مجله البيان (صفحة 4796)

المسلمون والعالم

تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى

د. خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

قال تعالى: [وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَة] (المائدة:

64) .

كان الصهاينة الأوائل المؤسسين للمجتمع الإسرائيلي الجديد على أرض

فلسطين السليبة؛ يرون في هذا المجتمع الوليد البوتقة التي سوف تمتزج فيها

مختلف الثقافات واللغات والقوميات اليهودية، إلا أن النتائج جاءت مخيبة للآمال،

فنشأ مجتمع متعدد الأعراق والثقافات والطوائف، ولم يحدث الاندماج المنشود،

وتفتت الصورة الأسطورية المأمولة لتحل محلها صور أخرى عديدة لكل منها

شرعيته، بين اليهودي والعربي، والمتشددين دينياً (الحريديم) ، والقوميين

الدينين (جوش إيمونيم) ، والتقليدين والعلمانيين، وغيرهم ممن تمتد جذورهم إلى

أصول عرقية مختلفة مثل (السفاراديم) و (الأشكنازيم) و (المهاجرين الروس)

و (الإثيوبيين) وغيرهم. وقد أدى هذا التفتت للصيغة الإسرائيلية إلى تشرذم

المجتمع بين ثقافات وطوائف مختلفة، ولهجات متباينة ومواقف متصارعة تجاه

صورة الدولة اليهودية؛ مما يؤهل لحدوث انفجارات عنيفة داخل المجتمع

الإسرائيلي.

* رؤية تاريخية لجذور الصراع:

مما زاد من عدم تجانس الجماعات والهويات اليهودية؛ انتشار اليهود في كل

أنحاء العالم دون وجود سلطة مركزية دينية أو قضائية في فلسطين أو في غيرها

من الأماكن. كما لم تكن تُوجَد في العالم القديم وسائل مواصلات أو إعلام تقرب

بين أطراف العالم كما يحدث الآن. لكل هذا؛ تطوَّرت كل جماعة يهودية على حدة

بمعزل عن الأخرى، على المستويين الديني والقومي. وقد ظلت هذه الفسيفساء

قائمة إلى أن انحلت الإمبراطورية الرومانية، وانتشرت النصرانية في الغرب،

وانتشر الإسلام في الشرق، فظهرت فسيفساء أخرى احتفظت بعناصر من

الفسيفساء القديمة، كما دخلت عليها عناصر جديدة.

وقد انقسمت اليهودية ودخلت مدارين أساسيين: المدار الإسلامي والمدار

النصراني. وازدادت اليهودية توحيدية داخل المدار الإسلامي. ومن ثم ظهر ما

يمكن تسميته «هوية يهودية عربية إسلامية» ، وهي التي أنتجت موسى بن

ميمون. أما في الغرب، فقد ازدادت اليهودية غيبية، ودخلت عليها عناصر

صوفية متطرفة. وازدادت الهوة اتساعاً بين الهويات اليهودية في الشرق والغرب،

فيهود الأندلس والعالم العربي كانوا يتحدثون العربية ويكتبون بها، بينما كان يهود

فرنسا يتحدثون برطانة فرنسية ويكتبون بالعبرية. ثم ظهرت اليديشية (لغة

الإشكناز في شرق أوروبا) ، واللادينو (لغة يهود السفارد في حوض البحر

الأبيض المتوسط) . وكانت هناك بقايا يهود الرومانيوت الذين يتحدثون اليونانية،

ويهود إيطاليا الذين يتحدثون الإيطالية. كما ظهرت هويات يهودية مختلفة في

أماكن متفرقة، مثل: الخَزَر في منطقة القوقاز، والفلاشاه في إثيوبيا، وبني

إسرائيل في الهند، ويهود الصين في كايفنج، ويهود مانيبور، والتشويتاس،

واليهود السود. ولم يكن انتماء هؤلاء الديني إلى اليهودية الحاخامية، وإنما كان

انتماؤهم إلى تقاليد دينية مختلفة دخلت عليها عناصر دينية وإثنية محلية. وكان

يُوجَد كذلك يهود إيران وأفغانستان الذين يتحدثون اللغة الفارسية وغيرها من اللغات،

وبعض اليهود الأكراد الذين يتحدثون الكردية. وظهر عدد ضخم من الجماعات

اليهودية الصغيرة في القوقاز؛ مثل: يهود الجبال، ويهود جورجيا، ويهود

الكرمشاكي، وظهرت جماعات يهودية في جبال الأطلس تتحدث البربرية. ومن

الانقسامات الدينية المهمة، ظهور الحركة الشبتّانية وظهور يهود المارانو، في

حوض البحر الأبيض المتوسط، ويهود الدونمة في الدولة العثمانية.

هذه هي الفسيفساء التي كانت قائمة حينما ظهرت العلمانية في المجتمعات

الغربية، والتي زلزلت اليهودية الحاخامية، وعمَّقت عدم التجانس [1] .

* خريطة الانقسامات داخل المجتمع الإسرائيلي:

- الانقسامات الإثنية (القومية) :

ينقسم المجتمع الإسرائيلي من الناحية الإثنية إلى مجموعتين كبيرتين:

أولاً: السكان الشرعيون، ويطلق عليهم فلسطينيو 1948م، أو عرب 48،

أو عرب الداخل. ويلاحظ في العقد الأخير تزايد الوعي فيما بينهم وتزايد معدلات

تصويتهم للأحزاب العربية، وخاصة مع ما حققته هذه الأحزاب من نهوض

بمطالبهم في الكنيست. وأهم هذه الأحزاب: الحركة الإسلامية، والحزب

الديمقراطي العربي، والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، والتجمع الوطني

الديمقراطي، والحركة العربية للتغيير.

ثانياً: المستوطنون اليهود، وقد هاجروا إلى إسرائيل في موجات متتابعة منذ

بداية القرن العشرين، وأسسوا دولة استيطانية في فلسطين، ويتعددون بتعدد البلدان

والمناطق التي هاجروا منها، وتبرز من بينهم أربع مجموعات رئيسية ممثلة

بأحزاب سياسية، وهي: الروس؛ ويمثلهم حزبا إسرائيل بعالياه وإسرائيل بيتينو،

والمغاربة؛ ويمثلهم حزب شاس وحركة جيشر، والإثيوبيون؛ وهم ممثلون

في حزب شعب واحد، وأخيراً الأوروبيون والأمريكيون؛ وتمثلهم الأحزاب

اليهودية الغربية المختلفة، وهي: العمل، الليكود، المركز، شينوي، ميرتس،

الوحدة الوطنية، يهدوت هتوراة، المفدال.

- الانقسامات الدينية:

ينقسم المجتمع الإسرائيلي من الناحية الدينية إلى قسمين: متدينين،

وعلمانيين.

المتدينون: يعتبر المتدينون أقلية في إسرائيل سواء في الجانب العربي أو

الجانب اليهودي، ولكنهم أقلية مؤثرة، ويزداد ثقلها النسبي مع الوقت، وينقسمون

إلى عرب، وأغلبيتهم العظمى من المسلمين، وتمثلهم الحركة الإسلامية. ويهود،

وينقسمون إلى:

أ - من حيث الموقف من الأيديولوجية الصهيونية التي قامت عليها الدولة إلى:

متدينين صهيونيين ويمثلهم المفدال، وميماد، ومتدينين لا صهيونيين (أو

حريديم / متشددين / أصوليين) ، ويمثلهم شاس، ويهدوت هيدوراة.

ب - من الناحية الطائفية إلى: متدينين شرقيين، ويمثلهم شاس، ومتدينين

غربيين، ويمثلهم يهدوت هتوراة، والمفدال.

العلمانيون: ينقسمون بدورهم إلى عرب: ويمثلهم كل من: الجبهة

الديمقراطية للسلام والمساواة، الحزب الديمقراطي العربي، التجمع الوطني

الديمقراطي، والحركة العربية للتغيير. ويهود ويمثلهم أحزاب: العمل، الليكود،

ميرتس، شينوي، المركز، إسرائيل بعالياه، إسرائيل بيتينو، الوحدة الوطنية،

شعب واحد. ويمثل العلمانيون أغلبية المجتمع الإسرائيلي.

- الانقسامات الأيديولوجية:

ينقسم الإسرائيليون من الناحية الأيديولوجية إلى قسمين كبيرين هما: اليمين

واليسار.

اليمين: ينقسم بدوره إلى يمين ديني، وتمثله الأحزاب اليهودية الدينية

(شاس، المفدال، يهدوت هتوراة) . ويمين علماني، ويمثله كل من أحزاب:

الوحدة الوطنية وإسرائيل بعالياه وإسرائيل بيتينو والليكود وجيشر.

اليسار: وينقسم إلى قسمين:

أ - يسار يهودي: وهو أقرب إلى الوسط منه إلى اليسار، ويمثله كل من

أحزاب: ميرتس، شينوي، العمل، المركز، شعب واحد.

ب - يسار عربي: وهم بمجموعاتهم المختلفة يقعون أقصى يسار الخريطة

السياسية الإسرائيلية، وخاصة بمعيار الموقف من عملية التسوية، ويمثلهم أحزاب:

القائمة العربية الموحدة، الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، التجمع الوطني

الديمقراطي، والحركة العربية للتغيير [2] .

* من مظاهر الصراع!

فعلى صعيد الحالة الدينية: يوجد بعض الأطراف اليهودية ممن يؤمن بمبدأ

الإكراه الديني، وفرض تطبيق الشريعة اليهودية من أعلى على اليهود، وجعل

الدولة دولة يهودية بالمعنى الديني للكلمة، وهم يمثلون نسبة ضئيلة جداً من سكان

إسرائيل قد لا تتعدى 7%، ولكنهم يؤثرون بقوة في كثير من الأحيان بسبب طبيعة

التركيبة الائتلافية للحكومات الإسرائيلية؛ لأن السياسة الإسرائيلية هي تعبير عن

تجمع لأقليات كثيرة من النواحي السياسية والأيديولوجية والدينية ... إلخ.

وفي المقابل يوجد كثير من الأطراف اليهودية العلمانية التي ترغب في الحفاظ

على «الطابع اليهودي» للدولة أيضاً، ولكن بفهم اليهودية كقومية وليست ديانة،

وهم يمثلون التيار السائد بين اليهود الإسرائيليين، والذي يؤمن بالصهيونية في هذا

المجال، ومن هنا يرون أن الحفاظ على «الطابع اليهودي» للدولة لا يتم بفرض

الشريعة التي يرفضونها، ولكن بتمجيد الرموز الصهيونية السياسية والعسكرية،

وإحياء المناسبات اليهودية المختلفة: الحقيقية والمزعومة، من قبيل «الكارثة

اليهودية» و «المحرقة النازية» ، وحتى الأعياد الدينية التي تكتسب قيمتها من

كونها تعبر عن وحدة اليهود كقومية أو شعب في نظرهم، وليس لمغزاها الديني

المتصل بالعلاقة بين اليهودي وربه.

وعلى صعيد الحالة الاجتماعية: نجد أن جميع الألوان بكل درجاتها وظلالها

تتمثل في سكان إسرائيل كقوس قزح بشري شديد الغرابة، فإلى جانب اليهود

البيض الأوروبيين يوجد اليهود السمر الشرقيون، وإلى جانب اليهود الصفر

الآسيويين يوجد اليهود السود كالفلاشا الحبشية.... متحف جنس لا مثيل له في

العالم؛ مما يجعل إسرائيل دولة أقليات لا يعرف لها مثيل في العالم، ولقد خلف

تعدد القوميات والمشارب والطباع والأهواء العديد من الصراعات الاجتماعية

الخطرة، أشهرها الصراع العنيف بين الأشكناز (اليهود القادمون من أوروبا)

والسفارديم (اليهود القادمون من الشرق والعالم الثالث عموماً) ، فيهود أوروبا

الأشكناز هم الذين أخذوا على عاتقهم إقامة الحركة الصهيونية، وتحمّلوا القسم

الأعظم من إقامة الدولة الإسرائيلية على أرض فلسطين، وكان لأموالهم وتبرعاتهم

واتصالاتهم السياسية دور بالغ الأثر في هذا الشأن، بل كان اليهود الغربيون من

الناحية التاريخية هم أول من وصل إلى فلسطين لإقامة الكبيوتزات التي كانت نواة

لمستوطنات أوسع أقيمت بعد ذلك، وبالتالي تميز الأشكناز بمستوى ثقافي

واقتصادي وحضاري عال، وانطلقوا يشغلون القيادات والمناصب العليا في الجيش

والسياسة والصناعة، ولكن حدث تحول جديد؛ فقد زادت هجرات اليهود السفادريم

الذين تركوا بلادهم طمعاً في مزيد من الغنائم من الدولة اليهودية، ولكن هذه الهجرة

لم تنعكس على تحسين أوضاعهم المتدنية بل ظلوا دائماً في قاع المجتمع، ويعيشون

في الأحياء الفقيرة مع قلة عدد المتعلمين بينهم بسبب ارتفاع مصاريف التعليم،

ومما يذكر أن 90% من المسجونين من اليهود السفارديم؛ مما يعني تفشي الجريمة

في أوساطهم بسبب تردي أوضاعهم الاقتصادية والشعور بالظلم الاجتماعي.

ولقد بدأ الصراع أولاً في صور مستترة سرعان ما تحولت إلى مطالب سافرة

من جانب اليهود السفارديم بتحسين أوضاعهم؛ خاصة مع تزايد قوتهم الانتخابية

بسبب تفوق عددهم على عدد اليهود الأشكناز، وقد اتخذت هذه المطالب أشكالاً

عنيفة في بعض الأحيان، كما رأينا حركات تشكل للدفاع عن مطالبهم مثل (الفهود

السود) .

وعلى صعيد الحالة السياسية: نجد صراعات عنيفة بين الطوائف والطبقات

المختلفة لاقتسام الكعكة الإسرائيلية، ويتمثل هذا الصراع في ذلك التعدد المذهل في

الأحزاب السياسية والتكتلات والمنظمات الحزبية التي تقدم قائمة مرهقة لا نهاية لها

من وحدات مفتتة تفتيتاً ذرياً، بل إن الانتخابات الأخيرة شهدت ظاهرة وصفها

بعضهم بأحزاب المرآة، حيث تعددت الأحزاب المتنافسة والمتصارعة داخل كل

محور من محاور التقسيم المختلفة؛ بحيث أصبح هناك صراع (علماني علماني)

كما بين شينوي وميرتس، وصراع (ديني - ديني) كما بين شاس ويهدوت

هتوراة والمفدال، وصراع بين ممثلي الروس مثل إسرائيل بعالياه وإسرائيل بيتنا،

إضافة إلى التنافس بين الأحزاب العربية. ولذا فإن التصنيفات الكبرى إلى علماني

وديني، أو يميني ويساري، وغيرها لا تعني بالضرورة وجود تجانس داخلي بين

ممثلي كل فريق، بل لا تنفي الصراع والانقسام داخل كل طرف من محاور هذه

التقسيمات.

ومن أبرز الصراعات في هذا الشأن الصراع بين حزب العمل والليكود،

فحزب العمل أسس سنة 1968م من اتحاد ثلاثة أحزاب عمّالية هي: مباي،

وأحدوت هعفودا بوعالي تسيون، ورافي، ثم تحالف مع حزب مبام في 1969م

تحت اسم المعراخ (التجمع) . وفي 1992م انسحب مبام، وبقي حزب العمل.

وفي 1999م وفي مسعى من زعيم الحزب إيهود باراك لزيادة شعبيته، وتغيير

صورة الحزب كحزب للنخبة اليهودية الغربية العلمانية؛ تحالف مع حركتين

هامشيتين هما ميماد وجيشر، ودخل الانتخابات تحت اسم إسرائيل واحدة.

وحصلت القائمة على 26 مقعدًا. وفاز زعيم القائمة إيهود باراك برئاسة الوزراء.

ويؤمن حزب العمل بالفصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين في فلسطين من خلال

إقامة دولة فلسطينية، مع الحفاظ على الاحتلال الإسرائيلي للقدس، وبقاء

المستوطنات، وفرض قيود على سيادة الدولة الفلسطينية وعلاقاتها الخارجية.

أما حزب الليكود فقد تأسس في 1973م من تحالف حزبي حيروت والأحرار؛

بهدف كسر احتكار حزب مباي (حزب العمل لاحقًا) للسلطة، وبالفعل نجح

التكتل في الفوز بالسلطة لأول مرة في 1977م، بالتعاون مع القواعد اليهودية

الشرقية الناقمة على سياسة حزب العمل. ثم اندمجت مكوناته في 1985م، وحلت

هياكلها التنظيمية، وأصبح الليكود قطبًا موازيًا لحزب العمل في السياسة الإسرائيلية

الداخلية. وفي انتخابات 1999م تشرذم الليكود وأخفق في الحفاظ على السلطة،

وهزم زعيمه بنيامين نتانياهو أمام منافسه إيهود باراك في انتخابات رئاسة الوزراء،

وحصل الحزب على 19 مقعدًا.

آمن الليكود بفكرة «أرض إسرائيل الكاملة» ، ومنح الفلسطينيين في

أراضي 1967م حكمًا ذاتياً محدودًا، وعارض اتفاقيات أوسلو، ولكنه اضطر إلى

قبول الأمر الواقع، والتعايش مع عملية التسوية وإحباطها من الداخل بعد تولي

نتانياهو الحكم في 1996م، واعتمد في ذلك على التحالف مع القوى الدينية، والتي

أصبح لها مكانة مهمة في ظله، وأثار بذلك نقمة الجمهور الإسرائيلي العلماني؛ بما

في ذلك أعضاء من الليكود الذين استقالوا من حكومة نتانياهو، وانسحبوا من

الليكود نفسه بعد إخفاقهم في الإطاحة بنتانياهو. وتم إسقاط نتانياهو في انتخابات

1999م، وتولى أريئيل شارون قيادة الليكود كرئيس مؤقت، ويعاني الحزب من

أزمة كبيرة في صياغة برنامجه.

وصدق الله العظيم.. [تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى] (الحشر: 14) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015