المسلمون والعالم
خليل العناني
بعد مرور نحو عامين على وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م؛
دخلت الولايات المتحدة الأمريكية في حقبة جديدة من تاريخها السياسي والفكري؛
قوامها الاستبداد والتحكم العالمي، ليس لانتهاجها لسياسات متعجرفة مع مختلف
شعوب الأرض فحسب، ولكن أيضاً لأنها قضت على كل النماذج والقيم التي طالما
تغنى بها الأمريكيون باعتبارهم مهد القيم العالمية. وعلى الرغم من أن الولايات
المتحدة قد حددت لنفسها هدفاً محورياً غداة وقوع أحداث سبتمبر، تمثل في
«مكافحة الإرهاب الدولي» ، فإنها في الواقع قد استخدمت هذا الهدف لإخفاء
أهداف أخرى كونية أبعد ما تكون عن مكافحة ما يسمى بالإرهاب الدولي. بل لا
نبالغ إذا قلنا إن الولايات المتحدة نفسها قد أصبحت أكثر من يمارس هذا
الإرهاب، وما زالت أحداث حربي أفغانستان وفلسطين ماثلة في أذهان الجميع.
* أشكال حرب الإرهاب وأبعادها:
وقد اتخذت فكرة الحرب على الإرهاب التي ابتدعتها عقول المحافظين الجدد
(النصارى المتصهينين) أشكالاًَ وأبعاداً متعددة، تفوق ما لدى الأمم والجماعات
الأخرى من تصور لهذه الفكرة، لعل أكثرها دلالة هو اعتبار مقاومة الاحتلال من
أفعال الإرهاب الدولي.
ويظل التساؤل الأجدى في هذه المرحلة هو: كيفية تحقيق هذه الفكرة لما
تطمح له الولايات المتحدة؟ وقد تبدو الإجابة عن هذا التساؤل بسيطة ولكنها في
غاية التعقيد، ويمكن استنتاجها عبر عدة نقاط أولها أن الولايات المتحدة عبر
استخدام هذه الفكرة قد توفر لنفسها أرضية جديدة في التعامل مع الآخرين بما في
ذلك دول العالم الأول (أوروبا) من منطلق أن الإرهاب خطر عالمي لا يفرق بين
ما هو أمريكي أو أوروبي، وهو ما يوفر للولايات المتحدة متسعاً من الحركة افتقدته
وترددت في استخدامه منذ انتهاء حقبة الحرب الباردة، كما يسوغ تفردها بقيادة
الجانب الشرقي للأطلسي دون معارضة حقيقية.
والنقطة الثانية هي أن هلامية الفكرة وعدم وضوحها والذي قد يكون مقصوداً
في جزء كبير منه قد يترك المجال مفتوحاً أمام مختلف التفسيرات، وبالتالي يبيح
أي تصرفات أمريكية لمحاربة هذا الخطر؛ بما في ذلك غزو دول بعينها كما حدث
مع أفغانستان والعراق، أو محو منظمات بعينها كما حدث مع العديد من منظمات
المجتمع المدني خاصة تلك التي تحمل طابعاً إسلامياً.
أما الاستنتاج الثالث؛ فهو أن الإدارة الحالية، وبالنظر إلى مرجعيتها الفكرية،
كانت تبحث عن أداة فعالة تحقق طموحها التوسعي ونهجها المنفرد، فضلاً عن
افتقارها للقدرة على تحقيق إنجازات اقتصادية أو اجتماعية ملموسة ترفع عنهم
الحرج أمام ناخبيهم، ولذا لن يكون مستبعداً أن يصبح الانتصار الأمريكي على
العراق هو الوقود الأساسي للحملة الانتخابية القادمة.
وفضلاً عما سبق؛ فقد حققت هذه الفكرة للولايات المتحدة ما تمناه وحلم به
قادتها ومسؤوليها قبل أكثر من نصف قرن، وهو رغبتهم في أن تحتل الولايات
المتحدة قمة النظام العالمي باعتباره الوضع الطبيعي لقوة مثلها. فمنذ خروج
الولايات المتحدة من عزلتها الاختيارية وانخراطها في شؤون المعمورة عقب الحرب
العالمية الثانية؛ وهي ترغب في تحويل قوتها الاقتصادية والتقنية إلى سلاح سياسي
فعّال يحقق أهدافها بأقل تكلفة ممكنة، ولكن ظهور القطب السوفييتي السابق شكّل
عائقاً وقيداً خانقاً على هذه الرغبة الأمريكية، وكبح جماحها على مدار أكثر من
أربعة عقود من القرن المنصرم.
ورغم انهيار القطبية الثنائية وانتفاء المنافس أمام الولايات المتحدة؛ فإنها
ترددت في الإعلان عن تفردها وتطبيقها على رأس النظام العالمي، ولجأت إلى
تحقيق ذلك عبر مفهومات وأدوات اقتصادية، شكلت العولمة سياجها الحاكم،
ونسجت خيوطها الشركات الأمريكية العملاقة. ولكن يبدو أن هذه الأدوات لم تحقق
طموح الولايات المتحدة؛ خاصة مع دخول الاقتصاد الأمريكي في نفق الركود
والتراجع منذ انفجار فقاعة التقنية أواخر العقد الماضي؛ لذا فقد شكلت أحداث
سبتمبر فرصة ذهبية للولايات المتحدة للبحث عن أداة مفتقدة تمكنها من الإعلان عن
هيئتها العالمية الواجب فرضها، ومن ثم شكّلت فكرة «الحرب على الإرهاب»
السوط الجديد لقيادة النظام العالمي في بدايات القرن الحادي والعشرين، ولتكون
طوق نجاة يرفع عن الأمريكيين الحرج عن جنوحهم بعيداً عن السرب العالمي.
غير أن ما يلفت الأنظار ويثير الحيرة تساؤل مهم، وهو: لماذا وجهت
أمريكا هذه الفكرة ناحية العالم الإسلامي باعتباره مهداً لهذه الظاهرة؟ بالطبع فقد
ربطت الولايات المتحدة بين مرتكبي أحداث 11 سبتمبر وبين دولهم وجنسياتهم،
ولكن هذا وحده ليس مسوّغاً كافياً لتوجيه دفة السياسة الخارجية الأمريكية بكل ثقلها
ناحية هذه البقعة من العالم. ودون الغوص في بحور «نظرية المؤامرة» ؛ يمكن
القول بأنه إذا كانت الولايات المتحدة قد اتخذت من العالم الإسلامي عدواً لها تحت
ذريعة محاربة الإرهاب، فمرد ذلك ليس فقط لأن هذا العالم يمثل نموذجاً حضارياً
وثقافياً يضاهي في أفكاره وقيمه تلك المبادئ والأفكار التي تستند عليها الحضارة
الغربية فحسب، بل وإنما أيضاً لحاجة الولايات المتحدة لستار تخفي وراءه طبيعة
الأهداف والمصالح الأمريكية في عالم اليوم.
بيد أن فكرة الحرب على الإرهاب لن تحقق الكثير مما يصبو إليه العديد من
أصحاب التوجه الفردي في الولايات المتحدة؛ ليس لكونها تستند على أساس هش
وغير مقنع فحسب، بل لعدم واقعيتها عملياً رغم ثبات خطر الإرهاب في حد ذاته.
فالولايات المتحدة مهما بلغت قوتها وقدراتها فهي في النهاية تعيش في عالم تحكمه
قواعد وأساسيات للتعامل تقوم في جزء كبير منها على التوافق الدولي أكثر منه
الإكراه والعقاب، وبافتراض حدوث ما تصبو إليه الولايات المتحدة فإنه لن يدوم
لفترة طويلة؛ ليس انطلاقاً من ظهور قوة منافسة لها بقدر ما هو مرتبط بقدرة
الولايات المتحدة نفسها على الاستمرار ومواصلة هذا النهج المستهجن من بقية دول
العالم. فضلاً عن ارتفاع كلفة هذه الفكرة سياسياً واقتصادياً بالنسبة للولايات المتحدة،
ويكفينا في ذلك حساب ما تكبدته واشنطن سواء في إقامة الأحلاف الجديدة؛ مثل
ما حدث مع باكستان وبعض جمهوريات آسيا الوسطي، فضلاً عن دول أوروبا
الشرقية، أو تدعيم بعض الأحلاف القديمة؛ مثل الأردن ومصر وغيرها من الدول
الصديقة للولايات المتحدة.
* هذه الحرب والاستراتيجيات الثلاث:
وقد ساهمت فكرة «الحرب على الإرهاب» بشكل كبير في صنع أدوات
جديدة للحركة الخارجية للولايات المتحدة تتناسب والأهداف الأمريكية الجديدة،
وتمثل ذلك في مثلث الاستراتيجيات الثلاث؛ وهي استراتيجية الحرب الوقائية،
والتوجه المنفرد، وتغيير الأحلاف، وقد عبرت حالة العراق خير تعبير عن هذا
المثلث.
ويشير الضلع الأول: والذي يمثل قاعدة هذا المثلث إلى «استراتيجية الأمن
القومي الأمريكي» ، والتي ينظر إليها بعضهم باعتبارها دستور أمريكا الجديد،
واستبقتها الإدارة الحالية بتقسيم العالم لشطري الخير والشر، وأن هذه الاستراتيجية
قد صيغت لمعاقبة هذا الشطر الأخير، والذي يضم في جعبته كل من يجرؤ على
التصريح بمعارضة الولايات المتحدة أو تصدير أي فكر يروّج لذلك، ولذا فقد
ضمت القائمة كل من يخالف واشنطن أيديولوجياً أو يهمس بذلك سراً، ومن هذه
الدول العراق وإيران وكوريا الشمالية والصين وكوبا وليبيا وسوريا ولاحقاً
السعودية والسودان وغيرها. وقد لا يقتصر الأمر على بلدان الشرق الأوسط بل قد
يتعداه لبعض القوى العالمية النسبية مثل فرنسا وألمانيا وروسيا؛ وإن اختلف
أسلوب التعامل في الحالتين. وقد تم اختبار هذه الاستراتيجية في الحرب على
العراق وأثبتت نجاحها إلى حد كبير، وإن كان هذا يعود في جزء كبير منه إلى
طبيعة الحالة العراقية أكثر من ارتباطه بواقعية الاستراتيجية نفسها.
ويعبّر الضلع الثاني: في مثلث الاستراتجيات الأمريكية الجديدة عن حقيقة
الحلم الأمريكي، ويصب في صلب الرغبة الأمريكية التي طال انتظارها، وحالت
ظروف عديدة دون تحقيقها ممثلة في إعلان الهيمنة الأمريكية على الكون وإعلاء
الكلمة الأمريكية فوق الجميع. ويعد هذا التوجه المنفرد بمثابة الإعلان العالمي عن
عدم الوقوف في وجه القطار الأمريكي؛ حتى إن خرج عن قضبان الشرعية الدولية،
ليس لقوة بطش هذا القطار فحسب، ولكن لعدم وجود قوة فاعلة قد تردع حركته
وتبطئ منها؛ سواء كانت قوة جماعية كالأمم المتحدة أو قوة فردية أخرى. وقد
كشف الصراع في مجلس الأمن إبان الاستعداد الأمريكي لإعلان الحرب على
العراق عن هذه الحقيقة، وعبّرت الحرب عن هذا المنحى المنفرد. وقد أثبتت هذه
الاستراتيجية فعاليتها بشكل عملي خلال الحرب، وإن تراجعت مؤخراً بشكل
ملحوظ يمكن الاستدلال عليه من رغبة واشنطن في توسيع دور الأمم المتحدة في
العراق تفادياً لاحتمالات الإخفاق هناك.
أما الضلع الثالث للمثلث؛ فمثلته استراتيجية تغيير الأحلاف، ويقصد بها
إعادة فك وتركيب القوى الصديقة للولايات المتحدة تمشياً مع فكرة الحرب على
الإرهاب، واتساقاً مع استراتيجية الحرب الوقائية. ولذا فلم يكن مستغرباً أن تصبح
باكستان حليفاً مهماً في الحرب على أفغانستان بعد أن كانت في قائمة الدول
المحظورة أمريكياً، وكذلك وجدت روسيا لنفسها دوراً جديداً في قلب الاستراتيجية
الأمريكية الجديدة، وتبدلت علاقات البلدين خلال أقل من عامين بسرعة تفوق
أضعاف سرعة علاقتهما قبل عام 1990م، كما دخلت دول جديدة من أوروبا
الشرقية في زمرة الحلفاء الجدد للولايات المتحدة مثل بولندا ورومانيا والتشيك
وغيرها.
وعلى الجانب الآخر تبدلت أدوار وأشكال الحلفاء القدامى، فتبدل دور بعض
الدول لتصبح الخصومة هي الطابع المميز للعلاقات، بعد أن كانت علاقة تحالف
على مدار أكثر من نصف قرن، في حين بدأت دول جديدة في حجز مقعد دائم لها
في علاقة التحالف مع واشنطن؛ مثل قطر وغيرها. وكذلك الأمر بالنسبة إلى دول
غرب أوروبا؛ حيث ابتعدت دول عن صفة الحليف لواشنطن مثل ألمانيا وفرنسا
وتركيا بشكل مؤقت. ولن يقف الأمر عند هذا الحد بل قد يمتد ليشمل آفاقاً جديدة،
ويضم دولاً أخرى ما دام الأمر يصب في النهاية في تحقيق المطامح الأمريكية.
ولعل التساؤل المهم في هذه المرحلة هو: هل فكرة الحرب على الإرهاب
مجرد نبت يميني، أو هي تعبير عن وجهة نظر الشعب الأمريكي بشكل عام؟
وتسهم الإجابة عن هذا التساؤل في إمكانية تقييم وتوقع مدى استمرارية هذه الفكرة
والاستراتيجيات المصاحبة لها من عدمه. وتدل الخبرة التاريخية الأمريكية على أن
هناك انفصالاً شبه عميق بين توجهات الساسة ورؤية الشعب الأمريكي بشكل عام.
وهو ما يعني أنه قد لا يكون هناك توافق بين الشعب الأمريكي وقادته حول هذه
الفكرة؛ ما قد يجعلنا نستنتج أن الفكرة لن تعيش أكثر من عمر الإدارة الحالية،
وسرعان ما ستزول مع قدوم وافد جديد للبيت الأبيض، وذلك دون إغفال التأثير
الكبير لأحداث الحادي عشر من سبتمبر على توجهات الشعب الأمريكي بشكل عام
تجاه العالم الخارجي، وتجاه موقف قيادته من قضية الحرب على الإرهاب.