في دائرة الضوء
د. أحمد بن عبد الرحمن الشميمري
إن المتفحص في تاريخ الحضارة الإسلامية يدرك مدى إسهام الفكر الإسلامي
في رقي وتطور أساسيات الإدارة؛ ذلك أن الإسلام دين شامل للحياة؛ فهو ليس
مجرد دين يقتصر على العبادات، بل شملت تعاليمه وتوجيهاته كل شؤون الفرد
والجماعة والدولة. لقد كانت أسس ومنطلقات الإدارة في الإسلام قائمة على مبادئه
الراسخة والخالدة المتمثلة في العدالة والشورى والجودة والأمانة والإتقان والعمل
بروح الفريق. وعندما طبقت تلك المبادئ في عهد الرسول الكريم صلوات الله
وسلامه عليه وفي عهد الخلفاء الراشدين من بعده، شهد التاريخ أعظم وأرقى الدول
تنظيماً وإدارة وقيادة.
ومن المبادئ التي أصَّل لها الإسلام خير تأصيل الصفات التي يجب أن يتحلى
بها كل من ولى أمراً، ومنهم المدير المسلم. وهي في الحقيقة أصول وقيم ينبغي
أن يراعي تطبيقها كل مسلم في أي مستوى إداري سواء كان رئيساً أو مرؤوساً،
أميراً أو وزيراً، مديراً أو أجيراً. ولكن الإدارات العليا تزداد عليها المسؤوليات،
وتتعاظم عليها الواجبات مما يزيد أهمية تحليها بالصفات الحميدة، والمبادئ
الأساسية للمدير المسلم.
والصفات التي يجب أن يتحلى بها المدير المسلم كثيرة ومتعددة، وقد أجملتُها
في عشر صفات سنستعرضها تباعاً في السطور التالية.
* أولاً: أن يكون حسن الخلق:
إن من أهم الصفات التي ينبغي أن يتصف بها المدير المسلم هي حسن الخلق؛
فبالخلق الحسن يستطيع الإداري أن يكسب احترام مرؤوسيه، ومن ثم يوجههم
لتحقيق الأهداف المنشودة وهم في حال معنوية عالية، فلا يشعر أحدهم أنه محتقر
وإنما يُعامَل معاملة إنسانية حسنة، فترتفع حالته المعنوية، فيُقبِل على إنجاز العمل
وهو في أحسن حال.
وقد ضرب لنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في حسن
الخلق، فوصفه ربه سبحانه وتعالى بأنه ذو خلق عظيم، فيقول جل من قائل واصفاً
نبيه: [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ] (القلم: 4) ، وكما جاء عن المصطفى صلى
الله عليه وسلم عن المهمة التي بُعث بها: عن مالك أنه قد بلغه أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: «بُعثت لأتمم حسن الأخلاق» [1] ، ومن هنا تتضح الأهمية
الكبرى لمكارم الأخلاق وحسنها.
* ثانياً: أن يكون قدوة حسنة:
يجب أن يكون المدير المسلم هو وأفعاله قدوة لمرؤوسيه كي يحتذوا به؛ فلا
بد أن يكون الإداري المسلم هو أول من يطبق تعليمات العمل؛ فلا يأمر بشيء إلا
وهو أول من ينفذه، ولا ينهى عن شيء إلا ويكون هو أول من يبتعد عنه؛ فقد كان
قدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خير مثل على ذلك؛ فما أمر بشيء إلا كان
هو أول من يعمل به، وما نهى عن شيء إلا كان أول من ينتهي عنه؛ وفي هذا
يقول المولى سبحانه وتعالى: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة]
(الأحزاب: 21) .
فالمدير المسلم يجب أن يكون قدوة لمرؤوسيه، فلا يُعقل أن ينادي بالالتزام
بمواعيد العمل وهو غير ملتزم بها، ولا يُعقل أن ينادي بالعدل وهو ظالم، ولا
بالإخلاص وهو غارق في تفضيل وتقديم أعماله الشخصية على مصلحة العمل.
* ثالثاً: أن يكون عادلاً:
يجب أن يكون المدير عادلاً بين مرؤوسيه، وألا يفرق بينهم في تعامله معهم،
ولا يحابي مرؤوساً على حساب مرؤوس آخر؛ فشعور المرؤوسين بعدالة رئيسهم
يرفع من حالتهم المعنوية، وفي الوقت نفسه يمنحونه ثقتهم. أما عندما تغيب العدالة
فإن النفوس تشتعل بالغضب والكراهية وتصيُّد الأخطاء، واليأس مع العمل. وفي
ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عوف بن مالك
- رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلُّون عليهم ويصلُّون عليكم، وشرار
أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم» قال: قلنا: يا رسول
الله! أفلا ننابذهم؟ قال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا، ما أقاموا فيكم
الصلاة» [2] . وهناك العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تبين
ضرورة العدل، ومن ذلك قول المولى سبحانه وتعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] (المائدة: 8) .
وعكس العدل الظلم في معاملته للمرؤوسين ولمن تحت إمرته من العمال
والموظفين. ومن صوره مطل الغني وحرمان الحقوق المادية كالأجور والرواتب
والحقوق المعنوية كالمراتب والترقيات والتقدير والاحترام. والظلم ظلمات يوم
القيامة. وكان معاوية - رضي الله عنه - يقول: إني لأستحي أن أظلم من لا يجدُ
عليَّ ناصراً إلا الله. وبكى علي بن الفضل يوماً، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي
على من ظلمني إذا وقف غداً بين يدي الله تعالى ولم تكن له حجة. ونادى رجل
سليمان بن عبد الملك وهو على المنبر: يا سليمان! اذكر يوم الأذان. فنزل
سليمان من على المنبر، ودعا بالرجل، فقال له: ما يوم الأذان؟ فقال: قال الله
تعالى: [فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ] (الأعراف: 44) ، قال:
فما ظلمتك؟ قال: أرض لي بمكان كذا وكذا أخذها وكيلك، فكتب إلى وكيله ادفع
إليه أرضه وأرضاً مع أرضه. وروي أن سلطاناً رَقَمَ على بساطه:
لا تظْلِمَنَّ إذا ما كنتَ مقتدراً ... فالظلمُ مصدره يفضي إلى الندمِ
تنامُ عيناك والمظلوم منتبه ... يدعو عليك وعين الله لم تنمِ
* رابعاً: أن يكون رحيماً:
فالمدير المسلم الذي يكون رحيماً مع مرؤوسيه يقترب منهم ويشعرون بمدى
حرصه عليهم. وعندما يكون قادراً على توقيع عقوبة معينة على بعضهم ثم يعفو
عنهم يزداد حبهم واحترامهم له. ومن الرحمة بهم أن يصبر عليهم، ويسعى إلى
تقدمهم وتطورهم، ويسعد بترقيتهم ونجاحهم، وفتح سبل الخير لهم، وهو في ذلك
يكون ممتثلاً لتوجيهات القرآن الكريم حيث يقول المولى سبحانه وتعالى: [فَاعْفُ
عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ] (المائدة: 13) . وعن عائشة - رضي
الله عنها - قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا:
«اللهم من وَلِيَ من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر
أمتي شيئاً فرفق بهم، فارفق به» [3] . وهذا لا يتنافى مع أن يكون المدير حازماً جاداً
لا يترك مجالاً للتسيب والخمول والكسل، ويحرص على مراقبة الموظفين
ومتابعتهم، وحثهم على الإنجاز والفعالية.
* خامساً: أن يكون عفيف النفس:
لا بد أن يتصف المدير المسلم بعفة النفس؛ فإذا كان الإداري عفيف النفس،
يعفها عن الشهوات المحرمات فما من شك أن مرؤوسيه سيقتدون به، ويُعِفُّون
أنفسهم، ومن ثم تستقيم الأمور في العمل طالما أن هناك بُعداً عن الشبهات. فقد
جاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: «عُرِضَ عليَّ أول ثلاثة يدخلون الجنة: الشهيد، وعبد أدى حق الله
وحق مواليه، وفقير عفيف متعفف» [4] .
وعن ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم» [5] .
وقيل: الحرص ينقص من قدر الإنسان، ولا يزيد في رزقه. وقال الحسن:
لو رأيت الأجل ومروره، لنسيت الأمل وغروره. وقال بعضهم:
هي القناعة فالزمها تعشْ ملكاً ... لو لم يكُ منها إلا راحة البدنِ
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها ... هل راح منها بغير القطن والكفنِ؟
* سادساً: أن لا يستبد بالرأي:
يجب أن يتصف المدير المسلم، وخاصة عند اتخاذه القرارات الهامة، بألا
يكون مستبداً برأيه، وإنما عليه أن يشاور ويشيع جو المشورة التي ينادي بها الدين
القويم؛ فإن للشورى تأثيراً كبيراً لدى المرؤوسين في كسب محبتهم وولائهم
ومساندتهم، وقد نادى بها القرآن الكريم في العديد من المواضيع، منها قول المولى
عز وجل: [فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] (آل عمران:
159) . والأحاديث النبوية التي تدعو إلى المشورة كثيرة، بل إن تطبيقاته صلى
الله عليه وسلم لمبدأ الشورى كثيرة، وما أدل على ذلك من قول أبي هريرة
- رضي الله عنه -: «ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى
الله عليه وسلم» .
فعندما لا ينفرد الإداري باتخاذ القرار بل يلجأ إلى مرؤوسيه وخاصة الأمناء
الأقوياء لمشاورتهم يقوى الرأي ويسدد، ويكون أدعى إلى الحكمة والصواب؛ كما
يكسب بذلك احترام من حوله من المرؤوسين، ويضمن مشاورتهم وتبنيهم للرأي،
وحرصهم على نجاحه.
قال الحسن: الناس ثلاثة: فرجل رجل، ورجل نصف رجل، ورجل لا
رجل. فأما الرجل الرجل فذو الرأي والمشورة. وأما الرجل الذي هو نصف رجل
فالذي له رأي، ولا يشاور. وأما الرجل الذي ليس برجل فالذي ليس له رأي ولا
يشاور.
ولمحمد الوراق:
إن اللبيب إذا تفرق أمرُهُ ... فَتَقَ الأمور مناظراً ومشاورا
وأخو الجهالة يستبد برأيه ... فتراه يعتسف الأمور مخاطرا
* سابعاً: أن يكون نصوحاً:
على المدير المسلم أن يكون نصوحاً، ويكثر من إسداء النصح لمرؤوسيه إذا
رغب في الإقلال من الأخطاء الممكن الوقوع بها؛ فإذا ما قلَّت أخطاؤهم زادت
إنتاجيتهم، وثقتهم بأنفسهم، وقربهم من رئيسهم، واحترامهم له، وقد حذر الرسول
صلى الله عليه وسلم كل مسؤول من حجب النصيحة عن مرؤوسيه؛ فقد جاء في
الحديث النبوي: عن معقل قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما
من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة» [6] .
* ثامناً: أن لا يكون أنانياً:
يجب أن يتصف المدير المسلم بعدم الأنانية، وألا يسعى إلى تحقيق المكاسب
الشخصية من وراء اقتراحات وآراء مرؤوسيه؛ فإن ذلك يحبط معنوياتهم، ويفقد
الثقة به، وإنما عليه إسناد الحق لأصحابه والفضل لأهله، والاعتراف للمحسنين
بما أحسنوا، وذكر ذلك عند من هو أعلى منه دون أن ينسب العمل لنفسه ولم يكن
هو فاعله. وألا يقدم مصلحته الشخصية على مصلحة مرؤوسيه، بل كما يحب
المسلم لنفسه ينبغي أن يحب لغيره، وقد بين لنا الرسول الكريم صلى الله عليه
وسلم ذلك في حديث عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي
بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره أو قال لأخيه ما يحب لنفسه» [7] .
ويروى أن المسور بن مخرمة قد احتكر طعاماً كثيراً، فرأى سحاباً في
الخريف فكرهه، فقال: ألا أراني كرهت ما ينفع المسلمين؟ فآلى أن لا يربح فيه
شيئاً، فأخبر بذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال له عمر: جزاك الله
خيراً.
وكان الحجاج بن دينار قد بعث طعاماً إلى البصرة مع رجل وامرأة على أن
يبيعه يوم يدخل بسعر يومه، فأتاه كتابه إني قدمت البصرة فوجدت الطعام منقصاً
فحبسته، فزاد الطعام فازددت كذا وكذا، فكتب إليه الحجاج: إنك قد خنتنا،
وعملت بخلاف ما أمرناك به؛ فإذا أتاك كتابي فتصدّق بجميع ذلك الثمن ثمن الطعام
على فقراء البصرة؛ فليتني أَسلَم إذا فعلت ذلك.
* تاسعاً: أن يكون ذا كفاءة وعلم:
لا بد أن يكون المدير المسلم على درجة عالية من الكفاءة الإدارية والعلم
بأحوال العمل، بل يعمل على تنمية ذلك فيه؛ ذلك أن شعور المرؤوسين أن
رئيسهم على قدر كبير من الكفاءة والعلم يشعرهم بالاطمئنان، وستزداد ثقتهم به
وطاعتهم له، أما إن كان غير ذلك فقد يستصغرونه ويستغربون العمل والمسؤولية
التي أوكلت إليه. وقد بين القرآن الكريم أن العلم والكفاءة تميز أصحابها عن
غيرهم الذين لا يتمتعون بها. يقول المولى سبحانه وتعالى: [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون] (الزمر: 9) .
* عاشراً: أن يكون حكيماً وفطناً:
لا بد أن يتصف المدير المسلم بأن يكون ذكياً فطناً وحكيماً؛ فإذا ما أدرك
المرؤوسون أن رئيسهم بهذه الصفة زادت ثقتهم به وارتفعت حالتهم المعنوية، وزاد
اهتمامهم بالعمل وحرصهم على الإتقان والتميز والإبداع. وحكمته وفطنته يجب أن
لا تؤدي إلى غروره وتكبره على مرؤوسيه ومن حوله من العاملين. ومن الواجب
أن يبتعد عن الهالة لمنصبه وموقعه أياً كان في المؤسسة، وأن يخفض جناحه
لمرؤوسيه، وأن يعيش بينهم ومعهم بكل ود وتواضع. فعن أبي هريرة - رضي
الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما نقصت صدقة من مال،
وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله» [8] .
وقال الأحنف بن قيس: ما تكبر أحد إلا من ذلة يجدها في نفسه. ورأى رجل
رجلاً يختال في مشيه، فقال: جعلني الله مثلك في نفسك، ولا جعلني مثلك في
نفسي. ومر بعض أولاد المهلب بمالك بن دينار وهو يتبختر في مشيه، فقال له
مالك: يا بني! لو تركتَ هذه الخيلاء لكان أجمل لك! فقال: أوَ ما تعرفني؟ قال:
أعرفك معرفة جيدة، أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين ذلك
تحمل العَذِرة، فأرخى الفتى رأسه، وكف عما كان عليه.