخ ما في ذمة المدين في أكثر منه ابتداء فهو ربا الجاهلية [15] .
6 - ومنها: ما جاء في الموطأ: (قال مالك في الرجل يكون له على
الرجل مائة دينار إلى أجل؛ فإذا حلت قال له الذي عليه الدين: بعني سلعة يكون
ثمنها مائة دينار نقداً بمائة وخمسين إلى أجل. قال مالك: هذا بيع لا يصلح، ولم
يزل أهل العلم ينهون عنه. قال مالك، وإنما كره ذلك؛ لأنه إنما يعطيه ثمن ما
باعه بعينه، ويؤخر عنه المائة الأولى إلى الأجل الذي ذكر له آخر مرة، ويزداد
عليه خمسون ديناراً في تأخيره عنه فهذا مكروه، ولا يصلح، وهو أيضاً يشبه
حديث زيد بن أسلم في بيع أهل الجاهلية أنهم كانوا إذا حلت ديونهم قال للذي عليه
الدين إما أن تقضي، وإما أن تُربي فإن قضى أخذوا، وإلا زادوهم في حقوقهم
وزادوهم في الأجل) . ا. هـ.
قال الباجي: وهذا على ما قال؛ لأن من كان له على رجل مائة دينار إلى
أجل فاشترى منه عند الأجل سلعة تساوي مائة دينار بمائة وخمسين فقضاه دينه
الأول، وإنما قضاه ثمن سلعته، وزاد خمسين ديناراً في دينه لتأخيره به عن أجله؛
فهذا يشبه ما تضمنه حديث زيد بن أسلم من بيوع الجاهلية في زيادتهم في الديون
عند انقضاء أجلها ليؤخروا بها، ويدخله أيضاً بيع وسلف؛ لأنه إنما ابتاع منه هذه
السلعة بمائة معجلة وخمسين مؤجلة ليؤخره بالمائة التي حلت له عليه، ووجوه
الفساد في هذا كثيرة جداً [16] .
7 - ومنها: ما جاء في فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: «وسئل عن رجل
له مع رجل معاملة فتأخر له معه دراهم فطالبه وهو معسر، فاشترى له بضاعة من
صاحب دكان وباعها له بزيادة مائة درهم حتى صبر عليه. فهل تصح هذه المعاملة؟
فأجاب: لا تجوز هذه المعاملة، بل إن كان الغريم معسراً فله أن ينتظره. وأما
المعاملة التي يزاد فيها الديْن والأجل فهي معاملة ربوية وإن أدخلا بينهما صاحب
الحانوت. والواجب أن صاحب الدين لا يطالب إلا برأس ماله لا يطالب بالزيادة
التي لم يقبضها» [17] .
فإذا تقرر أن ما يجري عمله في بطاقتي الخير والتيسير إنما هو من قلب
الدين المجمع على تحريمه؛ فإن من تعامل بها فإنه سيقع لازماً بمخالفتين عظيمتين:
أحدهما: الوقوع في ربا الجاهلية.
الثاني: التحايل على الربا.
وإليك إيضاح ذلك.
- المخالفة الثانية: أنهما داخلتان في ربا الجاهلية: «إما أن تقضي وإما أن
تُربي» .
إن أسوأ أنواع الربا وأشدها تحريماً هو ربا الجاهلية الذي يزيد فيه الدين
لأجل تأخير الوفاء؛ فإذا حل الأجل قال الدائن: أتقضي أم تُرْبي؟ ويقول المدين:
أَنظِرْني أزدْك. وهذا هو الذي نزل فيه قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا
الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (آل عمران: 130) [18] وقوله
جل شأنه: [أَضْعَافاً مُّضَاعَفَة] (آل عمران: 130) بيان لما يؤول إليه حال الربا
من تضاعف الدين في ذمة المدين وما يترتب عليه من الظلم الفادح وأكل المال بغير
حق. والأمة مجمعة على تحريم هذا النوع من الربا تحريماً قطعياً لا يتطرق إليه
أدنى شك.
وجه الشبه بين ربا الجاهلية وعمل البطاقتين:
إن ما يحدث في بطاقتي الائتمان المشار إليهما هو من هذا الباب؛ فالبنك
المصدِّر للبطاقة يخير العميل بين وفاء دينه الذي حل أجله وبين تأخير الوفاء مع
زيادة الدين في ذمته من خلال التورق، ثم إذا حل أجل الدين الجديد تكرر الأمر
مرة أخرى، فينمو الدين ويتضاعف في ذمة المدين، وهذا عين ربا الجاهلية. ولا
يؤثر في هذه الحقيقة كونها تتم من خلال سلع أو بضائع غير مقصودة لأي من
الطرفين؛ فإن العبرة بالحقائق والمعاني لا بالصور والمباني. والله شرع البيع
والشراء لتحقيق مصلحة الطرفين، لا للاحتيال به على الربا.
ويؤيد ذلك ما ورد عن الإمام مالك: (قال مالك في الرجل يكون له على
الرجل مائة دينار إلى أجل فإذا حلت قال له الذي عليه الدين: بعني سلعة يكون
ثمنها مائة دينار نقداً بمائة وخمسين إلى أجل. قال مالك: هذا بيع لا يصلح، ولم
يزل أهل العلم ينهون عنه. قال مالك: وإنما كُره ذلك؛ لأنه إنما يعطيه ثمن ما
باعه بعينه، ويؤخر عنه المائة الأولى إلى الأجل الذي ذكر له آخر مرة، ويزداد
عليه خمسون ديناراً في تأخيره عنه؛ فهذا مكروه، ولا يصلح، وهو أيضاً يشبه
حديث زيد بن أسلم في بيع أهل الجاهلية أنهم كانوا إذا حلت ديونهم قال للذي عليه
الدين: إما أن تقضي، وإما أن تربي؛ فإن قضى أخذوا، وإلا زادوهم في حقوقهم
وزادوهم في الأجل) . ا. هـ.
فالإمام مالك - رحمه الله - جعل هذه المعاملة التي فيها قلب للدين شبيهة بربا
الجاهلية: إما أن تقضي وإما أن تربي.
وأما قول الإمام مالك «وإنما كُره ذلك» ليس المراد به الكراهة التي يحدها
الأصوليون بأنها: ما نهي عنه نهياً غير جازم، أو ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله،
بل المراد بالكراهة عند السلف التحريم؛ خلافاً للمتأخرين؛ فإنهم اصطلحوا على
تخصيص الكراهة بما ليس بمحرم [19] .
- المخالفة الثالثة: أن فيهما تحايلاً على الربا.
من خلال ما سبق، تبين للباحث أن عمل البطاقتين ما هو إلا تحايل على
الربا، وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الاحتيال على ما حرمه الله تعالى
بقوله: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود؛ فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل» [20] .
وقال صلى الله عليه وسلم: «قاتل الله اليهود؛ حرمت عليهم الشحوم فجمَّلوها
فباعوها» [21] .
وحقيقة الحيلة المحرمة أنها توسُّل بعمل مشروع لتحقيق غاية محرمة؛ فالبيع
مشروع لكن التوسل به لزيادة الدين في ذمة المدين مقابل تأخير الوفاء توسل لغاية
ونتيجة محرمة، فيكون البيع في هذه الحالة حيلة محرمة.
قال الموفق: «ثبت من مذهب أحمد أن الحيل كلها باطلة» [22] ، وقال:
«الحيل كلها محرمة، غير جائزة في شيء من الدين، وهو أن يظهر عقداً
مباحاً يريد به محرماً، مخادعة وتوسلاً إلى فعل ما حرم الله» [23] .
قال ابن القيم - رحمه الله -: «النبي صلى الله عليه وسلم قد قال كلمتين
كفتا وشفتا وتحتهما كنوز العلم وهما قوله:» إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل
امرئ ما نوى «فبين في الجملة الأولى أن العمل لا يقع إلا بالنية، ولهذا لا يكون
عمل إلا بنية، ثم بين في الجملة الثانية أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه؛
وهذا يعم العبادات والمعاملات والأيْمان والنذور وسائر العقود والأفعال، وهذا دليل
على أن من نوى بالبيع عقد الربا حصل له الربا، ولا يعصمه من ذلك صورة البيع.
وإذا نوى بالفعل التحيل على ما حرمه الله ورسوله كان له ما نواه؛ فإنه قصد
المحرم وفعل مقدوره في تحصيله، ولا فرق في التحيل على المحرم بين الفعل
الموضوع له وبين الفعل الموضوع لغيره إذا جعل ذريعة له، لا في عقل ولا في
شرع؛ ولهذا لو نهى الطبيب المريض عما يؤذيه وحماه منه فتحيل على تناوله عد
متناولاً لنفس ما نهى عنه، ولهذا مسخ الله اليهود قردة لما تحيلوا على فعل ما حرمه
الله، ولم يعصمهم من عقوبته إظهار الفعل المباح لما توسلوا به إلى ارتكاب
محارمه، ولهذا عاقب أصحاب الجنة بأن حرمهم ثمارها لما توسلوا بجذاذها
مصبحين إلى إسقاط نصيب المساكين، ولهذا لعن اليهود لما أكلوا ثمن ما حرم الله
عليهم أكله، ولم يعصمهم التوسل إلى ذلك بصورة البيع. وأيضاً فإن اليهود لم
ينفعهم إزالة اسم الشحوم عنها بإذابتها؛ فإنها بعد الإذابة يفارقها الاسم وتنتقل إلى
اسم الودك، فلما تحيلوا على استحلالها بإزالة الاسم لم ينفعهم ذلك.
قال الخطابي: في هذا الحديث بطلان كل حيلة يحتال بها المتوسل إلى
المحرم؛ فإنه لا يتغير حكمه بتغير هيئته وتبديل اسمه.
إذا تبين هذا فمعلوم أنه لو كان التحريم معلقاً بمجرد اللفظ وبظاهر من القول
دون مراعاة المقصود للشيء المحرم ومعناه وكيفيته لم يستحقوا اللعنة لوجهين:
أحدهما: أن الشحم خرج بجَمْله عن أن يكون شحماً، وصار وَدَكاً، كما يخرج
الربا بالاحتيال فيه عن لفظ الربا إلى أن يصير بيعاً عند من يستحل ذلك؛ فإن من
أراد أن يبيع مائة بمائة وعشرين إلى أجل، فأعطى سلعة بالثمن المؤجل، ثم
اشتراها بالثمن الحالّ، ولا غرض لواحد منهما في السلعة بوجه ما، وإنما هي كما
قال فقيه الأمة: دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة؛ فلا فرق بين ذلك وبين مائة
بمائة وعشرين درهماً بلا حيلة ألبتة، لا في شرع ولا في عقل ولا عرف، بل
المفسدة التي لأجلها حرم الربا بعينها قائمة مع الاحتيال أو أزيد منها، فإنها
تضاعفت بالاحتيال لم تذهب ولم تنقص؛ فمن المستحيل على شريعة أحكم
الحاكمين أن يحرم ما فيه مفسدة ويلعن فاعله ويؤذنه بحرب منه ورسوله ويوعده
أشد الوعيد، ثم يبيح التحيل على حصول ذلك بعينه سواء مع قيام تلك المفسدة
وزيادتها بقصد الاحتيال في معصية ومخادعة الله ورسوله. هذا لا يأتي به شرع؛
فإن الربا على الأرض أسهل وأقل مفسدة من الربا بسلم طويل صعب التراقي
يترابى المترابيان على رأسه؛ فيا لله العجب! أي مفسدة من مفاسد الربا زالت بهذا
الاحتيال والخداع؟ فهل صار هذا الذنب العظيم وهو عند الله من أكبر الكبائر حسنة
وطاعة بالخداع والاحتيال؟ ويا لله! كيف قلب الخداع والاحتيال حقيقته من الخبيث
إلى الطيب ومن المفسدة إلى المصلحة وجعله محبوباً للرب تعالى بعد أن كان
مسخوطاً له؟ ولئن كان هذا الاحتيال يبلغ هذا المبلغ فإنه عند الله ورسوله بمكان
ومنزلة عظيمة، وإنه من أقوى دعائم الدين وأوثق عراه وأجلّ أصوله.
ويا لله العجب! أي فرق بين بيع مائة بمائة وعشرين درهماً صريحاً، وبين
إدخال سلعة لم تُقصَد أصلاً، بل دخولها كخروجها؟ ولهذا لا يسأل العاقد عن
جنسها ولا صفتها ولا قيمتها ولا عيب فيها ولا يبالي بذلك ألبتة حتى لو كانت خرقة
مقطعة أو أذن شاة أو عوداً من حطب أدخلوه محلِّلاً للربا، ولما تفطَّن المحتالون أن
هذه السلعة لا اعتبار بها في نفس الأمر، وأنها ليست مقصودة بوجه، وأن دخولها
كخروجها تهاونوا بها، ولم يبالوا بكونها مما يتمول عادة أو لا يتمول، ولم يبال
بعضهم بكونها مملوكة للبائع أو غير مملوكة، بل لم يبال بعضهم بكونها مما يباع أو
مما لا يباع كالمسجد والمنارة والقلعة، وكل هذا وقع من أرباب الحيل، وهذا لما
علموا أن المشتري لا غرض له في السلعة فقالوا: أي سلعة اتفق حضورها حصل
بها التحليل» [24] .
- المخالفة الرابعة: أنهما داخلتان في حديث «نهي النبي صلى الله عليه
وسلم عن سلف وبيع» .
عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن،
ولا بيع ما ليس عندك» [25] .
قال ابن القيم - رحمه الله -: «وأما السلف والبيع: فلأنه إذا أقرضه مائة
إلى سنة، ثم باعه ما يساوي خمسين بمائة: فقد جعل هذا البيع ذريعة إلى الزيادة
في القرض الذي موجبه رد المثل، ولولا هذا البيع لما أقرضه ولولا عقد القرض
لما اشترى ذلك» [26] .
ووجه الشبه بين هذا التفسير للحديث وعمل البطاقتين:
أن العلاقة بين مصدر البطاقة وحاملها: هي علاقة مقرض يتمثل في مصدر
البطاقة، ومقترض هو حامل البطاقة.
فحامل البطاقة إما أن يشتري سِلَعاً ومن ثم يقوم البنك بالسداد، ويكون هذا
المبلغ ديناً في ذمة حامل البطاقة، أو أنه يسحب مبلغاً نقدياً من مكائن الصرف،
وفي كلا الحالتين تكون ذمة حامل البطاقة مشغولة للبنك المصدر لها، ويحدد له
يوماً يقوم بسداد الدين فيه.
وعند الرجوع إلى اتفاقية عمل البطاقتين نجد أن البنك السعودي الأمريكي
وضع من ضمن الاتفاقية أنه متى حل سداد الدين ولم يسدد حامل البطاقة فإنه سوف
يجري عملية تورق بالوكالة.
وأما البنك الأهلي فقد قرر في الاتفاقية أنه متى حل الدين فإنه سيجري عملية
التورق من خلال التصرف الفضولي.
وفي كلا الحالتين: نجد أن البنكين اشترطا في عملية الإقراض أنه متى حل
موعد سداد الدين ولم يسدد حامل البطاقة فإنه تجرى عملية التورق، فهنا اجتمع في
هذه المعاملة سلف وبيع.
- المخالفة الخامسة: أنهما داخلتان في حديث «نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن
بيعتين في بيعة» .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
بيعتين في بيعة. وفي لفظ: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا» [27] .
قال الإمام الخطابي - رحمه الله - في بيان معنى الحديث: «كأن يسلفه
ديناراً في قفيزين إلى شهر؛ فلما حل الأجل وطالبه بالبر، قال له: بعني القفيز
الذي لك عليَّ بقفيزين إلى شهر. فهذا بيع ثان قد دخل على البيع الأول فصار
بيعتين في بيعة فيردان إلى أوكسهما وهو الأصل، فإن تبايعا المبيع الثاني قبل أن
يتناقضا الأول كانا مرتبين» معالم السنن (2/104) .
وتوضيح ذلك: أن المراد به قلب الديْن على المعسر في صورة بيع الدين
المؤجل على المدين إلى أجل آخر بزيادة عليه.
ووجه الشبه بين هذا التفسير وعمل البطاقتين كالتالي:
ففي عمل البطاقتين لما حل الأجل وكان صاحب البطاقة مديناً للبنك بريالات،
وليس عنده ما يوفيه، فكأنه باع هذا الدين بدين آخر إلى أجل مع زيادة، ولكن
أدخلا بينهما سلعة عن طريق التورق. فاجتمع في المعاملة بيعان، فإما أن يأخذا
بالبيع الأول وهو الدين الأقل، وإما أن يتما البيع الثاني، فيقعا في النهي وهو الربا.
وهذا التفسير للحديث لا يمنع التفسير المشهور عن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن
القيم بأن المراد بالحديث بيع العِينة، من وجهين:
الأول: أن في كلا الصورتين تحايلاً على الربا.
الثاني: أن من القواعد المقررة عند أهل العلم: أنه إذا احتمل اللفظ أكثر من
معنى وليس بينهما تعارض فإنه يُحمل عليهما.
فكل معاملتين ظاهرهما الصحة وباطنهما التحايل على أكل الربا فهما داخلتان
في النهي الذي في الحديث، فيشمل الحديث بيع العِينة وقلب الديْن وغيرها من
المعاملات.
* وأخيراً:
هذه بعض المخالفات في هاتين البطاقتين، وأحسب أن هذا البحث ما هو إلا
بداية لبحوث أخرى من العلماء وطلاب العلم المهتمين بهذه المعاملات، وإني أدعو
الباحثين إلى تجلية هذا الأمر وزيادة بحثه، حتى يكون الناس على بصيرة من
أمرهم.
فوالله لو ترك هذا الأمر ومر مرور الكرام فلن يكون ربا في البنوك، وسينتهي
الربا إلى غير رجعة بالتحايل عليه، وسيصعب رد الناس عنه إذا انغمسوا فيه.
ونحن بأمسِّ الحاجة إلى الرجوع إلى الله، والتوبة إليه؛ فالأمة تعيش في
عصر تكالب عليها أعداء الله من كل جانب، والنصر لا يأتي إلا من عند الله،
وكيف ندعو الله بالنصر؛ ونحن نحاربه بأكل الربا؟
كما أدعو القائمين على الهيئات الشرعية الذين أجازوا مثل هذه المعاملات أن
يبينوا لنا مسلك إباحتهم لهذه المعاملة بالأدلة الصريحة الصحيحة، حتى تظهر
للعيان حجج الطرفين ومسلك كل فريق.
وإني لأتوجه بالدعاء إلى الله قيوم السموات والأرض أن يأخذ بأيدينا إلى
سواء السبيل، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً
ويرزقنا اجتنابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.